أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حسن عبد الحافظ - طــريـق الــهـلالـيـة















المزيد.....

طــريـق الــهـلالـيـة


محمد حسن عبد الحافظ

الحوار المتمدن-العدد: 1150 - 2005 / 3 / 28 - 06:18
المحور: الادب والفن
    


قبل زُهاء نصف قرن، كان قد استقر نجاح الجهود العلمية والثقافية التي بذلتها مجموعة من الباحثين من أجل استنبات جذور قوية للثقافة الشعبية ومأثوراتها في حقول الدراسات الإنسانية والاجتماعية والتاريخية التي رسخت جذورها. وتمثلت المعابر الأساسية للوصول إلى هذا الهدف في تأكيد أهمية المأثورات الشعبية في الإعلاء من شأن خصوصية الذات الوطنية والقومية، وفي التوجه نحو "الشعب" والقطاعات العريضة من الناس التي أبدعت ألوانًا من الفنون، وبنت مجموعة من المعارف، هي فنون ومعارف وطنية بامتياز. والغاية القصية لهذا الاهتمام هي الحفاظ على تماسك المجتمع وتجانسه، ومنحه حرية التعبير عن ثقافته وفنونه، والعمل على اكتشاف جماليات أدبه وتشكيله، بعد عقود – بل قرون – طويلة من الظلم والإجحاف والاستغلال. وبرغم ما مورس على الثقافة الشعبية وعلى أصحابها من اتهام بالتأخر والتراجع، فقد ظلا قلعة راسخة حمت الوطن من محاولات الاختراق والمسخ والتفتيت.
لأجل ذلك، عمل باحثو المأثورات الشعبية عبر خمسة أجيال على إعادة الاعتبار إلى المأثورات الشعبية وإلى أصحابها في الماضي والحاضر والمستقبل، من خلال جمعها وتصنيفها ودراستها وتدريسها وبناء مؤسسات حمايتها وصونها وإدراجها في العمليات الإبداعية والاجتماعية والتنموية الحديثة، وإبراز دلالاتها المحلية والوطنية والقومية والإنسانية. وفي الوقت نفسه، لايزال هناك تيار من القوَّامين على الشأن العلمي والجامعي والثقافي يستصغر أمر المأثورات الشعبية ويحطُّ من قدرها، ويعمل على هدم ما سبق بناؤه بشق الأنفس. ولعل آخر إنجازات هذا التيار ما ذكره لي – بأسف جم – الدكتور أحمد سيد عميد كلية التربية جامعة جنوب الوادي بأنه تم إلغاء تدريس مادة الأدب الشعبي في كليات التربية قاطبة، وفق لائحة - صمَّمها عدد من الأساتذة الأفاضل - لا تعترف بهذا الأدب، ولا ترى فيه القيم الجمالية والبلاغية والتاريخية التي استحقها الأدب الأموي والعباسي على سبيل المثال. لقد أثار هذا قلق أستاذي الدكتور محمد عبد الحكم رئيس قسم اللغة العربية بآداب أسيوط، فدارسو المأثورات الشعبية أمثالي سيعيشون بلا عمل وبلا استقرار، واقترح عليَّ أن أُغيِّر موضوع الدكتوراة حتى لا يصير ذلك مصيري المحتوم، لكن الدكتور عبد الحكم تلقى إصراري على ما أنا فيه بارتياح. على أية حال، فإن الجهد العلمي والجهل العلمي – بتعبير صديقي مسعود شومان - يسيران بالتوازي في كل العصور، ولا مناص من دفع كل منهما للآخر. ونحمد الله أن "الجهد" لايزال مبذولاً من أجل استقرار الوعي الثقافي العربي على أهمية المأثورات الشعبية، وعلى عمق دورها في تاريخ الثقافة العربية، وعلى استحقاقها لموقع يليق بها في قائمة اهتمام المثقفين العرب، وليس المتخصصين فحسب.
