أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - علاء عوض - الاخوان المسلمون واليسار الاشتراكى فى مصر...نظرة عامة















المزيد.....



الاخوان المسلمون واليسار الاشتراكى فى مصر...نظرة عامة


علاء عوض

الحوار المتمدن-العدد: 3997 - 2013 / 2 / 8 - 23:40
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


تقديم:
فى فبراير عام 1977 وعقب الانتفاضة الشعبية الهائلة فى يناير من نفس العام كتب عمر التلمسانى فى افتتاحية مجلة الدعوة واصفا الاتتفاضة بأنها "مرض أصاب طوائف الشعب" وطالب بتطبيق الشريعة الاسلامية وحدود الله على من أسماهم ب "مثيرى الشغب". وكان مفتى جماعة الاخوان المسلمين قد أصدر فتوى فى أعقاب الانتفاضة تنادى بتطبيق حد الحرابة على المشاركين فيها. وفى سياق متصل كتب محمد عبد القدوس فى مجلة الدعوة "ان أحداث 18 و 19 يناير قد أثبتت أصالة الجماعات الاسلامية" وأضاف أن " العناصر الإسلامية لم تخدع بهذه الأحداث مما أفسد مخططها. فمثلا الطلبة المنضمون إلى الجماعات الإسلامية فى الجامعات والمعاهد لم يخدعهم بريق الوعود الزائفة مما كان له أثر كبير فى إمكان القضاء على الفتنة بسرعة. وكنا نتمنا أن يدرك المسئولون هذه الوقفة المؤمنة من الجماعات الإسلامية والتى أثبتت فى هذه الأيام السوداء أصالتها وأصالة الفكر الإسلامى الذى تعتنقه". وكانت جماعة الاخوان المسلمون قد أرسلت خطابات تأييد للسادات عقب الانتفاضة وصفتها فيه بأنها مؤامرة شيوعية.
قبل الانتفاضة بسنوات كانت الصفقة بين نظام االسادات والجماعات الاسلامية -التى شكلت النواة الأهم لاعادة بناء االنسخة الأحدث من جماعة الاخوان المسلمين- واضحة، وهى السماح لهم بالعمل السياسى بحرية داخل الجامعات للتصدى للمعارضة اليسارية والناصرية فى ذلك الوقت. وقد تزامنت هذه الصفقة مع التحولات الاقتصادية التى تبناها السادات فى دعم الاقتصاد الحر والخضوع لشروط صندوق النقد الدولى وبداية عملية تصفية القطاع العام وانسحاب الدولة من الخدمات والمرافق العامة، تلك التوجهات التى شكلت ما سمى بسياسة الانفتاح الاقتصادى. يقول القيادى الاخوانى -المنشق حديثا- عبد المنعم أبو الفتوح فى كتابه "شاهد على تاريخ الحركة الاسلامية فى مصر 1970-1984" واصفا حالة التواجد السياسى فى الجامعات فى سبعينيات القرن العشرين " فى هذه الفترة كانت التيارات القومية والناصرية واليسارية هى التى تسيطر على الجامعة واتحادات الطلاب فيها، وكانت أفكار هذه التيارات خاصة اليسارية بمثابة الصدمة لى ولأمثالى
من الشباب البسيط المتدين". كان الدور المطلوب من الجماعات الاسلامية فى تلك المرحلة هو التصدى للأفكار اليسارية بكل الوسائل الممكنة والحيلولة دون تغلغلها فى المجتمع الطلابى. وقد اعترف أبو الفتوح فى كتابه بعجز هذه الجماعات عن المواجهة السياسية والفكرية لتيار اليسار حين قال "ان تصادمنا مع اليساريين والشيوعيين فى حوارات كنا الذين ننال الهزيمة فيها غالبا، نظرا لثقافتنا القليلة السطحية وعدم خبرتنا بالحوار والجدل النظرى، فلم تكن لدينا القدرة على الرد أمام القضايا التى كان يثيرها هؤلاء الطلاب المثقفون المدربون جيدا على مثل هذه المناقشات"، ومن ثم لم تتورع هذه الجماعات عن استخدام العنف البدنى فى مواجهة اليساريين، والتاريخ ملئ بالعديد من الأحداث التى تؤكد هذا الدور، ربما كان أبرزها الاعتداء الوحشى على المناضل صلاح يوسف فى جامعة أسيوط والذى كاد أن يفقد حياته من جرائه. بل ان أبو الفتوح نفسه لم ينكر ذلك العنف حين قال فى نفس الكتاب " كانت مواجهتنا مع الطلبة الشيوعيين تعبير عن حسنا الجهادي أحيانا الذي كان يدفعنا إلى السعي إلى تغيير المنكر باليد أي بالقوة". والواقع أن تلك الصفقة الثابتة تاريخيا، والتى لعبت فيها الجماعات الاسلامية فى الجامعات فى تلك الفترة دورها على أكمل وجه، لم يستطع أبو الفتوح أن ينكروجودها، رغم اعتراضه على تعبير الصفقة، حين قال "لم نسمع أبدًا في عهد السادات، فترة السبعينات، أن أحدًا اعتقل منا أو من الإخوان، أو حتى تم استدعاؤه أمنيًا، ولم يمنعنا من توزيع كتاب أو مطبوعات من أي نوع، ولم نر ضابط أمن دولة يدخل الجامعة ويعترض على أي عمل من أعمالنا". كان ذلك فى الوقت الذى لم تخلو فيه سجون السادات يوما من المعتقلين اليساريين.
قبل هذه الوقائع بنحو عقدين من الزمان، وتحديدا فى عام 1952 -وهو عام مذبحة كفر الدوار والذى أعدم فيه اثنين من العمال المصريين وهما مصطفى خميس ومحمد البقرى بعد محاكمة صورية أمام مجلس عسكرى عقب اضراب عمالى ضخم شارك فيه أكثر من عشرة آلاف عامل- كتب المنظر الاخوانى الهام سيد قطب (صاحب كتاب معالم فى الطريق والذى يمثل ركنا جوهريا فى أيديولوجية الاخوان المسلمين) واصفا الاضراب بأنه "من صنع أخطبوط الاستعمار والرجعية" ودعا الى استخدام أقصى درجات العنف فى مواجهته قائلا "لقد أطلع الشيطان قرنيه، فلنضرب ونضرب بقوة، ولنضرب بسرعة، أما الشعب فعليه أن يحفر القبر ويهيل التراب".
