|
التجدد و التفرد و التضاعف .. قراءة في ثلاث مجموعات قصصية
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 4010 - 2013 / 2 / 21 - 08:52
المحور:
الادب والفن
بين أيدينا ثلاث مجموعات قصصية لثلاثة كتاب لكل منهم صوته الإبداعي الخاص ، و تقنياته ، و رؤيته للوجود ، و بين هذه الرؤى و التقنيات الفنية الخاصة ، و مغامرة الكتابة ، و من ثم مغامرة القراءة التي نحن بصددها الآن، علاقة تفاعل ، و تداخل ، نرجو أن تكشف عن لغة تأويلية مختلفة تتناسب مع ما في الإبداع من جهد تأويلي مستمر للعالم . نلمح عند المبدع الدكتور جمال التلاوي تكرارا لأخيلة الولادة البهيجة ، و ما تحمله من دلالات التكوين المتجدد الغيبي انطلاقا من تداخل النصي مع التاريخي في آن ، و نجد سارد إسماعيل بكر يحرص على تحليل شخصيات تكشف مغامرة السرد عن التحامه بها ، و اكتسابه قوة التغير منها ، و من داخل المونولوج نجد الوظائف القصصية تعزز من أخيلة النمو السلبي، أو الإيجابي باتجاه الحياة أو الموت عند ابتسام الدمشاوي في دفء مغادر . أولا : أخيلة الولادة الأبولونية في مجموعة " 16 – 11 " للدكتور جمال التلاوي : تتواتر أخيلة الولادة البهيجة القادمة في مجموعة " 16 – 11 " للدكتور جمال التلاوي ؛ فنستطيع أن نلمح تكوينا قويا في لحظة نشوء تحمل دلالة الحدس الدائرية ، و كذلك الخلود ، أو استبدال سياق واقعي ، أو حضاري بعينه . هذا التكوين لا يمكننا تحديد ملامحه إلا من خلال أساطير التجدد المناهضة لعبث القتل ، أو فقدان القوة الواقعية ؛ فهو في مجموعة جمال التلاوي يشير إلى أمرين : الأول : أنه في حالة تشكل ، فالطفل ، أو الآخر الحلمي الذي ينبع من وعي الشخصية غيبي بدرجة كبيرة ، و لكن مع غيبيته تتشكل من خلاله رؤية السارد للعالم ، و تنبثق منه شخوص القصص ، و تتطهر آلامها ، و دماؤها من خلاله . إنه تكوين يكتسب قوة البعث من الماضي ، و رواسب التجدد و الخلود الكامنة في اللاوعي الجمعي ؛ ليؤسس من خلالها التمرد على الذات الواقعية المتكلمة ، و كأنها لم تولد وقت كتابة النص ، و إنما هي في حالة انتظار لالتحام الواقع العبثي بالأسطورة ، و هذا ما تطمح إليه نهايات نصوص هذه المجموعة . الثاني : الطفل بما يحمل من دلالات أحلام العودة عند أوزير ، و غيره يمثل عنصرا سياسيا ، و ثقافيا مهمشا أو مطمورا تحت سياق ثقافي مأساوي أكبر يسوده الروتين ، و القتل ؛ و رغم كونه هامشيا فإنه يحاول استبدال الأصل من خلال اندماج الطفل النصي بالتاريخي ، فيجدد بنية الأخير من خلال الدلائل السياسية الكامنة في صيرورة النص نفسه . و أشير هنا إلى أن نصوص جمال التلاوي تلتحم بالسياسي دون أن تتخلى عن أدبيتها ، و تحقق التداخل الأصيل بين أبنية النص و التاريخ كما تشير الدراسات الثقافية المعاصرة المتجاوزة للبنيوية . و بهذا الصدد يرى تيري إيجلتون أن النص نسيج من المعاني ، و الإدراكات ، و الاستجابات التي تكمن في الإنتاج التخيلي للحقيقي ؛ فالحقيقي النصي يرتبط بالحقيقي التاريخي ، ليس بوصفه تحويلا تخيليا له ، و لكن بوصفه نتاج بعض الممارسات الدالة التي مرجعها التاريخ نفسه . و يسهم كل منهما في بناء و تفكيك الآخر ( راجع – تيري إيجلتون – نحو علم للنص – ترجمة عيسى علي العاكوب ضمن نظرية الأدب في القرن العشرين – جمع ك.