|
-الأنا-/-الأخر- هوية أم هويات في الفن العربي المعاصر
نجم الدين الدرعي
الحوار المتمدن-العدد: 4030 - 2013 / 3 / 13 - 08:11
المحور:
الادب والفن
فقد مثلت الهوية القوام الأساسي في الممارسة العربية التشكيلية المعاصرة بالنظر لكونها أضحت هاجسا فكريا ونفسيا انحصر بداخله مجال التعبير والإبداع، لتكون هي الفضاء الذي يسكنه الممارس التشكيلي العربي ومنها يعبر عن وجوده كقومية عرقية تبحث عن رسم معالم لوجودها وحضورها داخل هذا العالم، كما أن فكرة البحث عن نحت هذه المسألة ذاتية كانت سببا في ميلاد أول تيار فني يجمع جلّ الأصقاع العربية، والذي جاء ميلاده من بلاد الرافدين عن فكرة للفنان العراقي "شاكر حسن آل سعيد" مؤسس "جامعة البعد الواحد"، وهي محاولة في تحديد منهج للتعبير التشكيلي في إطار البحث عن الهوية القومية للتشكيل العربي، وفي هذا يقول "نزار شقرون" في كتابه الذي خصصه للبحث في تجربة العراقي آل سعيد ونظرية الفن العربي بصفة عامة حيث يقول في هذا الصدد:"لقد بين شاكر حسن أن الخط العربي يمثل الهوية القومية التي رآها غائرة في الماضي السحيق ومتواصلة في حاضره ... من إيمانه بمبدأ "تجذر الخلف في السلف" فينطلق من مصادرة مفادها أن الزخرفة الشرقية هي جذر الخط العربي وهي أول إشارة وأول أبجدية للفكر الإنساني".1 وقد قامت هذه التجربة على توظيف الحرف العربي كمنهج أساسي لمعالجة إشكالية الهوية، كما أن هذا التوجه سعى من خلاله الفنان العربي إلى بناء تجربة فنية تنهل من التراث العربي بروح موغلة في تصورات الفكر المعاصر، وفي ذات الحين يكون الخط العربي وزخرفته قوامها ومنبعها الوحيد في الإبداع في محاولة لإحياء التراث أو استلهامه والمضي مع القيم الفنية للَّوحة الحديثة، وهو في الحقيقة تيار يشكل ظاهرة ملفتة أو حدث فني في العالم العربي بالنظر لكونه يعتبر التوجه الوحيد نحو توحيد الممارسة العربية، بالرغم من النقاشات العديدة التي إنبنت حوله حدّ وصلت فيه هذه النقاشات إلى نقد لاذع لهذه التجربة في تشكيل رؤية منهجية للممارسة العربية وفي هذا يقول الباحث الأكاديمي "نزار شقرون " " ... أن بعض الآراء النقدية ترى في هذا الالتفاف نوعا من الإسقاط لأن شاكر حسن وغيره من فناني تجمع البعد الواحد نهلوا من التجربة الفنية الغربية (تابياس- بول كلي- كاندنسكي) قبل انتباههم إلى إمكانية الاستفادة من فن حكم عليه بالجمود منذ زوال المدرسة العثمانية". وضمها ضمن حركة يمكن أن تؤل إلى تشكيل تيار فني يحمل من الخصوصية ما يجعله متفردا عن التجارب الغربية ومستقلا عنها منهجا وأسلوبا، ولكن تبقى هذه التجربة الفريدة من نوعها عربيا حاملة لجملة من التناقضات التي طرحت من خلال ثنائية الذاتية (الأنا) والآخر، بين التفرد والإقتداء، بين التملص والتبعية بمعنى البحث عن هوية الذات من خلال منهج وأفكار الآخر. وهو ما من شأنه أن يجعل هذه التجربة الفنية موضع تساءل ومساءلة لما تطرحه من تناقضات، جعلت من النقاد والباحثين العرب ينقسمون إلى شقين، شق يرى فيها تجربة نافذة إلى العمق الحضاري للبلاد العربية وجامعة بين منطلقات الفكر الصوفي ومضمون الممارسة التشكيلية المعاصرة وفي هذا يذهب الباحث "بلند الحيدري" إلى القول في ما معناه كون هذه التجربة تمثل وجها من وجوه معايشة الفنان العربي لمعاصره من التشكيلين مؤكدا في بحوثه على كون الفنان العربي قد نجح في استجلاء عصارة الفنون العربية من عمارة وتصوير مؤكدا بذلك على كون هذه التجربة لم تكن سجينة لفن اللوحة المسنديّة بل إنها تعمقت أكثر ما يمكن في إيجاد مزاوجة بين شتى أنواع الممارسات الأخرى على غرار الخزف