أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمد حيان السمان - العنف والمثقفون في سوريا: بين أوهام التلفيق البهيجة وحقائق التاريخ الفاجعة















المزيد.....


العنف والمثقفون في سوريا: بين أوهام التلفيق البهيجة وحقائق التاريخ الفاجعة


محمد حيان السمان

الحوار المتمدن-العدد: 3994 - 2013 / 2 / 5 - 23:01
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


يكتشف, أخيراً, الكاتب – ياسين الحاج صالح- علاماتٍ في مسار الثورة السورية, تسوّغ الكلام على مرحلة جديدة قد تكون الأخطر في هذا المسار ( صحيفة الحياة – 27 يناير 2013). وبوصفه كاتباً محترفاً يبدأ, من مقام العارف المشتغل بالتقاط الحقائق وتوزيعها على العامة, بتعداد هذه العلامات, مانحاً مستهلكي معرفته عبر قراءة تحليلاته الصحفية, ميزة مشاركته فضيلة اكتشاف الحقيقية, مع الاحتفاظ –بالطبع – بحقه الحصريّ في امتلاك مبتدأ القول وخبره, حول المسار كله بمقدماته واتجاهاته ونتائجه, بلهجة طافحة بالثقة والتعالي والقول الفصل.
من بين هذه العلامات الدالة على المرحلة الأخطر في مسار الثورة, يشير الحاج صالح إلى " تصاعد دور مجموعات إسلامية سلفية في المقاومة المسلحة, ولها أهداف مغايرة عما يُفترض أنه التطلعات المؤسسة للثورة ". ولا ينسى هنا الإشارة إلى المجموعة " الأشهر من بين هذه المجموعات : جبهة النصرة لأهل الشام ".
أعتقد أن هذا الاكتشاف والتصريح به, يمثلان تحولاً لافتاً في استبصارات السيد ياسين, ومواقفه المتعلقة بجبهة النصرة خاصة, وعسكرة الثورة بشكل عام. فمنذ أسابيع قليلة فقط وبّخ باستعلاء وفظاظة, زوارَ صفحته على فيسبوك, الذين وجهوا له عتباً خجولاً بسبب مغازلته الدائمة لجبهة النصرة, واعتقاده المستمر بضرورة التغاضي (حالياً) عن المنحى العنفي في بنية التفكير والممارسة لدى النصرة, لأن نقدها الآن – كما يرى ويحسب- سيكون بمثابة تعمية وتشويش على الهدف المركزي للثورة, والذي يتمثل – في رأيه وتحديداً- بإسقاط النظام. وعندما أشار أحد محاوري الأستاذ ياسين إلى أن الأستاذ يبرر للنصرة, أجابه الكاتب ( الحكيم) بتوتر ملحوظ: و ماذا فعلت جبهة النصرة حتى أبرر لها..؟ ويستأنف في مكان آخر موضحاً : لم تفعل جبهة النصرة شيئاً إلى الآن إلا ضد النظام..!
وبعد وقت قصير كتب السيد ياسين في – جريدة النهار- أن امتلاك السياسة في سوريا غير ممكن إلا من خلال امتلاك الحرب. ليخلص إلى أن دور جبهة النصرة والإسلام الجهادي مطلوب بوصفه يساعد على امتلاك الحرب في مواجهة النظام, وبالتالي امتلاك السياسة. كما أشار في مكان آخر في الفترة نفسها إلى " اعتبارات سياسية عملية " تسمح بقبول دور النصرة, وعدم الاعتراض عليه.
يوحي الموقف الأخير للكاتب في صحيفة الحياة, بأنه قد استطاع أخيراً التخفف – إلى حد ما – من إرث المواقف الغائمة التي تتنقل بمروحة واسعة بين النقائض والأوهام المختلفة, وتتستر بلغة مرنة مطواعة في صوغ صروح الضباب والتناقضات.