الاخوان المسلمون والامبريالية:
كانت جماعة الاخوان المسلمين قد ظهرت فى مصر عام 1928 فى أعقاب انهيار دولة الخلافة العثمانية وكرد فعل لظهور أفكار التحرر والاستقلال الوطنى ومشروع بناء الدولة الوطنية وغيرها من الأفكار الحداثية الخاصة بحقوق المرأة والأقباط والتى تزامنت مع ثورة 1919. وبرغم أن هذه الأفكار الحداثية لم تكن جذرية فى جوهرها لأسباب تتعلق بطبيعة التركيب الطبقى للمجتمع، لا يتسع مجال المقال للخوض فيها، الا أنها كانت تمثل تهديدا من وجهة نظرهم ل "صحيح الدين"، وتفتح الطريق لغزوة ثقافية علمانية تمثل خطورة على أيديولوجيتهم. والتاريخ يشير الى طبيعة علاقة هذه الجماعة مع الأفكار والحركات الوهابية ونظام آل سعود من خلال أشخاص مثل رشيد رضا، بل أن علاقة الجماعة بالاحتلال البريطانى هى أيضا محل جدل تاريخى، فهناك من يرى أن الانجليز قد سمحوا لهذه الجماعة بالتواجد ودعموها ماليا من خلال شركة قناة السويس التى يسيطرون عليها، بهدف التصدى لأفكار الاستقلال الوطنى. بدأت الجماعة نشاطها فى اطار العمل الدعوى الذى سرعان ما تطور الى ممارسة سياسية واضحة بعد أن أعلن حسن البنا أن الاسلام دين ودولة.
لم يكن عداء الاخوان للاحتلال البريطانى عداء ضد الاستعمار والامبريالية بوصفها استغلالا لمقدرات الشعب المصرى ونهبا لثرواته وعرق عماله وهيمنة اقتصادية وسياسية وعسكرية، بل بوصفه يشكل عائقا أمام استعادة دولة الخلافة الاسلامية، ويسمح بظهور تيارات ثقافية متأثرة بالغرب. كان عداء الاخوان للاحتلال البريطانى ينطلق من مفاهيم بعيدة تماما عن الوجه القبيح للامبريالية، ولم يخرج عن نطاق العداء الثقافى والأيديولوجى البعيد تماما عن أى رؤية طبقية. والواقع أن الاخوان لم يميزوا بين عدائهم للمحتل وعدائهم لحزب الوفد الذى كان يرشح أقباطا على قوائمه الانتخابية والذى كان ينادى بدولة الدستور والبرلمان، فكلاهما لا يصب فى مشروع دولة الخلافة القائمة على البيعة. وفى هذا السياق لم يتورع الاخوان منذ عهد حسن البنا عن التحالف مع الملك وحكومات الاستبداد مثل حكومة اسماعيل صدقى فى مواجهة الوفد، ووقفوا ضد اللجنة العليا للطلبة والعمال عام 1946، بل أنهم أعربوا عن استعدادهم لتنصيب فاروق خليفة للمسلمين لنصرة مشروعهم.
يقول طارق البشرى فى وصفه لاسماعيل صدقى "وصدقى بأى معيار من المعايير هو رجل المصالح الأجنبية في مصر، ومن الناحية الوطنية لم يؤثر عنه إلا العداء لكل فصائلها، ومن الناحية الديمقراطية هو من هو من أشد الأعداء لها، ومن الناحية الاقتصادية هو ذو العلاقة العضوية الوثيقة برؤوس الأموال الأجنبية"، ويضيف عن موقفه من الاحتلال البريطانى "كان ظن صدقي أنه يمكن تحقيق الجلاء بالمفاوضة مع إنشاء حلف عسكري اقليمي مع بريطانيا وان هذا سيؤدي إلى تصفية المسألة الوطنية". والواقع أن هذا الموقف من الاحتلال لم يكن مختلفا عن موقف الاخوان، فقد ذكر ذلك أيمن الظواهرى (الزعيم الحالى لتنظيم القاعدة) فى كتابه "الحصاد المر، الاخوان المسلمون فى ستين عاما" فى سياق تقييمه لعلاقة الاخوان بحكومة اسماعيل صدقى "بل إن البنا نفسه له رأي عجيب في التحالف بين مصر والغرب بعد الاستقلال، فقد نشرت صحيفة الإخوان المسلمون حديثا للمرشد العام، أجاب فيه على أسئلة مراسل أمريكي تدور حول امكانية التصدي لثورة بلشفية قد توجدها روسيا في الشرق الأوسط، وأجاب بضرورة الارتباط بتحالفات مع دول الغرب بعد الاستقلال، تسهم بمقتضاها هذه الدول في تكوين جيوش محلية وصناعات عسكرية، تمكن أهل المنطقة من التصدي لمثل هذه الثورة، وحتى يتدخل للاشتراك في صدها "، بل ان الظواهرى فى ذات الكتاب قد وصل الى أن الاخوان قد لعبوا دورا كبيرا فى اختيار صدقى كرئيس للحكومة. والواقع أن هذا الموقف كان ممتدا عبر تاريخ الاخوان، فلم يتنكر له القادة اللاحقون للجماعة، بل دافعوا عنه، فيقول عمر التلمسانى "صدقي باشا لم يكن محبوبا من الشعب، وكان قاسيا في حكمه على الجماهير، وكان يصف الشعب المصري بأنه شعب كل حكومة! وقد كان مخطئا في نظرته، استبداديا في معاملته للجماهير، لكني كنت أراه سياسيا واقعيا، يدير سياسته على أساس من الواقع الذي يعيش فيه، كانت سياسته أن الحقوق إذا استحال الحصول عليها كلها، فمن الخير أن يحصل عليها جزءا بعد جزء، وفي هذه السياسة ما لا يضر، إذا ما تتابعت الجهود". كان الاستقلال الوطنى لدى الاخوان لا يتناقض مع بناء أحلاف غسكرية مع الامبريالية، بل والسماح لها بالتدخل العسكرى المباشر لقمع أى فعل ثورى محتمل، ولم يكن لديهم أى تناقضات مع المصالح الاقتصادية الأجنبية فى مصر.