مستندا في ذلك إلى تجربة الفنان المصري "محمد الشعراوي" التي قامت على أساس توظيف الخط العربي في بناء التركيبة الخزفية . وقد تنوعت أعمال هذا الفنان في مجال تعدد طرق توظيف الكتابة العربية ومنها كانت تركيباته الخزفية التي ذهب فيها الخزاف المصري أحيانا إلى كتابة آية قرآنية كاملة في تركيبة ثلاثية الأبعاد وهو ما يمكننا الوقوف عليه من خلال عمله الخزفي التالي الذي عرضه الفنان تحت عنوان مجموعة من الآيات. محمد الشعراوى عبد الوهاب،" مجموعة من الآيات" 1985 الخامة:طين اسوانى محروق الحجم:40 سم × 25 سم هذا إضافة إلى النحت، من خلال " تجربة "محمد غني حكمت". وجل هذه المنطلقات الفنية التي قامت عليها دراسة "بلند الحيدري" جعلته يمثل الشق النقدي المساند لتجربة الحروفيين وجماعة البعد الواحد مثمنا بصفة خاصة على تجربة العراقي "شاكر حسن آل سعيد" حيث يقول الباحث في هذا الصدد " لشاكر حسن مساعيه الحثيثة واجتهاداته الفكرية لإدراك الحرف العربي في أدق خصوصياته الرّوحيّة وإنّه يسعى لأن يفجر تلك الخصوصيّات من الدّاخل ولذلك لم تستأثر القيم التّزيينّية للحرف بإهتمامته مطلقا"1، ليؤكد بذلك "الحيدري" على كون آل سعيد نفذ إلى العمق المضموني للحرف كاشفا بذلك على ما يبطنه الحرف العربي من انفعالات، معتبرا كون الحرف ضمير خفيّ استطاع الفنان العربي استخدامه بتنوع كبير دون الوقوف عليه وفق لتصور يحفظ فيه طابع جامد أو تقديمه كتصميم نهائي، بل إن الفنان ذهب إلى تنشيط فضاء الرسم عبر اعتماد الطبيعة الحركية النشطة للحرف ليقدم تصور تشكيلي يعتمد الحرف دون الحفاظ على طبيعته المقروءة اللغوية حيث يعتبر "آل سعيد" (والطرح ورد في كتاب "شاكر حسن آل سعيد ونظرية الفن العربي) أن الكتابة هي وسيلة للتّدوين اللّغوي وليست اللّغة نفسها مستعرضا رأي "فرديناند دي سوسير" من أن " الكتابة تطمس المعالم الحقيقيّة للغة فهي ليست رداء للغة بل شيء تتنكر به"1. ولعل هذا التطلع لبناء تجربة فنية تمتص من التراث الحضاري للبلاد العربية ذات الجذور الإسلامية جعل من هذا البناء الفني لجماعة البعد الواحد ومن وراءها الحروفيين تخلق ذاك الانقسام والتنوع النقدي في قراءة هذه التجارب الباحثة عن انتشار أو حضور مخالف للفن العربي لتكريس هوية تأخذ من السلف بذات القدر الذي تراعي فيه تواجهات الفن العالمي المعاصر، ولهذا ذهب الناقد والباحث الفني "محمّد الّمجول" إلى مناصرة التجربة الفنية العربية المستندة للحرف القائمة بالنسبة إلى الباحث على محاولة لإيجاد صياغة فنية تؤكد التجذر الحضاري والثقافي للممارسة الفنية العربية الإسلامية، وبالعودة للتراث العريق لهذه الحضارة يرى الباحثين المناصرين لهذا التوجه كونها تجارب باحثة عن مجال لتأسيس هوية الفنان في الأقطار العربية، وفي هذا يعتبر "محمد المجول" أن جماعة "البعد الواحد" تعبر عن " انعطافة تتطلّع إلى إحداث تفحص دقيق لمكوّنات التّراث ومن ضمنها الحرف والكتابة (...)، وتأتي تجربة الفنّان شاكر حسن آل سعيد من بين أبرز التّجارب البحثّية والتّجريبيّة الثّرية في موضوع استلهام الحرف العربي وتحقيق وجوده في اللوحة2. دون أن تتملص من معطيات الممارسات الغربية أو تكون بمعزل عن أفكار الأخر، وهذا الأسلوب الممزق بين بناء هوية عربية (خاصة فكريا وأسلوبا) و مسألة الإقتداء بالأخر، مثل هو الأخر هاجسا استند إليه الباحثين والمفكرين المهتمين بدراسة التجربة التشكيلية العربية التي انشغلت جلها بتبيان مواطن التبعية، والنفاذ إلى العمق المتلاحم بين هذه الممارسات الباحثة عن الهوية وأفكار الآخر، وفي هذا الصدد تطرقت أغلب الدراسات إلى كشف