|
الضياع بين دجلة والدانوب - قراءة فى قصائد مجموعة ( أطياف حالمه) للشاعر المغترب صباح الزبيدى
أحمد السعد
الحوار المتمدن-العدد: 4010 - 2013 / 2 / 21 - 16:01
المحور:
الادب والفن
يقول نيرودا (( لو وضعوا الشاعر فى الجنة لقال اريد وطنى )) هكذا تطالعنا قصائد صباح الزبيدى ..قصائد تمتلىء بعطش لا يرتوى الى الوطن ، الى مدينته العمارة حيث الماء والخضرة والبساطه وحيث الفقر والمعاناة والقهر والعوز . انه طائر أختار منفاه بنفسه ولكنه لم يتعايش مع الغربه ولم يتخذ من بلاد الغربة وطنا بديلا بل ظل العراق هو الوطن وهو المعشوقة وظل حلم العودة يتجسد فى كل كلمة وفى كل سطر من سطور مجموعاته الشعرية الثلاثة .هذا الوله بالوطن البعيد وبالعودة اليه والحنين الى ذكريات الطفولة والصبا يمكن أن يحول كل شخص الى كائن شفاف وعاطفى فكيف بشاعر رقيق ومرهف الحس كصباح الزبيدى ؟ فى الغربة تتضخم الأشياء وتتعملق المشاعر حتى تصل الى حد يكون الشاعر مثل اناء شفاف ينضح ما اختزنه من وجد وشجن وحين يكون الوطن مستحيلا آخر ، يكابر الشاعر متحديا ومحتميا بالحب والحنين ليقاوم حزنه وضعفه وانهياره ليواصل –فى محراب عشقه السرمدى – صلوات العشق المحموم للحبيب البعيد الذى تفصله عنه بحار وجبال . قصائد صباح الزبيدى لا تأخذك بعيدا وأنت تقرأها عن العراق وعن مدينته العماره فأنت تشم انفاسها فى كل جزء من القصيدة وتحس بروحها تغمرك وبحميميتها تهوم حولك فيتشكل فى وعيك عالم متخيل للنهر الهابط من أعلى كردستان فى رحلته الطويلة الأزليه نحو البحر فيمر بالعمارة ليرمى السلام على أهلها الفقراء. الأنا فى شعر صباح الزبيدى تتسيد معظم قصائده ، فالشاعر يطرح تجربته الأنسانيه كعراقى فى المنفى الذى اختاره بنفسه لكنه يظل منفى لأن الشاعر منتزع من وطنه أنتزاعا أو أن وطنه هوالذى انتزع منه بقسرية ووحشية ولا انسانيه .أنه منتزع من ذكرياته ومن ملاعب طفولته وصباه ، من خبز امه وحكايات ابيه ومن جيرانه ورفاق طفولته وحين اشتدت الهجمة وحشية وشراسه وصار لابد من الرحيل أو الفناء والموت أختار صباح الزبيدى الرحيل هاربا من جحيم لم يعد له فيه مكان ، رفض – كما فعل الكثيرون – أن يعيش عيشة القطيع الذى كان يساق الى محارق الحروب والموت بلا رحمه حيث اوصدت ابواب السجن الكبير على شعب بأكمله . الـ(انا) فى شعر صباح الزبيدى حاضرة فى جميع قصائده تقريبا فهو العاشق الوحيد وسط مناخات لم يألفها هو ابن العمارة مدينة البسطاء الطيبين حيث ينسرح دجلة متمهلا وسط النخيل والبساتين لكنه يجدنفسه الآن فى عالم مختلف تماما ، الدانوب بدل دجله ، الثلوج بدل الشمس الدافئه ، الناس بلغتهم الغريبه وعاداتهم وطعامهم وعلاقاتهم وأخلاقهم ، ليسوا كأهل مدينته ، أنهم فرحون ، مقبلون على الحياة يتبادلون الأبتسامات والقبلات فى مناسباتهم وأحتفالاتهم ، لم ير صباح فى وجوههم ذلك الحزن والأسى الذى فتح عليه عيناه فى وجوه الناس فى مدينته ورغم انه أقتحم حياة الناس وتعايش معهم ، أحبهم وأحبوه وأحترموا غربته وحزنه وشجنه وأنقطاعه عمن يحب الا أن الشاعر لم يذب بينهم ولم تختف روحه العراقيه ، ظل ملتصقا بالعراق روحا ووجدانا ، ظلت روحه ومشاعره مشدودة الى تلك البقعة البعيده من الأرض حيث ملاعب طفولته وصباه .