كما شرع الاخوان فى بناء تنظيمهم الدولى منذ مراحل مبكرة فى تاريخهم التظيمى لينقلوا نشاطهم الى صعيد أممى، ولكنها ليست أممية تهدف الى توحيد نضالات المضطهدين ضد الامبريالية والاستغلال الطبقى، بل هى أممية تتسم بتكريس التمييز العنصرى ضد المرأة وأصحاب الديانات الأخرى والعداء للديمقراطية والحريات والفنون والثقافة، انها ببساطة أممية شديدة الرجعية.
لم يكن عداء الاخوان للصهيونية بعيدا عن أفكارهم الرجعية، فلم يستطيعوا أن يميزوا بين اليهودية والصهيوينة، ولم يلتفتوا الى الطبيعة العنصرية والاستعمارية للصهيونية ودورها فى استغلال الشعب الفلسطينى والشعوب العربية، ولكنهم واجهوا هذه الحركة العنصرية بأفكار وأنشطة شديدة العنصرية أيضا. فلم يتورع الاخوان فى مصر عن مهاجمة التجمعات اليهودية والاعتداء عليها فى أربعينيات القرن الماضى، بل أنهم حتى لم يميزوا بين الطبقات الاجتماعية المختلفة فى نسيج المكون اليهودى فى التركيبة السكانية فى مصر، فاعتدوا وأحرقوا حارة اليهود التى يسكنها الفقراء، واعتدوا أيضا على الاستثمارات الضخمة التى يملكها اليهود، وكان العامل المشترك الوحيد بينهم أنهم يهودى الديانة. وطوال تاريخهم كانت أشكال العداء للكيان الصهيونى تقوم على أيديولوجية التمييز العنصرى، وأتصور أننا لو افترضنا أن سكان فلسطين كانوا من غير المسلمين، وكان الغزاة من المسلمين، لتغير الموقف لديهم، وأصبح الاحتلال هو استعادة لمجد الأندلس.
عقيدة التنظيم والعنف:
كانت عقيدة التنظيم هى أهم مكونات أيديولوجية الاخوان والتى مكنتهم من الحفاظ على بقائهم طيلة هذه العقود، وتقوم هذه العقيدة على أسس شديدة المركزية وتفتقد الآليات الديمقراطية وعلى فكرة البيعة والسمع والطاعة، والتى يرضخ من خلالها الأعضاء الى آراء وتعليمات قياداتهم باعتبارهم أصحاب الولاية. وقد قدم الاخوانى المنشق ثروت الخرباوى فى كتابه "سر المعبد" صورة واضحة لأشكال التجنيد وتربية واعداد الكادر بما يسمح بالتحكم الكامل فى السيطرة على أفكاره، ووصلت حدود التمييز العنصرى فى أيديولوجيتهم الى تضييق الانتقاء ليصبح فقط بين أعضاء الجماعة دون غيرهم، فلم يعد التمييز فقط بين المسلمين وغيرهم، بل تخطى ذلك بكثير ليصبح بين أعضاء الجماعة دون سواهم باعتبارها "جماعة المسلمين". وقد استخدمت الجماعة فى بناء التنظيم خطابا دينيا متطرفا، كما استطاعت الجماعة فى تطورها فى العقدين الأخيريين أن تتحول الى امبراطورية اقتصادية كبرى تمتلك قاعدة استثمارية ضخمة فى القطاع التجارى والمصرفى والعقارى على المستوى المحلى، بل والدولى أيضا، وكلنا يعرف تجربة بنك التقوى التى تزعمها العديد من القيادات الاخوانية مثل يوسف ندا ويوسف القرضاوى. وفى بعض التقديرات وصلت اجمالى استثمارات الاخوان فى مصر قبل 25 يناير 2011 الى مايزيد عن 20% من اجمالى الاستثمارات المحلية. والواقع أن هناك حالة شديدة من الخلط فى طبيعة ملكية هذه الاستثمارات، وهل هى تخص الجماعة أم أنها ملكية مباشرة لقياداتها، الا أن الأمر الثابت أن هذه الاستثمارات كانت تقدم فرص عمل لشباب الجماعة وتفتح لهم الباب لحل بعض مشاكلهم الاقتصادية. بالاضافة الى ذلك فان العلاقات الدولية الواسعة للجماعة قد سمحت لها بايجاد فرص للعمل خارج البلاد لأعضائها الباحثين عن عمل. كل هذه الوسائل قد ساعدت الجماعة على بناء تنظيم حديدى، يتسم بالعسكرة (من حيث طبيعة العلاقات التنظيمية وليس بمعنى التسليح) ويعادى أى آليات ديمقراطية فى ادارته.
