مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 4018 - 2013 / 3 / 1 - 00:08
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
تصدمك الصورة التي تمر أمام عينيك , خيم وسط الطين و المطر هي كل ما يستر هؤلاء الناس من السماء التي لا تتوقف عن إرسال مطرها على رؤوسهم .. تتجاوز الصدمة الأولى بقوة الاعتياد .. كطبيب سرعان ما سأبدأ باكتشاف سكان تلك الخيام .. يأتون بآلامهم , بمخاوفهم , بأكاذيبهم الصغيرة , سرعان ما ينتشر الخبر , هناك طبيب يوزع الدواء , يتزايد الوافدون , يختلقون كل أنواع الأعذار ليحصلوا على قطعة دواء , خاصة للأطفال , و على الرغم من سخط الإدارة تستمر التمثيلية طوال اليوم , طالما كان هناك من أمكنه تحدي الطين و المطر للوصول إلى عيادتي .. يتصرف النازحون كأرستقراطيين صغار , يتأففون , لا يتوقفون عن التأفف من الظروف القاسية التي يعيشونها , ما أن يجابههم أحد ما بفكرة العودة أو البحث عن عمل ما حتى يشيحوا بوجوههم بعيدا , يعجبني هذا , أعرف أن من يكتب أعظم السطور في امتداح العمل اليومي الروتيني و القاسي الذي نعرفه جميعا كعمال بالأجر هم فقط من لم يعملوا يوما .. أنا أيضا أكره مثلكم هذا العمل الروتيني الذي يسحق إنسانيتنا و يملأ جيوب السادة بالمال , أنا مثلكم سئمت العمل عند السادة .. كم تغيرنا بالفعل ! في البطالة الإجبارية أيضا هذه المرة شيء جديد , لم تعد القضية في أن النظام خصخص كل شيء و جعل هذا العمل الروتيني نفسه امتيازا للبعض , ما دفع الكثيرين ليطالبوا الدولة مرة تلو أخرى بتأمين عمل ما لهم , مهما كان غبيا و مملا أو قاسيا , في أفضل الأحوال كان السوريون يرجون الحصول على هذا الإرهاق اليومي الممل ليملئوا جيوب آل الأسد و زبانيتهم .. هذه المرة أصبح الناس يفكرون بحقهم في الحياة دون أن يربطوه بعمل ما في خدمة أحد , و أفكر : كم سيتعب السادة الجدد في إعادة هؤلاء ليعيشوا حياة العبيد التافهة مرة أخرى .. يثيرني هؤلاء الأرستقراطيون الصغار برغباتهم الصغيرة , بتفاصيل حياتهم الثرية جدا , و بقصصهم الحزينة البائسة , يثبتون أن الإنسان كائن متناقض أشد التناقض , أنه الأقدر على التكيف مع أقسى الظروف , التكيف هنا بمعنى الاعتياد و الرضوخ أيضا , و هو في كل الظروف قادر أيضا على ممارسة الرفض و المقاومة , على أن يشاغب و يتمرد , على أن يهزأ بالسلطة التي تقمعه .. الموت و الألم , و التراتيل الإيمانية , النصرة , و المجاهدون , لغات مختلفة , و نفس الحلم , الشك و الخوف من المجهول , ثورة حارم على المحكمة الشرعية , الصدام في سراقب بين الإسلاميين و بعض ناشطي الثورة , و أتوقع : قريبا جدا سيكون على الإسلاميين في سوريا أيضا أن يكتشفوا ما اكتشفه مرسي في مصر , و من قبلهم ستالين , أن أحد أصعب المهام في العالم هو إخضاع جيل من الشباب الغاضبين , ترى كم سيتطلب الأمر من معسكرات غولاغ هذه المرة .. لا يجب أن ننخدع بالسهولة التي نقرأها في كتب التاريخ و لا بتغير