|
قراءة في رواية جرحى السماء لأم الزين بن شيخة المسكيني
سلمى العطى
الحوار المتمدن-العدد: 4000 - 2013 / 2 / 11 - 00:18
المحور:
الادب والفن
يعتبر فرانز كافاكا أنّ الكتابة انفتاح على جرح ما ،إنّها ممارسة تنبع من الأنا و لكنها تتجاوزه نحو الآخر ، قد يكون الآخر حلما،قضية،وطنا و قد يكون أيضا جرحا و كلما.و من بين حكايا الجرحى اختارت الأستاذة أم الزين بن شيخة المسكيني أن تحدثنا عن جرحى السماء مثلما حدثنا قبلها الفرنكوفوني سامبا ساو (Pape Samba Sow )عن جرحى الملائكة و خبّرتنا الكاتبة الأمريكية فيكتوريا لانسلوتا (victoria lancelotta)عن جرحى القلوب. جرحى السماء عنوان تكوّن من عبارتين و اختزل عبرات كثيرة و أسئلة أكثر: من هم جرحى السماء؟ هل هم كائنات من ورق أم من نور أم من نار ؟هل هم ملائكة أم شياطين؟جنّ أم إنس؟ يدعوك العنوان إلى التساؤل وهي وظيفة اساسية لفعل العنونة فالعنوان حسب امبرتو ايكو(Umberto Eco) "يشوش الأفكار لا يثبتها" إنّه يفاجئ المتلقي بكسر أفـق التوقع لديه، فهو يفهم مـن العنوان شيئًا ما- وقد لا يفهم أيّ شيء – ثم يصطدم بالنص ليفهم رسالته . و يشي الغلاف نفسه بالثنائيات الكامنة في أصقاع الرواية فالشجرة المنتصبة ككلّ منشطر إلى نصفين ماهي إلا انعكاس لأقحوانة بطلة الرواية :نصف داكن السواد و آخر ذو حمرة قانية. يمثّل الأحمر حسب معجم الرموز لجون شوفالي (Jean Chevalier)و آلان شربران(Alain Cherbrant) لون النار و الدم وهو محفّز على الفعل ، يكسب ببريقه القوة للأشياء ، في حين يتميّز اللون الأسود بجانبه البارد السلبي فهو لون الحداد. تحمل الشجرة كآلهة النص أقحوانة وجهين إنها تذكرنا بالإلاه الإغريقي جانيسJanus) (صاحب الوجهين ،حارس الأبواب الذي يمتلك وحده مفاتيحها و كذلك هي أقحوانة تأخذنا معها في رحلة طويلة بحثا عن المعنى، فتقسم عالم الرواية إلى ستة عشر بابا . أوّل أبواب الرواية ضجيج ، هو صوت العشق الصاخب ،عشق أقحوانة للشمس إذ تفرد لها في الباب الثاني أنشودة تغرد فيها العاشقة : أنا شيء من الشمس و بعض الشمس يرنو إلي و يغازلني الضوء المسافر في دمي و الشمس بعض من دمي قدّ كل باب من أبواب الحكاية بالحلم و الخيال و النور و النار، تأخذك أقحوانة معها على بساط الرحلة فتخترق حواجز المكان و الزمان و الهويّة. و لعل سؤال الهوية هو اوّل ما يتبادر إلى ذهن ضيف الرحلة فمن هي اقحوانة ؟ يعتبر موريس بلانشو أنّ البطل اسم بل هو قبل كل شيء اسم و قد ذهب بارط إلى نفس المعنى في قوله : الاسم العلم سيّد الدوال . تحمل بطلة الرواية اسم أقحوانة المشتق من الاقحوان و بالعودة إلى لسان العرب لابن منظور وجدنا الدلالة التالية : الأقحوان و هو في التقدير أفعلال من نبات الربيع مفرض الورق دقيق العيدان له نور أبيض كثغر جارية حدثة .تنتمي أقحوانة لغة إلى الارض و لكنها لا تقنع أنطولوجيا بسكونها و قرارها فتطلب المطلق و ترنو إلى النور. هي عاشقة الشمس و عاشقة النور التي أطردها أهل مدينتها لخطيئتها ،لأنها غرّدت خارج سربهم الذي يعبد الظلام. فيتردد في صخب نشيدها تغريد الشابي : إلى النور فالنور عذب جميل إلى النور فالنور ظل الإلاه و تجعلنا نسأل في غمرة الضجيج الذي يحدثه عشقها في كياننا : هل ستصمد العاشقة أمام نور الشمس الساطع أم ستخونها أجنحة عشقها و تذوب بحرارة الشمس كما ذابت قبلها أجنحة ايكاريس؟ رحّالة هي أقحوانة تكسر في رحلتها نواميس الزمن الصارمة و تخرج من شرنقة التاريخ لتنتقل بحرية بين عتباته.