أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد زكريا توفيق - الفن الإغريقي القديم – النحت















المزيد.....


الفن الإغريقي القديم – النحت


محمد زكريا توفيق

الحوار المتمدن-العدد: 4010 - 2013 / 2 / 21 - 08:50
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


كيف يختلف الفن الإغريقي، في العصر الذهبي أيام بركليز وازدهار الديموقراطية في مدينة أثينا، عن الفن المصري القديم أيام الملك خوفو باني الهرم الأكبر أو أيام الرعامسة العظام؟

الإغريق، مثل المصريين، يعيشون في الهواء الطلق، يحبون الطبيعة. الأرض والبحار والسماء عندهم، مأهولة بالآلهة وأنصاف الآلهة. عندهم أيضا أبطال أساطير قاموا بأعمال خارقة، واقتربوا من أن يصبحوا آلهة هم أيضا.

عند الإغريق أدباء وشعراء، مستعدون دوما لتمجيد الآلهة والأبطال. المهندسون والمثالون الإغريق، لا يدخرون وسعا في إقامة التماثيل وبناء المعابد لتكريمهم وتخليدهم.

ما تبقى من آثار الإغريق، مجرد حفريات وشظايا وحطام تماثيلهم ومعابدهم. لكن لا يختلف اثنان على أنها كانت تمثل أجمل وأروع ما عرفته البشرية من فنون.

لنا أن نتخيل، أيام العصر الذهبي لأثينا، عندما كانت التماثيل سليمة بكاملها، والمعابد متاحة للجميع، للتسبيح وتلاوة التراتيل، ولأداء الفرائض والطقوس وتقديم القرابين.

كما ذكرنا سابقا، الإغريق كان لديهم العديد من الأبطال والآلهة. الحديث عنهم كلهم يحتاج إلى مجلدات ومجلدات. لكننا سنتحدث في هذا المقال عن بعض الآلهة كمثال.

الإلهة "منيرفا" كما يعرفها الإيطاليون، و"أثينا" كما يعرفها اليونانيون. لماذا منيرفا؟ لأنها الإلهة المختصة برعاية مدينة أثينا، مركز وبؤرة الفن الإغريقي كله. سوف أستخدم الإسم الإيطالي، منيرفا، بدلا من أثينا، حتى لا يختلط اسمي أثينا الإلهة وأثينا المدينة.

سنبدأ أولا بسرد حكاية منيرفا الشيقة. بعد ذلك سنقوم بالنظر في التماثيل والمعابد والمعالم التي أقيمت لتمجيدها.

آلهة الإغريق كانوا يعيشون أعلى قمة جبل الأوليمب شمال بلاد الإغريق. جوبيتر (بالإيطالي)، وزيوس (باليوناني)، كان هو رئيس الآلهة. جونو (التي أخذنا منها اسم شهر يونية)، اسمها باليونانية حيرا، هي زوجة جوبيتر.

كل يوم يجتمع مجمع الآلهة لرعاية شئون الكون. يجلسون لتناول شرابهم المفضل من رحيق الأزهار. عندما يقرر أحدهم النزول إلى الأرض، يأتي على متن السحاب.

في أحد الأيام، عندما كان مجلس الآلهة منعقدا يحتسون فيه الشراب، أصاب كبير الآلهة جوبيتر صداع شديد. هل الآلهة تصاب بالصداع؟ معلهش، نفوت ديه، وياما فوتنا حاجات كتير في حياتنا.

من شدة الصداع، لم يجد بدا جوبيتر من الاستعانه بالإله فولكان، الإله القميء الأعرج الذي يعمل بالحدادة. وأمره جوبيتر بأن يأتي بمطرقته ويدق على رأس جوبيتر بشدة، حتى يخفف من ألم الصداع.

بالطبع "فولكان" (الذي اشتقت من اسمه كلمة بركان بالإنجليزية)، ليس في مقدوره سوى طاعة أوامر كبير الآلهة جوبيتر. بعد خبطتين في الرأس أو ثلاثة، إذا بدماغ كبير الآلهة تنفتح وتخرج منها الإلهة منيرفا بحلتها الحربية ودرعها ورمحها في يدها وخوذتها على رأسها.

