أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سالم عمر - قراء جديدة للنص القرآني















المزيد.....



قراء جديدة للنص القرآني


سالم عمر

الحوار المتمدن-العدد: 4013 - 2013 / 2 / 24 - 09:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


من أصعب القراءات قراءة القرآن قراءة علمية ، فهو نص غير عادي ، يجمع بين الميتافيزياء ، وا لواقع الملموس ، وبين التاريخي ، والآني ، وبين السياسي والاجتماعي ، وقد تأتي بعض الفقرات لتجمع كل هذه القضايا في آن واحد بهدف صياغة أيديولوجيا عامة ، أو تأتي صياغة مجزّأة لتنتج أيديولوجيات لحظية ، وقد تُنتج أيديولوجيات متعارضة بالاعتماد على قراءات مختلفة للنص . وأصعب مواضيع قراءة القرآن هو استخدام اللغة ، إذ يأتي خطاب عن المستقبل ، وكأنّه عن الحاضر ، ويأتي خطاب عن الماضي كأنّه عن الحاضر ، أو عن المستقبل ، وهكذا ... ونحن سنحاول تقديم قراءة لهذا النص الصعب بقدر ما نستطيع ... وسنبدأ بالقراءة من سورة البقرة ، بوصفها السورة الأولى بعد الفاتحة .
القراءة :
ــــ هذه الأحرف الثلاثة ، تشير إلى ذاتٍ مُخَاطَبَةٍ { قد تكون هذه ذات فردية محددة بالنسبة لموجه الخطاب ، وقد تكون ذات اعتبارية ، وهذا ما نرجحه نحن ، المهم أنّها ذات تحظى بثقة من قبل الذات الموجهة للخطاب ، وتستجيب للأوامر} .. وُجّهَ إليها الخطاب من ذاتٍ مُخَاطِبَةٍ .
ـــ ( ذلك الكتاب ) هذه إشارة إلى كتاب غير معروف إلاّ للذاتين : { المُخَاطِبَةِ ، والمُخَاطَبَةِ } ، وهذا الكتاب ، عُدَّ { ُهدًى ، للمتّقين } ، أي أنّه عُدَّ رؤية برنامجية لمسيرة المتّقين في مجابهتهم للحياة ومشاكلها . وأُلحقَ بتعريف أو بتوصيف للمتّقين وقد لخّص صفات المتّقين على النحو الآتي :-
(الم) 2 / 1، ( ذالك الكتاب لا ريب فيه هُدًى للمتّقين ) 2 / 2 ، { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم يُنفِقون } 2 / 3 ،{ والذين يؤمنون بما أُنزِلَ إليك وما أُنزِلَ من قبلِكَ وبالآخرَةِ هم يوقنون } 2 / 4 ، { أُولئك على هدًى من ربِّهم وَأُولئك هم المفلحون } 2 / 5 {. والنص هنا يشي بأنّ هذه الصفات التي يتّصف بها " هؤلاء المتقون " ، إنّما يكتسبونها " منّة من ربِّّهم ، ومن ثَمَّ فهم يكونوا قد أفلحوا باكتسابهم هذه المنّة ، { أُولئك على هدًى من ربِّهم وَأُولئك هم المفلحون } 2 / 5 .
ــــ هذه الأحرف الثلاثة التي كوّنت الآية الأولى من السورة ، تشير إلى ذاتٍ مُخَاطَبَةٍ { ذات فردية محددة بالنسبة لموجه الخطاب ، وهي تحمل الصفة الاعتبارية ، هذا ما نرجحه نحن ، المهم أنّها ذات تحظى بثقة من قبل الذات الموجهة للخطاب ، وتستجيب للأوامر} .. وُجّهَ إليها الخطاب من ذاتٍ مُخَاطِبَةٍ .
كما أنّ النص عندما ألحق الـ ( ك ) بضمير المُخَاطَبْ { ما أُنزِلَ إليك وما أُنزِلَ من قبلك ... } قد أزال اللبس ، أو الغموض حول الذات المُخَاطَبَة إذ بينَ أنّها ذاتاً مفردة ، بل ومذكّرة .
وفي هذه الآيات الخمس بين النص أنّ هناك من يستتر خلف الذات المُخَاطَبَة ، وهو الذي يُصدر التوجيهات ، وقد يكون هذا في الجزيرة العربية ، وقد يكون خارجها ، والأرجح أنّه خارج الجزيرة العربية ، وهذا ما سَيُكشف عنه فيما بعد .
كما يوضح النص في هذه الآيات { ذلك الكتاب } ، قد يكون المقصود به القرءان وقد يكون المقصود به كتاب آخر ، لم يتم الكشف عنه ، المهم أنّه برنامج يجب أن يلتزم به المتقون ، وقد بين الصفات التي يتّصف بها هؤلاء المتّقين { يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ، ومما رُزِقوا من الذات المُخاطَبَة ، ينفقون . ويؤمنون بما أُزِل إلى الذات المُخَاطَبَة ، ( أي بالبرنامج ) ، وما أُنزِلَ من قبل تلك الذات المُخَاطَبة وبالآخرة هم يوقنون } ، { أُلئكَ على هُدىً من ربّهم وأُولئكَ هم المفلحون }.
الحقيقة أنّ النص يشير إلى قضية خطيرة ، فالمتّقون ، الذين هم المفلحون ، إنذما هم أُلئك الذين يتخلّون عن إرادتهم ، وقدراتهم في مجابهة مشاكل الحياة ومعاناتها .. فهم الذين يستسلمون استسلاماً مطلقاً لما تقرره تلك الذات المُخَاطِبَة وأي خروج عن ما ترره يُعدُّ كفراً ونفاقاً ، وعقابه النار والعذاب الأليم . وكأنّ الذات المَُخَاطِبَة قد قررت مسبقاً بأنّ يكون مضمون رسالتها في الأساس ، هو تجهيل فئة من الناس وتغريبهم عن إنسانيتهم ، بحرمانهم من تجاوز المستوى الذي بلغوه من التطور في القرن السادس ميلادي !!!
وينتقل النص ليتكلّم عن فئة جديدة أسماها ( الذين كفروا ) ، فقال عنها :
{ إنّ الذين كفروا سوآءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم لا يؤمنون } 2 / 6 ، { خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غشاوة ولهم عَذَابٌ عَظِيمُُُُُ ُ } 2 / 7 .
