ليند ساي جيرمان
الحوار المتمدن-العدد: 4013 - 2013 / 2 / 24 - 00:04
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
ترجمة نور منصور
§ اسم الكتاب: النظريات البطريركية
§ بقلم: ليند ساي جيرمان
§ ترجمة: نور منصور
§ غلاف: هابي عاطف
§ الناشر: مركز الدراسات الاشتراكية
لعل النظرية الأكثر صمودا وإنتشارا فى محيط الحركة النسائية اليوم هى النظرية البطريركية (البطريرك هو الأب والنظرية البطريركية هي نظرية السيطرة الذكورية التي ترى أن الرجال هم مصدر الاضطهاد الواقع على النساء). وتتخذ هذه النظرية أشكالا مختلفة, لكن الأفكار الرئيسية التى تستند اليها -والمتعلقة بكون سيطرة الذكر او التحيز للنوع أمرا لا يوجد فحسب كنتاج للرسمالية ولكنه منفصل تماما عن نمط الانتاج الرأسمالى ومن ثم فسوف يدوم بعد زواله- تحظى بقبول واسع, حتى ان رفض هذه النظرية برمتها يقابل بدهشة تامة وحقيقية.
وتحظى هذه النظريات بفهم محدود لكيفية تغير أشكال قهر المرأة وطبيعة الأسرة عبر التاريخ. ولا يوجد لديها تصور يعتد به حول مدى الإختلاف الواسع بين الأشكال التي يتخذها قهر المرأة من طبقة إلى أخرى. وبدلا من ذلك فان ما تقدمه لنا هذه النظرية هو ما تعتقد أنه حقيقة مطلقة، مفادها ان البطريركية سواء اتخذت هذا الشكل أو ذاك هى سبب قهر النساء.
ويتم تبرير هذا الطرح عبر الإشارة الى أن قهر المرأة يوجد خارج مجتمعات الغرب الرأسمالي, وذلك فى المجتمعات السابقة على الرأسمالية اوتلك المسماه بالإشتراكية فى روسيا والصين وكوبا وشرق اوروبا.
وتدعم النظرية البطريركية التصور المتفق عليه بشكل واسع فى داخل الحركة النسائية، والقائم على وجوب الفصل بين صراعين, هما صراع الحركة العمالية ضد الرأسمالية ومن أجل تحقيق الاشتراكية, والصراع الذى تخوضه النساء ضد السيطرة الذكورية. ومن الناحية المنطقية فإن الفصل بين الصراعين هذا يفترض انفصال التطور الإجتماعى للجنسين فى المستقبل, وهو المنطق الذى لا يقبله المؤيدون لنظرية البطريركية. ولكن إذا كانت البطريركية هى الطريقة التى يقوم بواسطتها جميع الرجال بإضطهاد جميع النساء, فكيف يمكن التغلب عليها فى ظل استمرار التفاعل بين الرجال والنساء؟
اريد هنا ان اقدم طرحا مختلفا تمام الإختلاف, وان أرفض مفهوم البطريركية الذى يمكن إعتباره فى افضل الأحوال مفهوما مشوشا يشير ببساطة اضطهاد المراة دون ان يكون قادرا على طرح تفسير لهذا الاضطهاد. كما انه فى اسوء الأحوال يعد مفهوما مثاليا ليس له اساس فى الواقع المادى. وأريد أن أبين أن المستفيد من قهر النساء هو رأس المال وليس الرجل. كما أود البحث فى االتغيرات التي حدثت في طبيعية الأسرة وكيفية تأثيرها على تغير تصور النساء عن أنفسهن. ولعله من المأمول أن نوضح أن إستمرار قهر النساء ليس نتاج مؤامرة ذكورية (أو تحالف بين العمال الذكور والطبقة الرأسمالية), ولكنه نتاج لديمومة المجتمع الطبقى فى العالم أكمل. وسوف أقوم بعد ذلك بالمجادلة بأن الدول المسماة بالإشتراكية ليس لها علاقة فعلية بالاشتراكية ولا بتحرير المرأة.
وأخيرا أريد أن أبحث فى السؤال الذى دائما ما يطرح على الإشتراكيين, والمتعلق استمرار وجود الأسرة الأسرة البروليتارية (هامش: البروليتاريا هي الطبقة العاملة والاسرة البروليتارية هي الأسرة العمالية) رغم اعتقاد أنجلز والماركسيين الأوائل بأنها سوف تختفى بسبب عدم أستنادها إلى علاقات الملكية، وذلك على عكس الأسرة البرجوازية (هامش: البرجوازية هي الطبقة المستغلة في المجتمع الراسمالي). ونظرا لأنى لا اعتقد أن بقاء الأسرة العمالية لا يرجع إلى السيطرة الذكورية، فأنى أود أن أتناول بدقة ما الذى يؤدى إلى استمرار وجود الأسرة.
الأشكال المختلفة للنظرية
إن الشئ الطريف بالنسبة للنظرية البطريركية هو أنها تستطيع أن تقدم الحل السحري للجميع، ذلك أنها تتغذى على "المشاعر الغامضة" التى تفتتن بها قطاعات من الحركة النسائية أكثر من إعتماد هذه النظرية على تحليل مادى لمسالة اضطاد النساء. ومن ثم فانه حتى البحث عن تعريف للفظ البطريركية يصبح مسألة صعبة نظرا لوجود الكثير جدا من التعريفات التى يمكن الاختيار فيما بينها.
يمكن على سبيل المثال أن تشير البطريركية إلى نوع المجتمعات التى يكون فيها الأب (البطريرك) مسيطرا ليس فحسب على نساء العائلة وانما على الذكور الاصغر سنا ايضا. وتعتمد مثل هذه المجتمعات على الانتاج الفلاحى او الحرفى, ويمثل المنزل, على الاقل جزئيا, القاعدة الانتاجية لها. وتنبع سلطة البطريرك من حيازته للثروة المنتجة ومن ملكيته للارض. غير أنه فى معظم الاحيان لا يقصد بالبطريركية تلك المجتمعات التى وجدت فى لحظة تاريخية معينة. ذلك أنه حتى منظرى البطريركية الأكثر تشوشا, باستطاعتهم أن يدركوا أننا لا نعيش اليوم فى فى مثل هذا المجتمع الفلاحى, ولذلك فان ما يعنيهم هو القهر الذى تعانى منه المرأة فى الوقت الحالى.
و يمكن القول ان نظرية البطريركية تتخذ شكلين اساسيين:
فأولا هناك من يرون البطريركية كمصطلح أيديولوجي أو فكري صرف. فعلى سبيل المثال ترى جولييت ميتشيل ان هناك حد قاطع بين مجالين مستقلين نقوم بالتعامل معهما, هما النمط الاقتصادى الرأسمالى, والنمط الايديولوجى البطريركي (1). وتطرح كل من سالى ألكسندر وباربرا تايلور أطروحات مثيلة فى كتابهما "دفاعا عن البطريركية" (2).
غير انه يجب وضع هذا الفصل بين الاقتصاد والايديولوجيا موضع مساءلة. حيث أنه توجد على الدوام صلة بين الاساس الاقتصاد لمجتمع ما والافكارالتى تنبثق فى هذا المجتمع, ومن ثم لا يمكن النظر إليهما كمجالين منفصلين. وكما اوضح ماركس منذ زمن بعيد إنه اذا إعتبرنا أن التاريخ هو مجرد نتاج لهيمنة الأفكار او تعاقبها فانه يصبح من غير المستطاع وضع اى تفسير حول تطور المجتمع.
واذا ما رفصنا التصور الميتافيزيقي لوضع المرأة , فانه يجب البحث فى الظروف المادية التى تجعل البشر يتصرفون بشكل معين –دون غيره— فىعلاقتهم بالعالم ومن ثم في علاقتهم ببعضهم البعض. ومن ثم فأن أساس قهر المراة, مثله مثل أساس أى ظاهرة إجتماعية أخرى, يجب أن يدرس فى ضوء هذه الظروف. وبذلك يمكننا أن نفهم الطريقة التى ظهرت بها الإفكار التى تبرر هذا القهر ومغزى المعركة التى خاضتها.
