|
في فلسفة السقوط
وليد أحمد الفرشيشي
الحوار المتمدن-العدد: 4001 - 2013 / 2 / 12 - 17:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مسلّمات أولى حول إغتيال الرفيق شكري بلعيد
مسلّمة أولى: إغتيال
السّماءُ في تُونِسَ أقلَّ بهجةً منذُ الأمس... صرخَ صبيٌّ يقضمُ خبزْا... وحُرّيةّ... وكَرامةْ وطنيّة.. هل يترجّلُ الضوءُ عُريانًا هَكَذا... ليتحدّثَ همْسًا... و كأنّهُ يلقّنُ الموتَ... طقْسًا أخيرًا... كيفَ يكونُ للقَبِرِ الوَطَنِيِّ... شاهدٌ تغارُ منهُ كلُّ الشّواهدِ...؟ هل تهجرُ المطرُ... تلك العيونِ الوثنيّةَ... التّي تحتاجُ إلى مَنْ يُقْنِعهَا... أنَّ للحَيَاةِ في بَلدِ الحواةِ... سرًّا... لا يفتضّهُ الرّصاص؟
مسلّمة ثانية: التوابع و الزّوابع
في انتظار أن يشتعل عود ثقاب آخر في البلد المنكوب أصلاً في ثورته لا نملك إلا أن نتمنى أن يكون لنا سرادق عزاء في كوكب آخر غير هذا الكوكب. لأنه، بمنطق الزوابع والتوابع، لا يمكن لإفرازات السّنتين التّي قطعتهما الثورة باكية، أن لا تحفر قبرا عميقا جدا، داخل قلب كلّ تونسيًّ، بشاهدٍ ينتصبُ وحيدًا وسطَ حقلٍ من الجثثِ المتحرّكة. حقلٌ يسكنه هاجس مرعب: من التالي؟. فالحدث واحد مهما اختلفت التسميات (إغتيال، جريمة، قتل، تصفية) ومهما تعددت الفرضيّات ووجوهُ القتلة- المؤكّدين و المفترضين- ومهما تداول ممثلو الدرجة الثالثة على مسرح السياسة الوطنيّة مترحّمين و مندّدين و متّهمين و مطالبين بالقصاص. الحدث واحد، لأنه يحمل مفردة واحدة "الخوف". هو ذاك، تسويق الخوف، عن سبق إضمارٍ و بمشهديّة عالية، حتى تنطلي على الشعب الرّازح في أصفادهِ، بعد أن أوهموهُ بالحريّة، فكرة أنّه، لن يعرف طريقا إلى الحياة، وهو ما تطلق عليه- الرصاصات الغادرة- تفعيل آلية الموتُ. هل يوجدُ مخرجٌ واحدٌ للجبِّ الذّي وقع فيه التونسيّون؟ منطقُ الزّاوبع و التوابعِ يُنْبِؤُنا أنّهُ لا يوجدُ مخرجٌ واحدٌ غيرَ اليقظة المستمرّة لانّ الحدث السياسي و الإعلامي الذي نقلَ "فعاليات" إغتيال الشّهيد شكري بلعيد و جنازته- وفوقها آلاف التحليلات التّي إبتعدت بالفعل و القول عن الحدث الأصلي- تجاوز الشاشة ليسكن هادئا في أعماقنا المتوترة أصلا. لا داعي إذن للتفكير فيمن فعلها ولم فعلها. فإسم الضحية محفور دائما وأبدا، على مغلّف الرّصاصة التّي إستهدفته، أمّا التركيزُ الإعلامي المفرط على الحادثة و توجيه الرأي العام وحشره في زاوية بعينه، فليس إلاَّ تنويعةٌ جديدة على متلازمة الرعب/ المؤامرة.
