|
هامش (جينيس)
سلمى مأمون
الحوار المتمدن-العدد: 4025 - 2013 / 3 / 8 - 01:32
المحور:
كتابات ساخرة
إمرأة بمواصفات (ديدبان) ابراج حراسة السجون، متمترسة أمام بوابتها المشرعة ليل نهار لا تعرف الكلل ولا الملل من الوقوف على ساقيها في الغبار و المطر و الصهد. تتلفت يمنة و يسرى و ترمح أحياناً حافية حتى المنحنى تلقي نظرة فاحصة و تعود الى نقطة انطلاقها، بانضباط أثار دهشة الصغار و الكبار، كأنها تلقت دورات عسكرية خاصة تُبقيها عالية الهِمة، متيقظة لالقام آلتها الفضولية الجهنمية التي لا تشبع. ربما لايوجد انسان في الدنيا مؤهل للالمام بحجم مهاراتها: فهي "صاحية" تحفظ عن ظهر قلب كل حركة و سكنة في الحيّ و لا تغفل عن أي ظل لزاوية انفراج لأي باب انفتح و اغلق و مَن خرج و مَن دخل و أي لون و طراز و سِعة أي سيارة مرت بالزقاق، و من كان الركاب و من يملكها. مطلعة على جميع دواعي خروج الناس، تحصي الخطى و السيارات و عربات الأجرة و "الركشات" التي توقفت أمام أي بيت و لِكم من الزمن، و ما هيئة الذين ترجلوا منها، نساء أم رجال، أسرة أم عازبين، و كم عددهم، و هل برفقتهم أطفال أم لا، و من تلقاهم أولاً من أهل ذاك البيت، و كم من الوقت مكثوا، و هل خرجوا فارغي اليدين أم محمّلين و هل خرجوا منشرحين أم صامتين. و ما هو معدل زيارتهم أو مصادفات مرورهم دون الدخول. و لماذا؟ ما السبب؟ و فوق هذا و ذاك، مَن ذهب الى العمل و الى المدرسة والجامعة من تخلّف، و من عاد بالصحف اليومية أو بكيس خبز، من تسّوق، و من عاد صفر اليدين. من رجع في موعده المعتاد و من تأخر. و لماذا تأخر؟ آه إنه سؤال مؤرّق قد يستدعي اجلاء (برج المراقبة) إضطرارياً و تسليم الراية لابنتها الصغرى (مناوِبتها تحت التمرين) ، و اقتحام باب الجارة المعنية للتحقق و تحصيل تصريح حصري يكشف السر الخطير لواقعة التأخير و الرجوع بسرعة البرق لاستئناف مهمتها. لا يعرف أحد في الحيّ متى تنام أو تأكل أو تنال مجرد قيلولة. لم يسمع أحد يوماً عن انها سافرت أو توعكت فلزمت الفراش، بل السؤال: هل لديها فراش؟ برغم عامل التقدم في السن و الامراض إلا أنها "كادت العوازل" و لم تفقد تواجدها في قلب الحدث. انها مرصَد حيّ! برأيكم، ألا تستحق مواطنة بهذه "القدرات الفذة" أي مكافأة أو نوط جدارة من أي نوع؟ أما مِن سبيل لادخالها و لو هامش موسوعة جينيس للكفاءات المهدورة! رغم أنني أحرص ألاّ ألتق بها عن قرب، و قد أضطر أحياناً الى تغيير خط سيري أو الاكتفاء بالتلويح بالسلام من بعد، إلاّ أنها مع الأسف تفلح في "ضبطي" و اعتقالي، بينما أقرأ في عمق عينيها الزجاجيتين: لا تحلمي بأن تُفلتي منّي مهما تذاكيتي و تلاعبتي بالمواعيد و الأزياء و ادعيتي الاستعجال فأنا "شايفاك"! لم يكن اليوم يوم سعدي بأي حال، فقد "خمشتني" المرأة/ كاميرا المراقبة و أفزعت رحمن يومي بقصف اسئلتها، التي جعلتُ أجيبها باختصار و بأقصى سرعة ممكنة و أنا مجفلة. و لكن أين المفرّ؟ و هي مهتمة بكل التفاصيل. الهجمة الاولى شاملة، رشقات اسئلة معممة عني و عن شغلي و عن ابنائي و ماذا عملوا و ماذا تركوا و عن أفراد اسرتي بالتركيز على المسافرين. الهجمة الثانية هي الأشد إيلاماً لأنها تتوغل في صميم خصوصيات وجودي. أساسي إثارة نقصان وزني و ربما حاجتي العاجلة للخضوع لفحص السُكّري مع نبرة صوت يشوبها الأسف على حالتي "ضعفتي كدا مالك!!" مروراً بالتساؤل عن اختفاء العربة التي كانت تأخذني للعمل متبوعة بفقرة بكائية عن المواصلات الصعبة و عذابها لتصل الى السؤال النموذجي"انتي ليه ما عايزه تجيبي عربيه؟"، و تعاود الدوران حول تأخري في الرجوع من العمل حتى المساء و لماذا يتطلب عملي كل ذلك التأخير؟ و هل يعطونني أجراً يبرر أو يعوض عن ذلك؟ صددت اسئلتها قدر المستطاع و ضغطت بقوة على رأسي كيلا ينفجر. المدهش أنها كانت هادئة، تدير ذاك الاستنطاق بابتسامتها الضرورية لتخدير ضحاياها، و بتطاول لا يعرف الحرج أو مجرد الرأفة، بينما غرزت نظرتها كماسحة ضوئية بالليزر، فاخترقت ثيابي و بشرتي و عظامي و أطلعت على اجهزتي الحيوية، تفقدت مواضعها و صلاحيتها و أحصت شعيراتي الدموية و كرات دمي؛ بيضاء و حمراء و تقاذفتها عالياً كالعاب نارية. فرغت من التمام الداخلي اللازم، و قفلت عائدة الى السطح فقيّمت ثيابي و عمرها الافتراضي. ثم تحسست حقيبتي اليدوية بل اخترقتها و أحصت المتبقي بحافظة نقودي، و جست لفافة فطوري، و التقطت آخر رقم نشط في قائمة المتصلين على موبايلي. عند تلك النقطة بدأت أعضائي تضمر و زاغ بصري و جفت شفاهي و بدأت سُحب صفراء تتشكل أمامي. و أخيراً .....حلت اللحظة الفارقة المنتظرة، بخروج مباغت لاحدى الجارات "ازيكم، كيف اصبحتوا......" لا أذكر بأي لغة رددت التحية، و أطلقتُ ساقيّ في الريح، و بي رغبة في عبور طريق الأسفلت مغمضة العينين!
#سلمى_مأمون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليمونتان بغياهب الروح
-
انتظار سيدة -الهايكو-
-
أين تسهر هذا المساء
-
شتاء خارج التغطية
-
كائنات ضوئية تصعد الباص
-
رهانات الصباح بين المفتاح و المطرقة
-
أعلى من نوتات الغجر
-
غياب
-
الزومبي(في ذكرى انتفاضة 27 مارس/ 6 ابريل السودانية 1985)
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|