|
آخر الشارع
سها السباعي
الحوار المتمدن-العدد: 4023 - 2013 / 3 / 6 - 08:07
المحور:
الادب والفن
أَمُرُّ على دكانه كل يوم وأنا عائدةٌ من عملي، لا يزال متشبثًا بمكانه على الرغم من الهدوء الذي خيم على الشارع، فأصبح من النادر عبور المارة فيه، بعد بناء السور المرتفع الذي أحاط بخط السكة الحديد بعد أن ازدوج، ليسير عليه مترو "الأنفاق" فوق الأرض، مبتلعًا نصف مساحة الشارع، ومغلقًا المزلقان الذي كان يعبره سكان الشوارع المجاورة للخروج إلى الميدان. الكثير من المحلات هنا أغلقت أبوابها، لكنه لا يزال يفتح دكانه كل صباح، ولا يعتمد إلاّ على زبائنه المخلصين، الذين حافظوا على ولائهم له ربما بسبب أسعاره المهاودة والتي تقل قليلاً عن أسعار محلات الـ "دراي كلين".
كثيرًا ما أقابله وهو يسير بخطوة غير منتظمة بسبب ساقه التي أصيبت في حادث منذ سنوات، وتم علاجها بحسب الحال؛ يحمل الملابس التي تحتاج إلى الكي، وقد أحضرها من منزل أحد الزبائن، حيث يصعد الى البيوت ويدق أبواب الشقق بصيحته المعتادة؛ "مكوا". كانت الملابس دائمًا معبأةً في كيس وسادة، أو في قطعة قماش معقودة على شكل "بؤجة"، أو في جلباب رجاليّ جعلت منه ربة المنزل "زكيبة" بعد أن استخدمت الكُمَّيْن كعقدةٍ لخنق الجلباب من رقبته المفتوحة، فلا تتسرب منه الملابس. هذا الشكل الأخير كان يوحي لي برغبات مكبوتة ربما جالت في العقل الباطن لربة المنزل تلك، مما يجعلني ابتسامتي تتسع رغمًا عني كلما رأيته، بينما يظن عم سلامة أنها تتسع له.
في كل الأحوال كنت أبتسم لابتسامة عم سلامة التي يبادرني بها، ثم يستوقفني محيِّيًّا وسائلاً ومستفهماً عن أحوال البلد، ويسألني عن رأيي!. ولأنني كنتُ ولا أزال غير قادرة على تكوين رأيٍ واضح بيني وبين نفسي، فقد كنت أشعر بحرجٍ شديد، فأرد بكلمات مثل "ربنا يعين"، و "إن شاء الله خير" و "بكرة تتعدِّل"، وكنت أحول مجرى الحديث إلى أي اتجاه مختلف، وكان هو بفطنته يفهم فلا يثقل عليّّ، فيتجاوب معي ثم يحييني ويكمل طريقه إلى دكانه.
دكان عمّ سلامة لم تدخله الكهرباء، ليس لأنها غير متوفرة، ولكن من أجل التوفير. لا يزال عم سلامة حتى الآن يستخدم المكواة الحديدية التي يقوم بتسخينها على وابور الجاز، ويكوي الملابس من فوق "الفودرة". والفودرة لمن لا يعلم، هي قطعة قماش قطنية نظيفة، يتم ترطيبها بالماء، ثم توضع بين المكواة والملابس، لتحفظ الملابس من أي سواد قد يصيب المكواة جراء "هباب" الوابور (ليس المقصود هنا الشتيمة، ولكنها مصطلحات مصرية قديمة، أُسيء استخدامها لاحقًا!)، كما أن الفودرة تحفظ الملابس من اللمعة غير المحببة التي قد تصيب بعض أنواع الأقمشة الرخيصة بسبب حرارة المكواة. تفاصيل صغيرة تفادتها التكنولوجيا الحديثة بالطبع في مكواة البخار، لكن عم سلامة لم يكن يقدر على ثمنها ولا على فاتورة الكهرباء، فاستمر يؤدي الصنعة كما كان يؤديها من سَبَقَهُ من "المكوجية".