أنه العاشق الغارق حتى أذنيه بعشق العراق ، المدمى القلب لما حل ويحل بوطنه فيلوذ بالورق ليصب عليه جام غضبه حينا ووجده وهيامه وشوقه العارم للعودة احيانا . صباح الزبيدى عاشق ، وهو عاشق من طراز فريد : انه لا يعشق أمرأة من لحم ودم ، بل أمرأة اخرى – أزليه – أمرأة صنع تفاصيلها من خيالاته ، من وجعه وعذاباته وأنتظاره ، أنها (بيغماليون ) خاصة بصباح ، امرأة يهرب اليها عندما يعم الخراب والموت والمأساة ويغطى الذكريات سحاب الحزن والأسى واليأس وحيث لم يعد للحب وجود ولكنه وجد فيها مخلصه : " رغم أغتيال الشمس والقمر وفى زمن لم يعد للحب من وجود فتعالى يا سيدة النهار الآتى " فسيدة النهار الآتى هى من سيمزق هذا الديجور ويطلق الشمس من أسارها ويعيد للحياة ألقها وللأشياء جمالها فيرتمى بين احظانها ليفرغ على صدرها شحنات الألم والوجع . بينما كان ليل الدكتاتوريه يجثم على ارض الرافدين ،كانت المنافى تفتح ابوابها للهاربين من الجحيم حيث الحرية والكرامة وحيث الأمن والأمان وكان الشاعر واحدا منهم لكنه لم ينبهر من التجربة ولم يغرق فى تفاصيل الحياة ولم ينسه العيش بين اناس غرباء فيمارس –وحيدا – طقوس الشوق واللهفة ويواصل صلوات المحبة فى معبد الذكريات ويعيد حكايات الصبا والطفولة ويستعرض المشاهد والوجوه والأسماء ( المشرح والكحلاء والميمونه والمجر والحلفايه ) وكل اسم منها يثير فى قلبه غصة الألم ، ألم الفراق ويهزه بعنف شوقه للأرض ، لملاعب الصبا ، لأغانى الفلاحين الحزانى . وحين انهارت الدكتاتوريه كعملاق من طين وأشرق على العراق صبح جديد ، أشرق الفرح ثانية فى النفوس والقلوب وأتجهت الأبصار نحو العراق الجديد الخارج للتو من آتون المآسى والنكبات ، صار الحلم حقيقه والعودة للوطن صارت مجرد تذكرة سفر ولكن الغزاة الذين جاؤوا بدباباتهم وطائراتهم وجنودهم ليمعنوا فى القتل والتخريب ليأدوزا الفرحة فى العيون ويقتلوا الحلم الوليد ..الوطن خلع ثوب الحداد ليرتديه من جديد ، ومع الغزاة جاءت أسراب الجراد ليلتهم الأخضر واليابس ليصبح العراق فريسة للنهابين واللصوص والأفاقين ك " ووطن الطفولة بين انياب الذئاب تلهو بجسده خناجر الغدر وسيوف الطغاة ويا وليتاه... صار كبش فداء فى مذبح الشهوات " الوطن الذبيح الذى خرج للتو من مسلخ الدكتاتوريه يدخل مسلخا آخر أكثر وحشية وخسه فينتزع لحمه الحى ليتقاسمه اللصوص وتجار السياسه وباعة الكلام المعسول ، ضاع الفرح وتلاشت الأبتسامات وماتت الآمال وقتلت الأمانى وحل الخوف فى القلوب وتغلغل فى النفوس حتى صار الكل يخشى الكل وماتت الأواصر والمحبة والألفة وحل الشك والريبة . " اليوم لا أبصر من الآحلام سوى خيالها وفى رياض الصبا أرى أوراق الشجر العارى ترسم فوق الأرض لوحات عالمنا القاسى وأظل فى زمن طقوس الفوضى أبحث عن أحلامى الأولى عن كبرياء النخيل والربيع المتوهج فى شجر الصفصاف فلا أجد غير صمت البيادر " فى عراق الطفولة الذبيحة والموت المجانى والأحلام الموؤودة والأمانى القتيله لم يبق للشاعر سوى استعادات لومضات السعادة التى استرقها من الزمن فى لحظات البراءة الطفولية هناك حيث تعانق سنابل القمح نسمات الجنوب فى مدينته الحالمه على ضفاف دجله .فى وطن مجهول المصير وطفولة مستباحه : "وأطفال فى زنزانات الكلمه يحملون قناديل الخرافه يغنون أغنية لحنها الجن فى حارات خرساء " هنا تنسحق الطفولة تحت همجية الخرافة التى يلجأ اليها المستضعفون حين لايجدوا ما يحميهم فتصبحهى الملاذ لأرواحهم التائهه الباحثة وسط الهجير عن ظل .والأمهات الثكالى أردن ان يخلعن ثوب الحداد عندما هلت البشرى بالخلاص وكأن مسيحا جديدا يبعث من عمق المعاناة والقهر والوجع الذى عمره خمسة وثلاثون عاما تراجعن ليلبسن السواد من جديد لأنهن مازلن : "مكبلات بشريعة رجال الغاب وخرافات اهل الفال " تبدل وجه السجان والسجن مازال موجودا والأبواب مازالت موصدة بأحكام وآلاف الأقفال والسلاسل تلتف حول السواعد والأرجل فالغيوم التى أنقشعت جاءت بغيوم اكثر عتمة ، أنها غيوم الكآبة والحزن تلف سماء العراق من جديد وكأن موجات هائلة من الجراد تزحف نحو الحقول لتحيل الأرض خرابا وتزرع اليبس والبؤس فى القرى والمدن وتستل من قلوب الناس الفرح . ********************************************* الحزن