بالطبع هذه طريقة ميلاد نادرة الحدوث. لكن الميلاد من الرأس، له دلالة بالغة الأهمية. منيرفا جاءت من رأس جوبيتر، إذن لابد أنها تكون ذكية عبقرية حكيمة عليمة. في الواقع، كانت حكمتها تعادل حكمة أبيها جوبيتر أو تزيد. جاءت وهي مسلحة بالرمح والدرع، إذن لها علاقة بالحرب والصيد.

الميلاد عادة يمر بمرحلة الطفولة والصبا والشباب، ثم النضج والشيخوخة، لكن في حالة منيرفا، هي ولدت كاملة متعلمة حكيمة منذ البداية، مثل الحشرات. فالحشرة، هي أيضا، تولد كاملة منذ خروجها من الشرنقة، ولا تولد صغيرة ثم تكبر مثل باقي المخلوقات.

البومة هي طائر منيرفا المفضل. شجرتها المميزة، هي شجرة الزيتون. لذلك نجد البومة هي رمز الحكمة عند الغربيين. ونسمع تعبير بومة منيرفا، الذي جاء في "فلسفة الحق" لهيجل، حيث يقول: " إن بومة منيرفا لاتبدأ بالطيران إلا بعد أن يرخي الليل سد وله". أما الشرقيون، فالبومة عندهم تمثل طائر شؤم وخراب.

بعد ميلاد منيرفا مباشرة، التحقت بمجلس الآلهة، التي كانت تناقش عملية تسمية إحدى المدن الإغريقية. نظرا لأن آلهة الإغريق، لها عيوب البشر أيضا، لذلك لم يتمكنوا من الاتفاق على اسم واحد للمدينة.

لذلك، قرروا عمل مسابقة بينهم، لمعرفة من له شرف إطلاق اسمه على المدينة. أسفرت التصفيات النهائية عن فوز إلاهين: نبتون ومنيرفا. لذلك، قررت الآلهة، لحسم الأمر بينهما، أن يكون الفائز بهذا الشرف، هو من يأتي بعمل، يكون من أكثر الأشياء فائدة للإنسان.

سارع نبتون بإلقاء رمحه ذا الثلاث شعب على الأرض، لكي يظهر في التو واللحظة حصان جميل الشكل بصحة جيدة. بهرت الآلهة بجمال الحصان، واعتقدت أن نبتون هو الفائز بدون أدنى شك.

جاء دور منيرفا، فقامت بضرب الأرض بعصاها. على الفور، نبتت منها شجرة زيتون مباركة. أرادت منيرفا أن تخبر الآلهة بطريقة بليغة، أن شجرة الزيتون هي الأفيد.

لأن منها نستخرج الزيت الذي يستخدم في الأكل والإضاءة، ومن ثمرها نأكل وبأوراقها نستظل من الحر والقيظ. لأهمية أشجار الزيتون في الحضارات القديمة، جاءت في الإنجيل والقرآن.

هنا تأكدت الآلهة بحكمتها من فوز منيرفا بالجائزة. لأن شجرة الزيتون أفضل من الحصان جميل الشكل. لذلك، خلعت على منيرفا شرف تسمية المدينة الجديدة.

منيرفا يعني اسمها بالإيطالي "الحكمة". أما اسمها بالإغريقي، فهو "أثينا". لذلك، تم تسمية المدينة الجديدة "أثينا"، تكريما للإلهة منيرفا أو أثينا، ابنة جوبيتر أو زيوس.

المدن الإغريقية تبنى عادة على تل مرتفع محصن عن الأرض، يسمى أكروبوليس. على التل يوجد مكان مقدس مخصص لحماية رموز العقيدة، باقي المكان يعتبر ملجأ للناس حينما يشتد الخطب ويعم الخطر.

في أكروبوليس أثينا، يوجد تمثال صغير من خشب شجرة زيتون للإلهة منيرفا. هذا التمثال يعتبر تمثالا مقدسا، لأن الإعتقاد هو أنه سقط من السماء. وما أكثر الأشياء التي تسقط وتأتينا من السماء.

الحجر الأسود في الكعبة، يعتقد أنه جاء من الجنة، ويرى العلماء أنه حجر من أحجار الشهب التي تسقط على الكرة الأرضية طوال الوقت. كان لونه أبيض، ثم اسود بعوامل الأكسدة. لذلك، كان تمثال منيرفا يغسل بالماء المقدس ويعطر ويعتنى به كل يوم.