إن ما قاله ماركس عام 1845ينطبق على مسالة قهرالمرأة كإنطباقه على أية ظاهرة اخرى فى مجتمعنا. فقد أعتبر ماركس أنه " لكى نصل إلى حقيقة الإنسان, نحن لا ننطلق من أقواله أو تخيلاته أو تصوراته, كما لا ننطلق من الذى يتم روايته أوتخيلة أو تصوره عنه. وأنما ننطلق من الإنسان الحقيقى والفاعل, وعلى أساس الحياه الحقيقية للبشر, لنبين تطور الإنعكاسات والأصداء الأيديولوجية لهذه الحياة, كالأخلاق والدين والغيبيات وكل ما تبقى من الأيديولوجيا وما يقابلها من اشكال مختلفة للوعى. ومن ثم فإننا لم نعد نحتفظ بتلك الصورة المستقلة لأشكال الوعى, التى ليس لها تاريخ أو تطور فى حد ذاتها. لكن البشر, عبر تفاعلهم المادى وقيامهم بتطوير الإنتاج المادى, يغيرون, مع التغير الفعلى لحياتهم, تفكيرهم ومنتجات هذا التفكير. إن الحياة لا تتحدد بالوعى, وإنما الوعى هو الذى يتحدد بالحياة."(3)
وعلى النقيض من ذلك, اذا اعتبرنا ان البطريركية هى نمط فكرى, فان ذلك يعنى ان الافكار تدعم نفسها بنفسها ولا يوجد لها أساس مادي. وآنذاك يصبح النضال من اجل تحرير المراة منفصلا عن النضال ضد الاستغلال الذى يمكن ان يربط بين المصالح الحياتية لملايين العمال من الرجال والنساء. وبدلا من ذلك يصبح هذا النضال –كما تدعو ألكسندر وتايلور— مجرد نضال ثقافى لأجل تغيير افكار البشر بمعزل عن تغيير المجتمع. ومن هذا المنطلق يصبح من السهل أن ندرك كيف تتطور الأفكار الداعية إلى حركة مستقلة للمرأة. غير انه اذا كانت الافكار تتمتع باستقلالية عن الاستغلال الاقتصادى, فلماذا لا يكون النضال ضد قهر المراة مستقلا أيضا؟
إن إدراك بعض النساء لهذا التناقض جعلهم يحاولن تطوير نظريات مادية للبطريركية, فيجادلن بأن جميع الرجال يستفيدون من قهر النساء، وانهم قادرين على ذلك بسبب الفروق البيولوجية الجوهرية بين الجنسين. وهنا توجد اسس البطريركية. وكما تشير روبرتا هاميلتون: "ان تحليل الحركة النسوية يخاطب الايديولوجيا البطريركية, هذا النمط البطريركى الذى يقف وراء سيطرة الذكر وخضوع الانثى فى اى مجتمع كان. لكن هذه الايديولوجيا تستند الى الاختلافات البيولوجية بين الجنسين, وهو ما يعطيها اساسا تاريخيا خاصا بها.(4)
وتطور كريستين ديلفى فى كتابها العدو الاساسى(5), هذه الاطروحة المادية إنطلاقا من رؤية نسوية راديكالية. وقامت هيدى هارتمان بمحاولة مثيلة عبر استخدامها لمقولات ماركسية. وقد اردت ان أتناول هذه الاخيرة بدرجة من التوسع. فإذا كان من الممكن إثبات خطأ هذا لنوع من المقولات فان محاولة الدمج بين النظرية البطريكية وبين الماركسية تتهاوى بكاملها.
هل الرجال هم من يستغل النساء؟
تعرف هارتمن البطريركية باعتبارها "مجموعة من العلاقات الإجتماعية ذات الاساس المادى التى تربط بين الرجال, والتى رغم انها تتمتع بهيراركية إلا انها تخلق تضامنا فيما بينهم يمكنهم من السيطرة على النساء." وتمضى قدما لتقول "إن الركيزة المادية التى تعتمد عليها البطريركية تتمثل أساسا فى سيطرة الرجال على قوة عمل النساء.... وهذه السيطرة لا ترجع فقط قيام النساء بعملية انجاب الأطفال في داخل الاسرة, وإنما على كل الابنية الإجتماعية التى تمكن الرجال من السيطرة على عمل النساء... ويتم الحفاظ على هذة السيطرة عبر حرمان المراة من التحكم فى الموارد الاقتصادية الضرورية التي يتم انتاجها، وكذلك عبر تقييد السلوك الجنسى للنساء."(7)
فعن طريق حرمان النساء من الحصول على هذه الموارد الاقتصادية, يقيم الرجال تحالفا مع راس المال. وتوجد الدلائل ذلك على فى تطور الراسمالية وفى طريقة تفاعل الطبقة العاملة مع مشكلاتها, والتى تتخذ شكل المطالبة بتشريعات حمائية وأجر يكفى العائلة. وتستطرد هارتمان لتشير الى ان نضال العمال فى سبيل هذين المطلبين يهدف إلى تحقيق المنفعة لهم, وذلك عبر ابقاء النساء فى المنزل ليخدموا الرجال وفى الوقت ذاته تتحقق سيطرة الرجال عليهن جنسيا.
ولكن هل هذة الطريقة في تفسير الأحداث صحيحة؟
ان تطور الرأسمالية فى بريطانيا أدى إلى تدمير الانتاج المنزلى ودفع النساء والاطفال مثلهم مثل الرجال إلى نظام المصنع. وكان ذلك له اثرا مدمرا على اعادة انتاج الطبقة العاملة. فقد بلغت معدلات وفيات الاطفال حدا مرعبا نظرا –وكما اوضح ماركس فى راس المال— لطول ساعات عمل النساء خارج المنزل. فقد كان الأطفال يتركون مع اطفال اكبر قليلا او مع أفراد يناط هم العناية بالأطفال، والذين يهملونهم او يعملون على ابقائهم هادئين بواسطة مشروب الجين او صبغة الافيون. وعندما يكبرهؤلاء الأطفال إلى الحد الكافى ليصبحوا قادرين على العمل على الآلة, يتم دفعهم أيضا للعمل فى المصانع. وكما يبين ماركس فان: "البديل الجبار للعمل وللعمال, اى الالة, كانت تتحول بدرجة سريعة الى وسيلة لزيادة اعداد العمال الاجراء, عبر الايقاع بكل أفراد أسرة العامل تحت النفوذ المباشر للراسمالية, دون تفرقة عل اساس من السن او الجنس."
ان هذه الاوضاع التى يصفها ماركس فى "رأس المال" وأنجلز فى "حالة الطبقة العاملة الانجليزية", (8) تبين كيف كان نظام المصنع مرعبا فى مرحلته المبكرة. إن أثر هذا النظام الجديد كان تفسخ الاسرة نتيجة إلى تحول كل عضو فيها الى عامل اجير. ومن ثم فقد وضع الإستغلال الرأسمالي, رغم قسوته, أسس المساواة بين رجال ونساء الطبقة التى لا تملك، اى البروليتاريا. فكلاهما أصبح مضطرا للإعتماد على العمل الماجور وفقد الرجال وضعية المالك الذي يتحكم في الزوجة والأطفال. ولهذا السبب وضع انجلز مثل هذه التفرقة بين الأسرة البرجوازية والأسرة البروليتارية. وكان انجلز محقا آنذاك عندما اشار الى وجود اتجاه نحو فناء أسرة الطبقة العاملة.
ولكن ما لم يقدرة انجلز التقدير الصحيح هو أثر نظام المصنع على عملية إعادة إنتاج النوع نفسها. ففى مانشستر التى كانت ربما أكثر مراكز الانتاج المصنعى تقدما, بلغ عدد وفيات الاطفال 26،126 لكل 100،000 طفل عمرهم اقل من سنة واحدة (9) وهو ما يعادل ثلاثة أمثال نظيره فى بعض المناطق غير الصناعية. ومن ثم فإن العناصر الابعد نظرا بين الطبقة الحاكمة كان بإستطاعتهم أن يدركوا أن النظام الذي يضمن إمداد الرأسمالية بقوة العمل المسبقبليه كان جارى تدميره.
وكان نتيجة لتلك الأوضاع أن ظهرت المطالبة بتشريعات حمائية وبأجر يناسب الأسرة. وقد تناسبت هذه المطالب مع الحاجات المتغيرة للرأسمالية ولكنها نتجت أيضا جزئيا من حرص رجال ونساء الطبقة العاملة الفعلي على تحقيق مستوى معيشة أفضل وظروف إنجاب أكثر أمنا ومنازل أكثر نظافة.
جادل منظرو البطريركية مثل هارتمان بأن الرجال تحالفوا مع رأس المال لإستبعاد النساء من بعض الوظائف. وفي حقيقة الأمر، كانت هناك محاولات بهذا الصدد، حيث قام العمال الحرفيون المهرة بإستخدام نقاباتهم من أجل إستبعاد النساء من بعض الحرف. لكنهم لم يستبعدوا النساء فحسب, فلم يكن متاحا لأبناء العمال غير المهرة والعمال المهاجرين فرصة للتدريب على هذه الحرف أكثر من تلك الفرصة المتاحة للنساء. ومن ثم فقد تم إستبعاد أى شخص لم يتتلمذ فى هذه الحرف. إن ما تطرحة هارتمان إذن هو مد لمفهوم البطريركية لحدود عبثية بهدف إعطاء معنى لما تسميه "تفوق الذكر الأبيض". ولعلنا نتجاوز العبثية إذا ما حاولنا أن نواءم بين مفهوم البطريركية والحقائق التاريخية فنقول "تفوق الذكر الأبيض الماهر" الذى لا يمارس التمييز فقط ضد جميع النساء وجميع المهاجرين ولكن ضد غالبية العمال الوطنيين أيضا بسبب كونهم عمال غير مهرة.
والاكثرمن ذلك إن بعض المجالات التى تم إستبعاد النساء منها لم تكن بها إتحادات نقابية أو كانت لها اتحادات ضعيفة، وفى حالة لا تتيح لها إستبعاد اى فرد. إن إقرار التشريعات التى تستبعد النساء من بعض الصناعات قد تم بواسطة البرلمانات البرجوازية نتيجة للإعتقاد بأن ظروف العمل فى هذه الصناعات كانت مضرة لعملية خلق الجيل القادم من العمال – سواء حدث ذلك بشكل مباشر حيث كانت النساء الحوامل تقمن بأعمال تضر بالجنين, او بشكل غير مباشر حيث لم تسمح لهن ساعات العمل بأن يلعبوا الدور المناط بهم لتنشئة الاطفال. اذن فلم يكمن الدافع لاستبعاد النساء في "الرجل البطريركى" وانما ارتبط هذا الاستبعاد برؤية الرأسمالية لإحتياجاتها المستقبلية.
