|
خرائب الوعي .. 8 - الطابق الثاني
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4014 - 2013 / 2 / 25 - 16:36
المحور:
الادب والفن
نهض من تحت الشجرة ووضع الصندوق على كتفه وأجتاز قطعة الأرض المحترقة المثبتة باربعة مساميرعلى جدار ابيض، وخرج من الصورة، ليجد نفسه في الشارع الطويل المعتم، حيث توقف للحظات في بداية الشارع، ووضع صندوقه على كتفه الأخرى وواصل السير حتى المبنى العتيق في نهاية الشارع المعتم، دفع الباب بمرفقه ودخل الممر الضيق، وصعد السلم ببطء متحاشيا أن يرتطم الصندوق بالحائط حتى الطابق الثاني. صورة جديدة. يتبعها الإكتشاف. قذف بلفافته على الأرض دون أن يشعلها، ومع ذلك دهسها بحذائه بعنف وكأنه يحاول أن يهرب من ذلك الإحساس الغريب الذي ينمو ويكبر في داخل أحشاءه حتى يتفجر أبخرة نتنة تتصاعد من تحت جلده وتجعله يشك في إنسانيته. فالهزيمة تلون عينيه وتجعله يسير وظهره منحنيا كأنه يحمل إلى الأبد حملا ثقيلا على أكتافه. وهؤلاء البشر واحدا واحدا، يتقاذفوننه من جهة إلى أخرى، لايدركون لا الإتجاه الذي يريدون التحرك إليه، ولا الذي يتوجه إليه هو. يصطدمون به، يقذفونه خارج مداره، وخارج الدائرة التي يرقص فيها منذ الأزل، ويدخلونه عنوة في لعبة جديدة لا يعرف أبعادها ولا قوانينها. يهرب حزنه منه ويبقى وحيدا، مع صوت النهر والملعقة في كوب الشاي وحلم البارحة يمتزج مع دخان السيجارة. يهرب من فتحة ضيقة في الجدار إلى ألق البحر. يربط نفسه بخيط شمس دقيق وينزلق، يرخي نفسه في الفضاء الذي لا نهاية له، كتلة رخوة من اللحم، ودماغه فجوة ملأى بالتراب والأصوات. الدمعة تنفجر محملة بالمطر الملون، وأبخرة الحمام التركي تتصاعد، تتشكل وتتلون جنيا يركع أمامه، فيطلب منه أن يعيده إلي حزنه وأن يأتيه بقنينة من هواء البحر. للحزن جذور في أعماق الأرض، والأرض شربت بحرها، وصارت حلما يراوده لحظات السكر، والوجوه التي يحبها لم تعد تأتي. هاجرت الصور والروائح مع ألوان الشفق، وتركته يعوم بين الأبيض والأسود. اللحظة، لحظة الشوق عبرت في قارب صغير إلى الضفة الأخرى، يراقبها من نافذة المقهى، ويراها تنزل وتلوح بيدها وتتبخر وتختلط بدخان السيارات الغامق، النوارس وحدها لا تركب القوارب. أطفأ سيجارته بمقدمة حذائه فوق الأرض الاسمنتية، وفاجأته تحت الكرسي الخشبي أربعة ألوان مضيئة. تشرق أمام عينيه للحظات، ثم يغمرها غبار يتطاير، أسود وأبيض يتعانقان ببلاهة، أحمر وأصفر يفصل بينهما خط وهمي . أربعة ألوان مهاجرة تطؤها أقدام عمياء، والشمس تشرق ليلا، وتسرق أحلام عيون القطط المتسكعة في الأزقة المظلمة. وتزرع زجاجات العرق على ضفاف شط العرب. والمياه القذرة تزداد عفنا بأنفاس المخلوقات المحتضرة وبولهم وبقاياهم. ويكتب بأظافره على سطح الطاولة الخشبية الذي كانت ذات لون أخضر ذات يوم، يكتب قصيدة ينعى فيها كل أحلامه، ويحكم بالموت على كل الأسماء والعناوين والوجوه التي يعرفها، يريد أن تنشق الأرض الآن، وفي هذه اللحظة، وتبتلعنه. يحرق شمعة ويبكي، يبكي حتى تنطفيء معه، كتلة من الشمع المحترق وبعض الغازات، ويبقى كتلة من العفن والقذارة. دائما يبقى شئ ما، بقايا ورواسب. يتسكع حاملا أوراقه وجثث أحلامه في فجوة عميقة في صدره. على الدوام يدفعه ذلك الشئ في ظهره، يدفعه بقسوة، وذلك السؤال يبرز رأسه فجأة، ويغرز مخالبه الغجرية في قلبه: من أنا؟ وماذا أفعل في هذه الفجوة؟ وبعيدا، بعيدا هناك عند الأفق يتراءى صف النخيل الطويل الذي يخفي وراءه بيوت القريه الواطئة، الخوف كان هناك، بين موضع أقدامه على كثبان الرمال الخفيفة، وبين صف النخيل المتراقص عند الافق. الخوف كان صمتا عميقا يلفه رغم الاصوات البعيدة التي تتناهى إلى سمعه من حين لآخر، وصوت الحمارالذي ينهق كلما احس باقتراب القرية وإزدياد العتمة وإقتراب الليل. يأمل الوصول إلى صف النخيل وإجتيازه قبل اختفاء الشمس وراء الرمال، يريد رؤية أمه قبل حلول الظلام. لا يتذكر التواريخ ولا الاسماء التي نطلقها على الايام والليالي والشهور، لايتذكر الوجوه ولا اسماء الوجوه التي رافقته في هذه اللحظات. لا يتذكرسوى طعم الجوع، الطعم المرلهذه اللحظات، الاحساس بذلك القلق الذي يلبس الوجه ويلتصق بالجلد وينصب في العينين مثل قطرتين من الظلمة الحالكة. تلك الحيرة التي تربط اللسان، وتلتصق بالحلق. بعد غروب الشمس وصل إلى القرية ثم الشارع المقفر حتى البيت، حيث اكتسفت غياب أمه. تركته وهربت بجلدها، لم تعد تتحمل الحياة في هذا البيت المزري، يبدو أنه كان يتوقع ذلك منذ زمن طويل. هربت من زوجها الذي كانت تخاف منه كما نخاف من البرق والرعد وظل الحيوانات الوحشية التي تسكن في الليل خلف الابواب المغلقة، والتي نراها ونسمعها تتحرك وتلهث وتصرخ خلف الشقوق. غابت، وبكى سرا لغيابها، كان يخاف أّلاّ يراها مرة أخرى. حالة الغياب بالنسبة إليه تشبه حالة الموت. وبكي طويلا، طوال النهار والليل والايام الاخرى، كان يريد ان يرى عيونها ، ليعرف بانها حية، ولم تمت. كان يحيا معجونا بالخوف، يتنفس هواءه ورائحته، ينام ويستيقظ وهو فيه وحوله، ملتصق بجلده مثل قملة. يخاف منه ، من عينيه، ومن صوته، من رائحته حين يقترب منه أو يمربجانبه، يخافه مثل الظلمة والاشكال التي تسكنها. خاف حين رأى ذلك الحيوان الخرافي الأملس واللامع في عتمة المساء، والذي لايستطع تسميته، خاف من بكائها ، وخاف من اختفائها. خاف حتى الموت حينما هربا معا إلى بيت قريب، وخاف حتى الموت حين سمع صوته في مدخل البيت الواسع. اختبأ في المرحاض في ركن ساحة البيت المعتمة. حاول أن يدفع زاوية المرحاض إلى أقصى مكان في الدنيا. ألصق جسده المرتعش إلى الحائط الاسمنتي البارد، ودام خوفه قرونا وقرونا من الزمان، قبل أن يسمع خطواته تقترب وتقترب ببطء قاتل، واغمض عينه وشعر برائحة المرحاض قوية في أنفه. كاد يفقد وعيه لحظة صرخ من الألم، لحظة شعر بيديه تقبضان بعنف على أذنه ككماشة من الحديد، واختفت رائحة البول المختلطة برائحة الاسمنت وعرق الخوف، وشعر برائحته وهو يجرجره عبرالشارع المعتم الخالي إلى البيت، وهو يصرخ بكل قوته. فجأة تحول خوفه إلى غضب، ولم يعد يحس بالألم في أذنيه، ولكن بنوع من العار الذي يغسل جسده بالعرق، وانفجرشيء ما في صدره، وانبثق في رأسه خيط شعاعي دقيق من النار، وأخذ يجري ويجري حتى اختفى صوته وهو يناديه. جريت طوال الليل وطوال النهار وحيدا على الشاطئ المشمس، تحررت من المدرسة والرفاق، ادفن حقيبتي كل صباح تحت شجرة، وأنطلق عاريا أسابق الريح والطيور والاسماك المجنحة والكلاب وذئاب السبخة. جريت طويلا دون أن أدرك أن هروبي لايمكن أن يدوم طويلا، وهدأ غضبي، وعدت كما كنت، ساكنا أبتلع صوتي وأحزاني، وأفتش في الليل قبل النوم عن قطعة حلوى مندسة في ثنايا ذاكرتي. واستيقظ مذعورا، في بعض الليالي، رأيت الله يمارس الجنس مع حمارة جارنا، عاريا، ومؤخرته المشعرة تنخفض وترتفع في حركة سريعة، مثل الكلب الذي رأيته ذات مرة في طريقي في السبخة بجانب الطريق. ذلك ان الله كان رجلا أكبرحجما من بقية الرجال الذين تعود على رؤيتهم، ووجهه أكثرصرامة، كنت أراه أحيانا في أحلامه يقود قطيعا من الحيوانات الغريبة المختلفة. يتجسس علي في كل لحظة، ويستطيع أن يراني ويراه حتى ولو كنا في بطن الأرض. كنت انساه بسرعة مع شروق الشمس، ولكنه يعود أحيانا أثناء الليل ليحل محل قصص العمياء، ذلك انه اصبح مخلوقا ليليا مثل الغول الذي يأكل الأطفال. نسيته فيما بعد، نسيته وإن كان حاضرا في بعض الأحيان، ولكن حضوره كان مختلطا بأشياء أخرى، فكان على الدوام مغلفا بغمامة من البخور والكلمات والصلوات الغريبة. لم ير أحدا يصلي في قريتنا ما عدا والده، والجامع كان بالنسبة