أثبتت الأيام أن منيرفا هي الراعي والحارس الأمين لمدينة أثينا. فقد قامت منيرفا بتعليم الصبايا غزل ونسج الملابس، وقامت بتلقين الشباب فنون القتال والحرب.

عندما قامت حرب طروادة بين أثينا ومدينة طروادة بآسيا الصغرى، تركيا حاليا، كانت حماية وشفاعة منيرفا هي سبب نصر الإغريق. سبب الحرب، هو خطف باريس لهيلين زوجة مينالوس ملك إسبرطة.

هذه الحرب، تعتبر من أهم أحداث الميثولوجيا الإغريقية. جاءت في ملحمة هومير: الإليازة والأوديسة، وجاءت في معظم التراجيديات الإغريقية، وأيضا ذكرها الشعراء الرومان أمثال فيرجل وأوفيد.

يعتقد الإغريق أن منيرفا إلهة الحرب والحكمة، قد ساعدتهم أيضا في انتصارهم على الفرس، في معركة الماراثون الشهيرة. هذا جعلهم مغتبطين وممنونين، لوفاء منيرفا لهم ووقوفها إلى جانبهم طول الوقت.

لذلك، قرروا التعبير عن اغتباطهم هذا ببناء معبد، يليق بالإلهة الجميلة، على هضبة الأكروبوليس. هذا المعبد، يجب أن يكون أجمل المعابد في العالم. كان هذا في مقدورهم، لأن المدينة أصبحت غنية بالمغانم والأسلاب التي أسفرت عنها حروبهم مع الفرس.

بجانب الغنى والثراء، كان وجود رجل الدولة الحكيم بيركليز عاملا مهما. فعندما أوكله الأثينيون مشروع بناء معبد منيرفا، طلب بيركليز على الفور، مساعدة أفضل المهندسين، إكتينيوس، وأشهر الفنانين المتخصصين في صناعة التماثيل، فيدياس.

ثم قام فيدياس بدوره بتجنيد العديد من الفنانين المشهورين من كل أنحاء بلاد اليونان، لمساعدته في اتمام هذا العمل الجبار.

تم بناء معبد منيرفا. لكنه يختلف عن المعابد المصرية القديمة. فهو أصغر حجما ولا يقارن بمعبد الكرنك مثلا في الضخافة والحجم. لكنه بني من الرخام والمرمر الأبيض الخالص. بعض أجزائه ملونة، وسقفه مدبب.

السقف مرفوع بأعمدة جميلة. نوعان من الأعمدة تم استخدامهما في الأكروبوليس. العمود الدوري (Doric) البسيط الخالي من النقوش، والعمود الأيوني (Ionic)، تشبه رأسه قرني الكبش.

يوجد نوع ثالث من الأعمدة الإغريقية وهو العمود الكورنثي. نسبة لمدينة كورنث في اليونان.وهو طراز أكثر تعقيداً من الدوري والأيوني.حيث يبنى تاج العمود على شكل زخارف نباتية.ويوجد هذا النمط في الحضارة المصرية بكثرة.

إضاءة المعبد من الداخل تأتي من السقف. مقصورة الإله بها تمثاله كما في المعابد المصرية الفرعونية.

الأكروبوليس أو الأكروبول الإغريقي، يقع على تل يرتفع عن مدينة أثينا ب 150 قدم. كلمة أكروبوليس تعني المدينة العليا. طريقان من السلالم الرخامية العريضة تقود إليه. بينهما طريق ثالث للدواب والعربات الحربية.

البوابة أو المدخل، البروبليون، الواقعة في غرب التلة، عبارة عن معبد محاط بالأعمدة الدورية.

ثم نجد معبدا متواضع الحجم على اليمين مدعما بالأعمدة الأيونية خاص أيضا بالإلهة منيرفا.

في المواجهة، سوف نرى تمثالا ضخما من البرونز ، هو تمثال الإلهة المحاربة منيرفا. ارتفاعه 70 قدم، أعلى بكثير من سقف المعبد، يمثل منيرفا وهي مسلحة بالرمح والدرع وعلى أهبة الاستعداد للقتال.

