كريم مرزة الاسدي
الحوار المتمدن-العدد: 4013 - 2013 / 2 / 24 - 10:04
المحور:
الادب والفن
الكلام صفة المتكلم , والإسلوب هو الإنسان نفسه , ونحن أمّة واحدة بهموها وتطلعاتها , ولا يكاد المرء منـّأ أنْ يتكلم أو يكتب حتى يتلاقف الآخر (حسجته) أو توريته أو كنايته أو استعارته ..., ويتخيل أنـّه فهمه تماماً, وما هكذا الأمر تماما... !! , فهو يعكس ما يريد لا ما أراد , وربما يصبغه بصبغته الدينية أو المذهبية أو السياسية أو الأيدولوجية أو الطبقية منشنشاً مصفقاً مؤيداً , وخصوصاً إذا كان الأول وجهاً معروفاً , أو شخصاً مشهوراً - كلّ واحد يدير النار لكرصته ( لقرص رغيفه) لا شعورياً - والعكس صحيح أي يكون لاعناً غاضباً حانقاً إذا خالف رغبته , وبَعَدَ عن (كرصته) , كما يرتأي , لا كما رأى , وإنْ رأى , فهو ما رأى ! هذا ونحن نتكلم عن المعاصرة والمواطنة , ناهيك عن اختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات فيما بينهما , نعم الإنسان المُلقي أوالمتلقي أعقد بكثير مما نتصور , فكلام الملقي مؤثر أو محفز أو مثبط لتفاعلات حيوية غاية التحليل والتركيب لمخزونات مظاهر وراثية , أو تراكمات عقلية واعية ولا واعية تفسر ما هو أدنى منها من الحقائق الموضوعية الحسية , وبعد أن تتداخل هذه الدائرة مع دائرة الحب أو الخيال (الفن) أو العقائد الدينية الأخصب والأوسع , والتي لا تخضع لمدارك العقل الحسية , فتتولد صور غير حقيقية , وليست بمرئية , خفية علينا لا نتفهم فكّ ألغازها , لذا قالت العرب : الحبُّ أعمى , فإذا رأيت أنت كما تتخيل - سامحك الله ! - امرأة قبيحة إلى جنب شاب وسيم , فقل خيراً , ولا تسأل عن السبب ...!! :
رب قبح عند زيدٍ *** هو حسن عند بكرْ
فهما ضدّان فيهِ*** وهو وهمٌ عند عمرْو
هذا يعني أنَّ الحسن والقبح العاطفييََن تخيّليان - حسيّان , ولا نريد بهما العقلييَن - المعنوييَن كما ذهب المعتزلة والشيعة معهم , فهما من صنع العقل كما يرتأيان , لذا يقول دعبل :
هي النفسُ ما حسنته فمحسنٌٌ *** لديها وما قبحته فمقبّحُ
ونواصل مسيرة أقوال العرب , وقولهم : لكل شاعر شيطان يلهمه ! , فدائرة الخيال الملهمة حسبها الأعشى الشيطان (مسحلاً ) , وأطلق عليه مجازاً اسم الجان , فقال :
وما كنت ذا خوف ولكنْ حسبتني *** إذا مسحلٌ يسدي لي القول أنطقُ
شريكان في مـــا بيننا من هوادةٍ ******* صفيــان إنسيٌّ وجنـّي موفقُ
هكذا حسب القوم قديماً, وما علينا بعد هذه القرون التي تفصل بيننا ,أن نتمثل بقول الجواهري :
وحدّث فإن القوم يدرون ظاهراً *** وتخفى عليهم خافيات الدوافع ِ
أمّا بالنسبة للأديان فقد توصّل أبو العلاء المعري للسر بأنَّ دائرة الأديان تكون أوسع من دائرة العقل الحسي , فيجب إنهاء الجدال العقيم بكيف وأين , وأرني ...اقرأ قوله , وما عليك بالبيت الأول المضلل !! :
اثنان أهل الأرض : ذو عقــلٍ بلا ديــنٍ *** وآخر ديِّنٌ لا عقل لهْ
ٍإذن لا نستطيع أن نحكـّم عقولنا الحسية بالفنون والحب والأديان فدوائرهم أوسع مكتسحة دائرتي الخيال والعقائد حتى تخترق دائرة الوهم , ربما تصل للهولسة , وما الخيال سوى حركة النفس في المحسوسات المادية أبان غيبوبتها,وللمتخيل أن يركب ويحلل ما يشاء من محسوساته الغائبة , أمّا الوهم فهو ما يخطر في الأذهان دون أن يكون له أساس مادي , ويقع في مساحة اللامعقول واللاممكن الوجود كالأساطير وما أبعد , وقد توظف شخوصها كرموز لتحقيق أدنى الأماني المثالية , أو جلد الذات الجمعية , أو التماهي بأمجاد وهمية .