أقول ( التخفف إلى حد ما) لأن الكاتبَ في مقالته المشار إليها يعود مجدداً إلى التغزل بجبهة النصرة, عندما يبدي إعجابَه " بالمقدار الأكبر من الانضباط والكفاءة القتالية" لدى النصرة . وينوّه من جديد بأنها " لا تمارس انتهاكات بحق الممتلكات في المناطق التي تنشط فيها " !؟. وفي الوقت نفسه, وفي ذات المقال يقرّ بأن " لها – أي النصرة- نسق انتهاكاتها المغاير: محاولة فرض نمطها الاعتقادي والاجتماعي على السكان" !؟.
لن أناقش هنا مقدار الدقة والحقيقة في الزعم بأن النصرة لا تمارس الانتهاكات بحق الممتلكات في المناطق التي تنشط بها ( تفجير- السلمية- مؤخراً على سبيل المثال, وتقارير عديدة حول مشاركة الجبهة في أعمال السلب والنهب في مناطق عديدة خاصة في حلب والشمال والمناطق الشرقية), بل أريد التنويه سريعاً بأن الانتهاكات ذات النمط المغاير, التي يقر بها الكاتب, جديرة بإلغاء كل فضيلة أخرى تتعلق – إن وجدت- بممارسات شكلية دعائية, أكثر من كونها عنصراً أساسياً في بنية التفكير والممارسة لدى النصرة. إن فرض النمط الاعتقادي والاجتماعي على السكان سيُستكمل حتماً بانتهاكات من كل الأنواع ( بما فيها انتهاكات الحق بالحياة ذاتها) عندما تصدر عن السكان مواقف رافضة لهذا النمط. هل يرى الكاتب فسحة لموقف مستقل و ممكن إزاء فرض النمط الاعتقادي تبع النصرة, من دون ثمن..؟!
* * *
مشكلة السيد الحاج صالح وعدد من الكتاب والنخب السياسية المعارضة, تكمن حقيقة في ما هو أبعد من جبهة النصرة, التي ظهرت في المشهد السوريّ بالتساوق مع استكمال العسكرة إنجاز مهامها في حرف الحراك عن السلمية, وإدماجه في نسق العنف العاري للنظام, والمنفلت من ضوابط الأخلاق واعتبارات السياسة معاً. المشكلة تتعلق أساساً بالموقف من العسكرة والعنف, كأداتين تختزلان الثورة, وبهما يجري السعي نحو هدف مركزي, لكنه استحال نهائياً أيضاً: إسقاط النظام. والمشكلة – بالضبط – تكمن في الهروب المزمن من الإجابة على السؤال: هل يسمح تحول الثورة إلى مجرد أعمال عنف بدون ضوابط وأفق سياسي, على خلفية وعي حديّ نهائيّ, بانتصارها- الثورة- وتحقيق أهدافها التي هي أبعد من مجرد إسقاط النظام..؟. آمل أن يكون السيد ياسين بحديثه الأخير عن ( المرحلة الأخطر ) التي تمر بها الثورة, قد أدرك أخيراً عقم العنف في السياق السوري, وسذاجة الدعوة التي أطلقها من أجل امتلاك الحرب عبر جبهة النصرة, تمهيداً لامتلاك السياسة. أما آن أوان إعادة النظر في هذا السياق كله الذي اندرجت الثورة فيه, منذ أن ارتهنت للعنف والسلاح المهرّب والمستخدم بحسب اشتراطات مورديه ومهربيه..؟ وبما أن الثقافة العقلانية التاريخية ليست سوى إعادة نظر ومساءلة مستمرة, ألا يجدر بمثقفي المعارضة الفاعلين على أرضية وطنية نقدية وعلمية أن يطرحوا أسئلة جذرية حول خيار العنف والتسليح وانتشار الدم على كل صعيد...؟ هل ينفتح السيد ياسين عبر موقفه الأخير من جبهة النصرة على سؤال ضروري وحاسم لا بد من طرحه أخيراً, حول جدوى العنف المقابل لعنف النظام في تحقيق اختراق حقيقي نحو مستقبل سوري مأمول..؟!