لقد استطعنا أخيرًا أن نقنع العالم بروعة آثارنا الأدبية الشعبية، وهي مهمة كان لا يقوم بها إلا بعض المستشرقين الذين ولعوا بثقافة الشرق، لعل "ألف ليلة وليلة" مثل بارز على ذلك. وأخيرًا نجحت جمعية أهلية مصرية، هي الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية، في إدراج السيرة الهلالية ضمن قائمة اليونسكو لروائع التراث الأدبي الإنساني، وفازت الجمعية بجائزة عن جهدها في هذا المجال، وكان اختيار رئيسها الدكتور أحمد مرسي أن تكون الجائزة للسيرة الهلالية ولرواتها ومبدعيها وليس لنفسه أو للجمعية التي أسسها مع مجموعة من أصدقائه وتلاميذه؛ وتوسم في أن يكون هذا الحدث أول خطوات تكوين فريق من الجامعين الميدانيين، يعتصم بروح الجماعة وبالتواضع وبالنهج العلمي الموثق والمنضبط، وهي أسس افتقرت إليها تجارب سابقة.
إن الدكتور أحمد مرسي يحاول تحقيق حلم أستاذه الجليل الدكتور عبد الحميد يونس (1910 - 1988) الذي راد دراسة السيرة الهلالية بأطروحته الجامعية "الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي" عام 1950، والتي طبعت بالقاهرة عام 1956، وكان الهدف الرئيس في ذهن د. يونس: تأصيل السيرة الشعبية، من أجل العمل على ترسيخها والاعتراف بها في المجال الثقافي والأكاديمي. وفي يناير عام 1957، على صفحات العدد الأول من دورية المجلة، وجه د. يونس "الانتباه إلى أن الملحمة الأصيلة يجب أن تدرس في إطارها الاجتماعي، وألا تنفصل بحال من الأحوال عن التقاليد التي استقرت لأصحاب الصناعة من المنشدين. وهذه الملاحم كسائر الآثار الشعبية لا يكتفى فيها بدراسة المحفوظ في الطروس، أو المدون في الأوراق، لأنها حية نامية متطورة بحياة قائليها والمتذوقين لها". وقال: "أخشى ما نخشاه أن تنقرض الصناعة قبل التسجيل الصوتي، والتصوير السينمائي للمنشدين، وهم يقومون بعملهم في الأسواق والمواسم. فالذي يصطنعونه، والأدوات التي يتوسلون بها، والأشخاص الذين يعاونونهم، والآلات التي تصاحب الإنشاد، ونبرات الصوت، ولهجات الكلام، ومختلف الإشارات، ومكانهم المختار من النظارة، والأجور التي يتقاضونها، وكيف يتقاضونها، كل هذه الظواهر والعناصر من الأهمية بمكان في دراسة الأدب الشعبي، ناهيك بما له من تأثير في نفوس المتلقين له والمتفاعلين معه".
إن هذه الرؤية توضع في سياق الاهتمام بالأدب الشعبي وتطور مناهج درسه في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وتتبدى ثمار هذه الريادة في محطات متتالية خلال القرن العشرين، من أهمها: الاعتراف بدراسة الأدب الشعبي في الأربعينيات (د. سهير القلماوي)، إنشاء كرسي أستاذ الأدب الشعبي في الخمسينيات (د. عبد الحميد يونس)، ريادة المدرسة الميدانية في جمع الأدب الشعبي في الستينيات (د. أحمد مرسي). فضلاً عن الجهود التي دعت وأسست لدراسة أنواع الأدب الشعبي وأضاءت أشكال التعبير فيه (منذ دعوة الشيخ أمين الخولي مرورًا باهتمام الدكتور فؤاد حسنين علي والدكتور عبد العزيز الأهواني وانتهاءً بجهود الدكتورة نبيلة إبراهيم). وفي مطلع الثمانينيات، يدخل الراوي الشعبي إلى أروقة الجامعة للمرة الأولى في تاريخها، ثم تتوالى عروض السيرة في رحابها خلال عقد التسعينيات (د. أحمد شمس الدين الحجاجي).
