كريم مرزة الاسدي
الحوار المتمدن-العدد: 4020 - 2013 / 3 / 3 - 00:03
المحور:
الادب والفن
23 - التجديد في الشعر العربي
من عصر صدر الإسلام حتى بدايات العصر العباسي الأول
- القسم الأول -
كريم مرزة الاسدي
عهد القدماء وعهد المحدثين :
من الجدير ذكره أنَّ النقاد القدماء قسموا الزمن الفاصل بين ملامح التجديد المحسوس في الشعر العربي إلى عهدين وهما : عهد القدماء وعهد المحدثين , وشـُرع بالشعر العربي لعهد القدماء الذي وصلنا ناضجاً رائعاً قبل الإسلام بقرن ونيف , أي منذ أن هلهل المهلهل (ت 531 م) به , ومنذ أنْ أنشدَه معاصراه امرؤ القيس الملك الضليل , حامل لواء الشعراء إلى النار , والشنفرى صاحب لامية العرب الباقية الشهيرة , وينتهي في أوائل القرن الثاني للهجرة... بشاعر عملاق كالكميت الأسدي (ت 126 هـ / 744 م) وهاشمياته المتبقية بعد أن تهشمت قصائده المتعثرة , " أما عصر المحدثين فبدؤه قبيل قيام الدولة العباسية . بدؤه في الواقع من عهد بشار بن برد ومروان بن أبي حفصة ومطيع بن إياس وغيرهم من مخضرمي الدولتين , ويشمل كل من جاء بعدهم من الشعراء الذين كتبوا باللسان العربي إلى اليوم . " (40) , هذا اجتهاد الأستاذ طه أحمد ابراهيم ( توفي 1939م) (41) مدرس نقد الأدب العربي في كلية آداب القاهرة في كتابه (تاريخ النقد الأدبي عند العرب... ) , وهو معاصر لمرحلتي (الإيحاء و الديوان 1921 ... ) التي تزعمها شكري والعقاد والمازني , وجماعة (ابولو 1932 ...) نسبة لمجلة (ابولو ) ومن مؤسسيها أبو شادي وابراهيم ناجي وعلي محمود طه , وسبق جيل رواد الشعر الحر (التفعيلة) الذي بشر به السياب (1947م) , وتزعم نازك الملائكة قد أعلنت عنه في قصيدة الكوليرا عام (1946 م) , نترك الأمر حتى يأتي العصر .
التمهيد - الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي :
لنعود للقدماء والعود أحمد , الحقيقة لمّا جاء الإسلام ونزل القرآن لم يتغير نهج الشعر العربي في شيء , وظلّ الشعر الإسلامي كالشعر الجاهلي طريقة ومعنى وجزالة عبارة وضخامة لفظ , وبقى جرير والفرزدق والأخطل وذو الرمة والقطامي مثلهم مثل زهير والأعشى والنابغة في تناول الشعر (42) , فلم يجد في الإسلاميين مذهبٌ جديدٌ فيه رغم العمق الإيماني لدى بعض الشعراء , والحرية المقيدة بالمنظورالإسلامي لنبيٍّ كريم ٍ (ص) قد وحّد العرب , يقول أعشى قيس ( ت 7 هـ / 629 م) في حقـّه - وفي بعض الروايات يأتي (نبيٌ) (نبياً) حسب وجهة الإعراب -:
نبيٌ يرى ما لا ترونَ وذكره *** أغارَ لعمري في البلاد وأنجدا
والبيت من قصيدة للأعشى يمدح فيها النبي (ص) , وينقل ابن كثير في (السيرة النبوية) رواية عن (ابن هشام) يذكر فيها أن الأعشى القيسي لم يقابل النبي (ص) ليمدحه , فاعترضه المشركون محاججين , فأجّل اللقاء حتى يحول الحول , ومات في سنته كافرا , وإليك منها :
ألم تغتمضْ عيناكَ ليلةَ أرمدا*** وبتَّ كما بــات السليمُ مُسهَّدا
وما ذاكَ من عشق ِالنساءِ وإنما**تناسيتُ قبل اليوم خلة َمَهْددا