والحقيقة أنَّ الطاقة الخلاّقة المبدعة تكمن في الروابط الإنسانية بين دائرتي العقل الراقي , والخيال الخصب , من هنا بدأت الحضارة الإنسانية حتى وصلت إلى ما نحن عليه , فتحولت المعادن إلى نقود , وألياف الأعشاب إلى أوراق , والصحارى الحارقة إلى بيوت وقصور حاضنة , وخيال أبي العلاء ودانتي وعباس بن فرناس إلى طائرات تجوب أجواء العالم , والبراق إلى سيارات تسابق الريح , وتلتهم الأرض , والأعصاب والعصبونات التي تمتد من الدماغ إلى أجهزة الحاسوبات ... ووجه القمر الجميل إلى صواريخ وأقمار صناعية للحط عليه وكسر خشمه !! , كل هذا وأكثر من هذا , ولا نعلم بخفايا أسرار المستقبل ما دامت الروئ تستجد , والعقل يستمد , والذي أعنيه التكافل الإبداعي بين العلوم والآداب , فالعلوم ركيزتها العقل , وتشرع منه خطوة خطوة بناء على ما تمدّه الروئ (الخيال الخصب) إليه متطورة متطورة ولا تدري ولا ندري إلى أين , و لكن بكل تأكيد نعلم علم اليقين أن الخيال الخصب والوهم العدم وصل بنا منذ بداية الخليقة إلى النار والجنان والسعالى والطناطل والطيران والأعماق والنجوم والأكوان , سرح ومرح بلا حدود ولا ميزان , فلا يحتاج للتطور ما دام هو مطلّ على المالانهاية في رؤياه ,ٌ , وبالتالي محيطه متاح للجميع منذ الأزل أن يغرف منه ما يشاء مَن يشاء ! , فعلى مستوى الشعر العربي مثلاً لا نستطيع أن ْ نعدَّ الجواهري أكثر تطوراً من المتنبي , ولا المتنبي أكثر تطوراً من امرئ القيس , لأنَّ جميعهم شعراء مادتهم الخيال الخصب أولاً , ومن ثم يأتي دور الحواس , وكم من فاقد لأحد الحواس كالبصر كان أروع وأبدع من البصراء كبشار وأبي العلاء وبقى علينا أن نقول : يجب أن لا تذهب بك الظنون على أنَّ الحداثة والمعاصرة والتجديد في الشعر ضرباً من التطور , وبالتالي تعتبر السياب أو نازك أو البياتي أكثر تطوراً من الملك الضليل أو المتنبي القتيل أو جبران الخليل ! - مهما يكن من أمر - أمّا علماء العلوم البحتة ركيزتهم الحواس والعقل ومنهما يشرعون بالبناء , فهي تراكمية عبر الأزمان , جمعية في الزمن الواحد , وعلى الأغلب يبدأ السادة العلماء بالتأسيس على ما جادت بها أخيلة المبدعين والشعراء والفنانين , ومن هنا تسقط بالضربة القاضية المقولة الساذجة , ماذا فعل لنا الشعراء والفنانون ؟ ونحن نحيل السؤال لهم أولاً , لماذا تمجد الأمم المتحضرة شعراءها وفنانيها قبل علمائها وتقنيها ؟ ثم للمسؤولين والسياسيين أين رعاية الآداب والفنون والعلوم يا سادة يا كرام ؟!! .