هذه الآيات تشير إلى الذين كفروا ، وهم الذين عارضوا فكلاة الذات المُخَاطِبَة ، واصرّوا أنّ لا يمكن القبول بأنّ أحد يُملي عليهم أفكاراً ، وسلوكاً وأخلاقاً مُطلقة غير قابلة للنقاش والمحاكمة . ووالواقع أنّ القارئ يُصاب بدهشة غريبة ، فالآية تبدأ رأساً بالإخبار عن الذين كفروا دون أن تعرّفهم ، أو توصّفهم ، فقد سبق ، وأن رأينا توصيفا للمتّقين ، أو تعريفهم بصفات مميّزة ، أمّا هنا في ( الكافرين ) فلم نجد أي توصيف ، وإنما جاء النص ليخبر ، بأنّ الذين كفروا : { سوآءُ ُ عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم لا يؤمنون } ، دون أن يخبرنا من هم هؤلاء الذين كفروا ، ولماذا كفروا ، وبماذا كفروا . أي أنّ النص يتّخذ موقفاً مسبقاً ممن يسميهم الذين كفروا ، وهو يُخبر بصورة جازمة أنّهم سوآء أُنذِروا أم لم يُنذروا فهم لا يؤمنون . والمثير للدهشة أكثر أنّ النص يقدّم أسباب لاستحالة إيمان الذين كفروا على النحو الآتي : { ختم اللهُ على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوةٌ ... }، فإذا كانت استحالة إيمانهم كما سببها النص ، هي ( بفعل الختم على القلوب ، وعلى السمع ، وعلى الأبصار غشاوة ) وهذا الفعل من الله ، فما ذنبهم ؟ ولماذا يُعدّون كافرين ؟ ، وهل لديهم ما يمكن أن يقاوموا به حكم الله ؟ ، وإذا كان هذا فعل الله فلماذا يعاقبون هم عليه ؟؟ ، ويُعاقبون عقاباً عظيماً ؟؟
( ومن الناس من يقول آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) 2 / 8 ، ( يُخادعون اللهَ والذين آمنوا وما يَخْدَعُون إلاّ أنفسهم وما يشعرون ) 2 / 9 . هذا النص في الآيتين ، من حيث منطقيته ، فهو سليم ، إذ يوجد أُناس يدّعون غير ما يعتقدون ، أي أنّهم يُبدون غير ما يضمرون ، وهذه الخاصية يمكن التعرّف عليها من خلال تصرّفاتهم . ولكن هل هذا السلوك ، والتصرّف مرتبط بكينونتهم ؟ أم هو نتاج لأسباب بيئية ، واقتصادية ، واجتماعية ؟ ، وأخلاقية ؟ وهل هي بعلم الله ؟ ، أم بغير علمه ؟؟ وهل الله قادر على معالجة هذه الخاصية السيئة لدى هؤلاء ؟ أم غير قادر ؟ ولماذا تركهم يستمرون في هذا السلوك ؟
ويأتي النص ليفسّر سلوك هؤلاء فيقول : ( في قلوبهم مرضٌ ، فزادهم الله مرضاً ولهم عذابٌ أليمُ بما كانوا يكذبون ) 2/ 10 . شيء عجيب !! هؤلاء في قلوبهم مرضٌ ، فَلِمَ يزيدهم الله مرضاً ، ومن ثُمَّ يعذّبهم ؟؟ هل مارسوا الكذب بإرادتهم ؟؟ المريض عادة يتعرّض لأن يُفرض عليه ممارسة سلوكيات لا يرغب هو في ممارستها ، وهؤلاء مرضى ، وقد زادهم الله مرض ، إذن ممارستهم للكذب ، هي بسبب المرض ، فلماذا يُعذّبون ، خاصة وإنّ المرض ليس شيئاً اختيارياً للإنسان ؟؟؟
ويأتي النص ليبين المرض فيقول : ( وإذا قيل لهم لا تُفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون ) 2 / 11 ، ( أَلآ إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) 2 / 12 ، إذن ممارستهم للفساد ليست بوعي منهم ، وليست متعمّدة ، وإنّما بدون شعور بدون إدراك ، فكان الواجب أن يُرشدوا وأن تُبين لهم ممارستهم للفساد ولماذا يقف الله منهم موقفاً سلبياً فلماذا لا يشفيهم مما هم فيه ؟؟ . ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناسُ قالوا أَنُؤمنُ كما آمنَ السفهآءُ أَلآ إنّهم هم السفهآءُ ولكن لا يعلمون ) 2 / 13 . وها هو النص يقول : إنّهم لا يعلمون أنّهم هم السفهاء ، ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزءُون ) 2 / 14 ، ( الله يستهزئُ بهم ويمدُّهم في طغيانهم يعمهون ) 2 / 15 . الغريب في ما أورده النص أنّه : قد بيّن أن هؤلاء هم مرضى نفسانيون ، فهم في سلوكهم { كما يقول النص } يمارسون الفساد ، وعندما يُطلب منهم أن لا يُفسدوا يقولون إنّما نحن مصلحون ... إذاً هم لا يدركون الفرق بين الصلاح ، وبين الفساد ، ويؤكّد النص بأنّهم هم المفسدون ، ( .... ولكن لا يشعرون ) ، إذن النص يؤكّد عدم شعورهم بالفساد !!! وعندما يطلب منهم أن يُؤمنوا ( كما آمن الناسُ ، يقولون أنؤمنُ كما آمنَ السفهاءُ .... ) ويأتي النص ليؤكّد أنّهم ( لا يعلمون ) ،ويضيف النص أنّ هؤلاء إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : ( إنّما نحن مستهزءُون ) ، إذن المرض متأصل فيهم ، والشياطين الذين سُلّطوا عليهم يزيدون في تعميق مرضهم وبدلاً من أن يُعالجوا ، أو تُقبض أرواحهم رأفة بهم ، نجد أنّ النص يتلاعب بهم ، ويمدّهم في مرضهم ( طُغيانهم يعمهون ) . ومثل هذه المواقف لا تتفق ، وصفات الإلوهية ، فترك مثل هؤلاء المرضى في المجتمعات ، وهم يُفسدون دون أن يشعروا ، ويُمارسون الخداع وهم لا يعلمون لهو كارثة على المجتمعات ، ومسئولية الإله أن يقي الناس مثل هذه الكوارث ... ولكن من خلال التعمّق في النص نجد أنّ موقف الإله كما أورده النص موقفاً غريباً !!! فهو يثير الدهشة إذ أنّه جاء وكأن هناك ندّان يتحدّى كُلُّ منهما الآخر ، وحتى في تعاطيهما العلاقات العامة مع الآخرين لا يكشفان عن مواقفهما الحقيقية ، وأحدهما يدّعي أنّه يعلم كل تصرفات الآخر ولكنّه يمدّه في طغيانه يعمه لتزداد ضلالته ... وفي النهاية يصرُّ على معاقبته فهل يتقبّل العقل هذا المنطق ؟؟ لماذا يكون قول هذه الذات المُخَاطَِبة ، قولاً مطلقاً ، ولا يقبل النقاش ، والمحاورة ، حتى للاستفسار ؟؟
ويستطرد النص ويفيض في وصف هؤلاء فيقول : ( أُولئكَ الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) 2 / 16 ،( مثلهم كَمَثَلِِ الذي استوقد ناراً فلمآ أَضآءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظُلُماتٍ لا يُبصرون ) 2 / 17 ، ( صُمٌّ بكمٌ عُميٌ فهم لا يرجعون ) 2 / 18 ، ( أََو كصيِّب من السماء فيه ظُلُمات ورعدٌ ، وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيطٌ بالكافرين ) 2 / 19 ، ( يَكادُ البرقُ يخطَفُ أَبصارهم كُلّمآ أَضآءَ لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شَآءَ اللهُ لَذَهَبَ بسمعهم وأبصارهم إنّ الله على كُلِّ شيءٍ قديرٌ ) 2 / 20 .
الغريب أنّ النص يتكلّم عن الإله ، فلماذا هذا الإله لا يرحم هؤلاء ، ويهديهم إلى الصلاح بدلاً من تضليلهم ، وتركهم يتمادون في ضلالهم ؟؟ ، رغم أنّ ما يمارسونه من فساد ، وغواية لا يعود بالمضرّة عليهم وحدهم ، بل يضرُّ بالمجتمع كُلّهِ ...
غير أنّ ما قدّمته الآيات ( 1 ــ 20 ) إلى جانب الملاحظات التي أشرنا إليها ، فقد قدّمت توصيفاً دقيقاً للكتل الاجتماعية التي يتألف منها المجتمع ، وكل ذلك حسب رؤية الذات المخاطبة ، وهذه الكتل هي :
1 ـ كتلة المفلحين ، وهي تلك الجماعة التي استجابت لدعوة الذات المُخَاطِبَة . أي الجماعة التي لبّت الدعوة الإسلامية وآمنت بما جاءت به هذه الدعوة من رؤى اقتصادية ، واجتماعية ، وأخلاقية بالرغم من أنّ هذه الرؤى لم تتجاوز الطرح الفكري ، وعندما بدأت الدعوة الإسلامية تُمارس على أرض الواقع الملموس لم تحقق شيئاً مما أورته من تلك الرؤى والاقتصادية ، والاجتماعية منها بالذات ...