* * *
أين يكمن مأزق السيد الحاج صالح , ومن أين تنبثق تناقضات المواقف لديه وغموضها الملتبس؟ في الإجابة على هذا السؤال لابد من التذكير- بداية- بحقيقة أساسية هنا تتلخص في أنه لا يمكن – في آن معاً- الترحيب بالعسكرة والعنف من جهة, واتخاذ موقف جذري ونقدي من جبهة النصرة من جهة أخرى. كانت النخب السياسية في المجلس الوطني والائتلاف لاحقاً, أكثر وضوحاً مع نفسها ومع جمهورها, من بعض كتاب ومثقفي المعارضة المنخرطين في الترويج للعنف, عندما دافعت منذ البداية وحتى الآن ( كمال اللبواني مثالاً) عن العسكرة والعنف, واستكملت ذلك – لتحقيق الانسجام داخل سياقها الطبيعي- بالدفاع مؤخراً عن جبهة النصرة وتبرير دورها الإشكالي والمدمر في الثورة السورية( معاذ الخطيب وجورج صبرة مثالاً ). السيد الحاج صالح سلك النهج المنسجم نفسه لفترة, لكنه – وكما يبدو الآن في مقالته الأخيرة- يخرج – جزئياً- عن السياق المنسجم, فيعيد تموضعه من جبهة النصرة ودورها حيال الثورة, من دون الوصول – بالطبع- إلى إعادة نظر كاملة في السياق كله. ومن هنا يبدو التلفيق والتناقض سمة ما تزال واضحة ومستقرة في خطابه.
* * *
منذ بداية العام الثاني للثورة, بدأت مواقف السيد الحاج صالح تنحو باتجاه التعايش مع عسكرة الثورة وانتشار السلاح بين أوساط الحراك, بل التبرير لذلك كله باعتبار العسكرة" تطور اضطراري إلى حد بعيد نشأ في مواجهة عدو متوحش وشديد البشاعة". ومن خلال مطالعة مجمل مواقف هذا الكاتب يتضح أنه التزم موقفاً يتراوح بين الإيحاء بالتزام السلمية, وتفضيلها في مستوى الفكر والنظر, وبين تأييد العسكرة كأمر واقع دفع إليه توحش النظام. لكنه كان باستمرار يجعل من إسقاط النظام الهدف المركزي الذي يبرر أي وسيلة يتحقق بها : " الثورة تريد التخلص من النظام, إن كان سلماً فبها, وإلاّ فبالسلاح. السلمية أوفق لتطلعنا إلى سورية ديمقراطية, لكن الهدف الأول الإلزامي هو إسقاط النظام ". إن امتلاء سياق السرد بهذه ( التكويعات )على حد تعبير الأخوة اللبنانيين, من مثل:إن.. وإلاّ ..ولكن ... يرسّخ قلق الخطاب وانفتاحَه على جهات عديدة تسمح بالإفلات من موقف نهائي.
كان السيد ياسين قد عبّر قبل أشهر عن تأييده للفكرة الخرافية القائلة بإمكانية المزج بين النشاطين السلميّ والمسلح في الثورة " لا السلاح يلغي المظاهرة, و لا المظاهرة تلغي المقاومة المسلحة". وبينما أثبتت الوقائع الملموسة بكل مكان في سوريا المنتفضة, استحالة هذا المزج من دون إلغاء تدريجي للنشاط السلمي ومجاله العام, فإن الكاتب أصر على عدم الاعتراف بالحقيقة, ليظل منسجماً مع فكرة المزج المستحيل " ليس صحيحا أيضا أن وجود مقاتلين من الجيش الحر هنا أو هناك تسبب في تراجع المظاهرات" هكذا يرد على محاور في ندوة حول العسكرة أقامها (التجمع السوري من أجل الديمقراطية) في الشهر الرابع عشر للثورة. وعندما تتسع ظاهرة انكماش التظاهر السلمي بسبب استيلاء الحرب على المجال العام, فإن الكاتب لا يكلف نفسه عناء الاعتراف بانحسار الخيار السلمي وتراجعه أمام العنف. المهم – كما قال هو- إسقاط النظام.
مما لاشك فيه أن الخيار الأساسي للسيد ياسين هو السلاح والعنف. وليست الإشارات الخجولة في كتاباته – وهي نادرة على كل حال- إلى الخيار السلميّ أكثر من رفع العتب, وتحقيق لمبدئه في تشخيص القضايا: أن يقول عن كل شيء شيئاً ما. ولكن – في المقابل- كان لابد من مواجهة الحقائق على الأرض.