لم يكن العنف شيئا غريبا عن التراث السياسى لجماعة الاخوان المسلمين، ففى مرحلة مبكرة من تاريخها أسس حسن البنا النظام الخاص (نواة ميليشيات الاخوان) الذى سلم قيادته لعبد الرحمن السندى، وقد مارس هذا التنظيم العديد من عمليات الاغتيال السياسى المعروفة مثل اغتيال النقراشى والخازندار وغيرهما. وبرغم الادعاءات التاريخية بأن هذا التنظيم كان يستهدف مقاومة المحتل البريطانى وأنه شارك بشكل عميق فى حرب فلسطين عام 1948 فان وقائع التاريخ لا تنطق بذلك، قلم يذكر التاريخ أى مواجهات مسلحة بين هذا التنظيم وبين المصالح الاقتصادية البريطانية فى مصر. يقول على عشماوى (آخر قادة التنظيم الخاص لجماعة الاخوان المسلمين فى مصر) فى مذكراته التى صدرت بعنوان "التاريخ السرى لجماعة الاخوان المسلمين" فى معرض حديثه عن هذا التنظيم "ان قيادة التنظيم الخاص كانت مخترقة من الأجهزة الغربية الاستعمارية وتعمل لحسابها، وأن جميع الأعمال الكبرى التى يتفاخر بها الإخوان فى تاريخهم قد تم تفريغها من نتائجها، فمثلاً حرب فلسطين التى يفخر بها الإخوان باستمرار، فإنهم لم يدخلوا إلا معارك قليلة جدًا فيها، ثم صدرت من الشيخ محمد فرغلى الأوامر بعدم الدخول فى معارك بحجة أن هناك مؤامرة لتصفية المجاهدين"، ويستطرد فى سياق عرضه لغضب شباب الجماعة من هذا القرار واصرارهم على التصدى للقوات البريطانية فى مصر "هناك واقعة حادث فندق الملك جورج بالإسماعيلية، وقد كان هذا الفندق يعج بالإنجليز و بالجواسيس فى جميع الأشكال، وقد أراد الإخوان ضرب هذا الفندق، ولكن حين تم التنفيذ تم إفراغ العملية من أى تأثير ضار بالإنجليز، وكان من نتيجة ذلك أن قتل منفذ العملية دون أدنى ضرر بالإنجليز". كان اذن النظام الخاص هو الأداة العسكرية للجماعة، والتى يتم استخدامها فى أعمال العنف والاغتيالات السياسية التى تخدم سياساتها وأهدافها، مستغلة فى ذلك الميل الجهادى لدى أعضائها والذى يتم مغازلته بخطاب دينى متطرف، وقد ذكر ذلك أيضا على عشماوى فى مذكراته حين قال "أن الشئ الذى يتعب شباب الإخوان هو تفكيرهم الدائم فى الجهاد، وكان من السهل قيادتهم حين تحدثهم فى هذا الأمر.هكذا نرى الضرر الفادح الذى يلحق الساذجين الذين ينتمون إلى مثل تلك التنظيمات، فهم مخلصون وقادتهم عملاء يتصرفون فيه بلا آمان ولا رقابة".
فى السبعينيات كما أوضح مطلع المقال مارس الاخوان أيضا نفس الدور فى الجامعات. وبرغم أن تطور الحركة الاسلامية قد أفرز تيارات متعددة بخصوص دور وحجم العنف فى الحركة الا أن هذا المنهج ظل رافدا هاما فى أساليب الحركة الاسلامية بشكل عام. ربما كانت الاخوان أقل استخداما للعنف من جماعة التكفير والهجرة أو جماعة الجهاد أو الجماعة الاسلامية فى الثمانينيات والتسعينيات، تلك الجماعات التى اتسمت باستخدام العنف المسلح فى مواجهة الدولة والنظام بل والمجتمع أيضا، الا أن تطورات الأحداث بعد ثورة 25 يناير وما حدث من حصار المحكمة الدستورية ومدينة الانتاج الاعلامى وموقعة قصر الاتحادية والاعتداءات المتكررة على المناضلين واستهدافهم بالقتل فى الاحتجاجات والتهديدات المتكررة بالاغتيالات قد أثبتت أن منهج المواجهة العنيفة مازال متأصلا فى جماعة الاخوان المسلمين وانه يشكل رافدا أساسيا لأيديولوجيتهم.
الاخوان واليسار:
كان هذا هو السياق الذى تعرف فيه اليسار الاشتراكى المصرى فى أربعينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين على جماعة الاخوان المسلمين. فقد رآها اليسار جماعة رجعية ذات طبيعة فاشية، من حيث بنيتها التنظيمية وخطابها السياسى واستخدامها للعنف، ومعادية للحركة العمالية وللاحتجاجات الاجتماعية بصفة عامة، ذلك العداء الذى يتخطى حدود الادانة السياسية الى المطالبة باستخدام أعنف وأقسى اجراءات القمع فى مواجهتها، كما أنها جماعة معادية للحريات والديمقراطية وتسعى لبناء سلطة حكم قائمة على الاستبداد الدينى والتمييز العنصرى. أيضا لم تطرح هذه الجماعة مشروعا ثوريا أو حتى اصلاحيا للتغيير الاجتماعى ومواجهة الاستغلال، وظلت حبيسة خطاب أخلاقى على استعداد للتحالف مع كل أنواع الاستبداد والاستغلال الطبقى لفرض قيمه الرجعية على المجتمع. أما فى التسعينيات فقد ظهر تيار جديد من اليسار الاشتراكى يطرح فهما مختلفا لتلك الجماعة من حيث طبيعتها الطبقية ومواقفها السياسية ولا يجد غضاضة من قبول التعامل -بل والتحالف السياسى- معها أحيانا، وقد تأثر هذا التيار بالكاتب البريطانى المعروف كريس هارمان، أحد رموز حزب العمال الاشتراكى البريطانى، وصاحب كتاب "النبى والبروليتاريا".
اقترف كريس هارمان فى هذا الكتاب العديد من المغالطات التاريخية التى بنى عليها استنتاجاته، فهو يقول "شكلت تنظيمات الطلاب المسلمين، التى أصبحت القوة الاولى في الجامعات المصرية أثنْاء رئاسة السادات المنظمات الجماهيرية الحقيقية الوحيدة للحركات الإسلامية". والملفت هنا أن يستخدم هارمان تعبير "المنظمات الجماهيرية الحقيقية" فى وصفه للجماعات الاسلامية بالجامعات، ذلك أنه من المعروف لدى كل من شارك فى العمل السياسى الطلابى فى تلك المرحلة، أن الجماعات الاسلامية لم تكن تسعى الى أى نشاط جماهيرى فعلى، ولكنها كانت معنية فقط بالحصول على أصوات الطلاب للفوز بمقاعد الاتحادات الطلابية، تلك المقاعد التى تسمح لهم بفرض مواقفهم ورؤيتهم للعمل الطلابى، وقد اعترف أبو الفتوح بذلك صراحة فى كتابه. وكذلك أكد أبو الفتوح على امتناعهم عن مشاركة الطلاب اليساريين فى فاعلياتهم الجماهيرية من أجل الحرب، لأن ذلك كانت له مآرب أخرى على حد قوله. مالا يدركه هارمان، أن هذا التيار بكامله لا يعترف بوجود أى دور للحركة الجماهيرية فى التغييرات الاجتماعية أو التحولات السياسية، ولا يراها أداة من أدوات الفعل الثورى، ولكنه يراها فقط أرقاما فى صناديق الاقتراع.