2 ـ الذين كفروا ، وهي تلك الجماعة التي رفضت دعوة الذات المُخَاطِبَة . وهي التي لم تتوافق مع الدعوة ، بإطلاق ، مهما كان التهديد والوعيد . أي تلك الجماعات التي جاءت الرؤى الإسلامية متناقضة تماماً مع رؤاها ، قانونية اقتصادية مناقضة للقانونية الاقتصادية التي آتى الإسلام ليقيمها ، ويطبّقها في حياة المجتمع ، أو في الأقل هكذا ادّعى .
3 ـ ( الذين يقولون آمنّا ) ، وهي تلك الجماعة التي ليس لها موقف محدد ، وهي دائماً متذبذبة ، ومواقفها تأتي دائماً مع الذّي لها مصالح معه ، أو يكون هو الأقوى . وهذه الجماعة هي نتاج العلاقات الاقتصادية ــ الاجتماعية ــ السياسية التي هي سائدة في المجتمع عند ظهور الإسلام ، العلاقات التي جاء الإسلام ليقضي عليها ... جماعة توجد وستظل تتواجد ، وتتكاثر في كل مرحلة من مراحل التطور طالما ظلّت القانونية الاقتصادية الرأسمالية هي القانونية السائدة بصرف النظر عن مستوى المرحلة التي تبلغها في صيرورتها التطورية التاريخية .
وإذا طبقّنا هذا التوصيف على مجتمع المدينة ( يثرب ) في تلك اللحظة التاريخية الملموسة ، والمعاشة واقعياً ، سنجد أنّ الكتل ترمز حسب التسلسل إلى : { المؤمنين ، الكفار ( بما فيهم المتآمرين من أهل الكتاب ) ، و من ثُمَّ المنافقين .... } .
والحقيقة أنّ هذا التوصيف للكتل الاجتماعية ، هو على درجة عالية من المعرفة بمسائل الحياة الاقتصادية ــ الاجتماعية ــ السياسية ، وكيفية تعايش الكتل الاجتماعية في هذا المجتمع أو ذاك .
والدعوة الإسلامية ، كما تدّعي ، جاءت لتكافح ما أفرزته القانونية الاقتصادية السائدة في المجتمع ( سواء منه في الجزيرة العربية ، أو في العالم ) ، أو هكذا ادّعت هذه الدعوة ، وهذه القانونية الاقتصادية هي : قانونية منحرفة عن القانونية الأساسية التي مكّنت الإنسان من التطور ومكنته من السيطرة على الشروط الخارجية ليحقق حياته ، ويضمن استمرار بقاء نوعه ، ولتقيم قانونية اقتصادية تنسجم مع القانونية الاقتصادية الأساسية ، ولكنها تنسجم أيضاً مع ما يحدثه قانون الصيرورة في المجتمع الإنساني من تغيرات دون أن تنحرف كما انحرفت القانونية السائدة في المجتمع ...
ويتّجه الخطاب إلى الناس عامة ، ويتّخذ صيغة التوجيه والإرشاد والوعيد والتحدّي إذ يقول : ( يا أيها الناس اعبدوا ربَّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون ) 2 / 21 ، ( الذي جعل لكم الأرضَ فراشاً والسماءَ بناءً وأنزل من السماءِ مآءً فأخرجَ به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لِله أنداداً وأنتم تعلمون ) 2 / 22 ، ( وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورةٍ من مثلهِ وادعوا شُهَدَآءَكم من دون اللهِ إن كنتم صادقين ) 2 / 23 ، ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتَّقوا النار التي وقودها النّاسُ والحجارةُ أُعِدّت للكافرين ) 2 / 24.
يلاحظ أنّ الخطاب في الآيات من (21 إلى 24 ) ، يطلب من الناس أن يعبدوا ربّهم الذي خلقهم . واضح أنّ النص أراد أن يترك الناس تعدد الآلهة : الأصنام ، أو الأشجار أو الأماكن ... وأن يوحدوا آلهتهم في إله واحد ، ويصفه بأنّه هو الذي خلق الناس .
الحقيقة أنّ النص قد قدّم الإله الذي أراد من الناس أن يعبدوه ووصفه بالصفات التالية : { صفات خلق الناس جميعاً ( خلقكم ، والذين من قبلكم ) ، جعل الأرض فراشاً والسماء بناءً ، أنزل من السماءِ ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً للناس ، وإذن يجب أن لا يجعلوا لهذا الإله أنداداً ، ويصفهم بأنّهم يعلمون ذلك } .
وكان من الأحرى بالنص قبل أن يطلب من الناس ، أن يتّخذوا هذا الإله إله موحد بالنسبة لهم ، وقبل أن يصفه بتلك الصفات المعجزة ، كان عليه أن يُعرّف هذا الإله ، ويعرّف مكانه ؟ ؟ وواضح أنّ النص يستفيد من القصور المعرفي لدى الناس الذين يخاطبهم فيستخدم هذا القصور المعرفي برهاناً لتدعيم وجهة نظر الذات المُخَاطِبَة فهو ( = النص ) يتكلّم عن الخلق ، وعن الأرض والسماء ، ونزول الأمطار ويتّخذها برهاناً ، وفي النهاية يقوم بعملية تحدّي إذ يطلب من الناس أن يأتوا بسورة من مثل هذا الخطاب ويتوعدهم إن لم يفعلوا ، ويؤكد أنهم لن يفعلوا !!!
ولكن النص لجأ إلى التحدّي فيقول : { ( وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورةٍ من مثلهِ وادعوا شُهَدَآءَكم من دون اللهِ إن كنتم صادقين ) } 2 / 23 .
- النص يطلب من الناس " أن يعبدوا ربّهم الذي خلقهم والذين من قبلهم لعلّهم يتّقون ".
كيف يقتنع الناس أنّ هناك من خلقهم؟ وكيف يتأكدون أن هناك من هو ربٌّ لهم ؟ ، وهم لا يعرفونه ، ولا يستطيعون أن يستدلوا عليه ؟ وكان من المفروض أن يعرفوا المكان الذي يوجد فيه ؟
- النص يدّعي " أنّ هذا الرّب جعل لهم الأرضَ فراشاً ، والسماء بناءً وأنزلَ من السماءِ مآءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لهم فلا يجعلوا لله أنداداً وهم يعلمون " .
- الحقيقة أنّ الأرض ليست فراشاً ، والسماء ، ( التي لا وجود لها ) ، ليست بناءً إلاّ وفق رغبة الذات المُخَاطِبَة ، فهي التي تريد أن تكون الأرض فراشاً ، وما تدّعيه سماء بناءً ... وألزمت الوعي بالتكرار على أن يتقبّل هذا الزعم حتى أصبح وكأنّه حقيقة !!! .