علامة فارقة فى شعر صباح الزبيدى ، انه حزن فريد : حزن اليتم والغربة والضياع والوحدة ، هو حزن عاشق أضاع محبوبته فيبحث عنها فى أقاصى الأرض فلا يجدها ويغوص فى أعماق وجدانه بحثا عن شظايا لحكايات قديمه ويجمع من ذكرياته تفاصيل وجهها وجسدها ، انها محبوبته – الأزليه – التى أضحت تسكن حلمه وتعيش فى وجدانه وتسبح فى كأسه وفى عملية بحثه تستفيق المحبوبة أمامه كحورية البحر ، كأمرأة لم تر عيناه لها مثيلا ، فى عينيها صفاء دجله وعنف أمواجه و شراسة فيضانه وفى أستدارة وجهها خبز امه وفى شفتيها نداء لروحه الظمآى ، يقطر من شفتيها تمر العراق وماء دجله وتنام فى شعرها جنيات شعره فتلعب بخواطره وتستبيح خيالاته فينتشى بسحرها مأخوذا بسحر وجودها المتخيل فيحاول الأمساك بالحلم كما فعل غويا – الرسام الأسبانى – فيفر الجمال من بين يديه ويختفى فتختفى معها بهجته ويظل يطارد ها فى أحلامه لكن فى دمه الآن يهبط الخريف الذى استوطن قلبه مذ وطأت قدماه أرض المنفى : " وفى ليل هذا الشتاء الطويل أضيع فى دوامة البعد والألم وأتيه عذابا يرحل اليك مع طيور الحزن فى هجرتها أبحث عن وطن فيك فالدرب اليك بعيد "
فى لحظات الذروة ، ذروة الألم والوجد والأنسحاق تتماهى المعشوقة مع الوطن ليصبحا صورة واحدة تشكلان فردوسه المفقود ، يهرب الجمال من بين يديه فيهرب العراق خلف الخرائط والذكريات ، يهرب فى لجة الدخان والدم والبارود والحقد والموت والتمزق . صباح الزبيدى لا يفلسف وجعه ولا يرمز آلامه وشوقه لوطنه ولوعته فى فراقه وتمزقه شوقا للعودة اليه ، انه يطرح كل هذا الحب والوجد والشوق والوله والتمزق بعفوية وبلغة بسيطة شفافة غير مغرقة فى تفاصيل مشتته وشطحات فلسفية ورمزيه تبعدك – وأنت تقرأ قصائده – عن ما يريد أن يقول ، انه يخاطب قارئة مخاطبة القلب للقلب حيث تكون اللغة جسرا غير محفوف بمخاطر الوقوع فى سوء الفهم أو التهويم حول المعانى ، انه يجعل اللغة فى خدمة الفكره ويشكل صوره الشعريه بملامسات عفوية وجميله : " أماه تقتلنى الغربة وتحيينى ومازال الحلم يراودنى لتكتحل عينى بيوم اللقاء " أشعر وأنا أقرأ قصائدصباح الزبيدى وخصوصا فى ديوانه (أطياف حالمه ) اننى أمام طفل مشدوه بتجربة جديده يتعايش معها لكن لا يتآلف ، لا يندمج فى المشهد لأنه غريب عنه ، فهو مشدود الى السماء الأولى ، الى مشاهداته الأولى ، الى الوجوه الأليفة القريبة الى قلبه ، تلك الوجوه التى يفتقدها ولكنه – فى احلامه – يراها كل يوم . هذا الطفل لا يستسلم ابدا . أنه مصر على مواصلةحلمه : حلم العودة لتكتحل عيناه باللقاء ، العوده الى مدينته حيث سيعانق سنابل القمح ويطارد طيور الماء .
#أحمد_السعد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا يهولون حجم حزب البعث ؟
-
الشعارات والهتافات التى رددتها الجماهير يوم عاشوراء
-
دور المثقف فى عملية التغيير
-
خمس قصص قصيره جدا
-
الحراك السياسى العراقى والولادات الجديده
-
رسالة مفتوحه أسرة وكتاب وقراء الحوار المتمدن
-
هل انتهى شهر عسل حكومة المالكى والأدارة الأمريكيه
-
غرامة 400 الف دولار لصحفية سودانيه بسبب مقال حول لبنى الحسين
-
هل تستبعد الأيادى الأمريكيه عن أنقلاب هندوراس ؟
-
عن(أشرف) مرة أخرى
-
يا ترانه الجميله ....أمك ما زالت تبحث عنك
-
دفاعا عن حركة الجماهير الشعبيه من أجل الحقوق الديمقراطيه وال
...
-
عن اشرف مرة أخرى
-
بيان استغاثه
-
حزب توده يفتح النار علىمرشد الثورة على الخامنئى
-
من هم قراء الحوار المتمدن ؟
-
حول الأسرة والمدرسة
-
أنشطه ثقافية ينهض بها فرع البصرة للحزب الشيوعى العراقى
-
قاسم محمد...وداعا ايها الرائع
-
المجد للرابع عشر من نيسان
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|