م نيوتن – دار عين للنشر ط 1 – سنة 1996 – ص 260 و ما بعدها ) . تظل إذا شخصيات المجموعة معلقة في انتظار التكوين النصي / المولود الذي يطمح أن يفكك بنية القتل من خلال إشاراتها التخيلية الكثيرة في نصوص جمال التلاوي مثل ؛ الدم و التراب ، و السكين . هذه الإشارات التي هي أشلاء أوزير تمنحها الأنثى المقدسة بتعدد مستوياتها قوة الطفل أو التكوين الذي يستبدل بنيته المعلقة ، أو المفككة الأولي . و قد تواتر استخدام الراوي للتبئير الداخلي ليتوحد بشخصياته ، و يعاين مستقبلها الجديد ، أو ليولد من خلال أخيلته التي شكلت هذه الشخصيات منذ البداية . و قد تعددت مستويات الحكي في المجموعة ؛ فولدت متواليات قصصية متباينة تعزز من فاعلية النصي التاريخية ، أو السيرية ، فنجد الأنثى كأنها إيزيس ، و أبطال القصص الشعبي في بنية القتل العبثي ، و تريزياس العراف في قلب مأساة البطل المعرفية بذاته . إن الولادة البهيجة في هذه المجموعة تسهم في محو كل أثر للمأساة ، و تبدأ من حدث البداية دون أن تنتهي ، و لكنها سلسلة من البدايات الغيبية القوية التي تمتص بداخلها الراوي و الشخصيات معا . الولادة هنا حالة تتجاوز المتكلم و الأمكنة و الشخوص . في نص " الرسم في عيني حبيبتي " نلمح إصرار الطفلة على أن يرسم لها المتكلم الأب الحدود السياسية للخريطة ، فيحكي لها بعض الحكايات مثل الشاطر حسن ، ثم يرسم الخريطة في عينيها ، و كأن الطفلة هي التقدم النصي – التاريخي باتجاه الخريطة . لقد ولدت الطفلة من خلال الإصرار و البهجة ، و امتزاج الحكايات بالوعي المبدع ، و تحول من خلالها عجز المتكلم إلى مادة للحياة ، و الرسم باتجاه الواقع و التاريخ . و تتعدد مستويات السرد في نص " طفل " ، و لكن يجمعها وجود قاتل يخترق المشهد ليقتل الأطفال أثناء حكاية الجدة عن ذات الرداء الأحمر و الذئب ، و عند شرح المدرس لدرس الحساب ، و كذلك يخرج من التليفزيون ليواصل عمليات القتل . إننا أمام فعل عبثي يتكرر من خلال إيماءات الحكي الوحشية ، و التحامها بحتمية الحساب ، و الأخبار السيئة من هنا كان وجود القاتل إكمالا دائريا لمنطق القوة ، و يعيد السارد هنا قراءة مسرحية الدرس ليونسكو التي ينفصم فيها المدرس عن حضوره الاول و يقتل التلميذة بعد درسي الحساب ، و علم اللغة ، و لكنه هنا يتخذ من العبث بداية لذروة المأساة ، و استثنائية لحظة القتل ، فالأطفال يحتفظون بالبهجة ، و كأن السارد يدخرها للتكوين الجديد المتجاوز للقتل الذي يشكل البنية المهددة في النص . لقد تحولت الحروب السياسية ، إلى مجموعة من الهلاوس النصية في وعي الراوي قوامها الدم ، و السكين ، و القاتل المجهول ، و البهجة المتجددة الانتشارية للطفل القوي الأسطوري . و يقترن سياق النشوة اقترانا أصيلا بالطفل المعجزة ، و كأن الولادة البهيجة كانت هي الأصل في نص " مطر " . لقد كمن الطفل الغيبي هنا في علامات اللعب و الفرح و الخصوبة ، و المطر ، و مرح الأطفال ، و كأنه كوني ، يملك الخلود في معنى البهجة