- أين ما تدّعي أنّه سماء ؟ ، لا ، بل وتدّعي أنّه بناء ؟؟؟ المعروف أنّ البناء هو تشييد بعضه فوق بعض ... فأين هذا فيما يُدعى أنّه سماء ؟؟؟
- النص يقول : " إنّ هذا الرّب قد أنزل من السماء مآءً فإذا كان ما يدّعي أنّها السماء لا توجد فكيف سينزل منها الماء ؟؟ كُلّ المعطيات التي قدّمتها الأبحاث تقول أنّ الماء { بما هو السائل المركب من الهيدروجين والأكسجين } لا يوجد ( في شكله السائل ) سوى في الأرض فقط ، وإنّه قد يتبخّر بتأثير الحرارة وفي هذه الحالة لايعود سائل ، وإنّما هو غاز ، و هو يوجد ( في شكل غاز ) في طبقات الغلاف الجوي البعيدة والقريبة عن سطح الأرض وقد يتعرّض للبرودة بسبب انخفاض درجات الحرارة فيتكاثف ، ويعود إلى شكله السائل وبذلك يتساقط إلى الأرض ، بل وقد يتجمّد مباشرة ويصبح ثلجاً ، ويتساقط في شكل ثلج أيضاً وكل هذا محكوم بقانون طبيعي هو قانون علاقة التجاذب والتنافر بين الأجسام ، وعلاقة الجاذبية ... فهذا ليس من السماء لأنّ ليس هناك ما يُسمّى السماء !!!
- ويستمر النصّ ليقول : " فأخرج به ، ( أي بالماء ) ، من الثمرات رزقاً لهم فلا يجعلوا لِلهِ أنداداً وهم يعلمون " ...
الحقيقة إنّ الماء عنصر ضروري في استكمال قانون الصيرورة التي تحكم حركة عناصر الأرض التكوينية وتفاعلاتها ، وإذا افتقد الماء فإنّ قانون الصيرورة يتّخذ منحى آخر ، وبمرور الزمن ( = السيرورة ) ، تفقد العناصر التكوينية للأرض تركيبها الطبيعي ، وتتحوّل إلى كيفية مغايرة للكيفية الأساسية ، وتفقد إمكانية توليد النبات ...
ولكن مجرّد وجود الماء وحده ليس هو الذي ينبت ( أو يُخرج كما يقول النص ) الثمر الذي جعله رزقاً ، والدليل أنّ الماء ( = المطر يتساقط في الصحراء ) ولكنّه لا يوجد زرعاً ولا ثماراً ، كما أنّ الزرع والثمر الذي ينبت في الأرض الصالحة للزراعة لا يأتي بمجرّد هطول المطر ، وإن كان الماء ضروري .. ولو أنّ الناس اعتمدت ما جاء به النص لبقيت على حالها من الخاصية الحيوانية ، أي الاعتماد على ما يُقدّم من الطبيعة بصورة معطاة ، وقد لا تكون الثمار من ضمن ما تقتات عليه هذه الحيوانات ... ولكن الذي حوّل الماء إلى عنصراً فعالاً ، وجعل الثمار تصبح فعلاً رزقا للناس هو ممارستهم ( = الناس ) لفعاليتهم في الأرض ، والتدخّل في توجيه قانون الصيرورة التي تحكم العناصر التكوينية الطبيعية للأرض ، وجعل سيرورتها تتخذ الشكل الذي يحدده الإنسان وليس بصورة عشوائية ... إذن النص هنا يسلب الإنسان قدراته على التأثير ، ويوهم الناس بأنّهم يحصلون على رزقهم بوساطة ذلك الإله ، دون أن يكون لهم تأثيراً في ذلك ، وهذه مسألة خطيرة ، فقد نتج عنها نوع من الاستلاب ، وستتكرر ، وبهذا سيصبح الإنسان مغرّباً ومسلوب الإرادة ....
- ويتوجه النص وفي شكل تحدٍّ إلى الناس فيقول : " ( وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثلهِ وادعوا شُهَدَآءَكم من دون اللهِ إن كنتم صادقين ) 2 / 23 ، ( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتَّقوا النار التي وقودها النّاسُ والحجارةُ أُعِدّت للكافرين ) 2 / 24. "
هل يُعقل أن يقف الإله في موقف تحدّي مع عبيده ؟؟ إنّه لموقف غريب!!!. الحقيقة إنّ الذات المُخَاطِبَة تعلم المستوى التطوري للمجتمع الذي توجه له الخطاب . وهي تعلم أيضاً أنّ المستوى الثقافي للناس في تلك المرحلة لم يبلغ تلك الدرجة من الثقافة التي تمكّنه من القدرات الفلسفية ، والصياغة اللغوية التي يستطيع أن يصيغ فقرات تتوافق مع فقرات النص !! فما بالك بسورة كاملة .. وعلى القارئ أن لا ينسى أنّ الذات المُخَاطِبَة قد أمضت أكثر من أربعين سنة وهي تبحث فكرياً ولغوياً حتى توصلت إلى هذه الصياغة التي قُدّمَ فيها النص ... وهذا طبعاً ليس نصاً فردياً ، وإنّما هو نصٌّ جماعي وما الذات الناطقة ، والموصّلة المباشرة للخطاب إلاّ ذاتاً متلقية وناقلة لهذا الخطاب .
أمّا أنّها تطرح المسألة إمّا أن تأتوا بسورة من مثله أو فإليكم النار ستصلونها فهذا منطق مختل ، منطق من يدّعي القوة وحده والقدرة وحده ، ويظهر نفسه في صورة تحايل وتزييف بأنّه أتاح للآخرين إمكانية البحث عن مخرج ، وهو في الحقيقة قد فرض موقفه ، ومن لم يستجب فيتلقّى العقاب .
- ثُمَّ يتّجه إلى ذاتٍ مفردة ويأمرها أن تُبشّر الذين آمنوا إذ يقول : ( وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جَنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ كُلّما رُزِقوا منها من ثَمَرةٍ رزقاً قالوا هذا الذي رُزِقنا من قبلُ وأُتوا بِهِ مُتشابِهاً ولهم فيها أَزواجٌ مُطَهّرَةٌ وهم فيها خالدون ) 2 /25 واضح أنّ ما أمرت الذات المُخَاطَبَةُ ، الذات المُخَاطَِبَةَ لتبشّر بِهِ لشيء مُغري ولكن متى يتحقق هذا ؟ إنّ الوعد لا يتعدّى الوهم والخيال ، فهو لا يتحقق عندما يكون الإنسان في حاجته ، أي أنّه لا يتحقق عندما يكون الإنسان حياً ، وإنّما هو وعد يرتبط تحقيقه بزوال الحياة !!! ، وكان الأحرى بالذات المُخَاطِبَة والإله الذي تدّعيه أن يجنّبوا الناس المآسي والكوارث التي يعانونها من جراء العوز والفقر ، وجشع بعض الفئات والأشخاص ، وانتشار القيم ألاّ إنسانية ، كان الأحرى أن يقوم هذا الإله بزرع المحبّة والتراحم والتعاون والتكافل في قلوب الناس بدلاً من جعلهم يتعالون بعضهم على بعض ويتباغضون ويتناحرون ويتقاتلون ، ويأتي هو ليد عوهم إلى عبادته ويعدهم بالنعيم والسكينة والاطمئنان في ما بعد الموت ؟؟؟
ـ والغريب أنّ هذا الاستلاب في الوعي قد هيمن على المسلمين ، وبالذات في الزمن الذي ساد فيه الإسلام في منطقة الشرق الأوسط ، فالمسلمون منذ فتح مكة ، وحتى اليوم تعيش أغلبيتهم ( أكثر من 99 % ) في حالة ضنك العيش ، ومعاناة الحاجة ، والاضطهاد ، والعوز والظلم ، بل والمسلمون وحدهم هم الذين يمارسون الاحتقار لبعضهم البعض بسبب الفقر والعوز ، كل هذا وهذه الأغلبية مستكينة لكل ذلك تحت تأثير ذلك الاستلاب في الوعي ( الرّب هو الذي يقضي ، وينفّذ ، وهو الذي يعاقب ، ويثيب ) وما على الإنسان إلاّ أن يستسلم للقضاء ولا يحاول مقاومته ، وقد عُمِّقت تلك المفاهيم ووظفت أيديولوجياً فكرّست على أساسها القبلية ، والطائفية والتمايزات الاجتماعية وقد صِيغَت جملة تُعمّق هذا المفهوم مفادها : { اللهمَّ إنّي لا أسألك ردَّ القضاء ولكني أسألك اللطف فيه } . وهناك الكثير من الآيات التي يتضمّنها النص ، ومن الجمل التي صِيغت لتثبيت أيديولوجية الاستلاب وفعلاً كرّستها ، وأصبح المجتمع المسلم يُستعبد من قبل أعدائه ، ويُجهّل من قبل حكامه ، ومن يدّعون العلم بهذا الدين ، وهم الأكثر عداء لهذا الدين ، هؤلاء هم أكثر عداء لمن يعتنق الإسلام ، وهم يُجَهِّلُونَهم ، ويسلبونهم وعيهم ، ويزيّفوا هذا الوعي كي يتمكنوا من استعبادهم باسم الدين ، وما علينا إلا أن نقف وقفة علمية دقيقة ، أمام الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ، والسياسية في كل البلدان الإسلامية ، ونموذجنا الواضح والصريح هو دول الخليج العربي ، والمغرب العربي ، والجزائر وليبيا واليمن ... إلخ فسنجد المثال الساطع على تصرّفات الحكام ، ومن يدّعون أنّهم علماء الدين الذين يقومون بالفتاوى لتبرير كل السلوكيات أللا إنسانية التي تُمارس من قبل الحكام والأثرياء الذين ينهبون ثروات الشعوب ، ويسمحون للأجانب أن ينهبوا هذه الثروات ويحرمون جماهير الشعب حتى من لقمة العيش الكريمة !!! .