وأخيراً نرجع لفذلكة الأقوال قائلين : إنَّ دائرتي الخيال الخصب والعقل الدارس الراقي ينتجان ما يسمى بالنص الأدبي والنص النقدي المتابع لمسيرته , فهذا النص الأخير فن مستقل تابع للنص الأدبي الأصلي السابق له زمنياً , ليلقي أضواء لإحيائه , وتفهم بعض جوانبه , من وجهة نظر الناقد , ولا تتوقع مطلقاً يوجد نصان نقديان متشابهان لنص أدبي معين , أعني من حيث المضمون , فاختلاف التشكيل أمر مفرغ منه , بل على الأغلب إنهماغير متقاربين , وقد يكونان متباينين حتى التضاد .
كلّ ما أوردنا من مقدمة موجزة مبسطة ضرورة ملحة لنفهم ونتفهم مدى أهمية إبداع الشاعر والقاص عبد الفتاح المطلبي , فالرجل متنوع بإبداعه , غزير بنتاجه , وطني بنزعته , شامخ بشعره , متواضع بسلوكه , تناوله الأستاذ الناقد هاتف بشبوش في دراسة بحلقتين منشورتين بمواقع عديدة تحت عنوان " عبد الفتـاح المطلبـي , بين السرد والتهويم " , والأستاذ القاص حميد الحريزي في دراسة نقدية لقصته " الأقزام " منشورة في في عدة مواقع أيضاً , وقد أوسمها : " عبد الفتاح ألمطلبي يفتح مغاليق الذات في قصته (الأقزام) عبر سرد الحيث وما بعد الحيث .. لإنقاذ َالنفس المولعة بالحياة " , وقد أختص موقع المثقف بإجراء حوار معه حول نصه " الطفو " نشر معنوناً كالآتي : " نص وحوار: مع الاديب عبد الفتاح المطلبي ونصه : الطفوّ / جلال جاف " , وقد شارك الأستاذ الشاعر جلال الجاف في حواره معه الأستاذة الشاعرة ميادة أبو شنب , ووفقاً لما قدمت مقدماً كلّ من مطلبينا المنفتح ومقدميه ومحاوريه ينطلق من زاويته الخاصة التي لا يمكن أن يشغلها إلاّ الفرد نفسه أبان تحليله وتركيبه للنص الأدبي , أو النص النقدي , لا في تقديم معلومة ثابتة الوقائع , بيّنة الحقائق , كما سأدرج , أو أحيلك بالأحرى - فالأمر سيّان - إلى مَن هو أقرب إليه مكانياَ , ويلاقيه عيانيا , وأعني الأستاذ حميد الحريزي , إذ قدّمه في نقده (لأقزامه ) العماليق , والعرب قد تنعت بالضد , والضد يظهر حسنه الضدّ ُ - والله الأعلم ...! - قائلاً : " الأديب المبدع عبد الفتاح ألمطلبي , مهندس زراعي متقاعد , تولد 2-10-1952, العمارة ناحية المشرح , له رواية صغيرة عن الخيال العلمي صادرة عن دار القادسية ببغداد 19686 , حاصل على جائزة مؤسسة المثقف لعام 2012. عضو مؤسس ل((ملتقى المثقف العراقي)) , ألمطلبي شاعر متميز وكاتب قصة مبدع , وله مشاريع روائية قيد الانجاز, والمطلبي كغيره من الكتاب والأدباء العراقيين اللذين لا يحبون الأضواء ولا مجالس الحكام والمتنفذين , خزانته مكتظة بالعديد من المجاميع الأدبية التي لم يستطع جيبه المتقاعد ان يوصلها للمطبعة ... " .
والحقّ - على ما يبدو - كلـّنا في الهمِّ سواء في هذه الدنيا الرعناء , والزمن الغباء , فأنا العبد الفقير لله البعيد في غربتي وتغرّبي , تذكرت الآن قولي حين خاطبت الجزائر الحبية شاكيا
لها - من بعد الله - الهجرة القسرية عن العراق , وما زلت ! :
كلُّ الطيور ِ تحط ُ في أوكـــــــارها وقت الغروبِِ !
وأنــــا أطيرُ بلا هجوع ٍ يا لدهري من قلـــــوبِ!
فخرجتُ من أرض ِ الجدودِ مشرّداً وبلا نصيبِ
وأردفُ لك مبتسماً بما تذكرت من قولٍ تخلـّد لأبي تمام العبقري المجدد , ويزعم المرحوم علي بن الجهم أنـّه خاطبه به :
إن يُكْدِ مُطَّرَفُ الإخاءِ فإِنَّنَا *** نَغْدُو وَنَسْرِي في إِخَاءٍ تَالِدِ
أو يَخْتَلِفْ مَاءُ الوِصَال فَمَاؤُنا** عَذْبٌ تَحدَّرَ مِنْ غَمَامٍ وَاحِدِ
أو يَفْتَرِقْ نَسَبٌ يٌؤَلِّفْ بيْنَنَا ***** أَدَبٌ أَقَمْنَاهُ مَقَـــامَ الوَالِدِ
المهم ليس هنالك من لذة - كما يقول ابن الرومي -:
كفرحة الأديب بالأديبِ *** وحنـّة المريض للطبيبِ
لاأطيل عليك - أنت قارئي الكريم - إذ أقحمتك بهموم الأدباء , وأقوال الشعراء القدماء , وجشمتك هذا العناء , وعذري خواطري تتوارد , والعنوان شاهد , و إنني في آخر الدنيا بعيداً عن صاحبي الصامد , لا تبالي سيطلّ ُ عليك المطلبي بهذه الإطلالة المباركة , فقد نشر في صحيفة (المثقف) الغراء بتاريخ الجمعة , 13 كانون 2 / يناير 2012 م مقطوعة مهابة , رزينة , كاملة ببحرها (الكامل التام) , سلسة بردف لينها , راكزة بروي دالها , هادئة بوصل هائها , شامخة بألف خروجها , عقد درّها بأنفاس شاعر مطبوع دون تكلفٍ , ولا تصنع , وذلك بمناسبة صدور العدد (2000) , وقدّم لها بكلمة وفاء وعرفان نقتطف منها : " بصدور هذا العدد من صحيفة المثقف الغرّاء نحتفل جميعا لأنه يمثلُ رقم نجاحٍ باهر يكلل مسيرة هذا الصرح الجميل ... وقد مدت بساطها الملون الجميل نحو كل جهات المعمورة وشهد لها بالرصانة أولي الرأي فحفظ الله المثقف العزيزة وحفظ ملائكتها الذين يعملون بصمت ونكران للذات قل ّنظيره وأخص بالذكر جنودها المجهولين وسادنها الأستاذ المفكر والباحث ماجد الغرباوي وجميع اسرة التحرير المبجلين..." .
إليك إياها , ومن بعد تعليقنا تكرمة إليها :
عـِقدين ِ من وردِ الجـِنان ِ لجيد ِها****أهدي، لأ َلفيْها وكلِّ جَديد ِها
و أتيتُ مُعتَر ِفاً بسطوةِ عِشقـِها ****طوبى لسادن ِضوئها وجنودِها
بالله ِ يا روضَ المثقفِّ شفّني ******وجدٌ فصرتُ متيماَ بورودها
فكأنما صفحاتُها غيدٌ رفلنَ ******وجـئنَ رقصـاً يحتفلنَ بعيدها
مازتْ على أترابها برصانةٍ ****** وتطاولتْ بمقالها وقصيدِهـا
أهلاً بها معجونةً ببهائها ******** وبثُلّةٍ طوبى لهــا بعميد ِها
التعليق الموعود باختصار محدود :
من لطفه (يفتتح المطلبُ)
(تورية ً) لفعله المحذوف
ويرمي من جناته بورده المردوف
(جناسه الناقص) في (عروضه) و (ضربه) المكشوف
ببحره (الكامل) مذ (خليله) المعروف
لا أعتقد يفوتك ما حشد الشاعر من صيغ بلاغية في مقطوعته ( المثقفية) بمححسناتها البديعية من جناس وتورية , ومعانيها السامية من تشبيهات مرسلة وبليغة , واستعارات مكنية وتصريحية , وكنايات , ولايفوتك أيضاً أمر البيت الرابع فهو مدور , أي نون ( رفلـْنَ) ,يجب أن تنتقل من الصدر إلى العجز , ولكن هكذا كتبها الشاعر حفظه الله , وكذلك دقق معي - حفظك الله أيضاً - أن الشاعر أنهى قافيته بألف الخروج اللينة الشامخة كحاله مع محبيه وزملائهمتواضعاً شامخاً كما أسلفنا , والقضية لا شعورية , ربما هو نفسه لا يدري بها , ولكن بكل تأكيد لو كان المخاطب كسيف الدولة , لخاطبه بهاء الوصل الساكنة الحاسمة والصارمة مثل ما فعل المتنبي :
وَفاؤُكُما كَالرَبعِ أَشجاهُ طاسِمُه *** بِأَن تُسعِدا وَالدَمعُ أَشفاهُ ساجِمُه .