الأبولونية ، و يستبدل آلام السياق المنتج له ، و كأن الرجل و المرأة ينتظران ولادة جديدة من خلال آثاره . و يتخذ السارد من رحلة إيزيس في البحث عن حياة أوزير الخالدة نقطة انطلاق نصية ، و سياسية معا في نص " رحلة " ، فحياة الأجزاء مرهونة بالحب ، و الولادة الجديدة التي تتفوق على الموت أو الجدب كحدث سياسي ، و أرضي ، و أسطوري معا . إن بنية الخصوبة من داخل الموت تؤسس لحياة دائرية مقدسة تشكل رؤية العالم عند جمال التلاوي ، و يؤسس من خلالها عملية استبدال سياق الجدب لأنه حدث عارض على الولادة المتجددة ، و لم يقتصر استخدامه لحدث الولادة عند المستوى السياسي ، و لكنه أعاد من خلاله قراءة السيرة الواقعية النمطية للبطل في نص " حبيبتي التي كانت " ، فالسياق الواقعي للبطل / الموظف يحكمه الهدوء ، و تكرار بعض الأفعال مثل الذهاب للعمل ، و الجلوس على المكتب ، و الإفطار ، و الذهاب للمقهى ، و النوم ، ثم العودة للعمل . هذه هي المتوالية السردية النمطية التي تحولها وسائط السارد النفسية إلى متوالية قهر و تمرد في حلم البطل المتكرر بامتحان صعب في الرياضيات التي لم يدرسها ، ثم التمرد و الصراخ ، و ذكرى حبيبته ه التي تذكره بإيزيس ؛ و تشكل هذه الأنثى حلم ولادة البطل الأخرى التي يحاول أن يتجاوز من خلالها إشارات السلطة و السياق النمطي ، و مأساته التي التحمت فيها سيرته الذاتية بسيرة الملك أوديب عندما أخبره تريزياس بحقيقة زواجه من أمه . إن البطل لم يكن ملكا مثل أوديب ، و لكنه عاين تجربة المعرفة البطيئة بمأساته الذاتية حتى جاءت لحظة التنوير التي جعلته يحاول محو هذه الذات التي تملك هذا التاريخ ، مثلما فقأ أوديب عينيه ، و مثل عمى تريزياس المبني على المعرفة . و لكن حلم البهجة عند جمال التلاوي جعل من الأنثى ه رمزا لولادة أخرى محتملة . و في نص " 16 – 11 " تتجمع علامات الدمار و العبث في اللحوم و السوق و الدم ، و التراب لتتجاوز الحتمية من خلالها ، و تتوسل بالإشارات الثقافية للتجدد من خلال استبدال الدم بالماء و خصوبة الأرض الأم من خلال العلامات الدموية نفسها ، و كأن النص يفكك البنية المتكررة لحتمية القتل كحدث سياسي من خلال متوالية سردية جديدة تمحو السياق السائد من خلال بهجة النبتة ، أو الطفل . ثانيا : الراوي ، و الشخصية الفريدة ، قراءة في ليالي الصيف القمرية لإسماعيل بكر : يتشكل وعي الراوي بالعالم ، و من ثم رؤيته له انطلاقا من الشخصية الاستثنائية الفريدة التي يسهب في تكوينها ، و تحديدها ، ثم الاستجابة إلى إغواء الاندماج الخيالي بهذه الشخصية / الآخر . إن السارد / المتكلم يهيمن على الشخصية ، فيقدمها لنا من خلال لغته التحليلية كثيرا ، و لكن العنصر الغرائبي الغامض في الشخصية يعيد قراءة السارد مرة أخرى أثناء مغامرة الكتابة ، فيصير ممتصا في النموذج الخيالي للشخصية التي صارت مزيجا فريدا من الأنا ، و الآخر . و أتفق مع الدكتور محمد نجيب التلاوي في دراسته المرفقة بمجموعة إسماعيل بكر ، في بساطة الكاتب حينما يتناول موضوعات فلسفية معقدة في قالب تقليدي . إن معرفة المتكلم بالشخصية ، و تحليله لها في إطار فكري يندمج بمستوى