- وفجأة ينتقل الخطاب إلى صيغة أُخرى ، وموضوعاً آخر ، مما يجعل القارئ يستعجب من ورود الخطاب بهذه الصيغة ، إذ يقول : ( إنّ اللهَ لا يَستحي أن يَضْرِبَ مثلاً ما بعوضَةً فما فوقها فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أَنَّهُ الحقُّ من ربهم وأَمّا الذين كفروا فيقولن ماذا أراد اللهُ بهذا مثلاً يُضِلُّ به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يُضِلُّ به إلاّ الفاسقين ) 2 / 26 ، ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقهِ ويقطعون مآ أمر اللهُ بِهِ أن يوصلَ ويُفسدون في الأرض أُولئك هُمُ الخاسرون ) 2 / 27 .
لا يسع المرء إلاّ أن يتساءل ما مبرر القول : ( بأنّ الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها ...... ) ؟؟ إنَّ الفقرة التي جاء فيها : ( وبشّر الذين آمنوا ...) لا علاقة لها بالقول : ( إنّ الله لا يستحي ... ) ، وهذا يشي بأّنَّ هناك مساجلة دارت بين الذات المُخَاطِبَة وبين أُناس ولجأت الذات المُخَاطِبَة إلى ضرب أمثلة ، وكانت الأمثلة لا تليق بالمتساجلين فانتقد الطرف الثاني هذه الأمثلة ، وجاءت الآية 2 / 26 رداً على هذا النقد ، والآية تشي بأنّ الذات المُخَاطِبَة تنطلق في خطابها من استعلاء واستكبار ، وهي ترى أنّ ليس لأحد الحقّ في انتقادها ، ولها هي الحق في استخدام أية صيغة في الخطاب ، وعلى الآخرين أن يتقبّلوا دون مناقشة ، أو مجادلة ، وإلاّ فهم ضالين ، فاسقين ... وواضح أنّ هذه المساجلة ، وكذا الأمثلة التي ضربتها الذات المُخَاطِبَة قد أُسقِطت ولم تدوّن ، وجاءت الفقرة ( إنّ الله لا يستحي ... ) بمنزلة إجابة على هذه الفقرات التي أُسقِطَتْ .
وتأتي الفقرة : ( فأمّا الذين آمنوا... ) ، والفقرة : ( وأمّا الذين كفروا ...) ، لتشير إلى أنّ ضرب المثل يُضِلُّ به كثيراً ، ويهدي به كثيراً ... فأين هو هذا المثل الذي يضلُّ به كثراً ، ويهدي به كثيراً ؟؟ وتضيف إنّ الذين يضلّون به ما هم إلاّ الفاسقين . ويستطرد النص ليقدّم تعريفا للفاسقين فيقول : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض أُولئك هم الخاسرون ) 2 / 27 . وهذا يشي بأنّ هذه الذات المُخَاطِبَة قد أبرمت عهداً مع أُناس على أن يحافظوا على صِلاتٍ معيّنة ، وأن لا يُفسدوا في الأرض ، ولكن هؤلاء الناس لم يفوا بما عاهدوا عليه ، ونقضوا العهد وتعدّهم الذات المُخَاطِبَة أنّهم هم الخاسرون .
ـ إذن هذه الذات المُخَاطِبَة تشي عبر ما تقدّمه من نصوص بأنّها : { ذات ملموسة ، ولها كيان مادي ، وهي تحاور وتفاوض ، وتعقد عهود ومواثيق مع الناس ...} ، وهي في الحقيقة لا تمتلك وجوداً ولا ملموسية وتفرض على الناس أن يستجيبوا لها وهي لا تحقق لهم إلاّ الظلم والطغيان من قبل الحكام ، والزيف والتدجيل من قبل من يدّعون العلم بهذه الذات ؟؟؟؟
ويأتي الخطاب في صيغة الاستفسار فيقول : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثُمَّ يميتكم ثُمَّ يُحييكم ثُمَّ إليه تُرجعون ) 2 / 28 ، ( هو الذي خلق لكم ما في الأرضِ جميعًا ثُمَّ استوي إلى السماءِ فسوّاهن سبع سموات وهو بكل شيءٍ عليم ) 2 / 29.
الخطاب موجّه إلى أُناس ، كانوا أمواتًا فأحياهم اللهُ ، ويستطيع أن يميتهم ، ثُمَّ يحييهم ، وفي النهاية إليه مرجعهم ... الحقيقة إنّ تاريخ البشرية لم يعرف أُناس مرّوا بهذه التجربة ، تجربة الموت ،ثُمَّ الإحياء ، ثُمَّ الموت ... كُلَّ ما يعرفه تاريخ البشرية ، أنّ الناس يستحيل أن يظلّوا هكذا دون تغيّر في تكوينهم ، فهم يخضعون لقانون الصيرورة ، ذلك القانون الذي يجعل الكائن الذي يخضع له ينتقل من حال إلى حال ، و بسبب من الانتقال من أحوال معيّنة إلى أحوال أخرى ، يصل إلى حالة استنفاذ طاقة الحياة ، وهذا ما يقال عنه " الموت " ، ولم يُعرف في التاريخ أن استعادت حالة استنفاذ طاقة الحياة حالة الحياة مرّة أخرى إلاّ في أواخر القرن العشرين ، وأوائل القرن الحادي والعشرين الميلادي ، عندما توصل العلم إلى الاستنساخ ...
ــ كيف يمكن فهم هذا النص ؟ : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثُمَّ استوي إلى السماء فسوَّاهنَّ سبع سموات وهو بكلِّ شيءٍ عليم } . هل يعني هذا أنّه كان موجوداً على الأرض ، وخلق ما فيها جميعاً ؟؟ وهل قام بالطواف على سطح الأرض من مشرقها إلى مغربها ، ومن شمالها إلى جنوبها عندما كان يخلق ما فيها جميعاً ؟؟ ، وهل هو الذي خلق الحشيش ؟؟ الذي يستخدم مخدّر ؟؟ ، وهو الذي خلق الكوكائين؟؟ وهل هو أيضاً الذي خلق بعض الأعشاب والفطريات السامة ؟؟ وما هو هدفه من خلق هذه ، ولماذا لم يقل للناس أنّها مضرّة لكي يتجنّبوها ؟؟ .
