|
خرائب العقل .. 2- وطني حقيبة وأنا مسافر
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4006 - 2013 / 2 / 17 - 18:25
المحور:
الادب والفن
متكئا على جذع شجرة وسط قطعة أرض خضراء مثبتة باربعة مساميرعلى جدار ابيض. الصورة الثانية، يتبعها إكتشاف. في الحقيقة لم أهرب، وإنما حاولت الهروب، حين تجمدت اعضائي، وتخشبت، وتحول جسدي إلى رصاص ثقيل، وحين أحسست بالافاعي تتحرك في اعماقي، حاولت الهروب، مزقت اشرعتي وأحرقت المركب الذي حملني للضفة الأخرى. تهت وحيدا في بحيرات السأم. ركعت على اربع مثل معزاة. تضرعت إلى آلهة قبيحة، أقبح من وجوه العقداء والجنرالات في استعراضاتهم العسكرية المزرية، قبعت وحيدا في حجرتي مثل فأر، وتشيئت وأصبحت صخرة يدحرجها ثقلها والزمن. منذ الأزل، تشيئت حجرا ميتا في ركن الحجرة وتربعت على فراش "النشاف" في مربوعة واسعة وأكلت الدلاع، وشربت الشاهي، والماء البارد، وتحدثت لساعات لا تنتهي مع امثالي المختلفين، عن الحي والميت، عن الوجود والعدم، عن الله والشيطان، عن الثورة والديالكتيك وصراع الطبقات، عن الفن والجمال والصورة والخيال، عن العقل والذاكرة والإنفعال، عن بابل والاسكندرية، عن واشنطن وباريس ولندن وليما وتيرانا ونيويورك، عن قرطاج واشبيلية وغرناطة وعشرات المدن الأماكن الأخرى والتي لا أعرف عنها شيئا سوى أسمائها. تربعت وحيدا في حجرة في طرف المدينة، تعلمت الكلام، وقراءة الحروف ونقشها على جدران البيوت القديمة. تعلمت البكاء والسير على القدمين ورؤية الأشياء الغامضة المدسوسة في ثنايا الأحداث والأيام والليالي الطويلة. سافرت وحيدا، ومع الآخرين، بعيدا وأحيانا دون أن أتحرك من مكاني وفي رمشة عين. ورجعت دون ان ارجع. وفي الطريق، همس شاعر في اذني بان "وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر". وصدقت، وكذبت على نفسي طوال سنوات، وطوال سنوات صدقت كلام الشعراء، وفي النهاية ادركت ان الشعر افيون الشعوب والوطن سراب، أما الحقيبة فهي هنا في يدي أوتحت السرير وأحيانا فوق الدولاب. انا مسافر وهويتي هذه الحقيبة، اتحرك بلا خارطة، وبلا بوصلة ولا أعرف معنى الحدود، جذوري قطعتها حينما ادركت بانني لست حجرا ولست شجرة وحينما لم أجد لجذوري أثر. في هذه الأرض الواسعة، حدودي احملها معي داخل حقيبتي، ارسمها في كل حركة، انقشها في كل خطوة، امسحها واعاود رسمها على الجدران في كل محطة. خارطتي هي وعيي. احرقت قرآنكم بعد ان احرقت قرآني، وذررت رماده في صحراء الذاكرة، ورسمت لغتي بعد ان اشعلت النار في كل اللغات وكل القواميس والقواعد والحروف الأبجدية، والحروف الغيرالأبجدية. لغتي وعيي، اختارها في كل خطوة اخطوها على حافة شفرة )جيليت او ولكنسون سوورد(. فالمادة ليست لغة افجرها في كل لحظة، وفي كل ثانية، والشعر ليس مصدرالثورة، والثورة لا تكون منبع الشعر إلا إذا اكتملت، والثورة لا تريد أن تكتمل .. هذا إذا بدأت. ولكن … ولكن ها أنا امامكم وحيد وعار مثل صنورة، وحيد ومهجورمثل صنورة خارتة تتقاذفها امواج الرمال الساخنة وتدفنها في اعماق الأرض إلى حين إكتشافها في أزمنة قادمة. وحيد ومهجور مثل فردة حذاء مثقوبة. عدت اليكم، ليس من اجل فردة الحذاء، وانما من اجل "الصنورة". فصورتها معلقة في عنقي كتميمة، اريد أن أتحسسها بيدي ووجهي وبكل جسدي وأشعر بخشونة ملمسها ورائحتها قبل ان ادخل جبانة التيه والجنون. عدت اليكم، إلى بطن الأرض، وكهف العواصف الرملية، ومغارة العفاريت، وسنترال الطاقة البشرية، ومنبع الطبيعة، حيث الدافع الأول والوحيد للحياة هو تجنب الموت. عدت اليكم، إلى منبع الملل، إلى بئر الحياة العارية، إلى بيت الداء، والى المكان الذي رأيت فيه ذات مرة قمرا وزهرة وسماء تمطر حجرا. واستقبلتني العواصف الرملية والذباب