|
جمالية الفكرة
إبراهيم اليوسف
الحوار المتمدن-العدد: 4028 - 2013 / 3 / 11 - 02:01
المحور:
الادب والفن
جمالية الفكرة إبراهيم اليوسف
ظلت الفكرة في النص الإبداعي محور دراسات كثيرة، كتبت بأقلام النقاد والدارسين، حيث تم النظر إليها وفق مراحل ومستويات مختلفة، تتباين بين مدرسة أدبية واخرى، ويمكن من خلال تتبع الخط العام لمسار مفهوم الفكرة تاريخياً التوقف عند محطات عدة، هي - في التالي- صدى للظروف العامة التي تنعكس آثارها على الأدب والإبداع . إذ إن العلاقة بين النص الأدبي والفكرة هي علاقة تماهٍ، وتكامل، لاسيما في ظل تلك النظريات النقدية التي طالما رأت أن قيمة الإبداع تكمن في الفكرة نفسها، لأن طريقة التفاعل مع الفكرة كانت وراء ولادة الأدب، وضمن هذا المعطى فإن كل أدب لايقدم فكرة ما، فإنه يفتقد عنصراً مهم جداً من عناصره، وشرطاً لابد منه من شروط تكونه . ومفهوم الفكرة في الأدب، هو في حقيقته فضاء واسع لا يمكن الإحاطة به البتة، إذ إنه صدى لانعكاس الوعي البشري بالحياة - برمتها - بدءاً من الوعي بالمكان، وتفاصيله الكاملة، ومروراً بالوعي بكل ما يجري في العالم من أحداث ووقائع، وليس انتهاء بالرؤى التي تعكس في جوهرها عصارة تجارب الإنسان في رحلته عبر التاريخ، بما في ذلك هواجسه، وأهواؤه، وأحلامه، وانكساراته، وإنجازاته، وأفراحه، وأتراحه، حيث إن كل هذه المفردات المذكورة، وغيرها، ليست في جواهرها إلا أفكاراً يتعاطى معها هذا الكائن - بهذا الشكل أوذاك - سواء أكان فاعلاً إزاءها، أو منفعلاً بها، لا فرق، بل إن هذه الأفكار هي من صناعة هذا الآدمي، سواء أكان ذلك من خلال ذاكرته التي تعكس تجربة سواه عبر التاريخ، أو كانت تحمل رائحة أصابعه، على اعتبارها أفكاره الخاصة، وإن كانت لكل فكرة معاييرها التي تمنحها درجة قوتها، أو مدى صلاحيتها أو عدم صلاحيتها، على اعتبار أن صناعة الفكرة ليس أمراً هيناً البتة، فما أكثر تلك الأفكار التي نأخذها عن غيرنا، وما أقل الأفكار التي يمكن لنا صناعتها، إلى الدرجة التي لاتتناسخ مع أفكار الآخرين .
إن لكل عمل أدبي سرداً وشعراً طريقة تناوله للفكرة، حيث إن الفكرة في القصة تختلف عنها في الرواية، لأن طبيعة كل منهما تفرض نمطاً محدداً من امتصاص الأفكار، وإن طريقة تفاعل النص الشعري مع الفكرة يأتي مغايراً تماماً، لتفاعل القصة والرواية، وإذا كان هناك صعوبة في ترجمة الفكرة إبداعياً، قياساً إلى ترجمة الفكرة في المقال - وهو أحد أنواع السرد، لأن الفكرة الواحدة يمكن أن تتناول من قبل أعداد لامتناهية من المبدعين، بحيث أن لكل من هؤلاء طريقته الخاصة في التعامل مع الفكرة نفسها، من دون أي إخلال بها، في ما لو توافرت الموهبة، والخبرة، والمراس، وهو أمر يمكن استشفافه في ظل قراءة أشكال انعكاس الفكرة الواحدة، في نصوص عدد من الكتاب . إن قدرات الكاتب تظهر على نحو جلي، من خلال تطويعه للفكرة إبداعياً، إذ إن الكاتب عميق التجربة قادر أن يوظف الفكرة في نصه الإبداعي، من دون أن يكون طافحاً مهيمناً على غيره من الأدوات الأخرى التي تشكل عالم النص الأدبي، لأن هناك في الحقيقة - معادلة - دقيقة لابد من مراعاة أطرافها كافة، وعلى سبيل المثال، فإن تمكن الكاتب من تطويع مفردات معجمه اللغوي إحدى هذه المعادلات، وقس على ذلك بالنسبة للأدوات الأخرى، بحسب طبيعة كل نص، على حدة .
وتبدو صعوبة توظيف الفكرة في النص الشعري، في أن الشاعر محكوم خلال صورته الشعرية تناول مجرد ملمح عابر، وبطريقة فنية عالية، ومن خلال الاقتصاد اللغوي، إضافة إلى ضرورة توفير الإيقاع اللازم، ضمن هارموني بنيته العامة، وغير ذلك من عناصر معمار النص، وهو ما يشكل تحدياً كبيراً أمام الناص، إلى الدرجة التي يمكننا اعتبار الفكرة امتحان الشعرية الأكبر، لاسيما في ما لو عرفنا أن اللهاث وراء تحقيق شروط الفكرة، والإغراق فيها، ينسف كينونته الشعرية .