تمثال منيرفا يقف شامخا في الأكروبوليس أعلى من كل معابدها. يمكن أن تراه المراكب من بعيد وهي في عرض البحر. منظر تمثال منيرفا المستعد للقتال، لابد أنه يرهب الأعداء، ويطمئن البحارة العائدين إلى ديارهم بعد طول غياب.

هناك أيضا، في أكروبوليس أثينا، معبد إرخثيون الذي بني لكي يحمل اسم ارخثيون الملك الإغريقي العظيم. به تمثال خشبي مصنوع من شجرة زيتون مباركة. ومدعم سقفه بتماثيل الحوريات بدلا من الأعمدة المعتادة.

معبد البارثينون المدعم بالأعمدة الدورية، هو أعظم وآخر المعابد التي أنشأها اليونانيون لتكريم الإلهة منيرفا في الأكروبوليس وأكبرها نسبيا. كلمة بارثنون تعني بيت الفتاة العذراء.

الإفيز الخارجي الذي يعلو الأعمدة ويحيط بالسقف، عليه نقوش جليلة مليئة بالحركة والحيوية. على أحد الجوانب، ترى منيرفا وهي تبزغ من رأس جوبتر وهي بكامل عدتها وعتادها. على الجانب الآخر، تشاهدها وهي تباري نيبتون على أحقية أيهما في تسمية المدينة. خلف الأعمدة، ترى نقوشا أخري تحيط بالمعبد كله.

معبد البارثينون كان مثوى تمثال آخر لمنيرفا، صنعه المثال العظيم فيدياس من الخشب، مطعم بالعاج والذهب وارتفاعه بلغ 37 قدما. الرأس واليدين والقدمين من العاج. العينين من الأحجار الكريمة، الملابس من الذهب الخالص. صدر منيرفا مرصع بالأحجار الكريمة. تقف منتصبة القامة، وتلبس الخوذه على رأسها.

يأتي الناس من كل أنحاء الإغريق لمشاهدة هذا التمثال الرائع. ما نعرفه عن التمثال، من كتابات أدباء الإغريق وشعرائهم. أو من تماثيل صغيرة وجدت في الحفريات تقلد التمثال الأصلي لمنيرفا.

شوارع أثينا في العصر الذهبي، كانت مليئة بالتماثيل والمعابد. الأكروبوليس يطل على المدينة من عل كمتحف رائع. عندما تشرق الشمس وتحتضنه بأشعتها الذهبية، تتلألأ أجزاء المرمر والعاج والرخام الأبيض والذهب والبرونز التي تكون هذا العمل الفني الرائع من بعيد، لكي تبهر الناظرين. عمل لا أقل من كونه تاجا على راس الفن الإغريقي القديم.

لكن دوام الحال من المحال. يبدو أن منيرفا قد تخلت أخيرا عن مدينتها الرائعة. فقد توالت هزيمة الأغريق في المعارك الحربية، وفقدت الكثير من أعمالها وتراثها الفني، بالتدمير أو السلب والنهب.

البارثينون الأعجوبة المعمارية والفنية، تحول إلى كنيسة مسيحية، ثم إلى مسجد تركي، لنا أن نتخيل تأثير ذلك على التماثيل والنقوش داخله وخارجه. مباني أخرى في الأكروبوليس دمرتها العقيدة المخالفة أو الحقد أو الزلزال أو الإهمال أو الحرب.

في عام 1687م، أثناء حرب تركيا والنمسا، القت النمسا قنبلة على سقف البارثينون، لكي تحول ما تبقى من هذا المبنى الرائع الذي ليس له مثيل، إلى فتات ومئات القطع الصغيرة.

بعد الإنتهاء من بناء البارثينون، أغضب الأثينيون فيدياس المثال الشهير الذي أشرف على الأعمال الفنية بالأكروبوليس. مما أثار سخطه وجعله يترك المدينة.

ذهب فيدياس إلى مدينة أولومبيا غرب اليونان حيث تقام الألعاب الأولومبية. سبقته شهرته، فاستقبله الأولومبيون استقبالا حافلا. على الفور، هو لم يضع وقتا، بدأ في تكليف جيشا من الفنانين والمهندسين والجواهرجية والصاغة لمساعدته في عمل تمثال لكبير الآلهة جوبيتر (زيوس).