السلاح ..؟! حسناً. ما الذي يحدث في المكون العسكري للثورة, الكبير نسبياً والمنتشر في مناطق متعددة من البلد, على ما يفيد الكاتب..؟ لقد بدأت رائحة المكون تفوح, والممارسات على الأرض تملأ الأبصار والأسماع, والهالة الفدائية البطولية للمقاتلين بدأت تخبو في الاختبار الميداني المتطاول. ما العمل أمام انتشار فوضى السلاح واستزلامات حامليه منذ وقت مبكر من ظهور العسكرة في الثورة..؟! التقط السيد ياسين – لازمة – كررها باستمرار( كما فعل ساسة المجلس الوطني قبله وبعده) و وجد فيها حلاً يؤمن له الاستمرار في المراوحة وتبرير العسكرة كأمر واقع مفروض, والتغاضي عن مخاطرها, والممارسات المشينة البادية للعيان يومياً, داخل المكون العسكري للثورة. اللازمة تتمثل في الدعوة إلى "ضبط السلاح المواجه للنظام , واحتكاره من جهة واحدة ينضبط عملها بالمصلحة العامة للثورة".
لقد أشار الكاتب في هذا السياق إلى موقف ثالث من قضية العسكرة, وهو " موقف ينطلق من وجود مكوّن عسكري للثورة كبير نسبياً, ومنتشر في مناطق متعددة من البلد, ويدعو إلى العمل على تنظيمه إدارياً وسياسياً وحقوقياً ومادياً...الخ". ومع أن الكاتب يعترف بأن هذا الموقف يشكو من تناقضات, لكنه مع ذلك, وبعد مضي أربعة عشر شهراً على بدء الثورة, كان ما يزال يراه الأصلح ويدافع عنه, كما يقول . وعندما ينهمك في تعداد هذه التناقضات يتبين بكل وضوح أن وجودها – الذي أقر به الكاتب- يجعل من تنظيم المكون العسكري وضبط سلاحه واحتكاره بما يخدم أهداف الثورة ..الخ ... شبه مستحيل, إن لم يكن المستحيل بعينه. وهو نفسه يعترف بذلك حيث يقول : أشك أن السيطرة على التسلح العشوائي ممكنة اليوم…؟! فكيف أمكنه تأييد موقف واعتباره الأصلح, مع الإقرار بوجود تناقضات يستحيل حلها, وهي لم تحل إلى الآن على كل حال, بل ازدادت تفاقماً ورسوخاً...؟!. لقد أشار الكاتب بنفسه في مقالته الأخيرة حول المرحلة الأخطر في الثورة, إلى بعض مظاهر الفوضى وتصفية الحسابات الشخصية واعتداءات مسلحين محسوبين – كذا..؟!- على( الجيش الحر) على بلدة رأس العين...الخ. عدنا إلى النقطة نفسها إذاً...التناقضات ماتزال قائمة, والفوضى تضرب أطنابها...والدعوات المثالية للتنظيم والضبط التي رأى فيها السيد ياسين حلاً, كما فعل قبله الدكتور برهان غليون, لا يبدو أنها تنفع لغير التصريحات الصحافية المستعجلة, والمقالات الأسبوعية في الصحافة العربية.
* * *
طوال أشهر بعد عسكرة الثورة حيث صار من المعهود أن يتجاوز عدد الشهداء في شهر واحد, عدد جميع الشهداء الذين سقطوا خلال أشهر السلمية كلها؛ لم يبادر أحد من مثقفي المعارضة وسياسييها الداعمين للعسكرة, إلى إعادة النظر بالسياق العنفي وجدواه. وبينما كانت الحجة الرئيسة التي قامت عليها الدعاية لضرورات تسليح الحراك هي الدفاع عن المدنيين والوقوف في وجه استباحة النظام للمظاهرات السلمية, فقد تغاضى هؤلاء عن ذلك التناقض الرهيب بين دعوى حماية المدنيين وحقيقة الارتفاع المرعب لأعداد الشهداء, والتدمير الهائل في عموم المدن والمناطق السورية.
