أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال الدين أحمد عزام - خواء العودة















المزيد.....

خواء العودة


جمال الدين أحمد عزام

الحوار المتمدن-العدد: 4005 - 2013 / 2 / 16 - 14:23
المحور: الادب والفن
    


خواء العودة

كان يوما خماسينيا حارا و كانت الشمس كشقراء شعثاء، ترسل شعرها الذهبي الأجعد مبعثرا محمولا على الرمال و الهواء الساخن فيلفح الوجوه بأطرافه الحامية و يلتف بتجعده الخشن حول الرقاب ليخنقها بلهيبه. اقتربتُ مغالبا الأتربة، أطَل البيتُ القديم من بعيد، كانت الريح تصفر حوله عندما تحف بزواياه، يصفع بابه حلق مدخله المتهاوي كما تصفع دلفتي شيش نافذته الأرضية الجدار على جانبيها، كانت أصوات القرع المصدية تتبادل و تتوالى و كأن الباب و دلفتي الشيش فرقة بلهاء تعزف لحنا ناشزا مزعجا. يبدو أن البيت قد هجره أهله من سنين.
دخلت و زوم الريح كأنين وحش يحتضر. لم يتبقى في البيت شيء سوى جدرانه المشققة و أركانه التي تسكنها العناكب و بقايا مرآة مسودة الأطراف باهته معلقة على جدار الغرفة حيث النافذة الأرضية. لاحتْ لي صورتك في المرآة و أنت تمشطين شعرك. أفقت على ارتطام الشيش بالحائط، أين أنت؟! لم يتبقى منك سوى بعض من مرآة.
ما زالت عيناي تدوران في الغرفة، تتحسس أي ذكرى، ليس هناك سوى شقوق الجدران؛ سوى خطوط سوداء متعرجة كندبات غائرة في وجه أبيض، كلا، إنها ليست خطوطا، إنها بقايا دماء أمانينا، سائلة على الجدران، مبخوعة بقسوة بين الشقوق.
هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أدخل فيها غرفتك، لم يتسنى لي من قبل سوى إطلالة خجلى ألمح بها مرآتك من خلفك و أنت واقفة في نافذتك، كنت تفتحينها، تدفعين الشيش بهدوء عندما تستقبل أذناك المرهفتان دبيب خطاي و أنا مقبل نحو بيتكم. هل تذكرين شيئا من أيامنا؟! طفولتنا؟! مراهقتنا؟! شبابنا؟!
هل تذكرين الشتاء؟! كنت تتسللين دون علم من أمك سارقة قطعة من فطيرها الساخن، تلسع كفك الرقيقة، تتحملين جذوتها، تغطين كتفيك بشال ثقيل، تقابلينني أسفل نافذتك، تقسمينها بيننا، أتناول نصيبي من يدك ضاحكا على أنفك المحمرة.
كان الطريق الترابي، المار بنافذتك و المبلل بماء المطر، يتوهج دفئا عندما كنت تنتظرينني تحتها، ذلك أنك كنت ترسلين أسرار قلبك أطيافا سعيدة إلى السحاب الأبيض، تحتضنه ككنزات ملونه، تدفئها فتمطر قطرات عطرة تنمو بها النراجس حول بيتك. لم أشعر معك أبدا ببرودة الشتاء، بل أكاد أجزم أن الضاحية بأكملها كانت تشعر بذلك الدفء ينبعث من قلبينا الصغيرين.
هل تعلمين أنهم كانوا يعرفون كل ما كان بيننا، كانت أعينهم تقول ذلك عندما تقابل أعيننا في الطرقات، كانوا سعداء إذ نضيء ظلمة قلوبهم، كانوا يعرفون آثارنا، آثار أقدامنا في الدروب، يعرفون بقايا زينتنا الملونة التي نعلقها في العيد، يعرفون طائرتينا الورقيتين و هما تتعانقان أمام الشفق في أمسيات الربيع، كانوا يعرفون آثار أيدينا على الشجرة المطلة على البيوت البعيدة من فوق ربوتها.
هل تذكرين الشجرة؟! وردتك الحمراء التي تضعينها في شعرك؟! فستانك الأبيض؟! ضحكتك الطفولية و نحن نجري وراء بعضنا و ندور حولها؟! حديثنا الناهج عندما نستند بظهرينا إلى جذعها ثم نسكت من التعب فتتسلل إلى صدرينا نسمات الربيع تحف بأوراقها فتتراقص و تغني كجوقة أطفال فرحين يستقبلون العيد؟! هل تذكرين شيئا مما كان؟!
تركتُ البيت الموحش، انطلقتُ إلى الطريق المؤدي إلى شجرتنا. ها هي البيوت في الأسفل، غارقة في الضباب الأصفر الحار، و الشجرة جافة صفراء لا تملك سوى أغصانها العجوز العارية. لقد كانت حية بمس أيدينا لها، هل تذكرين كيف كانت تلامس أيدينا جذعها الكبير عندما كانت تتقابل أعيننا في نور الشمس الصيفية؟! كنت تخجلين من طول النظر و قد تنامى شبابك فتتملصين راكضة كالطفلة تسبقك تلك الضحكة الصغيرة. كان هذا هو أجمل ما فيك، طفولتك الدائمة. كنت دائما ترعين تلك الطفلة في داخلك و لا تتركينها تذبل. هل تذكرين؟! أم تراني مت فيك؟!
هل تذكرين عندما كنا نلهو بالفقاقيع و قد حل الخريف؟! كنا نتبارى من فينا ينفخ فقاعة أكبر. كنت أتمنى امتداد الوقت بنا حتى المغيب لنرقب شروق البدر على الضاحية، كنت لأخالنا داخل فقاعتين شفافتين مملوءتين بهواء رئتيك المعطر، تطفوان بنا إلى الأعلى، تصلان بنا إلى القمر، تتقابلان فتنفقئان عندما نهبط على سطحه، تتناثر بقاياهما قطرات متلألئة صانعة ذلك السنا الفضي، نرقبه و هو مرسل إلى الأرض و أيدينا متشابكة و أعيننا متعانقة. و لكني كنت أفيق دائما على صوت حفيف الأوراق الجافة الذهبية عندما تنفثينها من فوق كفيك على البيوت في الأسفل، تنثرينها تبرا لامعا فيتوهج لها شفق المغيب.
هل تذكرين ذلك اليوم المشئوم عندما رفضوني رغم علمهم بكل شيء؟! رغم علمهم باستحالة البعد بيننا؟! هل تذكرين تراجعك و انهيار مقاومتك أمام قسوتهم؟! كان المطلوب أن أشتريك و لكنني لم أكن أملك ساعتها سوى قلبي، هو ثروتي. لكنهم كانوا يبيعونك بالورق، لم أكن أعلم أنهم يظنونك جارية. ترى بكم باعوك؟! بكم باعوا العينين؟! الشفتين؟! الكفين؟! بكم باعوا شعرك؟! بكم باعوا قدميك؟!...بكم باعوا قلبك؟! كم كان ثمنه؟!
كان علي أن آتي بالورق، و ها قد جئت بالورق و الناس يعزونني بأعينهم في الطرقات، ليس لموت أهلي إنما لموت حبي الذي هو عمري. أرفع عيني في أعينهم و أرى ذلك العتاب. لقد خذلناهم، قتلنا أملهم، كنا نؤكد لهم و هم يرقبون حبنا البريء أن الحياة جميلة، أن الشتاء و الربيع و الصيف و الخريف كلهم ربيع، كلهم بهجة، كنا نخلق لهم ذلك القصر المسحور، نوردهم النهر الجاري تحته، يغترفون منه بأيديهم و يشربون الأمل.
تركتُ الشجرة و ذهبتُ إلى المقابر لألقي نظرة على قبرَي أبي و أمي. و بينما كنت أقرأ بعيني ما كتب على الشاهدَين، اخترق صوت المحرك الفظ سكون المكان، فتح السائق الباب، خرجتْ من السيارة الفارهة امرأة ترتدي السواد، نظرتْ إلي ببرود و هي تلقي السلام ثم وقفتْ إلى جواري أمام قبرَي أبيها و أمها، رفعت كفيها فأصدرت الأساور الذهبية الثقيلة صوتها المعهود و أخذت تقرأ الفاتحة، نظرتُ إليها و هي تقرأ، كيف لم تعرفني؟!
وليت وجهي بعيدا، تراءى لي فوق الشواهد فيلما قديما، تتخلل صوره المرتعشة المتقطعة خطوطا رأسية سوداء و بقعا صغيرة بيضاء...فتاة يافعة تجري، تختفي خلف جذع شجرة وارفة ثم تملأ ضحكاتها الفضاء صدىً عندما يغمر وجهها ضوء المساء الذهبي و هي تطل من مخبأها، تبتر الضحكة مع تنامي صوت آلة العرض و ظهور أرقام الختام.
سكن كل شيء و تلاشى عندما رحلت بسيارتها، لم يعد هناك سوى الصفير ولفح الريح الحارة و وحشة القبور، قرأتُ أنا الآخر الفاتحة على روح المرحوم و التي كان يجب أن أقرأها منذ ستة أعوام.
تمت