-- كيف استوى إلى السماء ؟ ، وأين هذه السماء التي استوى إليها ؟
--- فسواهنَّ سبع سموات . هل يعني هذا أنّ ( هذه السماء : سواء الواحدة أم السبع ) لم تكن موجودة من قبل ؟؟ وإذا كانت غير موجودة فمما سواها ؟؟ ، وإذا كانت موجودة فهل كانت غير مسواة ؟ ، ولماذا سواها سبع سماوات ، وقد كانت سماء واحدة ؟؟ ألا يثير هذا الخطاب الاستغراب ؟؟؟
وهنا نتساءل لمن موجّه هذا الخطاب ؟ ولماذا هذا الارتباك في الصياغة ، فمرّة يتجه الخطاب إلى ذات جمعية ، ومرّة يتّجه إلى الذات المفردة ، ولكن يطلب منها أن تبلّغ آخرين ، ومرّة يتّجه إلى ذات جمعية ، ويخاطبها مباشرة ... وكُلُّ هذا يتم دون أن يضع مسببات ، ودون أن يستطيع القارئ أن يميّز لماذا جاء هذا الخطاب للذات المفردة ، ولماذا جاء للذات الجمعية ؟؟ بمعنى لماذا اختلفت الصياغات ؟؟؟ ...
ـ الحقيقة أنّ النص إنما يورد خطاب جهة واحدة ، هي التي تتحدّث ، وهي التي تضع الأسئلة ، وهي التي تختار الإجابة عن هذه الأسئلة ، ذات : إمّا أنها تقدّم منلوج ، أو إنّها فعلاً تتحاور مع آخر ولكنها لا تورد خطاب الآخر ... وأحياناً تورد ما تدّعيه خطاب الآخر ، ولكن بما ينسجم وما تريده هي .
هل يستطيع أحد أن يُجيب عن هذه الأسئلة وبالذات عن حالة استنفاذ الحياة ومن ثُمَّ استعادتها ، قبل وصول العلم الإنساني إلى موضوع الاستنساخ ... في القرن العشرين من التاريخ الميلادي ، أي بعد مرور مئات الآلاف من السنين ، إذا لم نقل ملايين الآلاف من السنين ؟؟؟؟ ، ولعلّه من الأهمية بمكان التأكيد أنّ موضوع الاستنساخ ، لم يتحقق إلاّ استجابة لرغبة الإنسان ، ولعلمه ، ومعرفته بقانون الصيرورة ، والجدلية ...
وهنا في الآيات اللاحقة يفاجئنا الخطاب بطرق موضوع دون أن يعطي عنه مقدّمات ، إذ يقول : ( وإذ قال ربُّكَ للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أَتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفك الدماء ونَحنُ نُسَبّحُ بحمدك ونقدّسُ لك قالَ إنّي أعلمُ ما لا تعلمون ) 2 / 30
1 ـ { وإذ قال ربُّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة }: أولاً ـ أين يقيم ربُّك هذا ؟ ، وأين تقيم الملائكة ؟ وما علاقتهم بالأرض ؟ وسيجعل خليفة لمن ؟؟ هذه الأسئلة يجب أن يُجاب عليها لكي يوضح النص .. ، .
2 ـ تأتي إجابة الملائكة : { أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفك الدماء ونَحنُ نُسَبّحُ بحمدك ونقدّسُ لك قال إنّي أعلمُ مالا تعلمون } .
-- من ذا الذي قال للملائكة أنَّ هذا الخليفة ليس منهم ؟؟ ، ومن الذي عرّفهم بأنّ هذا الخليفة سيفسدُ في الأرض ، وسيسفك الدماء ؟؟؟ .
3 ـ { وعلّم آدم الأسماء كُلّها ثُمَّ عرضهم على الملائكةِ فقال أنبئوني بأسماءِ هؤلاءِ إن كنتم صادقين } من هو آدم هذا ؟ ، طبعاً هو الإنسان فكيف علّمه وأين ؟ ألم يكن الملائكة يعرفون أنّه يُعلّم آدمَ ؟ ...
4 ـ الأسماء كُلّها : أية أسماء ؟؟ ، وأسماء من هذه ؟ ، وما المقصود بلفظة ( كُلّها ) ؟ .
5 ــ فقال أنبئوني بأسماءِ هؤلاءِ إن كنتم صادقين : ما هذا هل هي محجاة ؟ كيف يطلب من الملائكة أن ينبئوه وهو لم يعلّمهم ؟؟ هل هناك شك لدى الرّبْ أنّ الملائكة يعلمون أكثر مما يعرف عنهم هو ؟ كيف يمكن هذا ؟ ، أم هي مواثنة بين الرّب والملائكة ؟
هذا الإخبار يشيء بأن المساجلة لا زالت مستمرة ، ويمكن التوصل إلى طرفي المساجلة ، وهما الذات المخاطبة ، وأُولئك الناس الذين لم بستوعبوا ما تطرحه هذه الذات ، وما تمليه عليهم وتطلب منهم أن يستجيبوا لما تدعوا إليه دون أن يكون لهم قرار من أنفسهم . ، ( وعلّم آدم الأسماء كُلّها ثُمَّ عرضهم على الملائكةِ فقال أنبئوني بأسماءِ هؤلاءِ إن كنتم صادقين ) 2 / 31 ، يا للعجب تقوم الذات المخاطبة بتقديم الأمور في الصياغات التي تجعل من الطرف الآخر : إمّا خانعاً مستكينا ينفّذ ما تمليه ، وإمّا يُعدُّ معادياً وتتوعّده بالعقاب فها هي تقوم بتعليم آدم الأسماء كُلّها ثُم تعرضهم على الملائكة ، وتطلب منهم أن ينبئوها بهذه الأسماء دون أن يكونوا قد اطلعوا على ما أرادت أن تسمّي هذه الأسماء !!! وكان ردّ الملائكة ، كما أوردته الذات المُخَاطِبَة في النص على النحو الآتي : ( قالوا سبحانك لا علمَ لنا إلاّ ما علّمتنآ إنّك أنت العليم الحكيم ) 2 / 32 ، وكان من الطبيعي أن يكون ردّ الملائكة ، سواء أجاء كما ورد في النص ، أم بصورة أخرى ، أنّهم لا يعلمون ( قال يا آدمُ أنبئهم بأسمائهم فلمّآ أنبئهم بِأسمآئهم قال ( = الذات المُخَاطِبَة ) ألم أقل لكم إنّي أعلمُ غيب السماوات والأرض وأعلمُ ما تُبدون وما كنتم تكتمون ) 2 / 33 . ما هذا !! فزّورة ؟؟ اثنان ينعزلان عن مجموعة ويتّفقان على تسميات معيّنة ، ومن ثمّ يعودا ويطلب أحدهم من المجموعة أن تُخبره بهذه الأسماء التي اتفق مع الآخر عليها في غياب المجموعة . فماذا سيكون الرد ؟؟ طبعا أننا لا نعرف ...