ومن ناحية أخرى، فإن النظرية التى تقول أن أجر الأسرة – أي الاجر الذى يعطى للرجل لا لكى يكفيه فحسب وإنما يكفى لمعيشة اسرته ايضا- كان نتاج مؤامرة رأسمالية بطريركية لإبقاء النساء خارج العمل، هي نظرية لا تستطيع الصمود. ذلك أن أجر الأسرة أصبح فى مصلحة رأس المال, بمجرد أن سمح تطور قوى الانتاج بخلق القيمة التى تكفى لتغيطة تكلفة اعادة انتاج الاسرة بكاملها، وإمداد الراسماليين بربح كاف في نفس الوقت. ويصبح إذن بإستطاعة نساء الطبقة العاملة المتزوجات أن يكرسن أنفسهن للأعمال المنزلية وتربية الأطفال, مما يضمن حالة إنتعاش وإنتاجية افضل لرجال الطبقة العاملة, وظروف صحية وتنشئة أفضل للجيل التالى من العمال. ومع ذلك فلم يشمل أجر الأسرة أبدا الطبقة العاملة بأكملها, وظل هناك عدد متزايد من النساء المتزوجات اللاتى يعملن باجر – حتى لو كان عدد هؤلاء النساء أقل نسبيا من الرجال. كما كان على الأبناء الأكبر سنا الخروج للعمل من أجل الأسرة.
لكن أجر الأسرة لم يحقق فائدة مادية للرجال, حيث لم يكن يكفي سوى لتغطية الحد الأدنى المطلوب لإعادة إنتاج الأسرة، أى القدرالمطلوب للحفاظ على حياتها. فلم يسفر هذا الأجر بالتاكيد عن رفع مستوى إستهلاك العامل الذكر, حيث أنه كان بشكل عام أدنى بدرجة كبيرة من الدخل المشترك للعائلة الذى كان سيتم الحصول عليه فى حالة عمل الزوجة والاطفال. وفي الحقيقية فأن العامل كان يحصل على دخل متضمن أجر العائلة, إلا أن كافة الضغوط القانونية والايديولوجية الممكنه قد استخدمت لتشجيع انفاق هذا الدخل لأجل الحفاظ على حياة الأسرة بكاملها لا على متع الرجل الشخصية.
ومن ثم فإن افتراض أن إرتفاع أجر العامل ليشمل اجر الاسرة، يحقق ميزة للرجل يعنى عدم فهم نظام الأجر فى كليته, كما يعبر عن الاهتمام بشكل هذا النظام لا مضمونه, وعن التشوش في فهم الطريقة التى تظهر عليها الأشياء فى الرأسمالية, حيث يبدو صاحب الأجر كما لو كان السيد المستهلك الذى له حرية إستخدام الدخل الذى يملكه, بدلا من إدراك أن هذا الدخل يجب إنفاقه فى إعادة انتاج الأجيال القادرة على خدمة رأس المال. وفى ظل نظام أجر الأسرة, تعانى المرأة المتزوجة طالما كانت مستبعدة من اامشاركة فى الانتاج الرأسمالى المباشر, ومن ثم فإن مثلها مثل العاطلين عن العمل, تحرم حتى من الظهور بمظهر المستهلك المتحكم. ويعد ذلك جانبا مهما مما نعنيه عند قولنا أن الزوجات اللاتى بلا عمل مقهورات بينما العمال مستغلون. لكن ذلك لا يعنى بأي حال أن الرجال يستفيدون من قهر النساء.
وبالطبع كان هناك بديل للمطالبة بأجرالأسرة يتمثل فى النضال من أجل تسهيلات كافية لرعاية الأطفال, وأوقات مخصصة لانصراف الامهات من العمل, وأجر متساوى. وتبين هارتمان أنه: " بدلا من النضال من أجل أجور متساوية لكل من الرجال والنساء, أراد العمال الذكور الحصول على أجر يكفى للعائلة, حيث أرادوا الحفاظ على الخدمات التى تقدمها لهم الزوجات داخل المنزل. فقد كان من الممكن فى حالة عدم وجود البطريركية أن تقوم طبقة عاملة موحدة بالتصدى للرأسمالية, لكن العلاقات الإجتماعية البطريركية قسمت الطبقة العاملة وسمحت برشوة احد طرفيها (الرجال) علىحساب الطرف الاخر (النساء)".(10)
لكن هل كان ذلك الفعل هو البديل المطروح؟
فأولا لم يكن العمال الذكور يمثلون طبقة موحدة ومنظمة بوعي كما تدعى هارتمان. فلم يكن غالبية العمال حتى اعضاء فى النقابات, وظلوا لفترة طويلة عقب انهيار التشارتية (هامش: الحركة الميثاقية وهي حركة إصلاحية تبنتها الطبقة العاملة الريطانية في النصف الأول من القرن التاسع عشر وطالبت بتعميم حق الانتخاب والترشيح للرجال وبسرية الاقتراع) عازفين تماما عن الانخراط فى نظالات ذات طبيعة عامة. كما قبل هؤلاء العمال أفكار وأطر الرأسمالية ومنها الأيدولوجية السائدة بشأن المرأة. ومن ثم يصعب على المرء ان يتوقع قيامهم بالنضال من اجل تنشئة افضل للاطفال طالما أحجموا عن خوض نضالات من أجل اشياء أخرى.
وثانيا كانت هناك مشكلة بالنسبة لنساء الطبقة العاملة اللاتى يعملن, وهى الخطرعلى الحمل وعلى معدل إنجاب الاطفال. أما الآن, فالنساء فى أى من الدول الرأسمالية المتقدمة, ترفضن إنجاب العديد من الأطفال – إذا قبلن الإنجاب من الاساس. إن إمكانية حصولنا على موانع للحمل, حتى لو كانت غير كافية, لم تكن متخيلة إطلاقا بالنسبة للأجيال الماضية. فبالنسبة لهؤلاء النساء لم يكن هناك بديل لقضاء الحياة فى انجاب الأطفال, غير المرغوب فيهم عادة, سوى الإمتناع عن ممارسة العلاقة الجنسية. ومن ثم فبانسبة لرجال ونساء الطقة العاملة، كان إنجاب الاطفال أمرا واقعا. وفى ظل هذه الظروف، عادة ما يرغب كلاهما فى تحقيق الحماية النساء. ويفسر ذلك –بطريقة افضل من نظرية المؤامرات ذكورية— لماذا كانت النساء تتركن العمل عند الزواج, ولماذا كان الرجال يحصلون على أجر الأسرة.
غير أنه لا زالت هناك حقيقة أن هذه الخطوات الخاصة بأجر الأسرة واستبعاد النساء من بعض الأعمال قد وجهت لطمة لفرص النساء فى التغلب على وضعهن الإجتماعى المتدنى. فقد قدمت الرأسمالية الشروط الكامنة للمساواة بين النساء والرجال, لكن هذه المساواة لم تكن لتتحقق فعليا داخل هذا النظام. فلصالح اعادة انتاج قوة العمل, تم عزل النساء فى المنزل وبالتالي تفتيت وحدتهن. وكان يعتقد أن وظيفتهن تتمثل فى خدمة أزواجهن وأسرهن, وبالتالي فقد حرموا من الاستقلال المالى. إلا ان هذا "النموذج المثالى" لم يعبر ابدا عن واقع حال كل نساء الطبقة العاملة, حيث أن العديد منهن ظللن منخرطات فى العمل المأجور بشكل دائم. غير ان الافكار السائدة التى كانت تروج لمفهوم الاسرة باعتبارة مفهوما مقدسا, كانت تسعى لإسقاط نموذج العائلة البرجوازية على الطبقة العاملة من أجل ضمان اعادة انتاج النوع. و كان أن قبل رجال ونساء الطبقة العاملة هذا النموذج للاسرة باعتبارة النموذج "الطبيعى", حتى لو لم يكن متوافقا مع واقع حياتهم الشخصية.
وحتى فى يومنا هذا , حيث أدى تطور الرأسمالية إلى دفع غالبية النساء الى سوق العمل, فان الصورة التقليدية للمراة لم تختف, وان كانت قد تآكلت بدرجة حادة. إن سلوك المجتمع تجاه المراة وكذلك سلوك النساء نحو انفسهن قد تطور بدرجة هائلة تحت التاثيرالمزدوج لسيطرتهن على الانجاب بسبب ظهور موانع الحمل، ودخولهن سوق العمل. ان الطريقة التى اثر بها تغير الاوضاع المادية على تغير السلوك تجاة المراة تعد فى حد ذاتها ردا على المقولة التى تعتبر قهر المرأة نتاجا لسيطرة أيديولوجيا ذكورية غامضة غير قابلة للتغير.
تجادل هارتمان بأن الرجال يستفيدون من عمل النساء داخل المنزل وتتساءل: "من يستفيد من عمل النساء؟ بالتاكيد الرأسمالية, ولكن بالتاكيد ايضا الرجال, الذين بصفتهم أزواج وآباء, يتلقون خدمات شخصية من النساء داخل المنزل. إن مضمون وحجم هذه الخدمات قد يتغير بحسب الطبقة أو الجماعة الإثنية او العنصرية, لكن حقيقة أنهم يستفيدون من عمل النساء لا تتغير. فالرجال يتمتعون بمستوى حياة أعلى مقارنة بالنساء فيما يتعلق بالإستهلاك الترفيهى وأوقات الفراغ والخدمات الشخصية".