بعد إتمام هذا العمل الجبار وإقامة التمثال على قاعدته، سرعان ما أصبح أعجوبة من أعاجيب الدنيا السبعة. أعاجيب الدنيا السبعة في ذلك الوقت، كما جاءت بكتاب فيلون، والتي لم يبق منها أثر سوى الهرم الأكبر، هي:

الهرم الأكبر، حدائق بابل المعلقة، تمثال جوبيتر أو زيوس في أولومبيا، معبد ديانا أو أرتميس في إفيسوس، ضريح هاليكارناسوس الفارسي في تركيا، تمثال أبولو العملاق في رودس، فنارة الإسكندرية.

لنا أن نتخيل كيف كان تمثال جوبيتر الذي عمله فيدياس، من معلومات تركها لنا الأدباء الأوائل ومن نسخ تقليدية لهذه الأعجوبة التاريخية التي وجدت على العملة الإغريقية القديمة.

تمثال جوبيتر، يشبه تمثال منيرفا، مصنوع من خشب شجرة زيتون مباركة. مطعم بالعاج وشرائح الذهب الخالص ومرصع بالأحجار الكريمة. ارتفاعه بلغ 40 قدما.

يجلس جوبيتر على كرسي عرشه الرائع. يحمل في يد، مطرقته التي يعلوها نسره المفضل، وفي اليد الأخرى، تمثال من العاج. يقول هومير وهو يصف لنا التمثال:
"لا بد أن كبير الآلهة جوبيتر، كان يوجه يد الفنان أثناء صناعة تمثاله."

المعبد الذي يحتضن التمثال كان ضخما كبير المساحة، أعمدته مرتفعة. إلا أن تمثال جوبيتر وهو جالس، كان أعلى من ارتفاع المعبد. يظهر لمن يريد أن يراه من بعيد.

لأن الناس في ذلك الوقت، كانت تعتقد أن الحج إلى تمثال جوبيتر ورؤية الإله وجها لوجه، تزيل الهم وتذيب الغم وتخفف المتاعب وتلبي الدعاء. هذا ما نشعر به عندما نقوم بالحج إلى الكعبة، والوقوف أمام الحجر الأسود.

بعد أن أنهى فيدياس وفريق عمله صناعة التمثال، رفع يديه إلى السماء مخاطبا جوبتر وجها لوجه قائلا: "اللهم إن كان عملي هذا يروقك وينول رضاك وقبولك، فتقبله مني وأرني علامة رضاك وغفرانك."

تقول حكاية فيدياس، أن جوبتر استجاب لدعائه وصلاته على الفور. وإذا بسنا برق وضياء ساطع يضئ التمثال من كل جوانبه. بذلك، يكون فيدياس قد نال رضاء الرب، وانتقم لنفسه من الأثينيين الذين لم يقدروه حق قدره.

رفض فيدياس أن يعود إلى أثينا. وأصبح تمثال جوبتر رمزا لبلاد الإغريق كلها، بعد أن كان تمثال منيرفا، رمزا لمدينة أثينا وحدها.

دعنا نحدث الآن عن باقي أعمال الإغريق الخالدة.

الإغريق يعشقون صناعة التماثيل لآلهتهم من المرمر الخالص. تمثال فينوس دي ميلو، قيل عنه أنه وحده يثبت أن الإغريق هم أعظم شعوب الأرض في الفنون وإقامة التماثيل.

فينوس كما نعلم، هي إلهة الحب والجمال. هذا يجعلها الموضوع المفضل لدي الفنانين والنحاتين. فهل هناك شئ أهم من الجنس والحب والجمال في حياتنا؟

حكاية فينوس تقول أنها بعثت من زبد البحر الأبيض الناصع، ثم حملها النسيم العليل إلى معرش الآلهة بجبل الأوليمب. بهتت الآلهة بجمالها ودلالها وكبريائها، لذلك لم يكفوا عن مطاردتها وإغوائها، وكانت فينوس ترفضهم وتنهرهم جميعا.

لكن الكبير جوبتر أراد أن يعطيها درسا في التواضع، فأمر بزواجها من الإله الحداد الأعرج المقزز فولكان، (هو الذي ضرب رأس جوبيتر بمطرقته لكي تخرج منها منيرفا).