نجدها تارة في جموع الثائرين التونسيين شاهدة على وقوع الشهداء و تارة أخرى ترتحل في أزمنة مختلفة فتحاور شخصيات من قرون متنوعة، تخرجهم بسلطة الكلمة من كتب الادب و الاخبار و النقد فتنطقهم ليعود الحلاّج باحثا عن اطرافه التي قطّعت، و يرجع عاشق الخمرة ابو نواس من خمارة التاريخ و تنهض الخنساء من سبات الصمت لترثي شهداء الثورة و ينفلت صعلوك غريب من صرامة التاريخ ليحلم بالخبز و الشمس. تشترك شخصيات الرواية في فعل البحث : تبحث أقحوانة عن عالم بديل ،عن مدينة جديدة بعد أن أحرق العالم الأول الذي كانت تنتمي إليه و منعت الدولة الاشتغال بالقلم و بيع الحبر و الورق و سمّمت نبتة الحلفاء. و تعجز أقحوانة على العيش في عالم موءود الفكر يتيم الثقافة فأقحوانة كشهرزاد تموت إذا لم تحكي فهي تقتات من الكلمات و ترتوي بالمداد. و لكنها توكل دور شهرزاد لابنتها ياسمين و هي ثائرة كأمها ترفض أن تحدث شهريار عن السندباد و الجواري و علي بابا و الاربعين لصا بل تحدثه عن لصوص الشعب و عن جوعه و فقره و حاجته ،فيطلب منها شهريار بنرجسية ذكورية كوني جميلة و اصمتي بيد أنّ شهرزاد التي انفلتت من ألف ليلة و ليلة تغادر خدر شهريار و تنفض عنها غبار السنين فإذا بها في المجلس التأسيسي يقدمون لها حقيبة النساء و لكن سرعان ما يتبخر حلمها إذ يترصّد الحجاج بالرؤوس المثقفة تسأله شهرزاد : ما فتواك يا سيدي في أهل الأدب و أصحاب القلم صاح بها الحجاج هؤلاء سنقطف رؤوسهم كلما أينعت. و لئن كان الزمان في رحلة أقحوانة متشظيا متغيرا فإن المكان أكثر تنوعا و اختلافا فوجود أقحوانة ارتحال لا يقف و حيرة لا ترتوى. تشدّ أقحوانة الرحال إلى مدينة جديدة كل مافيها قابل للاحتراق العباد و البنيان: يحترق الكتاب باحتراق المكتبة الوطنية و تحترق الثقافة باعتقال أصحاب القلم و يحترق البشر باحتراق محمد البوعزيزي. حمقاء هذه المدينة هكذا تصفها أقحوانة : حمقاء هذه المدينة لا فرق فيها بين الورد و المزبلة حمقاء هذه المدينة لا فرق فيها بين العرس و المقصلة تقرّر أقحوانة الرحيل من جديد من البلد و الجسد لتكون صدفة بحر يقول الفنان الهولندي فان غوخ : يعرف الصيادون أن البحر خطر و أنّ العاصفة شديدة لكنهم لم يظنوا أبدا أن هذه الاخطار تمثل سببا كافيا للبقاء على الشاطئ. و هكذا اختارت أقحوانة البحر علّها تصطاد رواية جديدة تخطّها أو ثورة أخرى تنصفها. تسأل باقي الصدفات عن الهويّةّ فقد هربت من مدينة احترقت من فرط صدام الهويات ثم تحدث صاحباتها عن الثورة ،عن تاريخ الثورة في تونس.. تخبرهن عن كلاب الثقافة الذين يترصدون رؤوس المثقفين و أقلامهم ،إنّهم كلاب الحراسة بتعبير بول نيزان إذ يقول هذا الكاتب البيت الآمن لا يحتاج إلى كلاب حراسة و إذا بالبحر يتحول إلى فضاء للصراعات الايديولوجية فتتصادم القروش و السلاحف و تتكاثر الأحزاب و في سوق الديمقراطية يعد كل واحد منها بمدينة فاضلة غير أنها مدينة دون خيال إذ تقول إحدى كائنات البحر لأقحوانه : أنت ممنوعة من الحلم ومن الرقص ألم تسمعي بأن دستورنا الجديد قد حجر على سكان البحر امتهان الفن ؟ هي مدينة ترفض الشاعر كمدينة أفلاطون الفاضلة. و كما يقول الشاعر أحمد مطر : احتمالان أمام الشاعر الحر إذا واجه أسوار السكوت احتمالان فإماّ أن يموت أو يموت و لكن أقحوانة تموت لتحيى من جديد كالعنقاء دوما ما تنفلت من رمادها إذ تقول أنا كائن ناري لا يموت محتضرا على فراش كسول تمثّل أقحوانة الأنثى بكل تناقضاتها : هي الثائرة و الحائرة ،السائلة و المجيبة ،الوالدة و الوليدة ،النور و العتمة، الملاك و الشيطان، الجنية و الانسية ، الشاهدة و الشهيدة . ينتصب نص جرحى السماء بينك و بين نفسك يدعوك أن تكون، أن تجتاز الوجود كأقحوانة مسآلا، توّاقا للمطلق ،باحثا عن الكيان. هكذا حدثت أقحوانة ..
الهوامش: 1- Alain Cherbrant ,Jean Chevalier ,Dictionnaire des symboles,Bouquins p672 2-1أم الزين بن شيخة المسكيني،جرحى السماء،جداول،ط1 ص9 3-ابن منظور ،لسان العرب،دار صادر ط4 2005 ،جزء 1ص 32 4-1أم الزين بن شيخة المسكيني،جرحى السماء،جداول،ط1 ص55
#سلمى_العطى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|