أنه لمن الحقيقى بالطبع أن النساء يتحملن الآن الجانب الأعظم من عبء رعاية الاطفال والاعمال المنزلية. ولكن هل ينتج من ذلك أن الرجال يستفيدون من عمل النساء؟ إن تقسيم العمل يعنى قبل كل شئ أن الرجال يقومون بأعمال مختلفة فى المصنع عن تلك التى يقومون بها فى المنزل . ولكن القول بان عمل اللحام هو افضل او أسوء العمل المنزلى يعنى النظر إلى كل من نوعى العمل بطريقة ذاتية تماما وغير قابلة للقياس. وينطبق ذلك أيضا على وقت الفراغ, حيث يحظى الرجال بأوقات فراغ محددة من حيث الساعات، يميلون إلى قضائها فى أنشطة إجتماعية (مثل كرة القدم)، بنفس درجة نزوعهم إلى الحصول على ساعات عمل أكثر تحديدا. ولكن لا يمكن القول ببساطة ان هذه الساعات اكثر من تلك المتاحة للنساء.
إن العمل المنزلى, وفقا لتعريفة, هو عمل لا يخضع لايقاع مفروض من قبل الاستغلال الرأسمالى, فى المصنع أو مكان العمل. فهو لا يتضمن القيام بمجهود مكثف لعدد محدد من الساعات يتبعها فترة من الاستجمام تسمح بالعودة إلى القيام بهذا المجهود المكثف المحدد زمنيا. ولذلك فأنه لا توجد طريقة لقياس وقت العمل المنزلى ومقارنته بوقت العمل فى نظام المصنع. إن كل ما يمكن قولة بتيقن هو أن كل من عمل المصنع والعمل المنزلى عملان مضنيان يؤدى أحدهما إلى امراض ناتجة عن العمل – وهو ما يفسر لماذا تظهر أعراض أمراض مثل التهاب الشعب الهوائية لدى الرجال بدرجة اكبر منها لدى النساء وكذلك إصابات العمل المفجعة والارهاق الحاد والموت المبكر عادة— بينما يؤدى الآخر إلى تحطيم الروح المعنوية والعزلة وعدم الإحساس بالأمن والعديد من العلل التى عادة ما يتجاهلها الأطباء. إن الضرر الهائل الذى تعانيه النساء ليس إستغلال الرجال لهم بدرجة ما, ولكن عزلتهن وبعدهن عن المشاركة فى العمل الجماعى والتى يمكن أن تعطيهن الثقة لأجل النضال ضد النظام.
وفى الحقيقة فإن مشكلة المنافع التى يحصل عليها الرجال، يمكن ان تظهر فقط بشكل حقيقى فى حالة الخروج عن تقسيم العمل النمطى بين "الذكر العامل" و"الأنثى ربة المنزل". فإزاء الاندفاع المتزايد للنساء المتزوجات إلى سوق العمل, تجد الكثير منهن أن عليهن القيام بتسيير أمور المنزل عقب إنتهاء يوم العمل المأجور الكامل. ومن ثم يكون لديهن وقت للاستجمام أقل بكثير من ذلك المتاح لأزواجهن، حيث يجب عليهن الجمع بين الاعمال المنزلية والعمل خارج المنزل. غير انه حتى فى هذه الحالات فمن المشكوك فيه أن تزيد منافع الأزواج عن كونها منافع هامشية. إن الجوانب المضنية والأكثر إرهاقا فى العمل المنزلى هى تلك المتعلقة برعاية الاطفال، حيث ان "العالة" الكبير على عمل النساء المنزلى هو الطفل. غير أنه ليس الزوج هو المستفيد من وجود الطفل, وإنما رأس المال الذى يضمن وجود مصدر مستقبلى لفائض القيمة. إن مجرد معاناة النساء من عبء مزدوج يتمثل فى فائض القيمة المباشر الذى ينتجونه فى المصنع أو المكتب، وإعادة إنتاج مصادر مستقبلية لفائض القيمة فى المنزل لا يعني أن العبء المفرد الواقع على الرجل هو أقل من ذلك الواقع على المرأة.
وعلى ذلك أريد أن أقول أن الرجال لا يستفيدون من عمل المراة فى الأسرة –حيث يحصل النظام الارسمالى على الفائدة بأكملها— وأنه ليس حقيقيا أن الرجال ورأس المال يتآمرون لأجل منع النساء من المشاركة فى الناتج الاقتصادى .
أننا نعيش فى حقبة يزيد خلالها عدد النساء العاملات فى الدول الأكثر تقدما عن مثيلة فى أى فترة تاريخية سابقة، كما تختلف الوظائف التى يقمن بها عن تلك التى يقوم بها الرجال. وبهذا المعنى يظل تقسيم العمل على أساس النوع باقيا كما كان من قبل. كما تكون أجور الرجال والنساء بعيدة عن التساوي نتيجة لأن النساء عادة ما يقطعن فترات العمل بالإنجاب –وان كان ذلك يحدث بمعدل أدنى بكثير مما كان علية الحال منذ جيلين. ولا يزال متوقعا منهن أن يلعبن الدور الأكبر فى العناية بالاطفال إلى جانب العمل.
غير أن طبيعة الوظائف التى تشغلها النساء يرتبط كثيرا بالتطور الراسمالى فى الحقبة التى شهدت دخول النساء قوة العمل – وبخاصة التوسع فى قطاع الخدمات— أكثر من كونه مرتبطا بوجود مؤامرة ذكورية تريد حصر النساء في مهن بعينها. ويصبح ذلك واضحا بشكل خاص إذا ما قارنا وظائف النساء بتلك التى يشغلها المهاجرون من الجنسين. ذلك أن عمل كلاهما يتركز فى أعمال النظافة والنقل والمطاعم والصناعات الخفيفية وصناعات الأعذية— مع وجود إستثناءات قليلة مثل العمل فى المسابك. ويعود هذا التشابة بين المهن التي يشغلها كل من المهاجرين والنساء إلى أن كلاهما قد دخلا قوة العمل فى أوقات متقاربة. ومن ثم فإن عزل النساء في وظائف بعينها لا علاقة له بالدور الذى يقمن به فى المنزل. وأحيانا ما يقال أن وظائف النساء تمثل إنعكاسا للأمومة والعمل المنزلى, ولكن صناعة تعليب الخضروات لا يمكن بأية حال إعتبارها إمتدادا لنوع العمل الذى تقوم به النساء فى المنزل. ونفس الشئ بالنسبة لوظيفة صرافة البنك وكاتبة الملفات وأمينة الخزينة وعاملة التليفون. وفى المكاتب تلعب النخبة من السكرتيرات المميزات فقط دور الزوجة البديلة للمديرين, أما غالبية النساء العاملات فى وظائف كتابية لا يلعبن هذا الدور بالتأكيد.
وحتى الكساد الحالى لم يؤد إلى طرد النساء بالجملة خارج قوة العمل. وتزعم هارتمان أن "من أعراض سيطرة الرجال ان تعطل النساء لم ينظر إليه أبدا بإعتباره مشكلة. وفى الثلاثينيات, تم التعامل مع البطالة واسعة النطاق عبر إستبعاد النساء من كافة أنواع الوظائف، وتم أتباع نظام أجر واحد للعائلة, وكانت الوظيفة للرجل."(12).
إن ما تقوله هارتمان هو ببساطة تصور خاطئ، حيث تثبت أحدى الدراسات حول العمل فى الولايات المتحدة إن النساء دخلن قوة العمل خلال عقد الثلاثينيات بصورة أكبر منها فى أى وقت سابق فى التاريخ الامريكى, وذلك رغم الخطاب الذى كان يتبناه آنذاك بعض الرجال ومن ضمنهم بيروقراطيو إتحادات العمال مثل صامويل كومبرس, والذى كان انعكاسا لتاثير الازمة. ونفس الشئ ينطبق على فترة الكساد العظيم فى المانيا. فبالرغم من تأييد جميع الأحزاب –باستثناء الحزب الشيوعى— ترك النساء المتزوجات لوظائفهن، فإن نسبة مشاركة النساء فى قوة العمل إرتفعت فى الفترة من 1928 إلى 1935 من 35,3% الى 37.3%. وكان ذلك بسبب تزايد عمل النساء المتزوجات. وحينما كان يلقى بالرجال خارج الصناعات التقليدية, كان النساء يجبرن على الدخول إلى سوق العمل وفقا لأى أجر.
ويمكننا أن نرى اليوم نزوعا مشابها. ولايعنى ذلك بالطبع إن رأس المال قد أصبح منحازا للمراة ضد الرجل, ولكنه يعنى أن رأس المال سوف يستخدم الأيديولوجيا التى ترى أن مكان المراة هو المنزل لأجل فرض أجور منخفضة, وإضعاف إتحادات العمال ووضع ظروف أسوأ للعمل. إن السؤال الذى يجب أن تجيب عليه النظرية البطريركية هو أنه إذا كان رأس المال والرجال قد تحالفا بالفعل فلماذا لم يتم القذف بالنساء خارج سوق العمل وإحلال العمال المتعطلين فى قطاعات المناجم والصلب والسفن محلهن؟
هل طبيعة الأسرة لا تتغير؟
تشترك جميع النظريات البطريركية فى الإعتقاد بأن سيطرة الذكر ظلت على حالها بغض النظر عن التغيرات الاخرى فى المجتمع. إذا فالبطريركية تدوم ويتم النضال ضدها بمعزل عن النضال ضد الرأسمالية. وفى النظريات البطريركية البيولوجية, تعزى المشكلة إلى الإختلافات الجسمانية بين الرجال والنساء. ومن الناحية المنطقية يكون الحل في هذه الحالة هو إستئصال او إزالة هذه المخلوقات. غير أن هذه المقولات من السهل ضحدها، وهي لا تحظى إلا بتأثير محدود فى بريطانيا على أية حال.