وإذا كان التصور الذي قدمه الدكتور يونس قبل زُهاء نصف قرن من الزمان يمثل المهاد الذي حقق به تلميذه وأستاذنا الجليل الدكتور أحمد مرسي خطوته المتقدمة والواسعة باعتماده العمل الميداني أساسًا في دراسة الأدب الشعبي، فإننا نحاول - أنا وغيري من جماعة الباحثين في هذا المجال - أن نستكمل الخطوات على الطريق نفسه.
لقد حظيت سيرة بني هلال بعددٍ وافرٍ من الدراسات التي تناولتها من زوايا مختلفة، وبمناهج متعددة. لكن القسم الأعظم من هذه الدراسات اعتمد على الروايات المدونة للسيرة والمطبوعة طبعات عدة. ومن ثم، كانت الدراسات الميدانية أقل حظًا من غيرها. وبالتأكيد، لا يرجع سبب ندرة الدراسات الميدانية إلى عدم الوعي بأهمية الروايات الشفاهية للسيرة الهلالية، وإنما لندرة الباحثين الميدانيين الذين بإمكانهم التجاسر على جمعها جمعًا ميدانيًا منضبطًا وموثقًا، ولا شك في أن صعوبة الجمع الميداني يدخل ضمن هذه الأسباب. لكن النتيجة هي أننا خسرنا الكثير بموت رواة السيرة الهلالية، دون تسجيل ما يحفظون من حلقاتها. أما التجارب الميدانية المحدودة التي أقدمت على جمع روايات السيرة الهلالية، ونقصد بها تحديدًا: التجارب العلمية التي احترمت التوثيق وحقوق الرواة، فإنها تحمل أهمية فائقة، وسوف تزداد قيمتها وقيمة فرسانها الذين جمعوها بمرور الزمن، لكن هذه الجهود الفردية لم يكن بوسعها استيعاب رواة السيرة في مختلف الأقاليم الثقافية بمصر. بالطبع، فإن ذلك لا يستنقص من قدرها، ولكن يلفت انتباهنا إلى أن العمل الجماعي في جمع السيرة الهلالية لايزال مطلبًا عزيزًا نأمل أن يتحقق.
داعبت مندوبة اليونسكو "السيدة جانيت" خيالنا عندما التقيناها بمقر الجمعية، حيث تساءلت: لماذا لا تطرقون طريق الهلالية على غرار طريق الحرير؟ كنت أعرف أن السيدة جانيت تتحدث على خلفية اهتمام اليونسكو بطريق الحرير منذ عام 1988، هذه الطريق التي امتدت لمسافات طويلة بعيدة تصل إلى أقاصي الشرق بما يحوي من حضارات وعمران وآثار وعطر وبخور ولبان وتوابل إلى جانب عالم ثري من الثقافة الروحية التي أنبتتها جبال الشرق السامقة. هذا الشرق لم يبخل بثرواته على بقية أنحاء العالم، فعمل على نقلها إلى أطراف بعيدة من الأرض وعبر طريق متشعبة أطلق عليها اسم "طريق الحرير"، وكان اسمًا على مسمى، فالحرير كان ولايزال من نتاج الشرق. ودار الزمن دورته، وطُمست طرق الحرير، وأصبحت أثرًا بعد عين، وكاد العالم أن ينساها.