#جمال_الدين_أحمد_عزام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يقظة ذكرى
- العقاب
- كان لي صديق
- رائحة الليل
- المأوى
- تي
- الجلاد
- فستان الزفاف
- العصفور الأحمر
- ثورة يناير و نظرية الفوضى 1
- ثورة يناير و نظرية الفوضى 2
- وفاء
- رؤية
- زاد الرحلة
- الفنار
- الثورة و الثورية و الثوار


المزيد.....




- مصر.. عرض قطع أثرية تعود لـ700 ألف سنة بالمتحف الكبير (صور) ...
- إعلان الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشر ...
- روسيا.. العثور على آثار كنائس كاثوليكية في القرم تعود إلى ال ...
- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- -الأخ-.. يدخل الممثل المغربي يونس بواب عالم الإخراج السينمائ ...
- عودة كاميرون دياز إلى السينما بعد 11 عاما من الاعتزال -لاستع ...
- تهديد الفنانة هالة صدقي بفيديوهات غير لائقة.. والنيابة تصدر ...
- المغني الروسي شامان بصدد تسجيل العلامة التجارية -أنا روسي-
- عن تنابز السّاحات واستنزاف الذّات.. معاركنا التي يحبها العدو ...
- الشارقة تختار أحلام مستغانمي شخصية العام الثقافية


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال الدين أحمد عزام - خواء العودة