أما منضدة الكي، فهي ليست سوى منضدة خشبية عتيقة، لكنها متماسكة، راسخة في الأرض تحت ثقل ضربات عم سلامة بمكواته الحديدية، وحركته الدائبة بها ذهابًا وإيابًا لأعوامٍ طويلة. ولا عجب، فقد تم صنعها في وقت كان فيه إتقان الصنعة هو العرفُ السائد، وكان الغش أقل ما يكون. سطح المنضدة مغطى بطبقات من بطاطين صوفية بنية اللون خشنة الوبر، مثل التي يستعملونها في السجون ومعسكرات الجنود، تعلوها ملاءةٌ قطنية نظيفة.
تسلية عم سلامة الوحيدة داخل جدران دكانه العارية من الطلاء، هي الراديو الصغير الذي يعمل بالبطاريات، ويبدو أنه يضحي راضيًا بأجرة كي قميصين لاستبدال البطاريات كلما نفدت. كثيرًا ما أراه واقفًا أمام الرف الذي وضع عليه الراديو بعيدًا عن حركة يده بالمكواة وعن حرارة لهب الوابور الذي لا ينطفئ طيلة اليوم؛ يتنقل بين المحطات كلما طالت الفترات الإعلانية بين البرامج – شيء لم يعتد عليه – ، أو يبحث عن أغنية يعرفها لمطرب يعرف اسمه بين كل هذا الكم من الأغنيات المتشابهة لمطربين لا يعرف أسماءهم.
لم يصرح لي عم سلامة بهذا أبدًا، لكن هذا هو ما أراه خلف ابتسامته الطيبة ومن خلال رموشه الرمادية؛ يحيا عم سلامة في زمن غريب عليه، لا يستطيع أن يتكيف معه، ولا يستطيع أن يلحق بمتغيراته السريعة. لذلك فهو يحتفظ بثوابتِ حياةٍ ماضيةٍ تتماشى مع إدراكه، يجد فيها سلامَهُ النفسي وهدوء باله. لا يشاهد عم سلامة برامج التوك شو لأنه ينام مبكرًا بعد تعب الوقوف على قدميه طيلة اليوم، ولا يقرأ الجرائد ليس لأنه أُمِّيّ، ولكن لأنه لا يريد أن يوجع دماغه. يقضي صباحه على المقهى يشرب الشاي ويدخن الشيشة، ثم يتوجه ليفتح دكانه، لتعانق أصابعُهُ رفيقةَ حياته، التي ألانت العشرة برودتها المعدنية في يده. وعلى السور المنخفض الذي بناه بالطوب الأحمر لكي يستند عليه عند هبوطه الدرجات الحجرية التي تنزل به إلى باب الدكان، بعدما انخفض مدخله كثيرًا إثر الرصف المتكرر للشارع ، يجلس عم سلامة يدخن سيجارته المحلية، وينظر إلى الأفق المتاح له؛ آخر الشارع!.
#سها_السباعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سألتُ مُعلمي
-
عنكبوتٌ صبورٌ هادئ
-
نجمةٌ ميتةٌ
-
سأم القاهرة
-
نقطة ومن أول السطر
-
البجعة السوداء - من دار الأيتام إلى خشبة المسرح
-
الضباب ومقر البرلمان
-
في انتظار الحُكم
-
وماذا بعد يا مصر؟
-
قسَم الملعب وقسَم الميدان
-
نهضة مصر - مسيرة تمثال
-
كاتمة الأسرار – مصر والمرأة المصرية في أعمال محمود مختار
-
إنها ليست كراهية، إنه حب امتلاك
المزيد.....
-
أسلوب الحكيم.. دراسة في بلاغة القدماء والمحدثين
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
-
الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر
...
-
حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|