الشخصية التخيلي ، و ما يثيره من دلالات ثقافية ، و نصية ، و فلسفية تحول السارد إلى علامة متجددة من خلال تجدد الآخر ؛ فالآخر هنا يعيد قراءة السارد، و يكسبه قوة التشكل المغاير لحدوده الأولى ، و معرفته بذاته ، و بالشخصية نفسها . في نص " معادلة حظ " تتعارض وجهتي نظر السارد ، و صديقه القديم جورج الذي أصبح رئيس عمال حول أفضلية الزميل الذي صار مديرا عن الآخرين ؛ فالسارد يرى أنه صار أفضل باجتهاده ، و جورج يرى أن القدر يتدخل في مسألة السعادة ، و الحظ حتى يموت فتحي / المدير ، و يذكر جورج صديقه بنسبية السعادة . إننا لم نعرف فتحي / المدير إلا من خلال الغياب في النص ، فهو منذ بداية تشكله كعلامة في وعي السارد قد التبس بالعدم ؛ فهو يثير التناقض الكبير بين الغياب ، و الإعلاء الشديد للأنا ، أما النموذج الشخصي الأكثر حضورا ، و هو جورج فيمثل قوة الصيرورة الحياتية كطاقة لا تعبأ كثيرا بالقيمة المحددة للشخصية ، و هذه القوة هي التي تمنح السارد الشعور بالتوحد مع هذا الرأي رغم معارضته الظاهرية . و في نص " زيارة غير شرعية " نجد الصورة الأولى لناني التي تقترن بسياق الضجيج ، و اللعب ، و البهجة أكثر حضورا في بؤرة السرد من صورتها السائدة في المشهد ، و هي الخجل الشديد ، و سياق المنع ، و حديث زوجها عن عدم دخول تليفزيون للمنزل . لقد اختار السارد الصورة الأولى من وعيه ليجددها ، و يلتحم بها كقوة تخيلية مضادة للغطاء ، و من ثم جاء سياق إنهاء هذه الزيارة ليعزز من الرغبة القوية في استبدال المشهد من الذاكرة الحية ، و بعثها في الواقع أو العالم الداخلي للسارد ؛ فيتوحد بها ، كأصل غائب . لكنه فاعل في السياق السردي ، و تندمج فيه إشارات الماضي بالمستقبل الذي يعيد قراءة الأنا و الآخر انطلاقا من أخيلة الطفولة الأكثر براءة . و في نص " الصندوق " تكثر إشارات الغياب المقترنة بموت الأب ؛ فهو في الكفن لا يظهر وجهه ، كما أنه صامت ، و يختفي صندوق أوراقه عقب الوفاة . و يحيط السارد قوة الأب ، و حرصه على الصندوق بالغموض ، بينما يحتفظ بطيفه في الذاكرة حينما كان يوزع على أولاده العيدية . لقد اندمج السارد بطاقة الغموض الكامنة في الذاكرة . أما الصندوق الواقعي فقد اختفى مع جسد الأب . و هنا يطرح النص الأسئلة حول الحياة ، و الموت ، و الاختفاء ، و العودة من خلال النموذج التخيلي المضاعف للشخصية ، و آثارها عقب الموت ، في تلك الأطياف التي تولدها الذاكرة من غموض الأصل التاريخي الذي صار نصيا بدرجة كبيرة ، و شكل وعي البطل بوجوده في العالم . و في نص " ليالي الصيف القمرية " يستعيد السارد الرؤى الصوفية في الثقافات المختلفة ، تلك التي نقلت المركزية إلى الروح النورانية بعيدا عن الجسد . و تبلورت بصورة غير واعية في شخصية رجوى التي مات زوجها ؛ فحرصت على تكرار المشهد الذي منحه قوة الحياة من قبل في سيرته الأولى ، و هو الجلوس ليلا أمام القمر . و هنا تستدعي شخصية رجوى عمليات الاستعادة المقدسة لرمز الخصوبة في الأساطير الشرقية ، و الغربية على حد سواء مثل تموز ، و أوزير ، و أدونيس على المستوى الشكلي الوظيفي الذي تمنحه إيانا معطيات