أديبنا الشاعر والقاص نشر في مواقع عربية وعراقية , ومن العراقية أهمها وهي المثقف والحوار المتمدن والنور , وفي النور نشر ثمانية وتسعين نصّاً أدبياً مابين نصوص مدورة وقصائد وقصص منذ 22 / 5 / 2010 , أي خلال ثلاثة وثلاثين شهراً , أو قل : مائة وثلاثة وأربعين أسبوعاً , بمعدل نص أدبي لكل عشرة أيام , وعلى حد علمي ومن تتبعي , يعيد نشر نصوصه نفسها في المواقع الأخرى , إلا ما ندر.
سأشرع معك بأول نص أدبي نشره في موقع النور بتاريخ 22 / 05 / 2010م , وهو قصيدة شعرية أوسمها ( موجة الأحزان) , والعنوان ليس غريباً على العراق وأهل العراق , فمنذ الطامة الكبرى التي حلـّت بالأسلام وشرخته في واقعة الطف , بمقتل الإمام الحسين (ع) وآل بيته , كما ذكر ابن الطقطقي في (الفخري لآدابه السلطانية ) , وحتى الحروب المعاصرة والغزو وما جرّ بعده من ويلات وويلات , تاريخ العراق معظمه مآس وعويل وبكاء وأشجان وأحزان , فأصبحت هذه المفردات الطبع الغالب اجتماعيا و ثقافيا ومورثا لأهل العراق ومثقفيه , وما عداها التطبع الشاذ , فمثله مثلي في (قصيدة موشحة بحزن العراق) , تعددت الأقوال والحزن واحد) , ونحن أبناء العراق نشجو شجواً بأحزاننا , ونحدو حداء بآلآمنا , فإن عقدتُ قصيدتي من مشطور الرجز المغنى , فقصيدة المطلبي الرائعة جاءت من البحر (الكامل) , ذي العروضة الحذاء (فعِلن) , وضربها أحذ مثلها , والحداء أو الغناء قرين لها , فالبحر يكون :
متفاعلن متفاعلن فعِلن ***متفاعلن متفاعلن فعِلن
و(مستعفلن ) من جوازات (الكامل) , فإذا جاء البيت :
مستفعلن مستفعلن فعِلن *** مستفعلن مستفعلن فعِلن
فهذا البيت إمّا أنْ تعتبره من (الكامل الحذاء بعروضه والأحذ بضربه) , ومستفعلن من جوازاته , أو أن تحسبه من (السريع المكسوف المخبول ) أي حذفت التاء المتحركة من أخر الوتد المفروق الأخير في التفعيلة (مفعولاتُ) بعلة (الكسف) , وحذف الفاء الساكنة والواو الساكنة بالزحاف المركب (الخبل ) , فتصبح التفعيلة الأخيرة للسريع (معُلا) , فتنقلب عروضياً إلى (فعِلن) , وهو جائز بالسريع , ولكن إذا رأيت تفعيلة واحدة في كل القصيدة ( متفاعلن ) فالقصيدة جزماً من (الكامل) , لأن (متفاعلن ) ليست من جوازات ( السريع) مطلقاً , ولقد وردت (متفاعلن ) مرات ومرات في قصيدة مطلبينا فهي من ( الكامل ) المنعوت سلفاً قطعاً, والخريدة الحسناء من اثنين وثلاثين بيتاً , وقد نظم على هذا الغرار الراقص الحادي من المعاصرين المجددين نزار قباني , وحافظ ابراهيم , وعلي محمد طه , وإيليا أبو ماضي , و بدر شاكر السياب , ومن قصيدة (النزار) من هذا الضرب النغمي قصيدته : (عندما تمطر فيروزا ) في ديوانه ( حبيبتي) :
لا تسأليني هل أحبهما
عينيك إني منهما لهما
ألدي مرآتان من ذهبٍ
ويقال لي : لا أعتني بهما
أستغفر الفيروز كيف أنـا
أنسي الذي بيني وبينهمـا؟