أما المقولات الاكثر نفوذا فهى من النوع الذى يطرحه أشخاص مثل هارتمان, التى ترى الرأسمالية والبطريركية بمثابة قوتين مختلفتين تتحالفان ضد النساء. وتقول لنا ان "الماركسيين يبخسون بتأثير القوى الإجتماعية البطريركية الموجودة من قبل والتى يجب على الرأسمالية الناهضة ان تتحداها وتتكيف معها فى نفس الوقت." غير أن هذا الرأي يفترض أن الأسرة بشكلها القديم السابق على الرأسمالية إنتقلت إلى الرأسمالية دون أن يلحق بها أى تغير. وهكذا فان هذه المقولة تعد جزءا من مقولتها الأكثر عمومية بشأن وجود شكلين للانتاج فى المجتمع الطبقى هما العمل والاسرة, ويتضمن أحدهما نمطا للانتاج والآخر نمطا لإعادة انتاج النوع أو التناسل. وتقوم هارتمان بتبرير هذا الزعم عبر نقل جزء من مقدمة أنجلز الاولى فى أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة(16): "ان العنصر الحاسم فى التاريخ هو الانتاج وإعادة إنتاج الحياة المباشرة من جانب، أي انتاج وسائل الوجود كالمأكل والملبس والمأوى والأدوات الضرورية للقيام بهذا الإنتاج، ومن جانب آخر إنتاج البشر انفسهم, أي إنتشار النوع. ويتحدد التنظيم الإجتماعى الذى يعيش فى ظله الناس خلال حقبة تاريخية بعينها طبقا لهذين النوعين من الإنتاج."
ترى هارتمان أن النمطين المذكورين للانتاج متساويا في الأهمية، منتقد بذلك الماركسيين الذين يشيرون إلى الانتاج الاقتصادى بإعتباره نمط الإنتاج الوحيد. وتجادل بأنه :"يبدو أنه ليس هناك إرتباطا ضروريا بين التغيرات فى أحد جانبى الإنتاج والتغيرات فى الجانب الاخر."(17) بمعنى آخر "يمكن ان يتغير كل من نمطى الإنتاج بشكل مستقل عن الآخر, فيمكن محو الرأسمالية مع بقاء السيطرة الذكورية كما هى دون تغير.
إلا أن الماركسسبن دائما ما تبنوا مقولات مختلفة كثيرا عن ذلك. فقد أستطرد أنجلز فى مقدمته لـ "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" قائلا أنه مع تطور المجتمعات الطبقية، لا تصبح القضية هى تعايش نمطى الانتاج، وإنما يظهر "مجتمع تكون فية العلاقات العائلية خاضعة كلية لعلاقات الملكية".(18) فمع تطور الراسمالية كنظام عالمى, أي ككلية, فانها تغلف وتغير كافة الأبنية التي كانت موجودة في العصر السابق على الرأسمالية، بما فيها العائلة.
إن طبيعة الأسرة تتغير,ولا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك. فلم يكن فى إستطاعة الاسرة أن تحافظ على بقائها خلال الإنتقال من الاقطاع إلى الرأسمالية، دون أن تشهد تغيرات جوهرية. ذلك أن هذا الانتقال لم يكن يعبر عن تغير سلمي, وإنما كان بمثابة إضطراب ثورى فى حياة الناس، يتضمن تدميرا لطرق الحياة القديمة, ولكافة الأشكال العتيقة للإنتاج المنزلى, وللوضع التى كانت المراة فى ظله تعتمد فى معاشها على الرجل, وإستبدال هذه الأوضاع بالعمل الماجور المعمم (هامش: أى المفروض على الرجال والنساء دون قصره على أيهما). وبالطبع فان الأسرة تدوم على مر التاريخ وذلك بمعنى بقاء العمليات البيولوجية كما هى وإستمرار إعادة انتاج الحياة. لكن علاقات الإنتاج الإجتماعية تتغير بشكل تام، حيث تخلق الطبقة الحاكمة نوعا جديدا من الأسرة لخدمة مصالحها, ومن ثم فلا يمكن أن توجد الأسرة الجديدة التى خلقتها الرأسمالية بشكل مستقل عن نمط الإنتاج الرأسمالى.
واذا إقترحنا شيئا مختلفا عن ذلك نكون قد أنكرنا أن الأوضاع المادية تستطيع تغيير الأفكار والأبنية الإجتماعية. وترتكب شيلا روبوثام نفس الخطأ حينما تقول أن الأسرة الرأسمالية تحوى عناصر من أشكال الإنتاج الإقطاعي, وبذلك فهى "نمط داخل النمط" (19). غير أن بقايا المجتمعات ما قبل الرأسمالية التى تدوم خلال الرأسمالية لا تظل على الإطلاق كما كانت فى السابق. فعلى سبيل المثال، تعد الملكية أحدى بقايا المجتمع الإقطاعى ولكنها قد تغيرت كلية بواسطة الرأسمالية الى الحد الذى لم يعد لوجودها علاقة بدورها السابق. ونفس الأمر بالنسبة للعائلة التى قد تبدو كما هى –وإن ذلك مشكوكا فيه— ولكن دورها ووظائفها وأسسها قد شهدت تحولا على يد رأس المال. إن إعادة انتاج النوع عن طريق الاسرة ليس نمطا منعزلا، ولكنه جزءا من البناء الفوقى للرأسمالية. إن الغاء النظام الرأسمالى –أى الإطاحة الثورية بالمجتمع – تعنى أن نظام إعادة انتاج النوع، والذى يعتمد على الأسرة, لا يمكن ان يظل على حاله دون تغيير.
تزعم هارتمان أن "مجتمعا ما يمكن أن يشهد على سبيل المثال تحولا من الرأسمالية إلى الإشتراكية بينما يظل مجتمعا أبويا." (20) لكن ذلك غير ممكن, لأنه مع إلغاء المجتمع الطبقى يتم تحطيم الأساس المادى للأسرة الرأسمالية، عبر إضطلاع المجتمع بمهام بتربية الأطفال وأداء الاعمال المنزلية. ولا يعنى ذلك أنه لن تكون هناك مشاكل غداة حدوث الثورة, فالمشكلات التى واجهت الطبقة العاملة الروسية عندما حاولت أن تنجز هذه الأعمال كانت جسيمة. كانت للثورة والحرب الأهلية آثارا كبيرة على حياة الرجال والنساء. وفى النهاية ضاعت الثورة نتيجة فشل الطبقة العاملة فى البلدان الرأسمالية المتقدمة فى إتباع الطريق الروسى، وهذا بدوره أدى إلى إنتكاسات قاسية فيما يتعلق بوضع المرأة. ولكن فى السنوات الأولى للثورة، وبفضل الإطاحة بالمجتمع القديم, شهدت النساء بصيصا من فرص الأجر المتساوى ومشاركة المجتمع فى إنجاز الأعمال المنزلية والمزيد من الحرية الجنسية.
أن القهر الواضح للنساء والذي كان موجودا فى البلدان المسماة بالإشتراكية، لم يكن دليلا على السيطرة الذكورية، وإنما كان دليلا على عدم وجود الإشتراكية. فليس مستغربا أن مجتمعا مبنيا على التراكم، لا يسمح بالقيام بأى إنفاق لأجل إضطلاع المجتمع بعملية رعاية الأطفال. فبدلا من ذلك, كان العبء الواقع على النساء ثقيلا كمثيلة فى الغرب. كانت دور الحضانة متاحة بالفعل فى روسيا بدرجة واسعة, إلا أن النموذج الأكثر إنتشارا للعناية بالأطفال كان الجدة أو بعض الأشخاص المناط بهم القيام بهذا العمل. ولم يكن ذلك بالطبع يتطلب إستثمارا من جانب الطبقة الرأسمالية. إن القبول نظريا بأن هذه البلدان هى بدرجة ما أفضل من الغرب الرأسمالي هو الذى أدى إلى قبول النظريات البطريركية: فاذا كان من الواضح أن المرأة غير مساوية للرجل فى هذه البلدان المسماة بالاشتراكية، فلا بد أن يكون الخطأ خطأ الرجل لا النظام الإقتصادى.
ولا تعد الأسرة، التى تتم خلالها إعادة أنتاج النوع، بمثابة مسلمة تاريخية, ولكنها تتغير مع تطور قوى الانتاج. وليس الأمر كذلك فحسب, بل أنه حتى من فترة إلى أخرى فى الرأسمالية لم تظل الأسرة ثابتة.