ويستمر هارمان فى استعراض دور الاسلاميين فى الجامعات فى تلك المرحلة بمغالطة تاريخية جديدة حين يقول أن الجماعات الاسلامية قد تفهمت مشكلة الزحام فى الجامعات وقدمت لها حلولا منها الفصل بين الطلبة والطالبات فى المدرجات واصدار طبعات رخيصة للكتب الضرورية. والواقع أن كاتب هذه السطور هو أحد شهود هذه المرحلة، ولم تكن دعوات الفصل بين الطلبة والطالبات فى المدرجات تنال قبولا عاما، بل على العكس كانت هناك حالة من الرفض الشديد لها من الطالبات والطلبة، مما دفع أعضاء هذه الجماعات الى اللجوء للعنف اللفظى والبدنى لتطبيقها. لم تكن هذه الأفكار أفكارا اصلاحية لها قاعدة جماهيرية تتبناها وتدافع عنها، ولكنها كانت محاولة لغرس ثقافة رجعية ولو بالقوة فى لحظة لم تكن فيها الثقافة الأصولية فى المجتمع على حالة انتشارها الراهن، مما أدى الى مقاومة هذه الأفكار التى لم تنجح الا فى أقاليم الصعيد. أيضا ما لا يعرفه هارمان أن تصوير المراجع العلمية الدولية واعادة بيعها للطلبة بأسعار أقل من سعر النسخ الأصلية منها، كان أحد الاستثمارات المبكرة والهامة للجماعة والتى حققت منها مكاسب مالية وهى فى مراحلها الأولى. والحقيقة أن هذه الوقائع رغم أنها ليست رئيسية فى الصراع السياسى، الا أن تناولها على هذا النحو يعكس منهجا محددا فى قراءة التاريخ بشكل مغلوط.
الا أن الأمر المثير للدهشة هو ذلك الوصف الذى استخدمه هارمان فى الحديث عن مواجهات التيارات الاسلامية مع نظام مبارك فى مطلع التسعينات، وهى الفترة التى برز فيها تيار اسلامى راديكالى يتبنى أفكار تكفير الدولة، وفى أحيان أخرى تكفير المجتمع بأسره، وما استتبع ذلك من الدخول فى مواجهات مسلحة واغتيالات كان من ضحاياها الكاتب العلمانى فرج فودة وتعرض أثناءها أيضا الروائى الكبير نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال. وهى الحقبة أيضا التى شهدت مقتل الطفلة شيماء والاعتداء على مقهى وادى النيل بوسط القاهرة ثم حادث الاعتداء المسلح على السياح فى الأقصر وقتل العديد منهم. فى هذا السياق يقول هارمان "في ديسمبر ١٩٩٢ ، قامت الدولة بحملة جديدة غير مسبوقة من القمع. واحتلت الأحياء العشوائية في القاهرة، مثل امبابة، بعشرين ألف جندى بالدبابات والعربات المدرعة. وقبضت على عشرات الآلاف ونظمت عصابات لقتل الهاربين من المناضلين الإسلاميين". هنا يصف هارمان الارهابيين المسلحين يالمناضلين! ولم يحدد هارمان موقفه من هذه الممارسات "النضالية". والأمر الأغرب أنه، وفى سياق مختلف، يتحدث عن دور هذه التيارات الراديكالية فى احداث فتنة طائفية بين المسلمين والأقباط فى صعيد مصر الى الحد الذى وصفه هو ب "الحرب الأهلية فى المنيا"، وبالرغم من ذلك فانه مازال يراهم مناضلين. اننى الآن أتساءل، هل على المناضلين الاشتراكيين أن يدعموا أى عمل عدائى ضد الدولة حتى وان اتسم بالارهاب الفردى أو استهدف مواجهة الأفكار العلمانية بالسلاح لصالح الرجعية؟ أيضا هل يمكننا قراءة هذا التوصيف فى اطار مغازلة الأقليات المسلمة فى أوروبا لأسباب انتخابية؟
غير أن المغالطة الأكثر أهمية والتى بنى عليها هارمان استنتاجات كثيرة هى ادانته لليسار الاشتراكى الذى اتهمه بالدخول فى تحالفات مع الدولة فى مواجهة الاسلاميين، مما شكل سببا جوهريا فى عزلة اليسار لصالح الانتشار الجماهيرى الواسع للحركات الاسلامية. والواقع أن ذلك افتراض غريب لم يذكره تاريخ الاشتراكيين المصريين عبر تسع عقود وأربع حلقات، بل على العكس تماما، فقد أكد التاريخ تحالف الاخوان المسلمين مع الملك فاروق وحكومة اسماعيل صدقى ضد المعارضة الديمقراطية بما فيها التيارات الاشتراكية، كما استخدم السادات الحركات الاسلامية بشكل واسع لضرب المعارضة اليسارية، فهو الذى سمح لهم بالتواجد العلنى، شبه الشرعى بحرية كاملة، وسمح لهم باصدار مجلة الدعوة الناطقة باسمهم، كما خلق مناخا سياسيا استخدم فيه الدين بشكل ملحوظ (كان السادات يلقب نفسه بالرئيس المؤمن وكان يصف دولته بدولة العلم والايمان). ما استند عليه هارمان كان هو موقف حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى فى سنواته الأخيرة تحت قيادة رفعت السعيد. ومن غير المقبول أن يتم اختزال تاريخ اليسار المصرى العريض أو حتى تاريخ حزب التجمع نفسه فى هذه الفترة. ربما تذيل الشيوعيون المصريون نظام عبد الناصر وقرروا حل حزبهم والانضمام الى الاتحاد الاشتراكى لدعم ما أسموه بالتحول اللارأسمالى، وربما تذيل بعض الشيوعيين فى الأريعينيات حزب الوفد فيما أسموه بانجاز الثورة الوطنية الديمقراطية، وربما ارتكب اليسار المصرى أخطاء أكثر من ذلك، ولكن لم يعرف التاريخ قط أى تعاون بين اليسار الاشتراكى وجهاز الدولة يتسم بالتحريض على قمع الاخوان المسلمين باستثناء فترة تجمع رفعت السعيد. ولكن على الوجه الآخر أيضا لم يذكر التاريخ أن تحالفا سياسيا قد تم بين اليسار الاشتراكى والاخوان المسلمين حتى فترة التسعينيات.