ولكنْ أرى الدهرَ الذي هو خائنٌ**إذا أصلحَتْ كفايَ عاد فأفسدا
كُهُولا ًوشُـَّبـــاناً فـَقـَدْتُ وثروة ً**** فلله هـذا الدهرُ كَـيْدٌ ترددا
وما زلتُ أبغي المالَ مـُذ ْأنا يافعٌ*وليداً وكهلا ًحينَ شـِـْبتُ وأمردا
ألا أيـُهذا السائلي أينَ يـَمـَّمتْ****فإن لها في أهل ِ يثربَ موعدا
فإن تسألي عني فيا رُبَّ سائل ٍ*حفيّ ٍعن الأعشى به حيثُ أصعدا
أجـَدَّتْ برجليها النـَّجاءَ وراجعت ْ*** يداها خنافا ليـِّنا غير أحردا
وفيها - إذا ما هجـَّرتْ -عجرفية ٌ**إذا خلتْ حرباءُ الظهيرة أصيدا
وآليتُ لا آوي لها مـــن كلالة ٍ *** ولا من حفى ٍحتى تلاقي محمدا
متى ما تـُناخى عندَ باب ابن هاشم ٍ*تـُراحي وتـَـلْقـَيْ من فواضلهِ ندى
نبيا ًيرى ما لا تــرون وذكرُه ُ****أغــــار لعمري في البلاد وأنجدا
له صدقاتٌ ما تـُغــِبُّ ونــائل ٌ *** وليـــس عطاءُ اليوم ِمانـِـعَـهُ غدا
أجـَدَّ كَ لم تسمعْ وصاة َمحمد ٍ*** نبيِّ الإلهِ حيثُ أوصى ، وأشــهدا
إذا أنتَ لم ترحلْ بزادٍ من الـتــُّقـَى***ولاقيتَ بعد َالموتِ من قد تزوَّدا
ندِمتَ على أن لا تكــــونَ كمثلِهِ**** فترصُدَ للأمـر ِالذي كان أرصدا
وذا النـُّصـُبِ المنصوبِ لا تـَـنـْسـِكـَـنـَّهُ**ولا تعبد ِالأوثانَ واللهَ فاعـْبـُدا
وذا الــرحم ِالقـُــــربى فلا تقطعنـَّه ُ ***لعاقبةٍ ولا ذاكَ الأسيرَ المقـَيــَّدا
وسّبـِّحْ على حين ِالعشـِّيات ِ والضحى**ولا تحمد ِالشيطانَ واللهَ فاحْمدا
ولا تسخرنْ من بائس ٍذي ضرارة ٍ*** ولا تحسبنَّ المالَ للمرء ِ مـُخلـِدا(43)
المهم كلّ ما حدث - وأنا أجمل القول حتى نهاية العصر الأموي - هو تغيّر يسيرفي أغراض الشعر , فقوي النسيب وكان ضعيفاً , واشتدّ الهجاء حتى أفحش , وبزغ الشعر السياسي في العراق والشام , وكل ذلك في حدود الشعر الغنائي ,أمّا المعاني فتعمقت لتشمل الحكم والأمثال , وإن بقى تسلسلها المنظقي ضعيفاً كجاهليتها في منزع التحليل , والألفاظ فعذبت وهذبت , إذ أثـّر القرآن الكريم ) والأحاديث النبوية الشريفة -اللذان وحّدا لغة العرب في بودقة لغة قريش - في أساليب شعرائه , من كعب بن زهير حتى الفرزدق وجرير وكثير والكميت , ولكن ظلّ نهجه الجاهلي من غناء ورسوم وروح وشعراء عرب بدويين إلاّ ثلاثة أو أربعة , لذلك احتج بهم اللغويون والنحويون , والأخيلة فأتسعت لاحتكاك العرب بمدنيات الأمم الأخرى , وبالبيئة الجديدة المنبثقة , ولو إلى حدٍّ ما , والعاطفة فتشربت برداء العزّة والفخر بسبب الفتوحات الإسلامية العربية , ومن هنا أصبح للشعر قيمة تاريخية ونضالية (44) , ومن الجدير ذكره في عصر صدر الرسالة قد خفتَ التفاخر والتنابز , لأن الإسلام رفع لواء السواسية بين الناس , وعدم التمايز بينهم , وحارب العصبية القبلية , ونادى بالولاء للإسلام والمسلمين , لا للقبيلة والقبليين , ومن هنا ينطلق الدكتور ضيف بعيداً ومن بعد الفتوحات الإسلامية بقوله : " و شتان بين عربي الصحراء القديم و عربي العصر الأموي الذي ورث كسرى وقيصر ،و خرج من صحرائه و نزل الشام و العراق وغيرها من