|
سأم القاهرة
سها السباعي
الحوار المتمدن-العدد: 4010 - 2013 / 2 / 21 - 17:39
المحور:
الادب والفن
أعجز عن ملاحقة الأحداث اليومية السريعة، فلا من هدنةٍ بينها. أتناول إفطاري أمام برامج التوك شو الصباحية مضطرةً حتى أُلم ببعض ما حدث في اليوم السابق، لإن الإنهاك النهاريّ لا يسمح لي بالسهر، والصداع لا يمنحني رفاهية الاستماع إلى المتشابكين بالحوار بعد يومٍ طويل.
في الحادية عشرة صباحًا، وبعد أن وصل كلٌّ إلى مقر عمله وخلت الشوارع جزئيًّا إلاَّ ممن يبدءون أعمالهم متأخرين، أصحاب الأعمال الخاصة مثلي، أجد وقتًا لقدحٍ إضافيٍّ من القهوة في هذا المقهى الفاخر أسفل بناية سكنية جديدة لم يسكنها أحدٌ بعد، لست أدري لماذا لا يفهم صاحب البناية أن النصف مليون الذي يطلبه ثمنًا لشقة رقم مبالغٌ فيه تمامًا في الظروف الحالية. في هذه الساعة من النهار لا يوجد زبائن غيري، فالمقهى رغم حداثته اشتهر بعرض المباريات والتي غالبًا ما تكون مساءً. عبر واجهة المقهى من الداخل أشاهد ربات البيوت غادياتٍ يحملن حافظات نقودهن، وعائداتٍ يحملن بالإضافة إليها أكياسًا ممتلئة بالخضار ولوازم المنزل. البعض يحملن بالإضافة لهذا أطفالاً رضع أو يسحبن أطفالاً في الثانية أو الثالثة. البعض الآخر يحملن حقائب المدرسة وقد اصطحبن أطفالهن بعد انتهاء الفترة الصباحية لمدارسهم الحكومية، ويسير أمامهن الأطفال يشربون عصير القصب أو يأكلون من أكياس البطاطس المحمرة والذرة بالجبنة، أي شيء يملأ بطونهم حتى الانتهاء من إعداد الطعام. أطفالٌ آخرون يذهبون في الاتجاه المعاكس لحضور الفترة المسائية. هؤلاء وأولئك لا يجدون وقتًا للشعور بالسأم. وأريد أنا أن أستخلص من هذا المشهد لوحةً ما فلا أستطيع، الواقعية هنا مسرفةٌ في الوضوح.
عندما أحول نظري إلى الداخل يبدأ بودلير في الكلام ناصحًا بأن أكف عن المراقبة والانتباه لما يجري وأن ألقي كل هذا خلفي، وأن ألتفت لشؤوني الخاصة. لكنني أرد عليه بعناد طفوليّ أن هذا غير ممكن. وأسمع رده عبر جلسته المتراخية أمامي على طاولة المقهى ومن خلال نظرة عينيه اللاهية: "أنتِ وشأنك"، ولكنه أبدًا لا يمل من معاودة نصحي في الصباح التالي. ذات مرة أخبرني أنه عندما قابل الشيطان بنفسه عرف أن الأمور تتساوى في نهاية الأمر، فلمَ المشقة؟! فابتسمتُ في انتصار لأنني وجدتُ من كلماته – على لسان الشيطان – ما يرد على سؤاله :
إن هذه المشقة هي التي تجعل هناك "إمكانية أن تخفف وأن تقهر، طوال حياتك، مصيبة السأم الغريبة هذه، والتي هي سبب كل أمراضكم وكل تَقْدِماتكم البائسة". فتحفز في انتصارٍ مماثل وبابتسامةٍ ساخرة قال : "هذا يحدث فقط بعد أن تراهنوا على أرواحكم وتخسروها وليس قبل ذلك".
وجدتني أهز رأسي في إشفاق على نظرته الأحادية للأمور، وقلت له: أيتحتم أن تكون الخسارة لصالح شيطانك؟ يا عزيزي، لقد تطورت الأمور كثيرًا وأصبح لكل منا دافعه الخاص، لقد سحقت المئة عام الأخيرة شيطانك هذا إلى نثارات صغيرة، حصل كلٌّ منا على أحدها، ولوفرة العرض، فإننا نقلب فيهم كيفما شئنا، ومن لم يعجبه المعروض، يتجه إلى طلب واحدٍ بمواصفاتٍ خاصة كلٌّ بحسب ذائقته ، إلى درجة أن يلبسه من نور الملائكة ومن بهاء الشهداء ومسوح الأتقياء. وكلما نجح الشيطان "العمولة" في التبرير، وتسويغ الأفعال، كلما وجد مخرجًا من ورطة ما، كلما زاد من مساحة الاطمئنان، يزداد الإقبال عليه، ليجد صاحبه الكثير من الطلبات المتوسلة أن يقبل المشاركة فيه. وهكذا. لقد ولى زمنك الجميل حين كان شيطانٌ واحدٌ فقط يوزع ساعات عمله على العديد منا، وبذلك يمنح الآخرين هدنة لالتقاط أنفاسهم، أما الآن ، فالشياطين الصغيرة الخصوصية تستطيع أن تعمل أربعًا وعشرين ساعةً، سبعة أيامٍ في الأسبوع، لا تحصل على أجازات وتعمل ساعاتٍ إضافية في العطلات الرسمية. لذلك، فالأرواح كلها خاسرة، والسأم دائمًا ما يتم قهره. انظر لهاتيك النسوة، يجدن ما يبدد السأم صباحًا ومساءًا وليلاً، لقد خسرن أرواحهن منذ زمن طويل!
هنا مال على المنضدة بكامل جذعه حتى كاد أنفه أن يمس أنفي وقال:هذا تعميمٌ غير صحيح، شيطانك الخاص لا يباشر عمله جيدًا، وإلاَّ ماذا تفعلين هنا بجلستك في هذا المقهى الممل ، بتناولك قدحًا بريئًا من القهوة؟
رجعت بظهري إلى الوراء لأتأمل وجهه غير مصدقة عدم استيعابه للأمر حتى الآن، ورددت عليه في خيبة أمل باديةٍ: أتمزح؟ ماذا تظن أنك تفعل هنا إذًا؟! إن سأمك الباريسيّ خير مبددٍ لسأمي القاهريّ.
تراجع في مقعده مطمئنًّا وعلى شفتيه ابتسامةٌ راضية. الخبيث، لقد كان يختبرني!
#سها_السباعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقطة ومن أول السطر
-
البجعة السوداء - من دار الأيتام إلى خشبة المسرح
-
الضباب ومقر البرلمان
-
في انتظار الحُكم
-
وماذا بعد يا مصر؟
-
قسَم الملعب وقسَم الميدان
-
نهضة مصر - مسيرة تمثال
-
كاتمة الأسرار – مصر والمرأة المصرية في أعمال محمود مختار
-
إنها ليست كراهية، إنه حب امتلاك
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|