لعب سؤال السيدة جانيت برأسي كثيرًا، فقد حمل "طريق الهلالية" دلالات شخصية بجانب الدلالة التاريخية والبحثية. تذكرت مغامرتي "المريرة" في جمع روايات السيرة الهلالية من محافظة أسيوط طوال ثمانية أعوام (1996 - 2004)، فخسرت فرصة تعييني في الجامعة التي ضحيت كثيرًا من أجل أن أتعلم فيها، فأعمار الوعود قصيرة، وطريق الهلالية طويل، لكن خالد أبو الليل المدرس المساعد بآداب القاهرة صار صديقًا عزيزًا، فكسبته مثلما كسبت فروسية جمع الهلالية، ولم أأسف على ما خسرت. تذكرت أبي – متعه الله بالصحة –حينما نقم على اختياراتي بعد أن استطالت سنوات العمل مع السيرة الهلالية، ولم يعد يتوقع أن يراني مثلما يرى أبناء أسعدوا آباءهم بالاستقرار في العمل والزواج. تذكرت صديق عمري الفنان عبده طه الذي داهمته الأزمة القلبية الثالثة فجأة ونحن نراجع شرائط الفيديو التي قمنا بتسجيلها لرواة السيرة، فمات بين يدي وتركني وحيدًا أشعر بلعنة الهلالية على غرار أسطورة لعنة الفراعنة، مرارًا قرأت الفاتحة على روحه وأرواح آخر رواة السيرة المحترفين في أسيوط: حامد الأسيوطي، يوسف أحمد يوسف، علي مصبح.
كنت قد اتصلت - أثناء سنوات بحثي - بالمعلومات القيمة التي أوردها الباحث الجليل عبد الرحمن بن خلدون حول هجرات بني هلال وبني سليم من الجزيرة العربية إلى شمال أفريقيا عبر مصر، وحول التأثير الخاص لبني هلال وشهرتهم التي فاقت شهرة بني سليم. لقد تحدث ابن خلدون بشئ من الوضوح عن القبائل التي عاشت في الشرق والشمال الأفريقي، ويعد كتابه "العبر" أكثر المصادر أهمية في موضوع "هجرة بني هلال وبني سليم" والأحداث المرتبطة بها، كما يعد وثيقة شاهدة على معاصريه من قطاعات المجتمع العربي في البادية والحضر. ولم تحظَ القبائل العربية بهذا القدر من الاهتمام التفصيلي الميداني الذي أبداه ابن خلدون في مقدمته وتاريخه شطر قبيلتي هلال وسليم ومن جاورهما في الشمال الأفريقي. لقد جمع ابن خلدون عددًا من الروايات التاريخية التي وردت بألسنة الهلاليين المعاصرين له في شمال أفريقيا، والتي لاتزال تروى - حتى هذه اللحظة - على ألسنة شعراء السيرة ورواتها في مصر وليبيا وتونس والجزائر، ومنها ما يذكره ابن خلدون قائلاً: "يزعمون [الهلاليون] أن الشريف ابن هاشم كان صاحب الحجاز ويسمونه شكر بن أبي الفتوح، وأنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية، فأنكحه إياها وولدت منه ولدًا اسمه محمد، وأنه حدث بينهم وبين الشريف مغاضبة وفتنة، وأجمعوا الرحلة عن نجد إلى أفريقية، وتحيلوا عليه في استرجاع هذه الجازية، فطلبته في زيارة أبويها، فآزرها إياهم... فارتحلوا به وبها وكتموا رحلتها عنه...".
يضع الراوي الشعبي قصة الجازية وشكر الشريف في سياق درامي ممتع، على نحو ما وجدته في الرواية التي جمعتها من الأخوين عنتر وشداد عز العرب من مركز البداري محافظة أسيوط.
كان بديهيًا – وفقًا لابن خلدون – أن يحتل المدخل التاريخي جزءًا رئيسًا من دراسات الهلالية التي أنجزت في المغرب العربي (ليبيا وتونس والجزائر، على وجه الخصوص)، حيث تتصل السيرة الهلالية بالجانب التاريخي لأقطاره. يعبر عن ذلك ما تذكره الباحثة الجزائرية د. روزلين ليلى قريش في مقدمة الطبعة الجزائرية للسيرة، حيث ترى أن السيرة "توافق التاريخ في خطوطها العريضة، لكنها تركت العنان للخيال على مر الزمان ليبدع ويخترع، إلى أن أصبحت السيرة تسجل لنا قصصًا عجيبة وجذابة في آن واحد، تبث في الأنفس الدهشة والإعجاب وتجعلنا نعيش أحداثها ونتفاعل مع أبطالها، كما تبرهن لنا السيرة من خلال مغامرات أبطالها على أنهم أجداد لأغلب أبناء وطننا، وهم يتحركون في سيرتهم المذهبة بين الأسطورة والتاريخ".