وما دمنا في مقام علاقة الفكرة بالنص الشعري، وهوالذي طالما أشارإليه النقاد بالحديث عن العلاقة بين “المعرفي” و”الشعري”، فإن من اللازم الإشارة إلى حقيقة أن الخط البياني لمثل هذه العلاقة، بين ثنائية “الفكرة”/ “الشعر”، مر بمراحل كثيرة، إذ كانت القصيدة التقليدية تطفح بأفكارها، وتعيش تحت وطأتها، إلى الدرجة التي يثقل فيها كاهلها الفني، لاسيما عندما تكون الفكرة أكثر ما يعلق بمخيلة المتلقي، لا الأثر الإبداعي نفسه، وهوما يجعل النص أقل شعراً، أكثر سرداً، بل إن هناك بعض النصوص التي كتبت على بحور الخليل، ولا يمكن استكشاف أي ملمس إبداعي فيها، وإنما هي عبارة عن مجرد ترجمة نظمية لأفكار ما، وهو ما اصطلح عليه ب”شعرالعلماء”، هذا النمط من الشعر الذي راح ينصرف إلى شروحات النحو والصرف كما في “ألفية” “ابن مالك” مثلاً، أوتلك التي سميت ب”شعر” “المناسبات” ومن بينها ماكتب في إهاب الشعر، عن حفلات “الولادات” أو “الولائم” وغيرها الكثير من النصوص التي تتلاشى حساسيتها إلى درجة ما “تحت الصفر” الإبداعي، وتبدو خالية من الحياة والإبداع .
وقد كثرت الدعوات النقدية، إلى كتابة نصوص اللافكرة، ليس في مجال الشعروحده - فقط - وإنما في مجال السرد أيضاً، حيث أن أصحاب مثل هذه الدعوات راحوا يرون أن في الفكرة موت الإبداع، داعين بذلك إلى أدب “العبث”، وإذا كانت هناك نصوص قصصية وروائية أو مسرحية، كتبت استجابة لمثل هذه الرؤى، فإن هذه الدعوات لاقت ولما تزل تلاقي أصداء أكبر في حقل الشعر، إذ إن هناك نصوصاً هائلة في هذا الحقل، تشكل قطيعة مع الفكرة، من خلال انصرافها إلى اللعبة اللغوية، عبر آليات اللاشعور، والتداعي غيرالمنضبط، بل التداعي اللغوي الكامل . وقد استطاع بعض المتمكنين من المشتغلين في هذا المجال إنتاج نصوص تمتلك شبكة تقنياتها التي تخلق أجواء استيهامية، افتراضية، موازية للنص الواقعي، أوهي - في الأصل- فوق واقعية، حتى وإن تقنعت ببعض أدوات النص الأدبي التقليدي، ولاسيما اللغة .
وطبيعي - هنا - أن النص الواقعي الذي ينطلق على نحو فني، وبتقنية عالية، مما هو معرفي هو نص يركز مبدعه على وظيفيته - والوظيفية هنا جمالية ورؤيوية في آن - بيد أن النص ما فوق الواقعي يفتقد أحد جانبي الوظيفة الفنية - في أقل تقدير - من خلال عزوفه عن تبني أية فكرة، وهنا، نحن أمام تنظير نقدي يشير - في التالي-إلى العلاقة بالمتلقي، وبالمحيط العام للناص، بل والعالم، إذ هناك من يحصر قيمة النص في خدمته الإنسان، وإن كانت النظرة إلى كيفية هذه الخدمة تختلف من قبل وجهة نظر نقدية وأخرى .
[email protected]
#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيبلوغرافيا الكاتب
-
أسئلة أبي العلاء المعري الكبرى
-
على عتبة العام الثالث للثورة السورية:ثلاثية المثقف/ الثورة/
...
-
ثورة الصورة الضوئية
-
ثقافة الاعتذار
-
بين لغتي السرد والشعر
-
أسئلة اللحظة2
-
رأس أبي العلاء المعري
-
العصرالذهبي للشعر
-
سري كانيي: من بوابة الثورة إلى بوابة الفتنة- ومفرقعات منع رف
...
-
أنا والآخر
-
خصوصية الرؤية
-
سري كانيي/رأس العين غموض الجليِّ وجلوُّ الغموض
-
غموض النص الشعري
-
نداء عاجل إلى الأخوة في حزب العمال الكردستانيpkk:
-
كتابة في دفاتر-سري كانيي/رأس العين-2-3
-
كتابة في دفاتر-سري كانيي/رأس العين
-
سري كانيي امتحان الوطنية الأكبر..!
-
الأُسرة الأكبر
-
لعبة التماثيل:
المزيد.....
-
رحيل الكاتب البيروفي الشهير ماريو فارغاس يوسا
-
جورجينا صديقة رونالدو تستعرض مجوهراتها مع وشم دعاء باللغة ال
...
-
مأساة آثار السودان.. حين عجز الملك تهارقا عن حماية منزله بمل
...
-
بعد عبور خط كارمان.. كاتي بيري تصنع التاريخ بأول رحلة فضائية
...
-
-أناشيد النصر-.. قصائد غاضبة تستنسخ شخصية البطل في غزة
-
فنانون روس يتصدرون قائمة الأكثر رواجا في أوكرانيا (فيديو)
-
بلاغ ضد الفنان محمد رمضان بدعوى -الإساءة البالغة للدولة المص
...
-
ثقافة المقاومة في مواجهة ثقافة الاستسلام
-
جامعة الموصل تحتفل بعيد تأسيسها الـ58 والفرقة الوطنية للفنون
...
-
لقطات توثق لحظة وصول الفنان دريد لحام إلى مطار دمشق وسط جدل
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|