في التنظير المتعالي يشير هؤلاء المثقفون إلى ضرورة نقد الثورة, وخاصة ممارسات المكون العسكريّ فيها, ولكنهم في التطبيق والممارسة دائبون في التغني بهذا الخراب العميم, وهذا العنف المنفلت والمتبادل الذي تلقفته وغذته قوى سياسية سورية وإقليمية ودولية في سياق أجندات محتلفة لا علاقة لها بالثورة وأهدافها المركزية, بل على العكس تسعى إلى تكريس نقائضها ورهن سورية مجدداً إلى سلطة مستبدة لا تؤمن بالسياسة إلا بمقدار ما تضمن لها تسيدها. لم تبدر عن هؤلاء المثقفين في المعارضة مواقف جذرية تجاه العنف الذي يلتهم سوريا حجراً وبشراً منذ سنتين كاملتين. وخارج تحميل النظام مسؤولية العنف, وهو ما بات بدهية ساطعة يدركها الجميع, لا توجد أية مقاربة جذرية لحقيقة أن العنف العاري المنتشر في سوريا الآن ليس أكثر من محصلة تصادم أطراف إقليمية ودولية على خلفية مصالح بعيدة عن مصالح السوريين.
في مواجهة نقدية علمية و وطنية لهذا الوضع, لا تنفع مجرد الإشارة إلى نصف الحقيقة, والتغاضي عن النصف الآخر, بحجة ضرورات السياسة العملية ؟!.
بمقدار حاجة السوريين إلى الثقافة العقلانية وممثلها المثقف الوطني الشجاع, الذي يفكك بنية العنف القائمة ويبيّن محدداتها وعناصرها جميعاً, عبر مقاربة علمية ومسؤولة تستهدف مناهضة العنف جملة والتأسيس لثقافة مغايرة؛ فقد غاب هذا المثقف وحضر عوضاً عنه خطاب تلفيقي انتقائي مترع بوعي إقصائي استبدادي يروج للعنف والإرهاب مباشرة, أو على استحياء وبشكل غير مباشر, ويتناوب على صوغه وترداده عدد من مثقفي المعارضة وسياسييها, في تساند أخرق غير مسؤول. خطاب يتراوح بين القبول الخجول والمتردد بالسلمية – نظرياً وفي حدود الكلام الترويجيّ – والترحيب بالعسكرة والعنف عملياً وفعلياً وبشكل مستمر. بين الموقفين هوة تم ردمها بشعبوية دعائية سقيمة تندعم بمجموعة أوهام تبدأ بالقول بضرورة تنظيم السلاح وضبطه, و إمكانية الدفاع عن السلمية بالسلاح, وتنتهي بضرورة امتلاك الحرب ( عبر الإسلام الجهادي) من أجل امتلاك السياسة, على ما أفاد السيد الحاج صالح مؤخراً, و قبيل اكتشافه الأخير والنابه للعلامات الدالة على المرحلة الأخطر التي تمر بها الثورة, ومنها – العلامات- جبهة النصرة نفسها...!
* * *
ليس المفاجئ في الثورة السورية – بالنسبة للكثيرين- تلك الوحشية البربرية التي تعامل بها النظام مع جماهير الثورة ومطالبها في الحرية والعدالة والدولة الحديثة. كان ذلك متوقعاً ومعروفاً. ليس اقتلاع الحناجر وفقء العيون والإعدامات الميدانية وتحطيم الأجساد وتدمير البيوت على ساكنيها, أشياء جديدة في سلوك النظام الفاشي. لقد فعلوا كل ذلك منذ أكثر من ثلاثة عقود في حماه. فقؤوا عينيّ طبيب العيون ( عمر الشيشكلي), وحطموا أطراف طبيب العظام ( عبد القادر قنطقجي) قبل إعدامهما ميدانياً مع مجموعة من وجهاء مدينة حماه - آذار 1980- . لقد دمروا ثلث مدينة حماه في شباط 1982...وأعدموا المئات ميدانياً في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي, في حي بستان السعادة وباب البلد بحماه, وفي حي المشارقة بحلب وفي جبل الزاوية بإدلب, وفي المنطقة الصناعية بحمص...