المتواليات السردية . لقد تحولت حتميات التوحد الجنسية إلى تجريده في توحد السارد بهذا الخيال الرومنسي الأسطوري الصوفي المركب ، و المضاعف الذي ينتقل من الزوج ، إلى رجوى ، ثم السارد . و في نص " غربة " يمنح السارد تمثال مصطفى كامل حضورا ، و فاعلية فيتجهم من المزاج النفعي ، و الأجنبي الجديد ، و لكنه يبقى من خلال الروح الإنسانية ، و فكرة تجدد الأصالة . ما يهمنا هنا هو الحضور المتجاوز لحالة الغربة ، و قد تولد من رغبة حلمية في فاعلية التمثال . هذه الرغبة امتصت الأنا في سياق الفانتازيا الواقعية الجديدة المستبدلة لموقع الراوي الغريب الأول . و في نص " يحيا الشيخ يحيى " نرى الشيخ يملك قوة النبوءة ، و حدس التوقع المعرفي ، فعندما يصر على أخذ بلاص عسل من رجل و امرأة يكتشف الناس أن به ثعبانا ميتا . كما أنه مستشار روحي في الزواج و الولادة . لقد انبثق الشيخ / الآخر من صورة الروح المتجاوزة للتكوين المحدد ، فهو حالة غير مشبعة بالحضور الجسدي ، و لهذا منحته مغامرة السرد قوة الاختفاء ، التي تجعله متوحدا مع الروح النصية ، و رغبة السارد في التوحد به . أو بهذه الغرابة التي يمكننا أن نقول إن السارد كان منحازا لها دون غيرها في هذه الشخصية . إنها بكارة التعرف على ما هو استثنائي في العالم . هذه البكارة التي ينبني عليها المشروع الإبداعي هنا للكاتب إسماعيل بكر . يرى جيرالد برنس أنه يمكن تعيين المروي عليه من الدرجة الثانية انطلاقا من كلمات يوجهها إليه السارد ، أو من خلال سمات شخصية تعطينا معلومات عنه ( راجع – جيرالد برنس – مقدمة لدراسة المروي عليه – ت علي عفيفي – فصول م 12 ع 2 سنة 1993 ص 81 ) . و قد توافر الشرطان في نص " ثم إني حزين " فالمتكلم يحدد المخاطب ، و يبدو أنه في موقع الابن الذي يخالف توقعات المتكلم عنه ، و لكن يمنحه القوة من خلال إقصاء آثار الغضب ، و في حالة الاتحاد المتخيلة الأصلية كانت القوة في الاستمرار ، و التشابه . إننا نعرف المروي عليه من خلال خطاب السارد له ، و علاقته المتوترة به ، و لكنه يشكل نموذجا متخيلا للتعامل مع الغضب ، و الحزن ، و الحب ، و الفخر ، و كأنه يقبع في السارد و يشكل من خلاله خطابه ، و رؤيته دون هيمنة معرفية كاملة على الخطاب . و في نص " الغولة " تندمج هذه العلامة من التراث الشعبي بأكثر من مستوى سردي ، فخيالاتها في وعي السارد الطفل سوداء مطلقة ، و تندمج بسلطة أنثوية تذكرنا بالتحام الأنوثة الأول بالموت ، و الخصوبة معا في النقوش القديمة ، كما تشير إلى اندماج السيرة بهذه الأخيلة في رمز العمة التي تضرب الأم . لقد توحدت رموز الغولة ليقصيها بياض الأم ، و رغبة السارد في التخلص من السلطة الأنثوية التي سكنت لا وعيه ، فاتحد بالرمزين ، و شكل منهما رؤيته للنور ، و الظلام . ثالثا : سرد ينطلق من صور التضاعف ، و أخيلته ، قراءة في مجموعة " دفء مغادر " لابتسام الدمشاوي : ينطلق إبداع ابتسام الدمشاوي القصصي من المونولوج ، الذي يجسد وعي الساردة / الأنثى بوضعها الوجودي في العالم . إن ابتسام الدمشاوي تتناول بعض القضايا الرئيسية التي تنبني عليها أبحاث النوع ، في اختلاطها بالإبداع