الأقاليم الإسلامية " (45) , ومع ذلك بقت القصائد الجاهلية هي القالب الأساسي , والأنموذج القياسي للشعر العربي الأصيل من حيث الوزن والقافية حتى عصور وعصور , وإلى يومنا هذا ما زالت البحور ...!! فالترابط بين القديم والحديث ضرورة إبداعية لا مناص منها لترابط اللحظات , وانبثاق الذكريات الشعورية واللاشعورية , لذلك يقول (ستيفن سبندر) الشاعر الأنكليزي المعاصر : " وذلك أنّ الذاكرة هي جذور العبقرية المبدعة , فهي تمكن الشاعر من أن يصل لحظة الإدراك المباشر التي تسمى (الإلهام ) باللحظات الماضية التي حملت إليه انطباعات مماثلة , وهذا الوصل للإنطباع الراهن بالإنطباعات الماضية يمكن الشاعر في اللحظة من أنْ يخلق تأليفاً عبر الزمن ... إنّ أهم ما يميز شاعراً عن سائر الشعراء نوع ذاكرته والطريقة التي يستخدمها بها " (46) , ثم يقسم الذاكرة إلى نوعين , وهما الذاكرة الصريحة المشعور بها , و الذاكرة الخفية اللاشعورية , وإلى مثل هذا يذهب الأستاذ العقاد بدون التفصيل , وأقرب لنا بالتمثيل في (سليقة نظمه) بقوله : "والمعروف من تاريخ الشعر المحقق أنّ (سليقة النظم) بدأت في العصر الجاهلي ونمت ولا تزال ماضية في أدوار التمام بعد تلف البداءة بأكثر من ألف وخمسمائة سنة " (47) , وأنا أتحفظ على أدوار تمامها , وأقول ربّما تمامها أو نقصها , وعلى عدد قرون بداءتها , فالأركان الأساسية للشعر في العصرين هي هي لم تتغير , وإنّما ظهرت ظواهرشعرية جديدة عقبى الزلزال الفكري والعقائدي الديني , وما انطوى عليه من انقلاب على القيم والتقاليد الجاهلية , وما بزغ في الآفاق من مفاهيم وأعراف وتقاليد كانت غيرمألوفة من قبل .
الشعر الأموي وتأثره :
والشعر الأموي عموماً تأثر بالحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع تطورها من حيث الفرق الإسلامية المتشعبة فرضاً كالخوارج والزبيريين واالأمويين والشيعة الإمامية والكيسانية والزيدية , والطبقات بكادحيها و ارستقراطيها , ومواليها , هؤلاء بشعوبيتهم , والعرب بعصبيتهم وفخرهم , والأقتصاد بأمواله ومغانمه من سبايا الفتوحات وجواري المشتريات , وبالتالي ما يفرز من مجون عابث , وتقشف زاهد , وغناء طروب , كل ذلك صوره الشعراء أروع تصوير ففي كلّ وادٍ هيام وأنغام ولوعة وتعبير , فعندما تسلـّط الأمويون شجّعوا مرّة أخرى على تأجيج النزعة القبلية , فعاد الشعر إلى جاهليته على وجه من الوجوه من حيث التفاخر والخصومات والنقائض , وقامت أسواق جديدة من أجل ذلك تضاهي سوق عكاظ الجاهلي كسوقي (المربد) في البصرة , و(الكناسة) في الكوفة . ويرى الأستاذ أحمد أمين في هذا الصدد " قد خلـّف لنا هذا المربد وما كان فيه من صراع مجموعات كبيرة من الشعر أهمها شيئان : مجموعة كبيرة من النقائض بين جرير والفرزدق , فكان أحدهما يقول قصيدة في هجاء صاحبه على وزن خاص وقافية خاصة , فينقضها الآخر ويحوّلها إلى هجاء خصمه على نفس الوزن والقافية . والثاني مجموعة من الأراجيز الفخمة ..." (48) , نترك الأراجيز فسيأتي ذكرها بعد عدّة أسطر .