أطلت الحديث للتجديد الحديث , فقد اختار الشاعر شوارد كلماته بعناية تامة , وذوق رفيع , وشاعرية مقتدرة :
كالمهر هذا التوق في القلبِ *** ينأى به نحو الأسى خببا
ويجول في سدم الهوى صعداً**ليرى بمعراج النوى عجبا
و إذا دنا قوسين من ولهٍ ***** إن لم يخر بسجدتين كبا
السهد حوت و الفؤاد له **** بحر فأتبع في الرؤى سببا
و الموج مار على جوانبه **** فتمزقت دسر القوى إربا
شرع قصيدته مشبها التوق (الشوق ), وربما أراد به استعارة مكنية عن نفسه الولهانة , بالمهر الأنيق السريع الرشيق الجميل , فأحسن اختيارا وتشبيهاً واستعارة ,وسرعان ما تقتحمه الهواجس , وعلى الأغلب التجارب العراقية , ليبعد به هذا المهر مخدوعا بالإغراء نحو الآسى , ولكن عروضة صدر البيت الأول جاء مضمراً (قـَلـْبي " الكتابة عروضية" - فعْلن - /ه/ه) , وهذا غير جائز في عروضة الكامل الحذاء , نرجع قد استعمل رؤبة بن العجاج كلمة (التوق) في رجزه (مستفعلن ست مرات ) في بيته :
فالحمدُ للهِ على ما وفـّقا *** مروان , إذْ تاقوا الأمور التوقا
في البيت الثاني لشاعرنا , نلقف هذا الجناس غير التام بين الهوى والنوى , ولابد أنك مثلي تلمس لين الحروف , وخفتها على الروح , إذ يطلّ ُعلينا بمفردات أديب يعرف من أين تؤكل الكتف , وينتقي ألفاظه بعناية - إنْ جدَّ الجدّ ُ - خذ مثلاً رجاءً : ( سدم الهوى , صعدا , معراج , وستمر على الوله , ولم يخر , وكبا , ومار يمور , و الدسر ... ) , مما يعطيك أنطباعاً أن الرجل يتمتع بالأناقة واللطف و تقدير الأمور بتعقل , ولا يرميها على عواهنها , ونراه يشغلك بالأفعال بشكل متسارع , كأنما يقول لك لا ترقد , أنا هنا ! مهما كان من أمر , المهر الذي يمتطيه مبدعنا صال وجال بين ضباب أحزان الحب الخفي , وصعد معرّجاً بعيداً بعيداً حتى رأى العجب العجاب , وما أن وصل للبيت الثالث حتى استحق منا سجدتين للسجدتين , وقاب قوسين , وروعة البيت المتين , وإذا كان الأرق حوتاً , فقلبه بحر , فأين الثرى من الثريا, وواصل المطلبي رؤاه بين البحار والأمواج العاتية حتى تمزّقت الدسر , وتقطعت إربا , ودسرت السفينة الماء بصدرها عاندته , وقيل الدسر مسامير السفينة , وفي القرآن الكريم " وحملناه على ذات ألواح ودسر" .
هذا هو العراقي وتطلعاته ورؤاه وشموخه وصبره ومآسيه , وصراعه المستميت من أجل البقاء ما بين الحيتان المفترسة , والبحار الهائجة , والرؤى الشامخة , القصيدة طويلة , وبقى لدينا ملاحظة بسيطة للأمانة العلمية , فقد ورد ربما خطأ مطبعي , أو ما يشبه السهو في القصيدة , فصدر البيت " و تعلقت آماله بحطامه " , لا تستقيم عروضته (بحطامهي - متفاعلن) , مع أعاريض القصيدة (فعِلن) , والبيت الأخير ألفاظه غير مرتبة بشكل صحيح , وعلى العموم لا يمكن أن نعتمد المواقع كمراجع موثوقة تماما , فالنصوص الأدبية والتاريخية والعلمية ... تحتاج إلى تدقيق وتحقيق لغربلتها من التصحيف والتحريف .