الأدبي مثل ؛ الأمومة ، و تعقد العلاقة مع الآخر / الذكر ، و لكنها أكثر اقترابا من تخييل المعاني التي ينتجها وعي الأنثى في التحامه بالواقع ، و بعض الأفكار الفلسفية المعقدة . و نستطيع قراءة متواليات سردية تجسد الغربة ، و الموت ، و الخصوبة ، و الغياب انطلاقا من سرد يرتكز على التصوير الشعري / الذاتي بدرجة كبيرة . إنه قص تلقائي ينبع من ازدواج المونولوج بالحكي ، و يقوم على أصالة مستوى الخيال بتجسيد مبدأ التضاعف فيما يخص الموت ، و الحياة معا . إن ابتسام لا تريد نهايات حاسمة لتضاعف القتل ، أو الخصوبة ، و يساعدها السرد الوظيفي على إنجاز هذه المهمة الدائرية التي تبقي الوعي الأنثوي في حالة ملتبسة بين التحقق الكامل لأحلام الخصوبة ، و الانتشار ، و كذلك السلب ، و التهميش ، و الحجب غير المكتمل أبدا . يرى رولان بارت أن المتوالية – بصورة أساسية هي كل، لا شيء يتكرر بداخله ، أما القصة فهي متزامنة مع المونولوج ؛ لغياب البدايات الاولى للقص ، و اللغة نفسها على حد سواء ( راجع – رولان بارت – مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص – ترجمة منذر عياشي – مركز الإنماء الحضاري سنة 1993 ص 92 و 93 ) . هكذا تشير الساردة في نص " اختناق " إلى غياب الزوج ، و حضوره المتكرر من خلال الأثر / الأوراق . نحن لا نعرف الزوج إلا من خلال هذه الأوراق التي تضاعف من الغياب من خلال خفوت الصوت الأصلي للشخصية ، و استبدالها الكامل بالأوراق . أما المتكلمة فنعرفها من خلال العصفور المختنق ، و رغبته في الانعتاق ، و الطيران ، و يتنامى كل من الغياب ، و التحقق في عالم الساردة الداخلي بصورة دائرية . كذلك يتضاعف حضور الابن في نص " دفء مغادر " من خلال لحظات الالتحام ، و الحكي التي يعايشها مع الأم ؛ فيحكي عن نشاطه الرياضي ، و اشتياقه لها ، و عن البنت التي تحنو عليه ، ثم يعلو الغياب في ابتعاده الإرادي ، و الحتمي عن الأم . و هكذا يسير القص في اتجاهي التوحد ، و الانفصال معا . لقد صار الابن موضوعا إبداعيا ينمو في عالم الساردة الداخلي ، فتشعر من خلاله بحضورها الأنثوي ، و خصوصيتها التي تفقدها في مستوى تكرار الغياب ، الذي يتوقف عنده المونولوج ؛ و كأنه يؤسس لاستعادة ذكرى الالتحام مرة أخرى . و تتشكل الصورة السردية في نص " اختراق " من خلال تضاعف لحظات القتل التي يمارسها الآخر ضد الساردة من خلال علامة الرصاص . الرصاص يسعى لتفريغ الجسد على المستوى الوظيفي ، فيتكاثر ، و ينمو ليؤكد معنى الموت ؛ أما الساردة فتسخر ضمنيا من هذا المعنى عن طريق نمو صوتها الحي من خلال الوعي المراقب للفراغ ؛ هذا الوعي الذي أنتج هذه الوحدات ؛ ليجسد قدرته على الحياة من خلال علامات الصراع ، و الموت ؛ فكل من الصراع ، و مراقبة الوعي الذاتي له ينمو في التحام الوسائط النفسية ( قهر – تمرد – مراقبة ) و الوحدات الوظيفية ( تصويب – ضرب – تفجير الرأس ) و كأن الحكاية ترتد بصورة مركزية للمونولوج ، الذي يعبر عن قوة الأنا في اسيعاب المعنى السلبي للعداء ، و الموت في الحكاية . و في نص " أرض حزينة " تنمو ذكرى الخصوبة من خلال علامة الأرض التي تتهيأ للتجدد انطلاقا من معنى الأنوثة ، و تتمرد على الساردة من خلال ذكريات الخصوبة في اللاوعي الجمعي ، و ارتباطها الأساسي بمعنى الأنوثة الأول . يذهب القص في اتجاه انتظار المعنى الأول للأرض ، بعيدا عن مستوى الحزن السائد في النص . و في نص " فصام " يتجسد مستوى الغربة الذاتية ، و يتنامى من خلال الحاجز بين البطل ، و المرآة ، ثم محاولة البطل التوحد بمرآة أخرى تستبدل شيزوفرينيا الغربة . و إن ذكر المرآة يستدعي حديث جاك لاكان عن بدايات التعرف على الأنا من خلالها في الطفولة ، ثم معاينة اندماج الذات بالآخر بعد ذلك . هل تشكل المرآة هذا الآخر المحتمل الذي ينتظره البطل كبديل عن الشعور الأول بالغربة ؟ و في نص " شجرة الموت " نرى غريزة الموت – وفق تعبير فرويد - تنبت في الجسد مثل الجذر الذي ينمو ، و يستبدل الذات من خلال تضاعف حضوره . و تعكس علامة الشجرة متوالية سردية مناهضة للموت من داخله فهي تعكس رغبة المتكلمة في حلم الخصوبة من خلال التحول الفانتازي باتجاه مستوى الموت المهيمن . و في نص " غروب " تختار البطلة رابعة الموت ، و تجد فيه عالما آخر يتداخل مع الحياة الأولى ، و تذوب فيه الحدود ، و لولا المونولوج نفسه لما تشكل المستوى المناهض للموت ابتداء . و في نص " تمزق " تستعير الساردة صورة التمثال ، في شكل دائري متكرر يسير في اتجاه الصراع العبثي ، و قدرة الأنا على تصويره ، و تجميده ، و إعدامه عندما تلتحم الوظائف الحكائية ، بالتصوير الذاتي الشعري . د. محمد سمير عبد السلام - مصر
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكشف عن ثراء النصوص ، و الأفكار في نتاج عبد الغفار مكاوي
-
الحكي كنغمات جمالية .. قراءة في مجموعة (الأمنية الأخيرة) لهد
...
-
تجدد الذات، و تجدد العالم في قصص مصطفى الأسمر
-
اللعب الجمالي، و انفتاح الرؤى التأويلية .. قراءة في ديوان سي
...
-
من الآلية إلى تمرد الوعي المبدع .. قراءة في ديوان غازات ضاحك
...
-
الإنتاجية الجمالية للتعدد، و الاختلاف .. قراءة في ديوان هكذا
...
-
جماليات اللقطة، و التشكيل المجازي للواقع في عالم إبراهيم أصل
...
-
العمل الفني ، و الجمهور النشط .. حديث لإيهاب حسن
-
الولادة المتجددة للأعمال الفنية عند ثروت عكاشة
-
الطاقة الإبداعية للسؤال .. قراءة في رواية اللاسؤال و اللاجوا
...
-
من المعاناة إلى السلام الإبداعي .. قراءة في ديوان (من أجل ال
...
-
سرد إبداعي للأشياء .. قراءة في رواية هليوبوليس ل مي التلمسان
...
-
سيمفونية للموت ، و الحياة .. قراءة في رواية بيوت بيضاء ل هدى
...
-
حياة المكان ، و علاماته الثقافية .. قراءة في رواية وردة الني
...
-
بين تشكل الهوية ، و جماليات التجاوز .. قراءة في رواية أرضنا
...
-
من الهيمنة الرمزية إلى أصالة الإبداع .. قراءة في موسيقى المو
...
-
بين الحلم ، و تناقضات الهامش
-
من السلب إلى اكتشاف الحياة .. قراءة في نص متشردا في باريس و
...
-
من التحليل البنيوي إلى التعددية النصية و الثقافية
-
أغنية كونية للأثر الجمالي .. قراءة في حجارة بوبيللو ل إدوار
...
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|