من الظواهر المستجدة في العصر الأموي:
1 - انتشار حياة التقشف والزهد والنسك والوعظ والإرشاد :
وقد توارثها وتشربها شخصيات إسلامية شهيرة من رموزعصر صدر الإسلام كالخليفة عمربن الخطاب والإمام علي وأبي ذر وسلمان وحذيفة بن اليمان وغيرهم , وتعمقت بعد فاجعة كربلاء وموقعة الحرًة ..وقد اشتهر في ذلك أبو زحام الأعرج وميثم التماروسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي واعظ عمر بن عبدالعزيز , وعطاء الخراساني والحسن البصري فتأثرالشعراء بلمسات إيمانية روحية مثالية , وعكسوا في لحظات تأملية , ووقفات تدبّرية للكون المحسوس , وعلـّة وجوده , وللعالم الآخر الغيبي وما وراءه , فهذا الفرزدق ( ت 114 هـ / 732م ) لما ماتت النوار امرأته ودفنت، وقف الفرزدق على قبرها، وأنشد بحضور الحسن البصري هذه الأبيات, قال :
أخاف وراء القبر-إن لم يعافني-***أشدّ من القبر التهابا وأضيقا
إذا جاءني يــوم القيامة قائدٌ *** عنيفٌ وسـواقٌ يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى***إلى النار مغلول القلادة أزرقا
يساق إلى نار الجحيم مسربلاً *** *سرابيل قطران لباسا محرقا
إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم *** يذوبون من حر الصديد تمزقا
فبكى الحسن رحمة الله عليه . (49) , وبالرغم من أنّ الفرزدق اشتهر باستهتاره وتقلبه ظاهرياً أو مصلحياً , ففي أعماقه تأثر بالإسلام، وإلى شيعة الإمام علي (ع) , لأن أباه كان من أصحابه , والإمام نفسه قابل الشاعر أبان طفولته المتأخرة , وأوصى أباه بتعليمه القرآن , والفرزدق التقى بالإمام الحسين (ع) عند مجيئه إلى كربلاء في (الثعلبية) قرب الكوفة , وعندما تسنح الفرصة له يشهر ولاءه لآل البيت كتجرأه بوجه هشام بن عبد الملك , وكان ولياً للعهد في الحرم المكي في قصيدته (هذا الذي تعرف البطحاء وطأتهُ) , وسجنه هشام ستة أشهر عليها , وكثير عزّة (ت 105 هـ / 723م) مثله محسوباً على شعراء الشيعة , فلما استأذن كثير الخليفة عمر بن العزيز في إنشاد الشعر , , أذن له وقال له لا تقل إلا حقـّاً , فقال :
تكلمت بالحق المبين وإنمــــا ***** تبين آيات الهدى بالتكلم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي**أتيت فأمسى راضيا كل مسلم
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها**تراءى لك الدنيا بكفٍّ ومعصمم
فلما أتاك الملك عفواً ولم يكن*****لطــالب دنيا بعده من تكلم
تركت الذي يفنى وإن كان مونقا**وآثرت ما يبقى برأى مصمم (50)
ومعنى هذا أنّ الحياة الدينية المتوارثة طورت الشعر الأموي واثرت اثرا عميقا في نفوس شعرائه , فالملامح الدينية واضحة في شعر الـ (كثير) , وقضى عمره بالعظات والابتهالات .