تلك أول قصيدة , وإليك ومضات من آخر قصيدة , وما بينهما الدنيا بأتراحها وأفراحها , إن كانت ثمّة أفراح , فما الحياة سوى ألم دائم , ونعيم مخاتل زائل , ونسيت أن أقول ما بين البين والبين شعر وقصص آخر الزمان , وما كتب ونكتب ويكتبون , ما علينا فقد طلَّ الميعادُ , ورائعة المطلبي : " كلُّ ما جدّ في الزمانِ مُعادُ " , أصرّ شاعر الأواخر أن يبدأ بما انتهى إليه الأوائل , وأتى بطباق , وعلـّمنا أن نأتي بطباقين على سبيل المقابلة , هذه القصيدة المكملة المكلومة !! ربما تتخيل ليس فيها جديد , وجديدها أن الشاعر ركل الجديد بقدميه , وعاد للقديم ملتحفاً به , رافضاً لعصره هذا متقصداً , كافراً بأقزامه شامتاً , معتصماً بمحراب تاريخه لائذا , يغرف من تجاربه وحكمه وتراثه وثقافته وعبقريته , إنها دعوة للترابط والتواصل قبل ضياع الأمة , وفوات الأوان , ولات حين ندم , وسأنحو نحوه بقصيدة رافضة للخزعبلات المعاصرة , ومهازلها الجاثمة , فهي على الطريق , وما هي بتقليد , فقد شرعت بها قبل نشر هذه القصيدة المطلبية ,(فالكلوب سواجي ! ) على حد تعبير المثل العراقي , ولنشرع ببعض الأبيات الافتتاحية المطلبية من البحر (الخفيف) بأحزانه وأشجانه وهمومه ورثائه للعصر المتعثر :
كلُّ ما جدّ في الزمانِ مُعادُ *** حلقاتٌ يدورُ فيــــها العبادُ
المطلع يستحضر القديم القديم - وشاعرنا الأدرى - وقد سبقه فيه زهير بن أبي سلمى , كما ينسب إليه , بأكثر من ألف وأربعمائة عام , بقوله :
ما أرانا نقول إلا معارا *** أو معادا من قولنا مكرورا
ويقول شاعرنا :
سُبلٌ ذاتها نســــيرُ عليها **** قد مشاها من قبلنا الأجدادُ
كأنه يسترجع قول الإمام الشافعي :
مشيناها خطى كتبت علينا *** ومن كتبت عليه خطىً مشاها
ومن كانت منيّته بأرضٍ *** فليس يموتُ في أرض ٍسواها
ومتناقضات الدنيا ربما تدور في ذهنه دائماً وهو عابر لها , ولكنه الآن يلتفت إليها ماسكاً بها :
رُبَّ حينٍ يشتُّ فيهِ حبيبٌ ***** أوأحايينَ تلتقـــي الأضدادُ
وهنا أيضاً أبى شاعرنا إلا أن يغسل يديه من الحاضر المؤلم بتأمل عميق في زوايا الماضي التليد , ويركن إلى القصيدة الخالدة للمعري العتيد , وقوله :
رُب لحدٍ قد صار لحداً مراراً *** ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
ودفينٍ على بقايا دفين ٍ*** *** في طويــــل الأزمان والآبادِ
ويواصل مسيرته في عمق التاريخ باحثاً عن اللآلئ الكامنة قائلاً :
غيرَ أن الدهور أخنتْ عليهم *** وتخلتْ عن عـِـزّها الأجسادُ
أراه في لحظة ولادة هذا البيت قد مرّ عليه النابغة الذبياني بمعلقته الخاتمة وبيته الشهير :
أمــسَــتْ خَــلاءً وأمــسَى أهلُـها احْتــمَلُوا *** أخْــنَــى عَــلــيــهــا الذي أخْنَى على لُــبَدِ
لم يكتفِ بلبيد الملبود , وإنما رجع إلى فرعون وثمود وعاد , اقرأ ما يأتيك , وسأربط ذاكرته بذاكرة التاريخ :
