|
قصة كارلوس
علي بداي
الحوار المتمدن-العدد: 4007 - 2013 / 2 / 18 - 00:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
فاجأني أحد الزملاء الهولنديين في العمل قبل قرابة خمس سنين عزمه السفر الى إيران بدعوة من شابين إيرانيين كان هو وزوجته قد تبنياهما منذ عمر الطفولة ،كبر الأخوان الآن ,وارادا أن يردا بعض الجميل بدعوتهما أبويهما غير البيولوجيين الى زيارة إيران مرورا بسوريا . لم يخف الزميل قلقه من السفر الى بلد غير أوربي تحكمه الشريعة الإسلامية عبر بلد عربي تحكمه الشريعة القومية خصوصاً أنه سيذهب برفقة زوجته ولكن شكوكه تلك ومخاوفه لم تصل الى مستوى تتغلب فيه على فضوله ونزعة الشعور لديه بخوض مغامرة ذات جدوى كأي أوربي. طلب مني أن أدخله دورة سريعة للإستعداد للظروف الشرق أوسطية الإسلامية، فقلت له: أنا أعرف أنك إنسان موضوعي مناصر لقضايانا وأريد لك أن تبق كذلك ، لا أريد لك أن تصدم بواقع لم تكن تتخيله فتعود اليّ بقناعات مغايرة. وبدأت وصاياي له : أولاً: أن ينتبه الى أمتعته وجيبه ويدقق في وصولات الأسعار وسعر صرف العملة ثانياً: أن لايثق كثيراً بمواعيد صاحب الفندق أو صاحب المتجر أو الخياط: تخيل مثلاً تعجبك سجادة شرقية صغيرة وتنوي شرائها لكن البائع يقول لك أنها مباعة وأنه سيوصي على أخرى بعد يومين ، أولاً لاتدفع الثمن مقدماً لأنك بهذا تدفع ثمن السمك وهو بالماء ثانياً لاتربط موضوع سفرك بحصولك على هذه السجادة، فتؤجل السفر ليومين آملاً أن تحصل على بغيتك لأن اليومين قد يعنيان شهراً أو شهرين أو حتى سنتين وقد يعني قول البائع مجرد أمله الشخصي في وصولها بعد فترة.ثالثاً: ترجم كلمة" إن شاء الله" غالباً على أنها "لا" لأن الله غالبا مايكون هو المسؤول عن خطايا البشر في بلداننا ، فإذا سألت صاحب الفندق إن كنت ستحصل على غرفة غداً وأجاب " إن شاء الله" فإن معنى ذلك أنك يجب أن تبحث عن فندق آخر وهكذا مع عبارة" الله كريم" . رابعاً: إذا تحدث البائع مع أحد آخر بالعربية أو الفارسية حاول أن تبدي مظهراً يدل على أنك تعرف اللغة لأن بلدانناهي بلدان الخوف والشكوك ، حالما تبين إهتمامك بما يقال سيشك المقابل بأنك تعرف اللغة ولربما ستوصل الحدث الى "المخابرات" فيكف عن إستغلالك، لا تبد طيبة زائدة فهي قد تترجم على أنها إستعداد للتغاضي عن بعض الإستغلال أما إذا أعجبتك جرة قديمة مثلاً أو لوحة لاتبد تحمسك لها ولاتبين للبائع رغبتك العارمة بإمتلاكها لأنك عندئذ ستدفع أضعاف سعرها. خامساً: لاتثق بأصحاب التاكسيات وتتكلم بما تشعر به فتكشف شعورك السياسي أبداً ، سادساً: لاتدخل أي مكان ديني الا بعد التأكد من جواز ذلك . ثم إنتقلت الى الدرس الأهم فأوصيته قبل كل شئ أن ينسى كونه أوربياً بمجرد ملامسة أقدامه أرض المطار السوري أو الإيراني فقلت "هنا كل شئ مضمون، هناك كل شئ ممكن" لم يفهم، فشرحت له هنا، أنت هنا مضمون صحياً وحياتياً قانونياً ومن كل النواحي، أنت إنسان تنطبق عليك كل بنود لائحة حقوق الإنسان فحين يطلب شرطي ما منك توضيحاً يبدأ بتحيتك بلطف، فأنت برئ حتى تثبت التهمة عليك، أما هناك ياصديقي فالمواطن متهم حتى تثبت برائته وأحياناً مجرم حتى لو ثبتت برائته، فقال مندهشاً : لكنني لست مواطناً ، أنا سائح ، وكان علي أولاً أن أستبدل كلمة " مواطن" بكلمة" إنسان" و أن أشرح له بقصة مستلة من الواقع لا الخيال أن قانون دولنا العربإسلامية يستند الى نظرية واحدة فقط هي المؤامرة فقلت: حين كنت في بداية العشرينيات من عمري وجدت نفسي سجيناً في سجن تابع لأمن الدولة. حكى لي السجناء عن " كارلوس" وهو قنصل في السفارة الأرجنتينية في بغداد في ذلك الوقت ، كان قد وجد نفسه قبل شهر مثلي سجينا في زنزانة ضيقة مليئة بالقمل تكتض بسجناء الرأي العراقيين المثقفين ،ولحسن حظه كان عدد من هؤلاء المعتقلين يتحدث الإنكليزية ولكي يخفف العراقيون من حدة العزلة التي كان يعيشها علموه قبل كل شئ جملة ساخرة باللهجة الشعبية العراقية هي: "شنو سويت بروحك ياكارلوس"؟ ظل كارلوس يردد هذه الجملة رائحاً غادياً بمحاذاة جدار الزنزانة: " شنو سويت بروهك ياكارلوس؟" ومعناها المبطن هو " مالذي فعلته بنفسك ياكارلوس؟ ماالذي أتى بك ياكارلوس من الجنة الى النار؟ أي معصية إقترفت ياكارلوس فساقتك الأقدار الى هذه البلاد؟ هل إعتقدت أن جوازك الدبلوماسي يكفي لكي تكون محصنا ضد شرطة هذه البلاد؟" كان زميلي الهولندي يصغي الى قصتي مندهشاً، فهو لم يعرف قبل الآن أنني كنت سجينا سياسياً ، فقد كنت أتجنب طيلة سنوات عملي مع الهولنديين ذكر كل ماله علاقة بالماضي غير المستساغ من قبل الأوربيين ،ماضي السجون والتعذيب والقمع والملاحقة ، فالسجن يرتبط بأذهانهم بالجريمة والإنحراف، لقد نست أوربا من زمن بعيد حكايات أبطال الكفاح ضد المستبدين، وقصص مواطنيها الذين ضحوا بحيواتهم دون أن يركعوا للحكام ، توارت هذه القصص في مؤخرة التراث كقصص شبه خيالية لم يعد الحاضر يمدها بقوة الزخم اللازمة للبقاء في مجتمع سار شوطاً بعيداً في خلق نموذج " الفردانية" والتمترس خلف المكاسب الذاتية . ولعل ما زاد من دهشة صاحبي الهولندي هو أن قدراته التخيلية لم تكن بمستوى تصور أن دبلوماسياً يمكن أن يساق الى سجن تحت الأرض ودون تهمة محددة ، لقد كانت قصة مرعبة وضعته أمام مفترق طرق: إعلان الإنسحاب من خطة السفر وهو خيار لايخلو من جبن وتخاذل سوف لن يخطئ أبناؤه المتبنون رؤيته خاصة وأن كل متطلبات السفر قد أنجزت ، أو إختيار الطريق الآخر وهو المضي في الخطة يلاحقه شبح " كارلوس" . وكمن إستفاق من دهشته راح صاحبي يحاول تنظيم دفاعاته فسألني : ولكنك لم تذكر لي لماذا سجن "كارلوس" ؟ كان شاقاً علي أن أقنع صاحبي بحقيقة الإتهام الذي وجه الى " كارلوس" فهو كالحقيقة التي تكون أحيانا أغرب من الخيال، فبعد أيام من الإعتقال والإذلال عرف كارلوس أنه متهم بالعمالة لإسرائيل وهي تهمة تقود صاحبها للمضي بخطى واثقة الى حبل المشنقة حتى وإن تدخل العالم كله كما حصل لاحقاً مع الصحفي البريطاني الجنسية " بازوفت" في عام 1990 في بغداد. إعتبر كارلوس الأمر مزحة إذ كيف يكون عميلاً لإسرائيل وهو لم يعرف أو يرَ إسرائيلياً واحداً في حياته ولم يكن يوماً ما في إسرائيل؟ قال القاضي: قبل مناسبة أعياد الكرسمس ورأس السنة قدم المواطن الأرجنتيني " كارلوس" من بوينس آيرس الى البصرة حاملاً معه لعباً لأطفاله، من بين هذه اللعب لعبة كتب عليها : صنع في إسرائيل!!
#علي_بداي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تضامناً مع سجّاد البرئ ضد أبيه المتوحش
-
ليتك ما إستشهدت ياأبا عبد الله
-
حاجتنا لحزب وطني يساري ، سرّي، ويُخيف!
-
إنظروا كيف سيخرب الإسلاميون مجتمعنا
-
مزعجون أينما حللنا
-
أنا وصدام والكويت
-
شعب نائم يستحق هذه العمائم
-
جائزة التحرر من الإتفاقات لنوري المالكي
-
مابعد المزعطة
-
خفايا حصول الشهرستاني على -جائزة التحرر من الخوف-
-
رؤية شخصية لماضي وحاضر الحزب الشيوعي العراقي
-
العلاقة بين السيدة -سيبيلا ديككر- و-نوري المالكي -
-
حيرة العراقيين بين القمة والقمامة
-
69 عام ..عمر الدكتاتور القاتل
-
يالها من مزعطة!
-
ياصاحب أشرف العمائم
-
حوار حول الاقليات
-
صديقتنا أمريكا
-
سياسة اللجوء الأوربية.. أسئلة حائرة
-
أخلاق اليساريين - بمناسبة محاولات بعث الروح في الصدام اليسا
...
المزيد.....
-
أول تعليق من نتنياهو على الغارات ضد الحوثيين
-
الإشعاعات النووية تلوث مساحة كبيرة.. موقع إخباري يؤكد حدوث ه
...
-
53 قتيلا ومفقودا في قصف إسرائيلي على منزل يؤوي نازحين في غزة
...
-
مسؤول روسي: موسكو لا ترى ضرورة لزيارة جديدة لغروسي لمحطة كور
...
-
-نيويورك تايمز-: شركاء واشنطن يوسعون التجارة مع روسيا ولا يس
...
-
بينها -مقبرة الميركافا-.. الجيش اللبناني يعلن انسحاب إسرائيل
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل ضابط وإصابة اثنين آخرين في معارك
...
-
الكويت.. خادمة فلبينية تقتل طفلا بطريقة وحشية تقشعر لها الأب
...
-
76 عامًا ولا يزال النص العظيم ملهمًا
-
جلس على كرسي الرئيس.. تيكتوكر سوري يثير الجدل بصورة له في ال
...
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|