2 - النقائض :
النقائض جمع نقيضة , والنقيضة من نقض البناء أي هدمه , وفي القول من المناقضة أي المخالفة في المعنى , والنقائض في الشعرهي معارك أدبية تعني ردود المتخاصمين على بعضهم بقصائد هجاءٍ للخصم , وفخر ٍبالنفس , تأتي الردود على الوزن نفسه , والقافية عينها , ولكن المضمون أشدّ ً مضاضة , وأكثر قذعاً , وهذه الظاهرة كانت معروفة في العصر الجاهلي , فالحروب كانت سجالاً بالسهام والكلام , وخفـّتْ في صدر الإسلام لخفوت العصبية القبلية , فانحصرت بين شعراء المدينة المدافعين عن الإسلام وشعراء مكة المتمسكين بالأصنام , وبرزت بشكل عنيف ومستجد , وشغلت المساحات السياسية والاجتماعية والقبلية في العصر الأموي , الخلافة تسعى لتأجيجها حتى ينشغل الناس بها , ويعكفون عن تناولهم السياسة والسياسين , ووجد فيها الأدباء والشعراء مادة تحفز العقول , وتثير الأحاسيس , وتشجع على المحاورة والمناظرة والمقابلة ,وتنمي الانفتاح الفكري , والإيحاء التخيّلي , والتصوير الفني, وتحث على معرفة الأنساب , وأيام العرب ومثالبهم ومحاسنهم , وتثري اللغة وقواعدها وصرفها , و الحقيقة امتدت مجالاتها , واتسعت من أفق الهجاء والفخر لتشمل النسب والولاء والغزل والسياسة والمديح والرثاء والسخرية ... , بل تعرض شعراء النقائض للأعراض , وولجوا للحرمات بعبارات تؤثر التصريح لا التلميح , مما ساعدعلى بروز هذا الفن المليح !! , شغلت الخواص والعوام في عصرها للنهل من المعرفة , وقتل الفراغ , وتسلية النفس والدماغ أكثرمن انشغال عصرنا بكرة القدم والأجهزة المتطورة , وما هو متاح !
بدأت المعارك حين طلب أحد الشعراء من مخصوصي الفرزدق للانتصار له على جرير , ففعلها أبو فراس الأول , ورد عليه بأقذع أبو حرزة الثاني , واستمرت هذه الظاهرة حتى ممات الفرزدق , وكان قد حدث شرخ بينهما بسبب التنافس على زعامة تميم شعرياً , ولما غضبت النوار على زوجها الفرزدق لجأت لقبيلة بني قيس التي ساندت الزبير بن العوام , , وكانت عشيرته من المعترفين به , بالرغم من هذا كلـّه كانا صديقين في حياتهما العادية , بل أنّ جريراً قد رثى الفرزدق بعد هفوة بيت قاله عند سماع نبأ وفاة زميله , وإليك ما يرويه ابن قتيبة في (الشعر والشعراء) : " ومات الفرزدق قبل جرير بعدّة أشهر فلما بلغ جريرا موته قال :
هلك الفرزدق بعدما جدعته *** ليت الفرزدق كان عاش قليلا
ثم أطرق طويلا وبكى , فقيل له : يا أبا حرزة ما أبكاك؟ قال : بكيت لنفسي , إنه والله قل ما كان اثنان مثلنا أو مصطحبان أو زوجان إلا كان أمد ما بينهما قريبا، ثم أنشأ يقول مرثيا له :
فجعنا بحمال الديات ابن غالب *** وحامى تميم عرضها والبراجم
بكيناك حدثان الفراق وإنمـــا *** **بكيناك إذ نابت أمور العظائم
فلا حملت بعد ابن ليلى مهيرة **** ولا شد أنساع المطى الرواسم (51)
وإليك من النقائض ... لمّا هجا جرير الوضيع النسب التميمي الفرزدق الرفيع في نسبه من تميم قائلاً (الكامل) :
إنّ ابن آكلة النّخالة قد جنى **** حرباً عليه ثقيلة الأجرام ِ
خلق الفرزدق سوءةً في مالكٍ **ولخلف ضبّة كان شرّ غلام ِ
مهلاً فرزدق إنّ قومك فيهمُ *** خور القلوب وخفّـّة الأحلام
الظّاعنون على العمى بجميعهمْ **** النّازلون بشرّ دار مقام