لقد تم تدمير أسرة ما قبل الرأسمالية مع صعود علاقات الإنتاج الرأسمالية التى خلقت طبقة من العمال الأجراء الأحرار غير المالكين. إن هذا الوضع خلق على الأقل إمكانية لتحقيق المساواة فى العلاقة بين المرأة والرجل. ولعل هذا هو ما أشار إليه أنجلز فى كتاباته المثيره للجدل فى هذا الموضوع. ففى فترة الرأسمالية المبكرة, وقبل سيادة نظام المصنع, كان نظام العمل يتضمن أن يعمل الجنسين كمنتجين مشتركين. ولعله من الخطأ إعتبار هذه الفترة نموذجية، لأنه من الواضح أنها لم تكن عصرا ذهبيا بأى معنى لكنها بالفعل منحت المرأة حرية نسبية مقارنة بالمستويات السابقة من السيطرة الأقتصادية والجنسية للرجل. لكن ظهور نظام المصنع لم يكن يعنى فقط أن العامل الأجير الفرد, رجلا كان أم أمراة, لم يعد مسيطرا على عمله, ولكن ايضا أًصبح نظام إعادة أنتاج النوع بأكمله معرضا للخطر كما بين بوضوح كل من ماركس وأنجلز(22).
ومن هنا كان تحسن مستويات المعيشة وظهور التشريعات الحمائية ونظام أجر الاسرة, وهى كلها تطورات تلبى مصلحة الرأسمالية. ولكن من الحقيقى أيضا أن الطبقة العاملة من الجنسين رحبت بابتعاد المراة عن العمل فى المصانع.
ومنذ الحرب العالمية الثانية, تغيرت الأسرة بقوة أيضا، حيث أدى تزايد مشاركة المرأة فى قوة العمل، مع تصاعد قدرتهن على السيطرة على أجسادهن عبر وسائل منع الحمل وإقرار الإجهاض قانونا، إلى نمو عدد من السلوكيات الجديدة. فلم يضمحل الزواج، ولكن تزايدت عدد حالات الطلاق بشكل عنيف. ذلك أن الرجال والنساء لم يرفضوا مؤسسة الزواج لكنهم لم يعدوا يشعرون بضرورة أن تكون هذه المؤسة أبدية. كما أن سيطرة المرأة على الإنجاب, ودرجة الإستقلال الإقتصادى التى أصبحت تتمتع بها يعنى أن أحد الخيارات المطروحة هو تغيير شريك الحياة، أو إختيار عدم وجود شريك على الإطلاق – لاحظ تزايد حجم العائلات التى ترعاها الأم غير المتزوجة).(23)
ان معدل إنجاب الأطفال فى البلدان الرأسمالية المتقدمة –بما فيها أوروبا الشرقية— قد هبط بالفعل بشكل حاد, مما يدل على أنه أينما يتاح للمراة الاختيار, فأنها لا تنفق حياتها فى إنجاب الأطفال. وتمثل الهجرة أيضا ملمحا من ملامح الرأسمالية. فمع إندثار الصناعات القديمة, يكون على العمال فى الرأسماليات المتقدمة ترك أسرهم طلبا للعمل. ومع توسع صناعات بعينها, يؤتى بالعمال من جنوب أوروبا وآسيا إلى معاقل الصناعة لتلبية الطلب على قوة العمل الرخيصة والراضخة. ويكون لمثل هذه الحركة آثارا ضخمة على الأفكار التقليدية بما فيها تلك المتعلقة بالأسرة. إلا أن الأسرة تظل مكانا خانق وأحمق يتم فية تعلم وتدريس السلوكيات والأدوار, ويجرى خلالها نقل القيم والتحيزات عبر الأجيال. وتتغير الأسرة لتناسب حاجة الرأسمالية لكنها لا تختفى, حيث يتطلب الأمر إنقلابا خارج الاسرة حتى يتم البدء فى تحقق ذلك.
ما الذي يحافظ على استمرار الأسرة؟
إذن فما الذى يحافظ على بقاء الأسرة اليوم؟ إذا لم نوافق على أن المصلحة المادية للرجال هي التى تقوم بذلك فماذا إذن؟
يعتمد وجود الأسرة على عاملين أساسيين, رغم مساهمة عديد من العوامل المساعدة أيضا. فيجب النظر اولا الى المصالح الاقتصادية لرأس المال فى الحفاظ على بقاء الأسرة. إن الدور الذى تلعبه الأسرة فى إعادة إنتاج القوى العاملة والأجيال التالية من العمال قد تم توضيحه بإستفاضة (24). ويسمح كل من وجود أجر الأسرة –حتى إذا كان هذا الأجر يكفي بالكاد عملية إعادة إنتاج الأسرة ويحتاج إلى الدعم عن طريق المنافع التى تقدمها الدولة وعبر عمل الزوجة لبعض الوقت— ووجود العمل المنزلى المجانى، بأن تكون تكلفة إعادة إنتاج النوع رخيصة للغاية.
وإذا كان النظام الراسمالي قادرا على تحقيق نموا متواصلا خلال عديد من العقود, فأنه يفترض إمكانية إحلال آليات أخرى محل الوظيفة الاقتصادية للأسرة. وكما أوضحت إيرين بروجيل بشكل قاطع فانه قد يكون ممكنا بالنسبة للنظام أن يرفع من من فائض القيمة الكلى إذا كان القيام بمعظم أو كل العمل المنزلى والاعتناء بالاطفال يجري بواسطةالعمل المأجور المنظم على أساس رأسمالى, على ان يتم تحرير جميع النساء من هذه الأعمال، لأجل إنتاج القيمة وفائض القيمة لمصلحة رأس المال (25). بيد أن تنظيم عملية إعادة إنتاج الأسرة بهذه الطريقة يتضمن إنفاق مصروفات هائلة تستثمر فى وضع تسهيلات جديدة للعناية بالأطفال، وهو ما يستحيل القيام به فى ظل المرحلة الراهنة من أزمة النظام الرأسمالي – خاصة وأن الجيش الإحتياطى من العاطلين أصبح وفيرا بما يكفى لتغطية حاجة النظام من قوة العمل المتوقعة.
ومن ثم فلازالت مسئولية إنجاب الأطفال ورعايتهم تترك للنساء، وهو ما يفسر لماذا تستمر الأسرة ويدوم قهر النساء. إن دور النساء كأمهات وراعيات للاطفال يتحكم فى كل حياتهن. وأن قيامهن بالعمل لبعض الوقت، بدلا من العمل المنتظم، هو نتاج لدورهن كأمهات, كما أن الأجر غير المتساوى والمنخفض بشكل عام الذى تتلقاه النساء هو بسبب عدم النظر إليهن كعوائل. فمنذ أن تولد المرإة فى المجتمع الرأسمالي يكون من المفترض أنها ستصبح مختلفة عن الرجل, حيث أن قمة الإنجاز بالنسبة لها هو الأمومة والزواج.
ومن الناحية النظرية, لا يوجد مبرر لوجوب إضطلاع المرأة برعاية الأطفال والقيام بالجزء الاكبر من العمل المنزلى لمجرد أنها تقوم بالانجاب. ولكن فى عالم يضطلع فيه الأفراد –وليس المجتمع — بتكاليف عملية إعادة إنتاج النوع, ويوجد به تقسيم جامد على أساس الجنس, ولا يكون معدلات الأجر للوظائف التى تشغلها المراة مساويا لمعدل أجر الرجل, لا يكون هناك بديل لهذا الوضع. حيث يصبح من المنطقى بالنسبة للمرأة أن تكون هى الطرف الذى يبقى فى المنزل.
إن الحديث عن المشاركة فى العمل المنزلى, وقبول الرجال القيام بدور "ربة المنزل" فى مثل هذا العالم يكون ممكنا فقط بالنسبة لأقلية ضئيلة من الناس، وذلك حينما توجد لدى المراة مهنة أو حرفة تمكنها من تحقيق كسب يساوى أو يزيد عما يحققه الرجل. وحتى آنذاك يكون من الصعب التغلب على الأفكار التى يتبناها المجتمع والقائمة على عدم مساواة المرأة للرجل. وبالنسبة لجماهير العمال تكون مثل هذه المشاركة فى الادوار بمثابة الأحلام التي لا اساس لها من الواقع.
وتستخدم الاعتبارات الأيديولوجية فى تعزيز الأهمية المادية التى تمثلها الأسرة بالنسبة للرأسمالية. لا أقصد بذلك أن الراسماليين هم متعصبين ذكوريين يريدون الإبقاء على النساء فى منزلة أدنى من الرجال –رغم انهم عادة ما يكونوا كذلك. ولكننى أعنى أن الأسرة تقدم بعض الدعامات الأيديولوجية التى تحافظ على تماسك النظام مع بعضه البعض.
ففى كل مرحلة من تطور النظام الرأسمالى كان على هذا النظام أن ينشئ أبنية تربطه بأولئك الذين يقوم باستغلالهم. وتستمر هذه الأبنية فى الوجود فى المراحل اللاحقة من تطور النظام حينما تتطلب حركته الاقتصادية أبنية جديدة. وتندمج الأسرة مع شبكة معقدة من هذه الأبنية التى تستفيد من اقتناع ربات البيوت –المعزولين فى المنزل والمقطوعى الصلة عن التجمعات الأكبر التى تتشكل حول الإنتاج الصناعي— بالأفكار الجامدة الخاصة بوضعيتهن فى المجتمع. فنتيجة لاعتماد النساء على الأزواج فى المعيشة, يمكن إقناعهن بأن أى نوع من التغير الاجتماعى هو بمثابة تهديد لأسرهن وأمنهن. ومرة أخرى, تعتمد هذه الأبنية التى يكون العامل فى ظلها قلق على سلامة زوجته وأطفاله ونفسه أيضا, على تردد العامل قبل المشاركة فى أى إضراب أو احتلال مصنعي أو تمرد . ويستخدم شعار "الدفاع عن الأسرة" في تعبئة العمال للدفاع على الوضع الراهن. ومن ثم فحتى عندما لا تصبح الرأسمالية فى حاجة مباشرة لبعض العناصر المتعلقة بالأبنية المرتبطة بالأسرة والتى تعود الى الماضى (فمثلا لم تعد تحتاج الى تشريع منع الاجهاض الان) فإنها تتخلى عن هذه العناصر فقط تحت ضغوط هائلة، وذلك نظرا لأنها لاتتحمل تدمير أبنية تساعد على ربط العمال بالمجتمع الحالي حتى لو كانت هذه الأبنية هامشية بالنسبة لمصالحها المحورية فى تلك اللحظة.