وفي هذا السياق، نذكر أن فريقًا ميدانيًا بجامعة عنابة الجزائرية بإشراف الدكتور محمد عيلان بدأ منذ سنوات مشروعًا لجمع روايات السيرة الهلالية في الجزائر بالوسائل المرئية والصوتية، كما تجدر الإشارة إلى دراسة الباحث التونسي محمد المرزوقي حول "منازل الهلاليين في الشمال الإفريقي"، والتي قدم فيها رصدًا للقبائل الحالية التي تنتمي إلى قبائل السيرة الهلالية وبطونها: رياح وهلال ودريد وزغبة وغيرها في كل من تونس والجزائر والمغرب الأقصى وموريتانيا. أما الدراسة التي أعدها الباحث الليبي د. علي محمد برهانة، ونشرتها كلية الآداب والتربية بجامعة سبها الليبية، فتعد نموذجًا للدراسات المهمة في موضوع السيرة الهلالية، وتكمن أهميتها في جمعها لست روايات شفاهية من الرواة الليبيين، وأراد لها الباحث أن تتصل بالمدونات التاريخية التي تحدثت عن بني هلال وأشعارهم وهجرتهم إلى الشمال الأفريقي، ومرجعه الرئيس في ذلك ما ذكره ابن خلدون في مقدمته. وبجانب المدخل التاريخي، يقدم د. برهانة مدخلاً اجتماعيًا، فمدخل الدراسة الأدبية، ثم مدخل الدراسة المقارنة. ويختتم كتابه بملحق بالنصوص الستة المجموعة ميدانيًا.
وبالرغم من المجهود الطيب الذي اكتنف المداخل المذكورة، فإن الروايات التي جمعها الباحث د. برهانة وردت دون شرح للمفردات وللعبارات ودون أية تعليقات تُذكر، مما يصعب فهمها على القارئ غير الليبي، وربما الكثير من الليبيين أنفسهم غير العارفين بلغة البدو وتراكيبها وأصواتها، وهي الملاحظة نفسها التي أكدت عليها د. نبيلة إبراهيم في تقديمها للدراسة؛ حيث تمنت لو اكتمل العمل بالاهتمام بالروايات الشفاهية شرحًا وتعليقًا.
لا يفوتنا هنا الإشارة إلى واحدة من التجارب الجادة في مجال تدوين السيرة الهلالية، وهي التجربة المبكرة التي أجراها الباحث التونسي الطاهر قيقة (1922 - 1993) على واحد وثلاثين نصًا بدويًا للسيرة الهلالية، جمعها والده عبد الرحمن قيقة عام 1927 من راوٍ ليبي كان يتردد على عمال التراحيل الليبيين بتونس، حيث قام بتدوين هذه النصوص بلهجة راويها التي يغلب عليها طابع المنطقة الصحراوية الليبية التونسية، وعمل على تشكيل حروف كلماتها، تيسيرًا على القارئ غير البدوي. كما قام بنقلها إلى الفصحى في صفحات مقابلة.
بعد أن قدم د. أحمد مرسي فصلاً ضافيًا خاصًا بالأداء والمؤدين ضمن فصول كتابه "مقدمة في الفولكلور" - وكانت الأعمال البحثية الفولكلورية العربية (الميدانية والنظرية) التي اتخذت من "الأداء" موضوعًا لها، تتسم بالندرة الشديدة - شهدت الدراسات الفولكلورية العربية في مجال تحليل "الأداء الشفاهي" اتساعًا وتطورًا ملحوظين، نخص بالذكر دراستين تخصصا في أداء السيرة الهلالية.