فى التحليل السياسى توجد حالة شديدة من الخلط بين الطبيعة الفاشية لجماعة أو حركة سياسية، وبين الخطر الآنى لصعود الفاشية، وهناك بالقطع مسافة فاصلة بين الأمرين تحكمها الظروف الموضوعية للصراع الطبقى ودرجة تأزم الرأسمالية واستعدادها لدعم الجماعات السياسية القادرة على مهاجمة الحركات العمالية السياسية والنقابية وقمعها بالقوة. غير أن عدم وجود الخطر الآنى لا يعنى بالضرورة غياب التهديد به خصوصا اذا استطاعت جماعة ذات طبيعة فاشية الوصول الى سلطة الحكم. الأمر الآخر الذى يعبر عن هذا الخلط هو افتراض أن مواجهة أى جماعة فاشية يقتضى بالضرورة التحالف مع أى قوى سياسية برجوازية ليبرالية أو غيرها لايقاف صعود الفاشية بأى ثمن، وهو افتراض يعبر عن فهم ميكانيكى لحركة الصراع الاجتماعى وعن تصور أن الواقع هو بالضرورة استنساخ للتاريخ. لقد عرف التاريخ الفاشية والنازية بأنماط سياسية محددة وفى ظروف محلية ودولية أثرت بشكل مباشر فى الصراع الطبقى، الا أن هناك أنماط أخرى من الفاشية يمكنها أن تظهر بملامح وآليات سياسية مختلفة، ويبقى دورها الرامى الى انقاذ رأسمالية مأزومة أمام احتجاج عمالى يهددها، وأدواتها التى تعتمد على العنف المباشر والبحث عن ظهير جماهيرى غالبا ما يكون من البرجوازية الصغيرة أو الفئات المهمشة فى المجتمع والتى قد يكون من الصعب تصنيفها طبقيا بشكل دقيق، هم المحددات الرئيسية لطبيعة سلطتها الفاشية. وبالتالى فان التحالفات السياسية فى مواجهة الجماعات ذات الطبيعة الفاشية تتحدد بمدى ما تشكله من خطر فى لحظة تاريخية بعينها، وأيضا فان محاولة نزع صفة الفاشية عن جماعة سياسية بهدف تجنب الدخول فى تحالفات مع قوى سياسية برجوازية علمانية هو انزلاق فى تلك الحالة من الخلط والضبابية فى التحليل. وقد رأينا فى مصر قطاعا من اليسار الاشتراكى منذ التسعينيات كان (وربما مازال) مصرا على اعتبار هذه الجماعة منظمة اصلاحية محافظة، ويرفض أن يعتبرها جماعة فاشية التوجه والبنية والخطاب السياسى.
الأمر الآخر هو الاشارة الى الدور الذى تلعبه الحركات الاسلامية فيما أسماه هارمان ب "العداء للامبريالية"، ذلك الدور الذى افترضه والذى بنى عليه استنتاجات سياسية تتعلق بامكانية تحولها الراديكالى وكذلك بتضامن الاشتراكيين معهم فى هذا الجانب. وقد أشرت فى موقع متقدم من هذا المقال الى طبيعة هذا العداء الرجعية، ولكن الأمر الغريب، أنه فى الوقت الذى يؤكد فيه هارمان هذا الدور نجده مترددا ويتراجع عنه فى أكثر من موقع فى نفس المؤلف، حيث يقول "وبرغم أن الإسلاميين يؤكدون على معاداتهم للامبريالية الا أنهم غالبا ما يتخلون عن مواجهتها"، ويضيف أيضا "أى أيديولوجية تقصر نفسها على مقاومة الامبريالية الاجنبية كعدو أوحد، تتجنب أى مواجهة حادة مع النظام. فهى تعبر عن معاناة الناس وغضبهم، ولكنها تتجنب توجيههم الى أعدائهم الحقيقيين"، ثم يزداد وضوحا فى هذه الرؤية قائلا "تتجه هذه الحركات الى الخلط بين الامور من خلال التحول عن أى صراع حقيقى ضد الامبريالية الى صراع أيديولوجى خالص ضد ما يرونه آثارها الثقافية. وتعتبر الاستعمار الثقافي بدلا من الاستغلال المادى، مصدر جميع الأخطاء. ولا يكون الصراع بالتالى موجها ضد القوى المسئولة عن افقار الشعب، بل ضد من يتحدثون اللغات الأجنبية، ويتبنون الأديان الغريبة، أو يرفضون أنماط الحياة التقليدية المزعومة". هكذا يرى الاخوان العداء للاميريالية، انه العداء للثقافة الغربية وليس العداء لجوهر الاستغلال الطبقى. هل يمكننا أن نعتبر ذلك العداء ثوريا، والسؤال الأهم فى هذا السياق، هل يمكن أن يكون دعم القوى الاشتراكية لهذا النوع من العداء داعما لتطور الصراع الطبقى نحو مسارات ثورية وجذرية؟ والحقيقة أن التاريخ يعلمنا أن الامبريالية قد استخدمت، ومازالت تستخدم، هذه الحركات لخدمة أهدافها فى الهيمنة، ولم تكن معارك "الجهاد" الاسلامية ضد نظام بابراك كارميل الموالى للسوفييت فى أفغانستان أول هذه الاستخدامات ولن تكون آخرها. وليس خافيا على أحد الدور الذى لعبه عمر التلمسانى فى دعم مفاوضات السادات مع الكيان الصهيونى حينما صرح بقبول التفاوض على أساس رد الحقوق كما اعترض على المقاطعة العربية للسادات فى ذلك الوقت. وربما لو كان العمر قد طال بالسيد هارمان ليعيش معنا تلك اللحظات، لاكتشف حقيقة الاتصالات المستمرة بين الاخوان المسلمين وبين الولايات المتحدة الأمريكية عبر سنوات طويلة قبل 25 يناير 2011، والتى أعرب فيها الاخوان عن استعدادهم لقبول وجود دولة الكيان الصهيونى بالمنطقة فى مقابل الدعم السياسى الأمريكى لهم، وهذه الاتصالات منشورة فى العديد من المواقع كما أوردها ثروت الخرباوى فى كتابه "سر المعبد". وبعد وصول الاخوان الى مقعد الرئاسة فى مصر، لعبوا دور الراعى الأول للمفاوضات بين حركة حماس الفلسطينية والصهاينة والتى حصل فيها الكيان الصهيونى والولايات المتخدة الأمريكية على ضمانات أمنية غير مسبوقة فى مثل هذه الاتفاقات.