وبفرض حدوث توسع إقتصادى غير محدود لفترة طويلة من الزمن, فإن النظام يمكنه تطوير أبنية أيديولوجية جديدة لتحل محل تلك الخاصة بالحفاظ على بقاء الأسرة بشكلها الحالى. غير أن تلك ليست هى حالة النظام الذى يتمسك اليوم بأية وسائل للدعم يجدها فى متناوله –وذلك يفسر عدم قدرة جنوب ايطاليا وأيرلندا الشمالية على الإستغناء عن أبنية عتيقة مثل نظام المافيا أو الأورنج. وبالتالى فالنظام الرأسمالى يكون أقل إستعدادا لدراسة التخلى عن بناء كالأسرة التى لازالت تمده بخدمات إقتصادية معينة.
وتحاول النظرية الماركسية للأسرة تفسير إستمرار قهر النساء فى سياق دورهن فى إنجاب ورعاية الاطفال. وتزعم هارتمان أن الماركسية تغفل أهمية اختلاف النوع، أو بمعنى آخر أن الماركسية يمكن أن تفسر لماذا يوجد الناس فى أوضاع بعينها دون أن تستطيع تفسير لماذا هؤلاء الناس هن نساء. لكن الحقيقة هي أن النظرية الماركسية تقوم بذلك بشكل دقيق، وتضع قهر النساء فى سياقه التاريخي، وتفسر إستمرار وجود هذا القهر في ظل المسئولية الفردية للنساء عن إعادة أنتاج النوع, والتى بدورها تحكم حياة النساء بأكملها. وكذلك تضع الماركسية الحل لهذه المشكلة وهو الاشتراكية التى سوف تكون البداية لتحطيم الشروط المادية التى تسبب إضطهاد النساء، والأفكار التى تظهر بناء على هذه الشروط –تلك الأفكار التى نعرفها جيدا حول أن وجود الأسرة واضطلاعها برعاية الأطفال هى من المسائل الطبيعية, وأن بقاء المرأة فى المنزل هو أمر طبيعى. ويمكن للنظرية الماركسية أن تقوم بذلك عبر نقل مسئولية العناية بالأطفال من الفرد إلى الجتمع ككل. ويمكن لذلك ان يفتح المجال أمام عالم جديد لملايين النساء والسماح لهن بالتصرف كأنداد فى مجتمع جديد.
خاتمة
لا تعد النظريات البطريركية فى الواقع نظريات لتحرير المرأة, حيث أنها تبدأ بتفسير أوضاع الرجال والنساء بناء على إعتبارات بيولوجية فجة, بدلا من الإنطلاق من تقدير الوضع المادي للمرأة في المجتمع الرأسمالي. كما لا تشير هذه النظريات إلى طريق للامام لتحرير النساء.
فلماذا اذن أصبحت هذه النظريات تحظى بشعبية كبيرة؟
يجب البحث هنا بشكل شديد الإيجاز فى كيفية تطور حركة المراة منذ أواخر الستينيات.
نشأت الحركة النسائية فى نهاية الستينيات كنتاج لتغير دور المرأة فى المجتمع. فقد كان دخول النساء إلى قوة العمل وتزايد سيطرتهن على عملية الإنجاب يعنى أنه أصبح لديهن أفكارا جديدة حول الدور المناط بهن ومستقبلهن المهنى وتطلعاتهن. وأدى التوسع الكبير فى التعليم العالي إلى تغذية وتطوير مثل هذه الافكار. ورغم ان التعليم العالي شهد تمييزا ضد النساء فى العديد من المجالات, إلا انه كان يعنى أن النساء أصبحن للمرة الأولى قادرات على إحتراف مهن مرتفعة الأجر نسبيا, وذات أجر متساوى مع الأجر الذي يحصل عليه الرجل، ولو من الناحية الرسمية . وبالنسبة لغالبية النساء كان ذلك يمثل تطورا هائلا مقارنة بحياة أمهاتهن وجداتهن.
غير ان الافكار القديمة حول النساء ظلت متأخرة عن مجاراة الواقع. وفى الحقيقة فإن الأفكار الخاصة بالجنس والسلوك الجنسى تغيرت, لكن النظرة القديمة للمرأة كأم وزوجة ظلت ثابتة. إن كافة أنواع التشوهات القانونية السائدة، كانت تعنى أن النساء كن يعاملن عادة بشكل أفضل قليلا من الاطفال حينما يتعلق الأمر ببيع أو تأجير أو شراء السلع أو القيام بعمليات الرهن. وكذلك لازالت الإعلانات ترسم صورة نموذجية للمرأة داخل المنزل –لا توجد صلة كبيرة بينها وبين الواقع.
وكان نتيجة للصراع بين الواقع الاقتصادي والاجتماعي الجديد للمرأة، وبين الأنماط القديمة أن ظهرت أفكار تحرير المرأة. فبشكل ما شعرت النساء بأنهن جيدين مثلهم مثل الرجال، لأنهم كن بالفعل يقمن بأعمال تفوق تلك التى يقوم بها معظم الرجال، إضافة إلى الأعباء المنزلية.
وكان هناك شعور خلال السنوات الأولى من عمر حركة المرأة بأنه يمكن تغيير كل شئ, بل الأكثر من ذلك أن هذا التغيير كان يجري بالفعل. إن أحداث عام 1968 (هامش: هو عام تصاعد الحركة العمالية واليسارية وما ارتبط بهما من أفكار تحررية) أنتجت فئة واسعة مجذرة ومنفتحة تجاة أفكار الحركة النسائية. إن العديد من الأفكار التى طورتها نساء من داخل حركة المرأة –وغالبيتهن الساحقة من المهنيات المتعلمات— ضربت على بعض الأوتار لدى نساء الطبقة العاملة. ورغم صعوبة قياس التغير فى الوعى, لكن نظرة سريعة على التوزيع الكبير لمجلات المرأة خلال الخمسة عشر سنة الماضية سوف تبين الدرجة التى تم بها تناول شئون الجنس والبطالة والعديد من القضايا الاجتماعية الأخرى جنبا إلى جنب مع التقارير المعتادة حول نجوم السينما والعائلة المالكة. وكان هناك دوما هوة واسعة بين الحركة النسائية ونساء الطبقة العاملة, وكان الاتصال بينهما ضعيفا, لكن على الأقل تحدثت الحركة النسائية عن التنظيم داخل صفوف الطبقة العاملة.
إلا أن الأمر اليوم قد اصبح جد مختلف. فقد أدى انخفاض حدة الصراعات الاقتصادية العامة خلال الخمسة أعوام الماضية، والإفتقار إلى الثقة السياسية لدى الطبقة العاملة, إلى حالة واسعة النطاق من الإحباط لدى قطاعات من اللاتي تم تجذيرهن فى الستينيات و بداية السبعينيات. ويبدو أن الحركة النسائية قد عانت أيما معاناة من هذا الوضع. فالآن لم تعد صفحات مجلة Spare Rib هى المكان الذى ستعرف من خلاله عن آخر الإضرابات التى شاركت فيها النساء, وإنما المكان الذي يناقش مشكلات الجنس والعزوبية. كما ان المجلات الخاصة بالحركة النسائية قد تجاهلت بدرجة كبيرة نضالات العمال مثل إحتلال 200 إمراة لمصانع لي جينز.
إن الشعور بعدم إمكانية القيام بأى شئ لتغيير الواقع, يجعل من إنتقاء الأفكار الشئ الوحيد المتاح، وهو ما يتبعه إستبدال المقولات بشأن تغيير المجتمع، بأكلمه بنصائح حول تغيير أسلوب الحياة الخاص بالبعض منا. وبدلا من الفعل فان الحركة النسائية تواجهنا بنزعة أخلاقية مجردة تطالب العدد القليل من الرجال والنساء الذين يقبلون بأفكار تحرير المرأة، بأن "يطهروا" أنفسهم من "الانحرافات" وذلك كبديل عن تغيير المجتمع. أن المنطق المتبع هنا هو أنه اذا إستطعنا تغيير سلوك الرجال فإنه يمكن تغيير المجتمع –كما لو أن الرجل هو المشكلة وليس الرأسمالية. إن النظرية البطريركية قد تطورت إنطلاقا من هذة الافكار وهى بدورها تقوم بدعم هذه الأفكار.