وقد عارضه الفرزدق بقصيدة , منها هذه الأبيات - كما ذكر البغدادي في ( خزانته ) - والمعارضة هنا تعني المناقضة , لِما يتضمن الرد من معنى بردِّ الصاع صاعين إضافة إلى الوزن الواحد والقافية المماثلة , وقيل الفرزدق هو البادئ : (الكامل)
قال ابن صانعة الزّروب لقومهِ ***لا أستطيع رواسي الأعلام ِ
قالتْ تجاوبهُ المراغة أمّه ****قد رمـــت ويل أبيك غير مرام ِ
ووجدت قومك فقؤوا من لؤمهمْ *** عينيك عند مكارم الأقوام ِ
صغر دلاؤءهم فما ملؤوا بها***حوضاً ولا شهدوا غداة زحام ِ(52)
ودخل على خط النقائض الأخطل التغلبي ضد جرير التميمي لما بينهما من تنافس على القصر الأموي , والنزاع القبلي بعدما مدح جرير قبيلة بني قيس المعادية للتغلبيين , ووجد الفرصة متاحة عندما _ كما يروي صاحب (الأغاني ) - " دخل الكوفة فقدم عليه الأخطل فبعث إليه محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة بألف درهم وكسوة وبغلة وخمر وقال له لا تعن علي شاعرنا واهج هذا الكلب الذي يهجو بني دارم فإنك قد قضيت على صاحبنا فقل أبياتا واقض لصاحبنا عليه , فقال الأخطل :
أجرير إنك والذي تسمو له *** كأسيفة فخرت بحدج حصان
عملت لربتها فلما عوليت **** نسلت تعارضها مع الركبان
أتعد مأثرة لغيرك فخرها *** **وثناؤها في سالف الأزمان
تاج الملوك وفخرهم في دارم **** أيام يربوع من الرعيان
وقال جرير يرد حكومة الأخطل :
لمن الديار ببرقة الروحان *** إذ لا نبيع زماننا بزمان
وهي طويلة يقول فيها :
يا ذا الغباوة إن بشرا قد قضى*** ألا تجوز حكومة النشوان
فدعوا الحكومة لستم من أهلها **إن الحكومة في بني شيبان
قتلوا كليبكم بلقحة جارهم *** يا خــــــزرتغلب لستم بهجان
ومما غني فيه من نقائض جرير والأخطل " (53)
وكان صاحب الأغاني نفسه قد خبرنا عن دواعي اندلاع نار النقائض بين جرير والأخطل الخبر اللاحق قبل صفحة من الخبر السابق : " كان الذي هاج التهاجي بين جرير والأخطل أنه لما بلغ الأخطل تهاجي جرير والفرزدق قال لابنه مالك وهو أكبر ولده وبه كان يكنى انحدر إلى العراق حتى تسمع منهما وتأتيني بخبرهما , فانحدر مالك حتى لقيهما وسمع منهما ثم أتى أباه
فقال له كيف وجدتهما قال وجدت جريرا يغرف من بحر ووجدت الفرزدق ينحت من صخر
فقال الأخطل الذي يغرف من بحر أشعرهما وقال يفضل جريرا على الفرزدق :
إِنِّي قضيتُ قضاءً غيرَ ذي جَنَفٍ *** لَمّا سمعتُ ولمّا جاءني الخَبَرُ
(54)"أنّ الفرزدقَ قد شالت نَعَامتُه *** ** وعضّه حيّـــــةٌ من قومه ذَكَرُ
ونختم نقائضنا العربية بفن السخرية الذي دخلت بداياته من ذلك العصر , وإليك على عجالة قول جرير (الطويل) :
وإنك لو تعطي الفرزدق درهماً *** على دين نصرانية لتنصّرا
ومن قوله ( الوافر) :
خذوا كحلاً ومجمرة وعطراً *** فلستم يا فرزدق بالرجال
أمّا الفرزدق فتناول والد جرير بالسخرية ( الكامل) :
إنّا لنضرب رأس كلّ قبيلةٍ *** وأبوك خلف أتانه يتقمّل
ومن يرجع إلى دواوين ذلك العصر , يجد فيها ما يسر هذا العصر , وسنتركك بحفظ الله لتكمل المشوار عن بعض مظاهر التجديد للشعر العربي في عصره الأموي لقادم الأيام , وعليك السلام .
#كريم_مرزة_الاسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