المفاجئ هو غياب شبه كامل للخطاب المناهض للعنف داخل النخب السورية المعارضة. والمفاجئ هو تحول المثقف السوري إلى داعية للسحق وقطع الرؤوس وذبح الأطفال. المفاجئ هو انهماك النخب في الدبكة للمقاتلين وتوجيه التحايا لهم صباحاً ومساءً, مما يعيد إلى الأذهان ثقافة الدبكة في شوارع المدن التي انتشرت إبان صعود حافظ الأسد كديكتاتور إله منذ أواخر الثمانينيات.
المفاجئ هو ذلك التعالي الأجوف الذي أبدته النخب تجاه الحركات الشبابية اللاعنفية, والأنشطة السلمية التي ظهرت رداً على تفاقم العنف واتساع نطاقه. يقول السيد الحاج صالح في رده على سؤال حول حملة ( أوقفوا القتل) بلهجة استعلاء واستخفاف واضحين:" أرى جملة – أوقفوا القتل – مفيدة كنشاط مستقل, يستفيد بالضبط من التباسه, لكنني لست شديد الإعجاب به ". إن هذا الكاتب يبدي حساسية غريبة تصل حد التوتر والتوجس من كل دعوة تناهض العنف. ففي إجابة له حول المبادرات اللاعنفية في الثورة, يوقظ أدواته المادية التاريخية في التحليل ليرى في هذه المبادرات مجرد أشكال احتجاجية قليلة الكلفة, لأناس من الطبقة الوسطى..!. ويستأنف القول بعد تسجيل اعتراضه على محاولات (النفخ؟!) في هذه المبادرات :" هذا من حقهم – أي الشباب اللاعنفيين- لكن ما ليس من حقهم أن يفرضوا على مجتمع ليس مثلهم, وفي ظل نظام ليس مثلهم, أن يكون مثلهم..".
هل نحن أمام حالة من التماهي مع النظام نفسه...؟!...حالة استبطان لأساليب الجلادين في معتقلات النظام الفاشيّ..؟!. هل هي ثقافة العنف الصريح المعمم, وقد كرّسها طول العهد بها خياراً وحيداً للنخب في مواقع السلطة والمعارضة معاً...؟! هل هي (سيكولوجيا الإنسان المقهور) عندما تفترّ عن عنف وعدوانية كامنتين, تتفجران على شكل " عنف يكتسح كل شيء, ويفرغ التوتر الداخلي الذي تحوّل إلى حقد خارجي " حيث ضحايا العنف والتعصب ينقلبون إلى جلادين جدد منغلقين على ذواتهم يقودهم حقد أعمى وعنف رهيب..؟!.
لقد آذانا ذلك الوحش طويلاً وعميقاً...حتى بات الميناء هو القاتل, على حد تعبير الشاعر العراقي الكبير ( مظفر النواب).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب من سوريا.





#محمد_حيان_السمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سياسيّو المعارضة السورية... ومثقّفُوها : شعبويّة سياسية وبؤس ...
- الأيّامُ السّود...و الجهادُ المحمود : ملابسات وآفاق انتشار ا ...
- مِنْ ( بابا عمرو ) إلى ( معرّة النّعمان ): شركاء في تدمير سو ...
- معركة الفرقان في حلب : تحرير المدينة أم تدمير سوريا؟!
- تداعيات في الطريق من حماه إلى داريا
- معركة حلب الرهيبة : كشف المستور ( قراءة أولية في - وثيقة عهد ...
- عن السلْميّة والعَسْكرةِ في الثورة السورية
- العَسْكرُ في الشّام - ملامح من خطة حكّام دمشق لعَسْكرة الثور ...
- حقيقة الفيديوهات المسرّبة في الثورة السورية : مَخْرَجَةُ الر ...
- الثورة السورية : من حسني الزعيم إلى رياض الأسعد


المزيد.....




- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
- تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل ...
- في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو ...
- التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل ...
- السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي ...
- الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو ...
- بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
- محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان ...
- المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
- القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟ ...


المزيد.....

- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - محمد حيان السمان - العنف والمثقفون في سوريا: بين أوهام التلفيق البهيجة وحقائق التاريخ الفاجعة