وكما أوضحت سابقا، فإن النظرية البطريركية لا تدلنا بأية حال على كيفية تحرير أنفسنا, ولكنها تطالب القليلين منا بإجراء تصحيحات نظرية بينما تقبل سلبية الكثيرين. وتقوم بعض النساء اليوم بمد النظرية الى نهايتها وتدعون إلى وجود نمطين للحياة منفصلين فى داخل النظام الرأسمالى –منازل مختلفة ومدارس منفصلة للجنسين وحياة إجتماعية منفصلة لهما. ولاتفشل مثل هذه الحلول فى رؤية الصلة بين الوضع المادى والوعى, وكيف يتغير الوعى فحسب, ولكنها أيضا حلول نخبوية بشكل عميق. فهى تفترض وجود مستوى معين للدخل، بما يعنى مستوى معين للسكن وحرية إختيار مكان المعيشة ومدارس الأطفال إلى آخره.
ولا يكون مثل هذا الاختيار متاحا بالنسبة لغالبية النساء. وعندما تتحدث هارتمان عن تساو نسب الطلاق بين الطبقات فإنها لا تأخذ في الاعتبار مدى بؤس الحياة التى كانت تعيشها الأجيال من نساء ورجال الطبقة العاملة، والذين لم يكن بمقدورهم الحصول على الطلاق. والان حيث أصبح من السهل نسبيا الحصول على الطلاق, فلا بد أن هناك آلاف الزيجات التى تستمر نتيجة لعوائق مادية مثل عدم إمكانية إيجاد مكانين للسكن وعدم توفر لوازم المعيشة الرخيصة للأفراد. وتكون مثل هذه الحلول طوباوية بالنسبة لجماهير الطبقةالعاملة ومما يدفع الى قبول الواقع كما هو.
لايجب علينا رفض النظرية اليطريركية وكل ما يرتبط بها من طروحات مثالية فحسب, لكن يجب علينا أيضا أن نؤكد أننا كماركسيين لدينا نظرية لتحرير المرأة قابلة للتحقق ويمكن أن تؤدى إلى تحرير البشرية جمعاء من الاستغلال الرأسمالي والاغتراب. ولكي نقوم بذلك فإن علينا أن نرفض المفهوم المتضمن فى نظرية البطريركية, المفهوم القائم على التحليل الذى تصفه جوان سميث بأنه يصور "المراة بجانب المدفأة والرجل فى ساحة المعركة". لم تكن هذه الصورة أبدا حقيقية بالنسبة لكافة قطاعات الطبقة العاملة بل أنها فى الواقع تتعلق بشكل أكبر بنموذج عائلات "المصرفى والمدير المتوسط ورجل الصناعة والكتبة والعمال المهرة الذين يعملون لدى هؤلاء أكثر مما تعبر عن عائلة العامل الموسمى وعامل الصيانة والعامل الوافد"(27)
وإذا كانت وجهة النظر البطريركية تلك غير صحيحية بالنسبة لوضع المرأة في الماضي، فقد أصبح من الواضح اليوم أنها تمثل رؤية عبثية للمرأة. فالنموذج السائد للمرأة اليوم هو تلك التى تعمل بأجر خلال الفترة الأكبر من حياتها كبالغة. ومن النمطى أيضا انها تترك العمل لفترة إلى أن يدخل الأبناء المدرسة ثم تعود الى العمل المنتظم. بل أن 20% من النساء اللاتى لديهن أطفال تحت سن الخامسة يعملن لجزء من الوقت. إن نموذج المرأة التى تكرس كل وقتها للمنزل هو خرافة، حيث أن النساء تمثلن 40% من قوة العمل, كما ان معدل دخول المرأة الى العمل أعلى منه بالنسبة للرجل.
إن تلك الخرافة تحقق لرأس المال عددا من الفوائد, حيث تمكنه من أن يفرض على النساء أجور إقل وأوضاع وساعات عمل أسوأ. كما تجعل هذه الخرافة النساء يشعرن بأن الوظيفة ليست المهمة الحقيقية بالنسبة لهن، وهو ما يجعلهن أقل ميلا للعمل المنتظم وأكثر ميلا للإذعان لحالة البطالة. وهذه الخرافة أيضا تزيد من العبء المزدوج للعمل المأجور والمنزلى الواقع على عاتق النساء. لكنها مع ذلك تظل خرافة.
وعندما نرى النساء كعاملات لا كربات بيوت منعزلات, فإن رد الفعل لدينا يكون مختلفا. فآنذاك سوف نعتقد أن النساء بإعتبارهن جزءا من الطبقة المنتظمة فى أماكن العمل, تكون لديهن القدرة على بناء التماسك والثقة لأجل تحدي الرأسمالية والإطاحة بها أخيرا. يجب أن يكون ذلك هو هدفنا. وعندما نكون بصدد عملية بناء حزب ثورى يمكن أن يقود إلى الإطاحة بالرأسمالية, يجب أن تكون لدينا صورة عن الطبقة العاملة التى تشمل النساء كجزء لا يتجزء من قوة العمل. غير انه عادة ما يقال ان ذلك لا يحل مشكلة التحيز الجنسى للرجال حتى فى داخل الحزب وحتى بعد الثورة. لا يمكن لأحد ان ينكر ان ذلك حقيقي, الا ان الحل الذى نقدمه لهذه المشكلة يتوقف على ما اذا كنا نرى محاربة التحيز الجنسى كشئ منفصل عن الصراع الطبقى أو كجزء لا يتجزأ منه. اذا اخترنا الاجابة الثانية فيجب الا تكون استراتيجيتنا هى وجود حركة مستقلة للمرأة منفصلة عن الحزب. بل يجب ان نجعل الحزب والثورة الاشتراكية معبران عن تطلعات ومطالب المرأة كجزء من مطالب الطبقة العاملة. ويعنى ذلك الاعتراف بحقيقة قهر المرأة، والتى تجعل من الأصعب على النساء الانخراط فى كافة مستويات الحياة السياسية, والتى تضع على عاتقهن العبء المزدوج المتعلق بالمهام المنزلية ورعاية الأطفال إضافة إلى العمل المأجور.
وخلال محاولاتنا التغلب على هذه العقبات التى تعانى منها كافة النساء, فإننا نحتاج إلى آليات خاصة كصحيفة للمرأة, وإجتماعات للنساء, والى جعل عضوات الحزب يأخذن دورا نشيطا وقياديا فى كافة نواحى العمل. إن كل هذه الآليات تدرك المشكلات الحقيقية التى تواجهها النساء، وتحاول التغلب عليها بطريقة مادية لا بتقديم النصح. وانه لمن الواضح أن تقديم التنازلات لأى من النظريات البطريركية, أو لفكرة أن الرجال هم الأعداء، لا يعد فقط غير قابل للتطبيق ولكنه يحدد المشكلة بطريقة خاطئة, ويشير إلى المظهرلا إلى جذورة. إن الثورة الاشتراكية والتخلص من المجتمع الطبقي وحدهما يقدمان لنا إجابة على كيفية الفوز بحريتنا.
ملاحظات
1- Juliet Mitchell, Psychoanalysis and Feminism, London 1975.
2- Sally Alexander and Barbara Taylor, ‘In Defence of Patriarchy’, New Statesman, January 1980.
3- German Ideology, Moscow 1964, p.35.
4- Roberta Hamilton, The Liberation of Women, London 1978, p11.
5- Christine Delphy, The main Enemy, WRRC, 1977.
6-Heidi Hartmann, ‘The Unhappy Marriage of Marxism and Feminism’ , Capital and Class, no 8, Summer 1979.
7-Ibid.
8- Marx, Capital, vol 1, London 1976, p 517.
9- Engels, The Conditions of the Working Class in England, Moscow 1973; Marx, Capital, vol 1, London 1976 p 521.
10- Hartmann, op.cit.
11- Ibid.
12- Ibid.
13- Ruth Milkman, ‘Women’s Work and Economic Crisis: some lessons of the great depression’, Preview of Radical Political Economy, 1976.
14- Helen bark in Bessel and Feuchtwanger Social Change and Political development in Weimar Germany, London 1981, pp 162-3.
15- Hartmann, op.cit.
16- Engels, The Origin of the Family, Moscow nd.
17- Hartmann, op.cit.
18- Engels, op.cit.هذه النقطة تجاهلتها هارتمان كما تجاهلتها جوان سميث أثناءمحاولتها لتطوير تحليل حول النمطين
19- Sheila Rowbotham, Woman’s Consciousness, Man’s World, London 1973.
20- Hartmann, op.cit.
21- الاطروحات التي اقدمها تدين للمقال الممتاز لجوهانا برينر Women Self-Organization, A Marxist Justification, Against the Current, New York, Fall 1980.
22 –Marx, Capital, vol 1, London 1976; Engels, Conditions of the Working Class, op.cit.
23 - تطرح هارتمان مسالة تزايد معدلات الطلاق من زاوية تساوي هذه المعدلات بين الطبقات. لكنها لا توضح لماذا حدثذلك في الوقت الحالي. لأنه للمرة الأولى اصبحت نساء الطبقة العاملة لديهن الفرصة للقيام ما كانت تتمتع ببه نساء الطبقة العليا طول الوقت، وهو ما يرجع إلى الاستقلال الاقتصادي النسبيالذي يتمتعن به، رغم كل البؤس الذي يعانين منه.
24- أنظر إلى المناقشات التي تناولتها انترناشيونال سوشياليزم في اعداد 100 و104، بين جوان سميث وأيرين بروجيل.
25 – Irene Bruegel, ‘What Keeps the Family Going?’ IS (new series)3.
26- Joan Smith, ‘Women’s Oppression and Male Alienation’ IS (new series) 3.
27- Ibid.
#ليند_ساي_جيرمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