تمثال فينوس المسمي "فينوس دي ميلو"، وجد في جزيرة ميلوس منذ أكثر من 200 سنة مضت. وجده فلاح مخبوأ في فجوة في حائط مسرح قديم مهجور، مدفونا تحت الركام أكثر من 2000 سنة. وجد مكسورا قطعتين.

بعد ترميم التمثال، تم بيعه للملك لويس الثامن عشر، ملك فرنسا. الآن يوجد التمثال بمتحف اللوفر بباريس. الشعب الفرنسي يقدر الفنون. أثناء الحرب الفرنسية مع بروسيا، ولخوفهم على التمثال، وضعوه في صندوق حديد ودفنوه تحت الأرض.

جمال وجه تمثال فينوس دي ميلو يفوق الوصف، لا تستطيع الصور إظهار سحره ورقته. ملمس الرخام في التمثال ناعم مثل القطيفة، لا يشبهه تمثال آخر.

تمثال آخر لفينوس، هو "فينوس دي ميديشي". وجه فينوس هنا ليس له سحر وجمال، ولا يقارن بوجه "فينوس دي فيلو". لكن روعة تمثال "فينوس دي ميديشي" تأتي من جمال وتناسق وتكوين نسب البدن.

هذا التمثال كان مدفونا أيضا. تم استخراجه وترميمه من بين أنقاض رواق روماني قديم في القرن السابع عشر الميلادي. بعد ذلك، وجد طريقه إلى أحد قصور عائلة ميديشي الشهيرة بفلورنسا. الآن موجود بأحد متاحف فلورنسا.

تمثالان آخران وجدا عام 1875م، تحت اسم "النصر". أحدهما على قاعدته اسم صانعه "باكونيوس". الأخر صنعه "بايونيوس". عادة تماثيل النصر، تلبس إكليل النصر في رأسها، وتحمل جريدة نخل أو درع الحرب، في بعض الأحيان يكون لها أجنحة.

هذان التمثالان، وجدا بدون رأس أو ذراعان. لكن ما تبقى من البدن، يظهر روعة ديناميكية وانسياب طبيعي للملابس، جعلاهما يبلغان شهرة عالمية.

هناك أيضا تمثال هيرميز أو عطارد من المرمر الخالص، صنعه المثال الإغريقي "براكسيتيليس". هيرميز هو الرسول بين الآلهة. يتسم بالسرعة والمكر.

لذلك سمي أقرب الكواكب إلى الشمس عطارد، لأنه سريع الحركة، وسمي الفلز الوحيد الذي يوجد في الحالة السائله بدون تسخين في اللغلة الإنجليزية (Mercury)، وتعني أيضا عطارد.

تمثال هيرميز يبينه وهو يستند إلى جذع شجرة، طارحا عباءته بدون اكتراث على ذراعه، الذي يحمل به الطفل باخوس. ربما يحمله إلى الحوريات، اللاتي سيقمن بتعليم وتربية هذا الإله الصغير، إله الخمر والغناء عند الإغريق.

تمثال هيرميز غير جامد، وجه التمثال معبر يبدي عطف وحنان دافقان نحو الطفل. يعتقد كثير من النقاد أن هذا التمثال من أجمل ما أبدعه الإغريق من تماثيل.

نأتي الآن إلى تمثال أبوللو بلفيدير الذي لا يقل روعة عن تمثال هيرميز السابق. أبوللو، هو إله الشمس عند الإغريق. هو أيضا إله رمي السهام، والموسيقى، والشعر، والشباب، والجمال. لذلك، يظهر في الأعمال الفنية في صور كثيرة.

تمثال أبوللو بلفيدير، عثر عليه في القرن الخامس الميلادي، بين خرائب مدينة رومانية قديمة. بلفيدير تعني "معرض بلفيدير" بالفاتيكان في روما، حيث يوجد التمثال.

تمثال أبوللو يذكرنا بالشباب، وما أدراك ما الشباب، وما يصاحبه من حيوية وطاقة متدفقة وجمال. عباءة أبوللو تنساب برقة ويسر على صدره وكتفه وذراعه. تظهر طياتها الرقيقة ناعمة الملمس.