أين فرعون والطُغاةُ جميعاً *** والنماريدُ أوثمــــودُ وعادُ
قصصاً تكتبُ الدهورُ تباعاً*** طرسُها الأديمُ ونحنُ المِدادُ
البيت الثاني رائع باستعارة الدهور التي تكتب وما كتبت , ومجازي الطرس والمداد للأديم ولنا وما كانت , ويمكن أن يكون هذا البيت واسطة العقد بيت القصيد , وقد مرّ بذاكرتي أنا تواً, ولا أدري بصاحبي الشاعر , قول أحمد شوقي وفرعونه :
زمان الفـرد يا فرعـون ولى *** ودالـت دولـة المتجبرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرض ٍ *** على حكم الرعيــة نازلينا
وإليك دعبل وجديسه وعاده , وكيف الدنيا تدور بنا , ونحن نحن المداد , روي دعبل وردفه ومجراه نفس ما خطّ المطلبي , ولكن من البحر (الوافر) , تمعن :
غداً تـــأتيكَ إخوتهمْ جديسٌ *** وجْرهمُ قصّراً وتعودُ عـادُ
فلمْ أرَ مثلهمْ بــادوا فعادوا *** ولم أرَ مثلهم قلــّوا فزادوا
ونعود لشاعرنا المحور وفناء الأحياء , والإبادة العمياء :
كلُّ حــــــيٍّ مآلـُهُ لفناءٍ *** ومبادٍ يتلوهُ بـعدُ مبادُ
ونترك التهامي يجيبه بعد أنْ نـُكب بابنه , فرأى لربـّه سننه :
حكم المنية في البرية جارِ ِ***** ما هــذه الدنيا بدار قرارِ ِ
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً** حتى يُرى خبراً من الأخبار ِ
أطلنا المقام , فنأتي على الختام , وإلا نفد المداد والأقلام :
يا بلاداً قد فرقتها الأعادي *** واسترقّــّتْ إنسانها الأحقادُ
ذهبَت ريحُكم فهل من رشيدٍ *** أو حليمٍ مستعصمٍ لا يُكادُ
يا تراب العراق فاشهدْ عليهم *** وقريباُ يلعنـْهمُ الأحفادُ
لابدّ أنـّك واجد في أنفاس شاعرنا وطنيته الخالصة , وحرصه على حكم (الرشيد ) الحليم , بل كان (المأمون) الأحلم , و لا تخفى في مستعصمه التورية الثانية عن الخليفة ( االمستعصم بالله) آخر الخلفاء العباسيين الذي قـُتل كيداً علي أيدي التتار سنة (656 هـ / 1258 م) , ومن المستحسن أنّ الشاعر يحصر التوريتيَن بين أقواس عند الكتابة كي يشعر القارئ بمرامه , فيمنح البيت قوة بلاغية رفيعة , ورموز تاريخية غاية الأهمية , وأنا دوّنت الأبيات كما وردتْ في الموقع , وسأنقل للقارئ الكريم ما قاله السيد جعفر الحلي شاعر العراق الشهير في القرن التاسع عشر ( ت 1897 م 1315 هـ ) في مثل هذه التورية , ولو أنَّ الرشيد غير الرشيد :
ماحلت لي مجالسٌ لست فيها *** كيف تحلو وأنت عنها بعيدُ
إنْ دعوني أهل الغري إليهم *** قلت ياقومُ ليس فيكم (رشيدُ)
و أخيراً يحتاج عبد الفتاح المطلبي إلى دراسة موسعة لنصوصه الشعرية بمختلف اتجاهاتها الشيّقه , وقصصه المشوّقة بكل أساليبها ومضامينها , وتناولها نقداً وحواراً مَن ذكرت , وما أنا إلا قد أشرت إليه , وعليك أن تدخل في عوالمه , والله الموفق لأعلامه وخلائقه !
#كريم_مرزة_الاسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