هل يريد الخطاب في هذه الفقرات أن يربط بين خلق السماوات والأرض ، وبين خلق الإنسان ؟؟ إذا كان هذا هو القصد فهذا يحمل خُلف منطقي كبير ... لأنّ في الأمر نوع من إهمال السيرورة الزمنية ، فهناك امتداد زمني طويل بين تكوَّن السماء والأرض ، وبين ظهور الإنسان .... فكيف يربط بينهم بهذه السهولة ؟؟
وإذا وقفنا أمام النص كما هو سنجد الآتي : -
أولاً ــ كيف يمكن أن يُفهم قول الملائكة : ( أَتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويُسفك الدماء ونحنُ نسبّحُ بحمدك ونقدّسُ لك ؟؟ .... ألا يعني هذا أنّ الملائكة قد عرفوا أنّهم قد أُستثنوا من اختيار الخليفة من بينهم ؟؟
ثانيًا ــ النص يشي بأنّ الملائكة يعرفون طبيعة الكائنات الحية ، التي منها سيختار الخليفة ....
لهذا جاء جواب الملائكة مثير للدهشة فهم قد عرفوا أنّ هذا الخليفة ليس من بينهم ، وكأنّهم على علمٍ مسبق بمن سيجعله خليفة ، لا بل ويعلمون طبيعة هذا الذي اختاره ليكون خليفة ؟؟ وإلاّ كيف عرفوا أنّ هذا الخليفة سيفسد في الأرض وسيسفك فيها الدماء ؟؟
ثالثًا ــ ما هي طبيعة الملائكة ؟ وأين مقرَّ تواجدهم ؟ ولماذا يُحجبون عن الرؤية ، من قبل الإنسان ؟؟ وما هي وظيفتهم في الكون ؟؟؟
رابعًا ــ كأنّ المسألة مسألة ألغاز بين الرّبّ وبين الملائكة ، فهو قد قام بتعليم آدمَ الأسماء كُلَّها ، ثُمَّ عرضهم ( = الأسماء ) على الملائكة ، وقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ؟؟
ماذا يعني هذا ؟ هل الذات المُخَاطِبَة أرادت أن تمتحن نفسها ؟ ، أم أرادت أن تمتحن الملائكة ؟ ، وتريد أن تبين لهم أنّها أعلم منهم ؟ ، أليس هم يعلمون ذلك ؟؟
ثُم طلبت من آدم أن ينبئهم بالأسماء فلما أنبائهم قالت ألم أقل لكم إنّي أعلمُ غيب السماوات والأرض ، وأعلم ما تبدون ، وما كنتم تكتمون . ما هذا هل عندها شكّ في ذلك ؟؟ ، أم أنّ عند الملائكة شك في سعة علمها ؟؟؟ وهل هي محتا جة إلى كل هذه التمثيلية لتعلمهم بأنّها تعلم ما يبدون وما يكتمون ؟؟
ألا تعني الفقرات أعلاه أنّ هذا الربّ الذي يدّعي أنّه بكل شيءٍ عليم ، هو في الحقيقة غير متيقّن من علمه ؟ ، وقد قام بتلك التمثيلية ليتأكّد أنّ من يُطلق عليهم الملائكة ، هم أقلّ معرفة منه ؟ ...
وتأتِ الآية ( 34 ) من تلك السورة ، سورة البقرة ، لتؤكد أنّ هذه الذات التي تصف نفسها بالرّب حيناً ، وبالإله حينًا آخرَ ، لا تتمتّع بثقة في علمها ، ومعرفتها ، ولا تحظى بطاعة مطلقة من قبل الذين تصفهم بأنّهم { جنودها ، أو عبيدها } فها هي الآيات ( 34 ، 35 ، 36 ) تقول : (وإذ قلنا للملائكةِ اسجدوا لآدمَ فسجدوا إلاّ إبليسَ أَبى واستكبر وكان من الكافرين ) 2 / 34 ، ( وقلنا يآ آدمُ اسكن أنتَ وزَوجُك الجنّةَ وكُلا منها رَغَدًا حيثُ شئتما ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين ) 2 / 35 ، ( فأزلّهما الشيطانُ عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه ، وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوُ ُ ولكم في الأرض مستقر ومتاعٌ إلى حين ) 2 / 36 .
الآية ( 34 ) تؤكّد أنّ هناك من الذين يسميهم الملائكة من لا يستجيب لأوامر الذات المُخَاطِبَةِ ، وهذا الذي لم يستجب هو الذي يُطلق عليه " إبليس " ( ...إلاّ إبليس أَبى واستكبر وكان من الكافرين ) ... هل يُعقل هذا ؟؟ إبليس أحد مخلوقات الذات المُخَاطِبَة ، ويعصي أوامرها ، بل ويستكبر ، ويكفر ... والغريب أنّ هذه الذات تقول عن نفسها قادرة على كُلّ شيء ، فلماذا لا تجعل جميع المخلوقات تستجيب لما تطلبه منها ، ولماذا هناك من يكفر ، وهناك من يؤمن ؟؟ ، وأيضاً إذا هي خلقت كُل المخلوقات وتريد منهم أن يؤدّوا لها أجرًا مقابل ذلك ، فلماذا لا تتصرّف معهم بحيث تخلقهم طائعين مستجيبين ، ويستغرب المرء لماذا تطلب هذه الذات من المخلوقات أن يسلكوا سلوكاً معينًا ، وإلاّ ستعاقبهم ؟؟ هل هي تتلذذ بأن تخلق مخلوقات يعصون أوامرها ، ومن ثُمَّ تقوم بمعاقبتهم ؟ ألا يشي موقف هذه الذات بأنّها تُعاني من مرض نفسي ؟؟
وتأتي الآية ( 35 ) لتؤكّد أنّ هذه الذات هي التي تتسبب في قيام المخلوقات بالمعاصي ، فهي تقول لآدم ( ... اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) ، لماذا حظرت عليهما الأكل من هذه الشجرة ؟؟ ، وتأتي الآية ( 36 ) لتقول أنّ الشيطان قد أزلهما ( ... فأزلّهما الشيطانُ عنها فأخرجهما مما كانا فيه ) 2 / 36 . وهنا لا بد من التساؤل هل قام الشيطان بما قام به من إغواء لآدم وزوجه ، بمعرفة الذات المُخَاطِبَة أم بغير معرفتها ... فإن كان بغير معرفتها فهذا يتناقض مع قولها بأنّها تعلم غيب السماوات والأرض وإذن فما الذي يجعلها تضع نفسها في المكانة العالية وتطلب من الآخر أن يستجيب لها ، وإلاّ ستعاقبه ، وفي هذه الحالة هل تملك إمكانية معاقبته ؟؟
وإن كان تمَّ الإغواء بمعرفتها فلماذا سمحت للشيطان أن يقوم بإغوائهما ؟؟ وفي هذه الحالة ليس لها من مبرر لمعاقبتهما ... وما اتخذته من مواقف تجاه آدم وتجاه إبليس إن دلّ على شيء فإنّما يدلُّ أنّها مريضة تتلذذ بتعذيب الآخرين ، وحتى إذا لم يرتكبوا ذنباً يُعاقبون عليه ، فهي ستوجد مبررًا ليرتكبوا ذنباً لتبرر معاقبتهم ، وأكثر شيء تمنُّ به على الناس هو أنّها خلقتهم ، وسخّرت لهم الأنعام ... وهنا لا يسع المرء إلاّ أن يتساءل : { هل خلقت هذه الذات الناس ، وسخّرت لهم الأنعام وفقاً لإرادتها ؟ أم خارج إرادتها ؟ ، هل خلقتهم بناء على رغبة منها ؟؟ ، أم بناء على طلبٍ وتضرّعٍ من الناس أنفسهم لكي تخلقهم ؟؟ } ، فإذا كانت عملية الخلق ، وما رافقها تمّت بناء على إرادتها فإنّ سلوكها معهم يُعد سلوكاً ظالماً ، وهي تدّعي أنّها عادلة ، وإن كانت خلقتهم خارج عن إرادتها فلماذا تحاول أن تنفرد هي بشئونهم ، وتحجب عن تلك القدرة التي أرغمتها على خلقهم أمر إدارة شئونهم ؟ وإذا كان خلقهم رغبة من هذه الذات ، فهذا يعني أنّها هي المسئولة عنهم ، وهي التي يجب أن توفر لهم ما يجعل حياتهم نعمة ، وليس لها حق في معاقبتهم ولا المنّ عليهم بل تكون هي الملامة إذا انتقص الناس شيئًا من احتياجاتهم فهي مسئولة مسئولية كاملة تجاه كُلّ ما يعانيه الناس ، وهي التي يجب أن تُعاقب وتُحاسب على كل ضرر يلحق بالإنسان ... أمّا إذا كانت عملية الخلق وما يترتب عليها قد تمت بناء على طلب الناس ، ( وهذا لم يكن ، وهو غير ممكن ) ، فهنا يحق لهذه الذات أن تمارس تجاه الناس ما تراه مرضياً لها . وبما أنّها هي نفسها تدّعي بأنّها هي التي خلقتهم ، وبرغبة منها ، فهي إذن المدانة .