لنا مكانا نلعب فيه نسرق البلح، والشيخ الذي حاول أن يعلمنا القراءة لم ينجح في أن نبقى معه أكثرمن ساعة أوساعتين، ثم هربنا ولم نعد. لم نحتمل الجلوس طوال اليوم مرددين عبارات لا نفهمها، ولم نحتمل عصا الشيخ الطويلة التي ترتطم بالرأس فجأة حين نرى زهرة غريبة أو أو نحلة أو فرفطو. والده كان يسأله في البداية لماذا لا يصلي معه، وفي كل مرة يجد عذرا لعدم تعلمه الصلاة. ثم ترك هذه المهمة للمدرسة، ولم يعد يحاول أن يعلمه أي شئ، ولم يضربه أو يسخرمنه، سوى ان عينيه على الدوام تبعثان الرعب في جسده كلما بدأ الأكل دون أن يقول بسم الله. والده لم يكن شريرا أو قاسيا أو عنيفا، إنما الذي كان يزعجه ولا يحتمله هو هذه السلطة اللامحدودة والتي لم يكن يعرف كيف يواجهها. حملت اوزاري على ظهري مثل حمار، وربطت خيط حذائي القديم، واشعلت النار في بقاياي، وأخذت طريق النسيان. فكل خطوة في الزمان والمكان تسبقها خطوتان، وكل باب افتحه يغلق خلفي بابين، فمن أين أبدأ؟. طلبت منه أن يبدأ من البداية. فعاود سؤاله، أين هي البداية؟، ولم أدرك أن هدفه هو أن لايبدأ مطلقا. لقد حاول ان يجتاز عتبة ذاكرته مرة، ومرتين دون نتيجة. اجتاز البحار والجبال والمدن الغريبة والبلدان والقارات. اجتاز الأيام والشهور والسنوات، اشتعلت حرائق في ذاكرته، وتشققت أقدامه، وتيبست خلايا الدماغ. رائحة المساء المبللة بالمطر تبعث في نفسه غثيانا غريبا. قديمة رائحة المطرمثل رائحة الفطرالرطبة، رائحة الماء الراكد. رائحة التعفن. حاول مرارا أن يجتاز عتبة الذاكرة، أن يفتح الصندوق الثقيل، دون جدوى. تغربت معه وعدت من حيث أتيت دون أن أعي الطريق الذي سلكته. وأتساءل أحيانا إن كنت حقا قد ذهبت إلى أي مكان. تغربت عشرات السنين حسب ما يقول، لأجد نفسي في الحجرة الضيقة ذاتها، نفس الجدران البيضاء العارية، ونفس السؤال القديم أراه يتأرجح في السقف معلقا من حرفه الأول.. أأنا كائن بشري ؟ ولدت مرة مثل بقية الأطفال في هذه البقعة من العالم وحيدا عاريا في فضاء شاسع لانهاية له، في ليلة شتوية باردة، في موسم الحرث. لا يتذكرمن ذلك اليوم سوى السماء السوداء الداكنة فوق رأسه، وصوت كلب يعوي من بعيد. كبر مثل الآخرين رغم الموت الذي كنا نلعب به منذ اللحظات الأولى للحياة. تحاشانا الموت بالصدفة. وبالصدفة نكتشف موتنا فيما بعد. اكتشفت أيضا تخشب اللسان والجسد والدماغ، وتعلمت الشك في الدماغ والجسد واللسان والوجود. يوما بعد يوم اكتشف ان وجودى لا ضرورة له ولا هدف. وجد نفسه ذات يوم يطفو فوق سطح الحياة مثل كرنافة، بعد أن سافر في البروالبحر والسماء، ليستيقظ في غرفة فندق ضيقة في شارع ما في مدينة ما، متأملا وجهه في مرآة مكسورة. يغسل جثته بالماء والصابون، يغسل أسنانه، يدخل في ملابسه، ويربط فردة حذائه، ويخرج إلى الشارع.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خرائب الوعي .. 7 - قوارب الهجرة إلى الجحيم
-
خرائب الوعي .. 6 - الصندوق
-
خرائب العقل .. 5- الحاشية
-
خرائب الوعي .. 4 - مقبرة الضباع
-
خرائب الوعي .. 3 - العمياء وقصر الغول
-
خرائب العقل .. 2- وطني حقيبة وأنا مسافر
-
خرائب الوعي 1- البداية
-
ليبيا .. الثورة القادمة
-
محطة الكلمات المتصلة
-
الفضيحة
-
حوار مع الله .. الحلقة السابعة
-
لقاء مع الله .. الحلقة السادسة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الخامسة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الثالثة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الرابعة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الأولى
-
لقاء مع الله .. الحلقة الثانية
-
ليبيا: الثورة المسروقة .. مرة ثانية
-
ليبيا: الثورة المسروقة
-
بوادر هزيمة الثورة اللبية
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|