الدراسة الأولى، تتعامد على الأداء الموسيقي للسيرة الهلالية، وهي الدراسة الأكاديمية المهمة التي قدمها د. محمد أحمد عمران حول الوحدة والتنوع في طرائق الأداء الموسيقي للسيرة الهلالية، حيث تعالج مختلف الأساليب وطرائق الأداء التي ارتبطت بالهلالية في مصر (الصعيد الأعلى، الصعيد الأدنى، الوجه البحري). وهي الدراسة الأولى - والوحيدة حتى لحظة كتابة هذا المقال - التي عالجت موضوع أداء الهلالية من الوجهة الموسيقية. وتتمثل نواة هذه الدراسة في الورقة التي قدمها د. عمران تحت عنوان: "الخصائص الموسيقية لرواية السيرة الهلالية في مصر"، ضمن أعمال الندوة العالمية الأولى لسيرة بني هلال التي انعقدت في منطقة الحمامات بتونس عام 1980، ونُشرت أوراقها عام 1990، وهي نفسها الندوة التي قدم فيها الأستاذ عبد الحميد حواس ورقته المتميزة حول مدارس رواية السيرة الهلالية في مصر.
أما الدراسة الثانية، فهي دراسة د. محمد حافظ دياب المعنونة بـ "إبداعية الأداء في السيرة الشعبية"، وهي واحدة من الدراسات العربية المهمة في موضوع الأداء، حيث تتسم بالحنكة المنهجية التي أسستها خبرة صاحبها العريضة في مجال الدراسات السوسيولوجية، وعلاقاته الوثيقة بالحقول المعرفية الأخرى، كالأنثروبولوجيا والفولكلور والنقد الأدبي، مما جعل دراسته تتمتع بالاتساع النظري. أما الجانب التطبيقي، فينهض على سيرة بني هلال، حيث قام د. دياب بتجربة ميدانية لجمعها من قرية "زاوية جروان" التابعة لمركز الباجور محافظة المنوفية، غير أن الكتاب - بجزأيه - قد خلا من الروايات التي أُشير إلى جمعها كثيرًا، كما أن الاستشهاد بها كان نادرًا للغاية. وقد سبقت هذه الدراسة النظرية الموسعة، عددًا من الأوراق البحثية التي شارك بها د. دياب في مؤتمرات وندوات عدة، بدءًا من بحثه: "السيرة الشعبية؛ مقاربة في منهجية إعادة الإنتاج" الذي شارك به في "ندوة السيرة الشعبية العربية" التي عقدتها كلية الآداب، جامعة القاهرة، في يناير 1985، وانتهاءً بالورقة التي قدمها د. دياب تحت عنوان "السيرة الشعبية؛ إبداعية الأداء"، نشرت عام 1993، ولعلها حصيلة مشاركته في مؤتمر "الإبداع والحرية" (طرابلس، ليبيا، 1989).
دفعني سؤال السيدة جانيت إلى التفكير في اقتفاء "طريق الهلالية" الطويل المتشعب بين اليمن وعمان ونجد والحجاز والبحرين وإيران والعراق والشام ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وبعض مناطق وسط أفريقيا. لم يكن مدهشًا أن تختمر الفكرة نفسها في رأس صديقي "هشام عبد العزيز"، فتجربته المتميزة في مجال تحقيق التراث كانت كفيلة بأن يرتاد الطرق الغامضة والوعرة، مثلما علمني العمل الميداني ارتيادها، التقينا عند محطات عدة على طريق الهلالية، وكان علينا أن نبحث سويًا عن المجهول في هذا الطريق التي سلكها الهلاليون، إِنْ في التراث المدون الذي يعرف هشام أضابيره، أو في الروايات الشفهية التي عزم عدد من الباحثين الميدانيين على جمعها، ومثلما سلك الهلاليون طريقهم جماعة، فإننا نقتفي أثرهم الشفاهي جماعة أيضًا.



#محمد_حسن_عبد_الحافظ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثقافة الشعبية والمجتمع المدني؛ نحو مدخل فولكلوري للتنمية
- حرية الشفاهي ؛ حرية المكتوب


المزيد.....




- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حسن عبد الحافظ - طــريـق الــهـلالـيـة