رأسه في غاية الجمال والتناسق. ذراعه تستند إلى جذع شجرة. الذراع الأخرى، ترتفع كأنه لتوه قد أطلق سهما نحو هدف بعيد، يتابعه بنظره عن كسب وفضول.

بعد أبوللو، إله الشمس، لا يسعنا سوى الحديث عن اخته التوأم الرائعة "ديانا" أو "أرتميس". ديانا هي إلهة الليل والقمر، والصيد والقنص. لاحظ التشابه في الوظيفة بينها وبين أخيها التوأم أبوللو.

في شهر أكتوبر من كل عام، عندما يظهر القمر، إيذانا ببدأ موسم الحصاد، تنزل ديانا من عربتها الحربية المصنوعة من الفضة الخالصة، وتحمل قوسها ونشابها، تصاحبها العذارى والحوريات، ويذهبن جميعا للصيد.

لاحظ هنا أن عربة أبوللو ذهبية وعربة ديانا فضية، لأن أبوللو إله الشمس، وديانا إلهة القمر. الشمس لونها ذهبي، والقمر لونه فضي.

تمثال "ديانا والإيل"، يوجد في متحف اللوفر مثل تمثال "فينوس ميلو". هنا ديانا تمارس هوايتها المضلة، هواية الصيد، تلبس الصندل أو نصف حذاء. تحمل في كتفها جعبة سهام. بيد تمسك الإيل من قرنه (حيوان يشبه الغزال)، ويدها الأخرى تمتد لسحب سهم من جعبتها خلفها.

كانت هواية الإغريق، عمل تماثيل لأبطال الرياضة، مثل رياضة الجري والمصارعة ورمي الرمح والقرص. تمثال رامي القرص "ديسكوبولوس"، للمثال "ميرون"، كل جزء من أجزاء التمثال تبين حركة وتأهب. العظام تتحرك والعضلات تنتفض من تحت الجلد الأملس الناعم مثل القطيفة.

رامي القرص ينحني إلى الأمام لكي يكسب عزم وطاقة تساعدة في رمي القرص أبعد ما يمكن. كيف نجح ميرون المثال في نقل كل هذه الإنفعالات والحركة إلى قطعة رخام أصم، فجعلها تنطق بالحياة والدفئ؟

هذا بالطبع يختلف عن فن صناعة التماثيل عند قدماء المصريين. لأن وظيفة التمثال عند الفراعنة تختلف عن وظيفة التمثال عن الإغريق. الفنان الإغريقي يصنع التمثال كما يراه على الطبيعة، لكي يشاهده المشاهد ويعجب به.

بينما الفنان المصري القديم يصنع التمثال من الذاكرة، وفقا لقواعد دينية صارمة. إنه يصنع التمثال كما يعلم, وكما يجب أن يكون، لكي تتعرف عليه روح الميت ال "كا"، وليس للمشاهدة والإعجاب. رجاء الرجوع لمقالي السابق، الفن المصري القديم.

في المقال القادم إن شاء الله، سوف نكمل حديثنا عن الحضارة الغربية وأبطالها، التي هي حضارتنا في الأصل، ولا مهرب لنا منها. فاللهم يسر وأعن.

[email protected]



#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفن المصري القديم
- حفريات سبقت كتبنا المقدسة
- الطريق إلى المدرسة رايح جي
- حوار مع المجلة العلمية أهرام
- قصة خلق الكون
- هل التطور يتعارض مع الإنتروبيا؟
- كيف كانت بلادنا حلوة؟
- قضاة في شكاير
- حكم الجماعات الدينية والمليشيات
- لقد قبل الإخوان الحكم وبلعوا الطعم
- دولة دينية أم حرب أهلية
- السلطة مفسدة
- كيف كانت القاهرة وكيف أصبحت
- حقيقة الأديان
- دولة دينية أم دولة مدنية
- لماذا أشعر بالقلق من حكم الإخوان؟
- ما يقوله العلم عن نشأة الحياة
- مشكلة الأديان مع العلوم
- الفن مين يعرفه
- عادل إمام وحرية الرأي


المزيد.....




- الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج ...
- روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب ...
- للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي ...
- ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك ...
- السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
- موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
- هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب ...
- سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو ...
- إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد زكريا توفيق - الفن الإغريقي القديم – النحت