يرى العديد من تيارات اليسار الاشتراكى فى مصر أن جماعة الاخوان المسلمين هى أحد التعبيرات السياسة عن الرأسمالية فى مصر، ورغم خطابها الرجعى المحافظ الذى يستهدف بالأساس قطاعات كبرى من البرجوازية الصغيرة الريفية والمدينية، فان مواقفها السياسية التى اتخذتها فى البرلمانات المصرية كانت تعبر بشكل واضح عن انحيازها لمصالح الرأسمالية وكبار الملاك فى الريف. كان الاخوان من أهم الداعمين لقرارات تحرير العلاقة الايجارية بين الملاك والمستأجرين للأراضى الزراعية، كما أنهم لم يعارضوا سياسات الخصخصة وتبنوا سياسات الليبرالية الجديدة بكل توحشها، ولم يخوضوا أى معارك سياسية ترتبط بحقوق اجتماعية فى النقابات المهنية التى سيطروا عليها لعقود كاملة. بالاضافة الى ذلك، فانه من المعروف أن قيادات الاخوان يديرون مؤسسات اقتصادية ضخمة تقدر حجم استثماراتها بالمليارات. ولم يكن غريبا أن يكون موقف الاخوان بعد اعتلائهم مقعد الرئاسة فى مصر هو امتداد لسياسات مبارك والسادات الاقتصادية، بل وربما بشكل أكثر توحشا فى مواجهة جماهير العمال والفقراء والمهمشين، بدءا من الهرولة الى صندوق النقد الدولى والخضوع الكامل لشروطه التى اقتضت تحرير العملة المحلية وفرض ضرائب على السلع لسد عجز الموازنة العامة من جيوب الفقراء، وطرح سياسة الصكوك التى تسمح لرؤوس الأموال المحلية والأجنبية بامتلاك وادارة المرافق والخدمات العامة وتكريس انسحاب الدولة الكامل من مسئوليتها فى ذلك، وتبنى مفاهيم للنمو الاقتصادى تعتمد على التبعية الكاملة لرؤوس الأموال الخليجية والأوروبية والأمريكية والتى تؤدى بالضرورة الى نهب ثروات هذا الشعب وعرق عماله لصالح الرأسمالية العالمية. يقول المفكر الاشتراكى جلبير أشقر فى مقال "الرأسمالية المتطرفة للاخوان المسلمين" واصفا القياديين الاخوانيين خيرت الشاطر وحسن مالك، وهما من كبار رجال الأعمال فى الجماعة "هذان الشخصان يجسّدان العقيدة الاقتصادية للإخوان المسلمين، المؤيّدة للحرية الاقتصادية والمتناسبة أكثر مع العقيدة النيوليبرالية منه مع الشكل الرأسمالي الذي تم تطويره في عهد السيد حسني مبارك". ويستطيع أى مراقب لتطور نشاط رجال الأعمال المنتمين للجماعة بعد وصول محمد مرسى لمقعد الرئاسة، أن يكتشف هذه الحقائق بجلاء.
وبالرغم من ذلك، فان هناك من الاشتراكيين فى مصر من يرى أن الاخوان المسلمين هم جماعة اصلاحية محافظة، قوامها الأساسى من البرجوازية الصغيرة رغم انتماء قياداتها الى البرجوازية الكبيرة، وأن عدم التجانس فى الطبيعة الاجتماعية للجماعة يخلق حالة من التناقض من الممكن استثمارها لتثوير قطاعات من قواعدها الفقيرة، واستقطابها على خلفية الصراع الطبقى. وفى تقديرى أن هذا الرأى يتجاهل الطبيعة التنظيمية الاستبدادية واللاديمقراطية للجماعة والتى لا تسمح لأعضائها بامكانية مخالفة أوامر قياداتها، وطريقة بناء الكادر بشكل عقائدى متطرف، كما أنه يتجاهل أيضا أن العديد من هذا القواعد الفقيرة قد استطاعت أن تجد حلولا هزيلة لمشكلاتها الاقتصادية من خلال شبكة المصالح الضخمة التى تملكها الجماعة مما عمق من ارتباطها العضوى بها. ان الرهان على هذه العملية التى تستهدف استقطاب أعضاء من قواعد الجماعة على أرضية ثورية، لابد أن يكون مرتبطا بحالة شديدة من الفرز السياسى والاجتماعى فى سياق عملية ثورية محتدمة وفى مسار شديد الجذرية، وحتى فى حال توفر هذه الشروط فان هذه العملية لن تكون بالهينة. والواقع يخبرنا بالحقيقة، فبعد عامين كاملين من انطلاق العملية الثورية فى 25 يناير 2011، ورغم انحسار ضغوط العمل السرى الذى يقف عائقا أمام الممارسة الديمقراطية داخل التنظيم، ورغم تراجع الالتفاف الجماهيرى حول جماعة الاخوان المسلمين، وخروج أعداد غفيرة فى الشوارع ضد سلطتهم، لم نجد حركة واسعة من الانشقاقات داخل هذه الجماعة، بل ان ما خرج من الجماعة كان عددا لا يزيد عن العشرات من الشباب (حزب التيار المصرى) وكان أغلبهم من الطبقة الوسطى المدينية والتى حصلت على قدر معتدل من التعليم ولم نرى حركة انسحابية بقدر ملحوظ بين صفوف القواعد الفقيرة. الرؤية الاشتراكية هى التى تنظر الى الموقف السياسى لأى جماعة أو حزب سياسى كمرآة لمصالحه الاجتماعية وانحيازاته الطبقية، وان تصنيف الطبيعة الطبقية لهذه الجماعة أو الحزب يعتمد فى جزء هام وجوهرى منه على مجمل مواقفه السياسية وأدائه على أرض الواقع. ودعونى فى هذا السياق أطرح تساؤلا هاما، هل يمكن أن يكون هذا التحليل مبررا للاقتراب من هذه الجماعة ذات حجم العضوية الضخم للعمل من خلال -أو بالتعاون مع- كوادرها الشبابية بهدف استقطابها؟ وهل يمكننا اعتبار ذلك نوعا من التذيل لجماعة سياسية ضخمة تمتلك أدوات ووسائط متعددة للحركة بهدف التغلغل داخل جمهورها؟ واذا كان من يتبنون هذا الطرح هم أيضا من اتهموا المتذليين لحزب الوفد الليبرالى وللنظام الناصرى بالانتهازية، فماذا يمكننا أن نسمى هذا الموقف؟ يقول هارمان فى خاتمة مؤلفه "يستطيع الاشتراكيون الاستفادة من هذه التاقضات لدفع بعض الإسلاميين الاكثر راديكالية الى مراجعة انتمائهم للافكار والمنظمات الإسلامية - ولكن فقط اذا استطعنا تأسيس منظمة مستقلة خاصة بنا، والتى لاتتذيل الإسلاميين أو الدولة" وهنا أتساءل مرة أخرى عن الحالة المصرية، هل استطاع اليسار الاشتراكى فى مصر تأسيس منظمة مستقلة بحجم يوازى أو حتى يقترب من جماعة الاخوان المسلمين؟ اذا كانت الاجابة بالنفى يصبح الارتباط بهذه الجماعة هو التذيل بعينه رغم ادعاء الاستقلالية، وهذا التذيل لا يمكنه أن يؤدى الى النمو، ولكنه دائما يعمق حالة التقزم.