ويستمر النص ، فيشير في الآية (37 ) ، إلى أنّ آدم قد تلقّى من ربّهِ كلمات ، فتاب عليه إنّه هو التواب الرحيم 2 / 37 ، وهذه الآية تحمل من المنّيِّة ما يُثقل كاهل الإنسان .... وتشير الآيتان ( 38 ، 39 ) ، إلى أنّ الإنسان وإبليس قد أُُمِرا بأن ُيغادِرا الجنّة ، ويهبطا إلى الأرض ، وعندما يأتيهما هدًى من الذات المُخَاطِبَة ، فمن اتبع الهدى فلا خوف عليه ولا هم يحزنون . 2 / 38 أمّا الذين كفروا وكذّبوا بآيات الذات المُخَاطِبَةٍ أُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . 2 / 39 . ولا يسع القارئ ، بل والسامع إلاّ أن يتساءل : أين هذه الجنّة التي كان آدم وزوجه ، وإبليس يقيمان فيها ؟؟ ، ولماذا أُمِرا أن يغادراها ؟
إذا نحن وقفنا أمام الآيات من ( 1 ــ 39 ) ، نجد أنّ هذه الآيات تنبئنا بالآتي : -
أولاً ـ تشير إلى كتاب مجهول ، وتخبرنا بأنّه هو البرنامج الصحيح الذي يجب أن يُتّبع ، ويأتي هذا الإخبار لذات ( قد تكون مفردة ، وقد تكون جمعية ) ، ولكنها في الأخير تفصح عن أنّها مفردة ، وعلى الذات المفردة أن تكون هي المرشدة والمفسرة لمحتوى الكتاب ( أي للبرنامج ) ومراقبة لتنفيذه .
ثانيًا ــ تحدد لنا فئات المجتمع ومواقفها من هذا البرنامج . فتحدد الفئة التي وصفتهم بالمتّقين ، والذين حُدد لهم البرنامج في ذلك الكتاب .
ثالثًا ــ تلك الفئة التي وُصِفت بأنها الذين كفروا ، وأّنهم متشبّثين بموقفهم ولن يغيّروا قناعاتهم مهما كانت الأمور ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) .
رابعاً ــ الفئة المتذبذبة ، الذين إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ؟ ، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّما نحن مستهزئون .
خامساً ـــ في الخطاب إلى الآية ( 39 ) ، مساجلة ، هدفت إلى الاستقطاب الاجتماعي ــ السياسي حول البرنامج الذي حواه ذلك الكتاب ولكن هناك هفوة لم تتنبّه لها الذات المخاطبة ، أنّ هذا البرنامج الذي تُريد من الناس أن يتّبعوه يحتاج إلى زمن طويل ، ويحتاج إلى أنّ الذات التي أُوكلت بتعليمه تستمر حتى تُكمل تعليم الناس ، ولكن الذات التي أُوكلت بتعليم البرنامج ، قد استنفذت طاقة حياتها قبل أن ينتشر هذا البرنامج ، وقبل أن يعلمه الناس ، لا بل الذين استجابوا لدعوة الذات المُخَاطِبَة لم يستوعبوا هذا البرنامج ، ومحتاجين إلى التعلّم ، فكيف أماتت هذه الذات من هو حري بتعليم برنامج الدعوة ، ( = الرسول محمد ) ولعلّ ما حدث بعد وفاة محمد خير دليل على أنّ هذه الذات لا تعدُ كونها ذاتاً ( قد تكون مفردة وقد تكون جمعية ) المهم إنّها ذاتاً لها وجودها وكينونتها الملموسة وهي تخضع لقانون الصيرورة مثلها مثل جميع الكائنات الحية الأخرى ... هذا إذا اعتمدنا كاف الضمير المُخَاطَبْ ( ما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك ، المقصود به الرسول محمد !!! .
سادسًا ــ لقد اتبع النص أسلوباً لم يكن معروفاً في لغة المجتمع من قبل ، وهذا كان بهدف خلق وعي جديد .
سابعًا ــ التأكيد أنّ العلاقات والترابطات بين ظواهر الكون لا يمكن التعرّف عليها ومعرفة نتائجها دفعة واحدة ، وأنّ المعرفة هي ذات طابع تاريخي . ومع كل ذلك فالنص يؤكّد أنّ الواقع أسبق من الفكر ، وهذا يعني أنّ المادة أسبق من المعرفة .
وفي الآيات من ( 29 ـ 39 ) ، يضطرب الخطاب ، ويبرز خلل منطقي ، إذ يشير الخطاب إلى أنّ الله قد أمر آدم وزوجه بأن لا يأكلا من الشجرة ، ويأتي الشيطان فيزلهما ويجعلهما يأكلا من الشجرة : وهذا يثير تساؤل هل مقدرة الشيطان أكبر من مقدرة الله ؟ هذا خلل منطقي !! وإذا كان الله هو الذي أراد أن يقوم آدم بذلك ، وما الشيطان إلاّ وسيلة ، فما ذنب إبليس إذن في هذه العملية ؟؟
ومن الآية ( 40 ) فما فوق إلى الآية ( 102 ) ، يوجه الخطاب إلى بني إسرائيل ، في الوقت الذي كان من قبل قد وُجّهَ إلى الناس ، { يا أيها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلَّكم تتقون } ، وكأنّ بني إسرائيل ليسوا من الناس ؟؟ أو أنّ لهم ميزة خاصة يمتازون بها !! ، وإذا وقفنا أمام الخطاب في الآيات من ( 40 ) فما فوق والذي خُصص لبني إسرائيل ، نجد أنّ النقلة التي حدثت في الخطاب نقلة غير منطقية ، إذ أنّ الخطاب كان يخاطب الناس عامة ، وفجأة انتقل إلى بني إسرائيل ، دون تبيان السبب !!.
ويتّخذ الخطاب صيغ أخرى متعددة ، فمرّة يخاطب بني إسرائيل مباشرة ، ومرّة يأتي في صيغة سرد لموقف محدد ، أو عدة مواقف محددة من مواقف بني إسرائيل ، ويشير النص إلى أن هناك عهدٌ بين الذات المُخَاطِبَة وبين بني إسرائيل : {( يا بني إسرائيلَ اذكروا نعمتي التي أَنعمتُ عليكم وأَوْفوا بعهدي أُفِ بعهدكم وإيَّاىَ فارْهَبُون ) 2 / 40 .



#سالم_عمر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رساله مفتوحه الى معالي السيد فيصل الفايز رئيس الوزراء الاردن ...


المزيد.....




- استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
- “فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي ...
- كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
- “التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية ...
- بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول ...
- 40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سالم عمر - قراء جديدة للنص القرآني