المزاج الشعبي , في يوم صعودها كانت الستالينية شعبوية جدا و كانت تبدو حقيقية و جدية تماما كما هو الإسلام السياسي اليوم .. الحزن هنا ليس فقط وليد الموت و الألم , و لا التردد أو العبثية حتى , هناك أيضا إحساس غامض بالعجز , في أوقات الثورة لا معنى للكلمات , إنه وقت الأفعال , أنا و معظم النازحين و معظم الناس من حولي لا نملك إلا الكلمات , جدال يبدأ و لا ينتهي , يكفي هذا ليشعرك بالعجز , و عندما نسمع أصوات السكود يتساقط على شمال إدلب نلوذ بالصمت و الانتظار , انتظار الأخبار أو وصول بعض الناجين .. لا ندري ما سيحمله الغد لنا , لقد تمكن أساطين المال و السياسة من انتزاع مصيرنا من أيدينا مرة أخرى , و جنون النظام يبدو بلا نهاية , الموت يبدو بلا نهاية , لا نملك إلا أن نحيا اللحظة الراهنة و انتظار شيء ما , مدركين أن أمامنا طريق طويلة , مؤلمة , و غالبا الكثير من اللاءات التي علينا أن نزعق بها في وجوه السادة القدامى و الجدد ..
تقترب الحدود التركية , التي تبدو بالنسبة للكثيرين أشبه بمعبر إلى أرض الميعاد .. كم هو مستفز صوت رجل الجندرمة التركي و هو يصرخ في وجوه بائسة صامتة , إنه يذكرني فقط برجال أمن نظام الأسد , لكن الناس يفضلون الصمت و الانتظار .. يأتي دوري , سيصرخ الرجل في وجهي أنا أيضا , سيطالبني بفتح حقيبتي , أحاول أن أقول له : دكتور , فيرد بسخرية و يواصل عمله "الروتيني" بذات القرف , لي على الأقل .. نركب الحافلة الصغيرة , يتكرر التفتيش , تتكرر السخرية حسب مزاج رجال الجندرمة .. و أخيرا يختم جواز السفر و أشعر كمن أصبح حرا أخيرا , ربما من رجال الجندرمة هؤلاء على الأقل .. الطريق إلى ميناء اسكندرون طويل و ممتع بالفعل , جبال رائعة تعانقها الغيوم , إلا إذا كنت سوريا متعبا لم تعرف عيناك النوم لأيام .. في الميناء أتعرف إلى شركائي في رحلتي التالية , خليط من سوريين من كل مكان في شمال سوريا انتهاءا بحمص , يقولون لنا أننا سنصعد إلى الباخرة بعد 4 ساعات , و كعادتنا نملأ الوقت أو الفراغ بالجدال , تكتشف أن اثنين فقط من حمص هم من يرددون نفس العبارات المتفائلة جدا ذاتها التي بدأنا بها الثورة بينما يفضل غالبية المتحدثين أن يعبروا عن شيء من التردد أو التحفظ أو عدم الثقة بما قد يأتي .. يلعب الأطفال من حولنا دون توقف , يضحكون و يبكون , يتعانقون و يتخاصمون , ألعاب صغار في زمن الثورة و الحرب .. أخيرا قبل أن تغيب شمس اسكندرون التي كانت تمنحنا شيئا من الدفء لتتركنا فريسة للبرد القارص يفتح باب الباخرة الهائل , نبدأ بالتدفق أو بالتدافع عبر ذلك الباب الهائل و نحتل مقاعدنا أخيرا .. من جديد الانتظار , التفصيل الأبرز لرحلة النزوح بعيدا عن الموت و الخوف , بعيدا عن ما كنا نسميه أو نعرفه على أنه الوطن .. تبدأ بالتعرف على الناس عن قرب , تستمع لقصصهم الصغيرة , لمعاناتهم الكبيرة , هذا أب لشهيد , الابن الآخر انضم إلى لواء للجيش الحر مقابل عدة آلاف شهريا , و مقابل طعامه , و