الخلفيات المرجعية لهذه الممارسة والتفطن إلى كونها ممارسة لم تخلو من الإتباع والإقتداء بالفنانين الغربيين، وهو ما من شأنه أن عمل على تجريد هذه الحركة من مضمونها القائم على إحداث تصور فني خاص يكرس خطاب الهوية، وهو الخطاب الذي قامت من أجله هذه الممارسات. ولكن بالرغم من هذه الشوائب التي تسجل في هذه الحركة الفنية إلا أنها تبقى تجربة فريدة من نوعها بل هي تجربة يتيمة لكونها تبقى الحركة الوحيدة في تاريخ الفن التشكيلي العربي المعاصر والحديث، لأنها التيار الوحيد الذي ضم تحت شعاراته أكبر عدد من الفنانين التشكيليين في معظم البلدان العربية. وتبقى بذلك تجربة تستحق الاهتمام والمعاينة لما تحويه من تصور مغاير للخط العربي وتحوليها له إلى منهج للبناء وخلق ممارسة ذات نمط خاص، مستوحاة أسلوبها من التراث الثقافي والحضاري للبلاد العربية وتحديدا من الفكر الإسلامي ، كما أنها تجربة لم تخلو من نزعة البحث عن خصوصية ذاتية من خلال محاورة المادة وتوظيفها للخط العربي من خلال عدة منطلقات بدأ بالرسم المسندي وصولا إلى البناء ثلاثي الأبعاد على غرار العمل التالي للفنان الجزائري المقيم بفرنسا " رشيد القريشي" الذي عمد فيه الفنان إلى توظيف الثلاثي الأبعاد للخط متمردا بذلك على النمط المعتاد في قراءة الخط في البنى ثنائية الأبعاد.
بدون عنوان
ففي هذا العمل تطرق "القريشي" إلى الخروج بالخط إلى مجال أرحب يحاور فيه الفضاء عبر تركيبات نحتية ثلاثية الأبعاد فيها شيئا من تقاليد فنون شرق آسيا في اعتماد الخط، حيث نرى الفنان يشكل بالخط تركيبات خطية غير مقروءة، موظفا بذلك الطبيعة الانسيابية للخط معتمدا على طبيعته الحركية مطوعا إياها في قراءة نحتية لا تخلو من الطرافة والخصوصية لما تحويه من بنى خطية توحي بالخط العربي دون أن تصرح بمكنونه المقروء وفي قراءة توازي بين الأسلوب الحركي والتواصل بين التراكيب النحتية. حيث أن "القريشي" يقوم بعرض عمله على شاكلة تنصيبة غيرت بحضورها المتناغم ملامح الفضاء المعروضة فيه، فالفنان في هذا العمل عمد إلى توظيف الخط، لخلق تراكيب نحتية تحاكي في طبيعتها وهيكلتها شكل الجسد وكأننا به يقوم بتقديم بحث خطي لشكل الجسد دون أن يعتني بالكتلة الجسمانية، إلى جانب كونه عرض العمل في تصور لا يخلو من النفس الأدائي في عرض ركحي مميز، نظرا لكونه لم يكتفي بعرض مجسماته النحتية منفصلة أو معزولة بل أنه قدمها وإلى جانب كل مجسمة وضع أنية فخارية يمكن للقارئ أن يعي بسهولة كونها أواني ذات نفس أو طابع صيني وكأننا بالفنان يصرح بكونه استوحى مجسماته النحتية من الخط الصيني، وهي طريقة لم نعتدها في ممارسة راسمي الحروفية العربية من قبل حيث كان أغلب الفنانين العرب يخافون تأثرهم ببعض التيارات الفنية، وهي طريقة يعتمدها "القريشي" ليطرح تصوراته ويؤكد من خلالها على إمكانية انفتاح "الأنا" على "الأخر"، انفتاح وتلاقي يمكن للمتلقي قراءته من خلال هذا العمل الذي وظف فيه الفنان الجزائري الخط بأسلوب لا يخلو من طبائع الممارسة الفنية لشرق آسيا. وتبقى تجربة "رشيد القريشي" وجها أخر على كون فكرة "الهوية" تمثل خلفية لرسوم ولوحات الفن التشكيلي العربي.
المراجع
ـ حسّان عطوان: "اللّوحة الخطّية جماليّات الخطّ العربي"- كتاب جماعي- "الفنّ العربي بين التغير والإبهام"، الشارقة. ـ محّمد المجّول:" الحروفية في التشكيل العراقي المعاصر" – مجلة الصّورة، الشارقة- العدد 2-2004. ـ نزار شقرون:" شاكر حسن آل سعيد ونظرية الفن العربي" دار محمد علي الحامي للنشر، تونس 2010
#نجم_الدين_الدرعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|