والملل والعقارب والجوع، والعطش والتفاهة والكذب، والموت تجارة يومية. ومرضت مرة، وثانية. وتقيأت طوال اليوم الأول، تقيأت طوال اليوم الثاني، تقيأت طوال اليوم الثالث، وفي اليوم الرابع اكتشفت في صدري ورما بحجم رصاصة. مازلت حيا في اليوم الرابع، لم تقتلني الرصاصة، فليست الرصاصة التي تقتل، وانما الحفرة التي تتركها في القلب. وفتحت صدري باصابع ترتجف ابحث عن المغني الذي ابتلع عينيه، ودق في لسانه مسمارا مضيئا، يلمع، قمرا باردا، ويرسل ظلا داميا على الساحة المكتظة بالبشر، رجال ونساء واطفال، يغنون لحنا جنائزيا خافتا يتردد في الفراغ امواجا صوتية تجتاز الجدران والحدود وتجتاز التلال والسهول، وتحمل في ثناياها رائحة الزيتون والاعشاب البرية والمطر. فتحت صدري باصابع دامية ترتجف ابحث عن المغني الذي ابتلع لسانه ودق في عينيه مسمارا صدءا. فتحت صدري باصابع حديدية ابحث عن قلبي الذي طار في حلم خرافي مخيف تاركا عنوانه مكتوبا بالفحم على جدران الذاكرة المتشققة "تجدني حيث اكون". الذاكرة عدم الزمان، والوهم يتثاءب، حيث الوهم افيون الشعوب، وحيث الشعب وهم الوجود، وحيث القشر تتراكم جدارا يغطي ويعتصر حقيقة ما يكون. قشرة الزمان، قشرة الوجود وقشرة العدم، غذاء البشر، دم وعرق وبول ولعاب وفيضان من الكلمات. وها أنا أمامكم - مثل دودة- أعلن وجودي، بكلمة أو أكثر وأطلب الحياة كثمن وحيد لصرختي الأولى، واطلب أيضا جذع الصنورة، والتي يجب أن تكون حيث تكون في هذه اللحظة ذاتها. البشر داء الوجود، ارحل عبرعيونهم أعواما واعواما ولا شيء سوى الدهشة والضجر. اسقط على فراشي من السكر، وأتقيأ على الجدارالمقابل، اقذف بامعائي على السقف الواطئ، ابتلع الفراش والسرير والحصيرة والكرسي والباب وقضبان الحديد، وأنتشئ برائحة المطر وظل الغيوم. ابكي واغسل عيوني وأصابعي، واشرب ماء أرضيا يسقط من السماء محملا برائحة الفقروالتفاهة والاعشاب البرية والرمل المبلل وظل النخيل، وأحن إلى العواصف الرملية تملأ مسامات الجسد بالتراب الأحمرالدقيق، القادم من اعماق الحمادات الخيالية، يتسلل عبرالعروق، يرسم خريطة الحلم في الوجه المغمض العينين، يحجب الشمس بغطاء شفاف يتساقط عرقا على الجباه. ابكي وتبكي معي مرورالزمن وتحجرالأحلام، وتبقى في الصدر صورة، تبقى في الصدرصورة بحجم الحلم. والحلم ليس رصاصة، والكرة الارضية اسفنجة تتشرب عذاب البشر. الأشجار تشير إلى السماء وإلى الأفق البعيد، حين تسقط تفاحة ناضجة من غصنها، أو يتدحرج حجر من أعلى الجبل ويستقر في قعر الوادي السحيق. التفاحة المتعفنة تنفجر فكرة مضيئة تبهر الدنيا والآخرة، ويغطى الله عينيه المتورمتين بيديه لإتقاء النور الساطع ويلعن في سره الأرض والحجر وشجر التفاح. وأتوقف للحظات في نهاية الشارع المعتم منتظرا هطول المطر.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خرائب الوعي 1- البداية
-
ليبيا .. الثورة القادمة
-
محطة الكلمات المتصلة
-
الفضيحة
-
حوار مع الله .. الحلقة السابعة
-
لقاء مع الله .. الحلقة السادسة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الخامسة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الثالثة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الرابعة
-
لقاء مع الله .. الحلقة الأولى
-
لقاء مع الله .. الحلقة الثانية
-
ليبيا: الثورة المسروقة .. مرة ثانية
-
ليبيا: الثورة المسروقة
-
بوادر هزيمة الثورة اللبية
-
العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثالثة
-
العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثانية
-
العدمية وأسطورة الكينونة
-
كوكا كولا... إشكالية المثقف
-
سفر العدم والجنون
-
الخيال
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|