مسلّمة ثالثة: الرّصاصة بدل الكلمة
بدأ الحديث بخفوت أقرب إلى الهمس: - لا تدرْ وجهك هناك. لا يوجد شيءٌ هناكْ. - لماذا تتحدّثُ همْسًا. هل تخشى الموتُ. - الموتُ يشبهُ الهمس. ألا يبدو لك الأمرُ بديهيًّا. - أيَّ أمرٍ؟ - هُناكَ من يحفرُ الأرضَ تحتَ أقدامِنَا. - لم يفعلُ ذلك؟ -منْ؟ - الذّي يحفِر الأرضَ تحتنا. - لا أعلم. ولكن لا ترفع صوتك. إهمس هذا أفضلْ. - هل أنت خائف؟ - أجلْ. أنت تفهمُ الآنَ كيف تغتالٌ الرّصَاصةُ الكلمةَ و هي تطاردها أينما قيلتْ. هل تشمُّ ما أشمُّ؟ - أنا مزكوم. - أشمُّ رائحة الحرائق ولكنّي لا أرى نارًا أوْ دُخانًا. منْ أين تأتي الحرائقْ؟ - لا أعلم. ربّما كان هناك طفلٌ يلهوُ بعلبة كبريت. ربّما كان شيخًا طاعنا في الخرف. ربّما كان غريبا عن البلدْ. لم لا تكون أنتَ؟ - لا.لا. لستُ أنا. الحقيقة لا أعلم. أعرفُ فقط أن جدّتي قالت لي يوما أنّ الشارع الكبير يقسم البلد إلى نصفين. كلّ نصف يخطّط للإغارة على النصف الآخر. و كلّ نصفٍ ذئبٌ على النّصفِ الآخر. - أكادُ أشكُّ أنّي عشتُ يوما في تونس. أخفتني جدّا. سأرحلْ. - نعم إرحلْ. ولكن لا تدرْ وجهكَ إلى هناكَ. - هناكَ أين. - النصف الآخر من البلدْ. سيمنحونك بدل الكلمة رصاصة. - شكرًا. همسُك لهُ رائحةُ الموت.
مسلّمة رابعة: السّقوط
في هذه اللحظة يخيّلُ إليّ أنني لا أرى في تونسَ إلاَّ وجوهًا مرصوفة في تتابعٍ غريبٍ و هي تفكّكُ إغتيال شكري بلعيد من خارج السّياقِ. الكلُّ يريدُ أن يستأثر بالحدث نفسه و إستثمارهِ في قتل خصمه معنويًّا وقتل الوحدة الوطنيّة التّي نظّر لها الشّهيدُ. في هذه اللحظة يخيّلُ لي أنّ تونس تبتكرُ فلسفتها الخاصّة حاملة بين يديها شهيدا مثقوبا بالرّصاص. تلك هي فلسفة السّقوطُ التّي بشّر بها الآلهة الذّين استوطنوا أولمب الثوّرة. ديانةٌ يعتنقها الكلُّ سرا، ويرفضونها جهرا، ويشتركون في تأجيل إنحسارها عن فضاءاتنا العامّة. ومع تزايد عدد مريديها، لا مناص، لشعب وأحزاب "السقطة تلو السقطة"، سوى أن يتغلغلوا اكثر، في سنوات الرعب الكابوسية القادمة، أو أن ينتحروا جماعيا، كما تفعل، الفقمات والدلافين، والحيتان البحرية. فأمام احتباس القيم، و إجهاض الوحدة، والارتهان لفلسفة السقوط سنقف مدهوشين أمام أكبر مؤامرة في تاريخ تونس الحديث، مؤامرة يشترك فيها الجلاد والضحية، الحاكم و المحكوم، القاتل و المقتول، على حدّ سواء.
#وليد_أحمد_الفرشيشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شكري بلعيد....عندما تُغتالُ معجزة في المدينة
-
في عينيكً بيتٌ عتيقٌ
-
قصائد نيّئة
-
إلى دمشق...سلامًا...سلامًا
-
فصّلتْ
-
هيه !! (قصّة قصيرة)
-
كلمات
-
-الذلّ و الضباع-
-
تلك التي تأتي ليلا
-
ثلاث و ثلاثون مرّت...
-
هذه الموجة خالصة لي
-
فصل العمل الدعوي عن العمل الحزبي: لهذه الأسباب تخشى النهضة ع
...
-
قلب بين ضفّتين
-
سأصعد وحيدا إلى السماء
-
رحيق العمر
-
ببساطة جارحة سأقولها…
-
تقدمة قابيل الأخيرة...ما أغفله الكتاب...
-
تقدمة قابيل الأخيرة
-
بورتريه: الشيخ راشد الغنوشي...من يزرع القلق يحصد الإختلاف
المزيد.....
-
تنبيه مهم للعرب المبتعثين بالولايات المتحدة.. جامعات أمريكية
...
-
وزيران كنديان يتوجهان إلى فلوريدا لإجراء محادثات مع إدارة تر
...
-
اختبار بسيط يكشف مستوى لياقتك البدنية وصحتك العامة
-
الكويت تسحب الجنسية من 3701 شخص
-
-تاس-: البنتاغون يرفض التعليق على نبأ إسقاط مقاتلة -إف-16- ف
...
-
سلطات سورينام تحقق في ظروف وفاة رئيس البلاد السابق
-
علامات تحذيرية على الأظافر قد تنذرك بارتفاع الكوليسترول
-
زعماء العالم الحر باتوا يعتبرون ترامب عدوا سياسيا خطيرا
-
تفاعل كبير على مواقع التواصل بسبب -مسدس الشرع- خلال لقائه ال
...
-
تطورات طبية هامة في 2024
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|