الشعار الرئيسى لدى هارمان، والذى تبناه البعض فى مصر كان "مع الاسلاميين أحيانا، ودائما ضد الدولة"، وهو شعار أعترف بأننى لم أفهمه حتى الآن. يقول هارمان "سوف نجد انفسنا في بعض القضايا في نفس الجانب مع الإسلاميين ضد الدولة والامبريالية" حسنا، ولكن أليس هناك احتمال أن نجد أنفسنا أيضا فى نفس الجانب مع الليبراليين أو القوميين أو الناصريين فى قضايا مختلفة؟ لماذا اذن نختص الاسلاميين دون غيرهم بالوقوف معهم أحيانا. أستطيع أن أتفهم أن هناك مواقف قد يتفق فيها الاشتراكيون حتى مع أعدائهم الطبقيين ضد شرائح أخرى من هذا العدو الطبقى نظرا لوجود أشكال متعددة من التناقضات الاجتماعية والسياسية، ولكن ذلك لا يمكنه أن يكون مبررا للدخول معهم فى تحالف سياسى، ولكنه على الأكثر يسمح بتنسيق فى الحركة أو بانشاء ما اصطلح على تسميته ب "جبهة العمل" التى تختلف عن التحالف السياسى فى أنها ليس لها برنامج سياسى ممتد وتنتهى بانتهاء الفعل الحركى المشترك. من الطبيعى جدا أن يقف المناضلون الاشتراكيون ضد الاعتقال السياسى والقمع حتى وان نال أعداءهم، لأن نضالهم من أجل الحرية والديمقراطية لا يتجزأ، ولكن من غير المقبول أن ينضم الاشتراكيون لتحالف سياسى من أجل الديمقراطية تقوده جماعة لاتؤمن بالديمقراطية، ولا تراها أبعد من الافراج عن كوادرها وفتح الطريق أمامها للوصول الى مقاعد السلطة عبر الصناديق.
أتصور أن خيارات الاشتراكيين الآن يجب أن تكون" دائما مع الثورة، ودائما ضد الثورة المضادة" بكل أشكالها وتعبيراتها السياسية. التحالف مع الاخوان المسلمين تحت لافتة هدم بقايا نظام مبارك هو موقف معاد للثورة، لأن نظام الاخوان ببساطة هو الوجه الآخر لنظام مبارك، وأن تحالفا بين الوجهين هو الأمر الأقرب الى المستقبل القريب، وكذلك وبكل تأكيد،فان التحالف مع الأحزاب البرجوازية تحت شعار التصدى للفاشية هو أيضا معاد للثورة على خلفية فهم الواقع الراهن للصراع . استقلالية اليسار الاشتراكى على المستوى السياسى والتنظيمى هو أحد ضرورات المرحلة، والعمل الدؤوب لبناء تنظيم اشتراكى يمتلك أدوات الاتصال بالجماهير العمالية ومنخرط فى صفوفها، بما يؤهله لتطوير نضالاتها وتأطيرها فى مسيرة العملية الثورية هو المهمة المركزية لتيار اليسار الاشتراكى فى مصر.



#علاء_عوض (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسألة القبطية بين الطائفية و الثورة
- دولة 25 يناير...ودولة مبارك
- الثورة المصرية...الى أين؟
- الثورة المصرية بين السلطة العسكرية وسلطة الشعب
- حكومة الثورة...أم تسيير الأعمال...أم عفا الله عما سلف
- دروس 28 يونية 2011
- علاء عوض في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: اصلاح اجتماع ...
- المسارات السياسية للثورة المضادة
- الاحتجاجات الفئوية ما بين الثورة والثورة المضادة
- الثورة المصرية...نتائج وتوقعات
- الإخوان والدستور وعنق الزجاجة


المزيد.....




- مجلس الوزراء السعودي يوافق على -سلم رواتب الوظائف الهندسية-. ...
- إقلاع أول رحلة من مطار دمشق الدولي بعد سقوط نظام الأسد
- صيادون أمريكيون يصطادون دبا من أعلى شجرة ليسقط على أحدهم ويق ...
- الخارجية الروسية تؤكد طرح قضية الهجوم الإرهابي على كيريلوف ف ...
- سفير تركيا في مصر يرد على مشاركة بلاده في إسقاط بشار الأسد
- ماذا نعرف عن جزيرة مايوت التي رفضت الانضمام إلى الدول العربي ...
- مجلس الأمن يطالب بعملية سياسية -جامعة- في سوريا وروسيا أول ا ...
- أصول بمليارات الدولارات .. أين اختفت أموال عائلة الأسد؟
- كيف تحافظ على صحة دماغك وتقي نفسك من الخرف؟
- الجيش الإسرائيلي: إصابة سائق حافلة إسرائيلي برصاص فلسطينيين ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - علاء عوض - الاخوان المسلمون واليسار الاشتراكى فى مصر...نظرة عامة