الأب الخارج من فرع المخابرات الجوية قرر المغادرة دون أن يملك أكثر من الملابس التي عليه , آخران طالبان من جامعة الثورة , يريدان الالتحاق بأسرتيهما في الإمارات , تجار , تكتشف سريعا أنهم كانوا على علاقة جيدة ببعض مسؤولي نظام الأسد , و لبعضهم اليوم أيضا علاقات جيدة بقائد لواء أو كتيبة ما , تكتشف أن هناك رجال لكل العصور و الأزمنة , يلقون في وجهك بالقصص عن تجار و أثرياء حلب و مقاتلي الجيش الحر أو حتى اللصوص العاديين فيها .. تكتشف مرة أخرى أن هناك تغييرا هائلا يجري على البنية الاجتماعية للمجتمع السوري , تكاد تضاهي تلك التي رافقت وصول البعث ثم آل الأسد إلى السلطة , مع قوانين الإصلاح الزراعي و تكامل تطور سلطة البيروقراطية العسكرية الأمنية الحاكمة .. تتراكم الثروة تدريجيا بيد من سماهم البعض بلوردات أو أمراء الحرب و بيد المؤسسة الدينية التي تستعيد بسرعة هيمنتها الروحية و الاقتصادية أو الدنيوية أيضا على الجموع .. و عندما تسمع أن المسلحين يستطيعون الاستيلاء على أي شيء بمجرد التكبير عليه ثلاثا تشعر بشيء من السخرية , حتى أكثر الشيوعيين عداءا للملكية الخاصة لم يكن يحلم بأن يجرد الرأسماليين من ملكيتهم بهذه البساطة .. و عندما يأتي وقت الطعام , ترى صورة أخرى من سلوك شعب عاش 40 سنة تحت ظل نظام عامله بكل استهتار و قسوة , السوريون المعتادون على أن السلطة تحدد لهم حصة محدودة متواضعة جدا من وسائل الحياة و الذين اعتادوا لذلك على التدافع ليحصلوا على شيء ما منها قبل أن تختفي , خاصة و أنهم يعرفون سلفا الرد على شكاويهم بعد نفاذ تلك الحصة المحدودة أساسا , ألا و هو الصمت الممزوج بالازدراء , يتدافعون هنا أيضا للوصول إلى المطعم ثم للحصول على الطعام , تكتشف أن بعض العادات أقوى و أرسخ بكثير من أن تتغير بسهولة , حتى لو أقسمت لهم أن هناك ما يكفي من الطعام للجميع سيتكرر نفس المشهد عند كل وجبة .. بين الأحاديث و النظرات المختلسة و بين الهمسات التي تتردد أحيانا في الزوايا بين الشباب و الصبايا يمر الوقت , لا تكتشف أنك قطعت الطريق في يوم كامل إلا عندما تسمع ذلك أخيرا من مذيع الرحلة .. بعد حصولك على جواز السفر , تكتشف أن رجل أعمال إسلامي ما قد أعد باصات لنقل الواصلين إلى المدن المختلفة , مع وجبة طعام أيضا .. لكن منظر العربات المسلحة للجيش التي تشاهدها في الميناء ثم في ساحات المدينة تذكرك أنك في بلد تعيش على حافة عصيان مدني أو صراع سياسي مفتوح بانتظار استكمال أو اختتام ثورة أخرى .. أخيرا يتفرق الناس , كل يحاول أن يتابع رحلة نزوحه الخاصة , البعض إلى ليبيا , الآخرون إلى مكان لا يعرفونه حتى , ربما إلى الشارع .. تشعر مرة أخرى بنفس العجز أمام مشاهد الموت و قصص النازحين , تبحث عن عنوان ما , عن طريق جديد , قد يؤدي بك في النهاية إلى الحرية , مرة أخرى إلى سوريا جديدة هذه المرة , لكنه طريق طويل طويل جدا بكل تأكيد
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