|
انحرافات المغرب السياسي: من الصبيانية السياسية إلى الصبيانية الإدارية
أحمد الحارثي
الحوار المتمدن-العدد: 3989 - 2013 / 1 / 31 - 20:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا يمكن فصل المغرب السياسي عن القاعدة المادية التي من المفترض أن تتحكم فيه أو بالأحرى أن يتحكم فيها، ولا جوهر الدولة عن طبيعة التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية. كي يتأتى تحديد ملامح الذات الفورية للدولة، نسق الحكم، وكذا فهم سلوك النخبة الحكومية، لا بأس من رصد بعض التحولات المرتبطة بتراكم الثروة الوطنية واستجلاء المنظر الجانبي للنمو الاقتصادي. يندرج الوضع السياسي القائم راهنا، في ظل "حكومة الإسلام السياسي"، ضمن صيرورة تاريخية متميزة نسبيا عن تلك التي أودت إلى تنصيب "حكومة التناوب التوافقي". لكنه لا يختلف في شيء عن سابقه، سوى في درجة التراجعات التي يحبل بها ونوعية التدني الذي يطال سلوك النخبة الحكومية الجديدة. بغض النظر عن الكوابح التي تقف وراء جمودية وعقم الحركية الاجتماعية في مواجهة الاستبداد والتسلطية، يمثل هذا الواقع البنيوي عاملا موضوعيا ينضاف إلى الدوافع العميقة التي تثير الغضب وتعرض البلاد إلى المزيد من المخاطر والأزمات التي قد تشعل في أية لحظة فتيل الانفجار الاجتماعي المدمر. يتسبب في ترجيح هذا الاتجاه كل من تقلبية النمو وهشاشة الحكامة على امتداد العقد الأول من الألفية الثالثة وبداية العقد الحالي، علاوة على تشدد عود الاستبداد وتوسع رقعة الفساد دون أدنى حس بالمسؤولية أو شعور بالخوف من العقاب. 1. الوضع الاقتصادي لا أحد يشكك في هشاشة الاقتصاد المغربي وفي عدم قدرته على مواكبة النمو الديمغرافي وتلبية الطلب الاجتماعي، حيث يتم الإقرار بهذا الواقع حتى من طرف بعض الدوائر شبه الرسمية والدولية.(1) في حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، أصبح المغرب يحتل مؤخرة دول العالم العربي وشمال أفريقيا (Mena) التي كانت تعرف أقوى معدل نمو للناتج الداخلي الفردي على الصعيد العالمي. حسب الدراسة التي أنجزها فريق البنك الدولي حول المغرب سنة 2005، لم يمثل المعدل السنوي للنمو الاقتصادي في البلاد خلال تلك الفترة سوى نسبة 2,5 %. ما بين سنة 2000 وسنة 2004، شهد المغرب مواسم فلاحية جيدة نجم عنها استرجاع النمو الاقتصادي الذي بلغت نسبته في المعدل السنوي 4% في حين مثلت نسبة النمو الديمغرافي أكثر من 3% واستقرت نسبة البطالة الرسمية في 11%. والحال أنه حسب تقديرات البنك الدولي نفسه، يجب على المغرب تحقيق نسبة نمو لا تقل عن 6% على امتداد عدة سنوات حتى يتسنى له مواجهة البطالة وتلبية الحاجيات الأساسية للساكنة، وإلا سوف يتعرض إلى توترات وهزات اجتماعية وسياسية. يعترف البنك الدولي بأن المغرب يشكل لغزا فيما يخص سياسته التنموية، إذ رغم توفره على المؤهلات للرفع من مستوى النمو فإنه يبقى عاجزا عن تحقيق هذا الهدف. ويقر بالأداء السيئ للاقتصاد المغربي الذي يظل رهينة المناخ ويتميز بضعف وتطاير أو تلاشي نسب النمو. والغريب في الأمر أن خبراء البنك الدولي في المذكرة الاقتصادية الموجهة إلى المغرب يقيمون مقارنة بينه وبين إسبانيا من جهة، ثم بينه وبين الصين من جهة ثانية. في سنة 2002 كان الدخل الفردي بمقياس تكافؤ القدرة الشرائية (P.P.A.) في إسبانيا يفوق خمس مرات الدخل الفردي في المغرب، مع أن كلاهما ينتميان لنفس الفضاء المتوسطي. والحال أنه، كما يؤكده هؤلاء الخبراء، لم يكن الفارق بين المغرب وبين جارته الشمالية كبيرا إلى هذا الحد في بداية الستينيات من القرن الفائت من حيث مستوى النماء الاقتصادي. أما بالنسبة إلى الصين، فقد كان الدخل الفردي لديها وفق مؤشر تساو القدرة الشرائية يقل خمس مرات عن مستواه في المغرب قبل أربعين سنة خلت. سنة 2004، أصبح الدخل الفردي في الصين يفوق بنسبة 20% المستوى الذي بلغه في المغرب. يكمن عنصر الغرابة في أن خبراء هذه المؤسسة المالية العالمية يفتقدون لأي حس استراتيجي، ويتعاملون بنظرة تقنية صرفة مع المعطيات والوقائع الاقتصادية. ففي سنة 2004 لم يمثل الناتج الداخلي الخام لمجموع الدول العربية (22 بلد) الذي وصلت قيمته إلى 870 مليار دولار، سوى 83% من الناتج الداخلي الخام لإسبانيا وحدها الذي ارتقى إلى 1044 مليار دولار. ورغم ارتفاع أثمنة المواد البترولية بنسبة 44% في السنة الموالية، وهي المواد التي تمثل ثلث قيمة الناتج الداخلي الخام للدول العربية (350 مليار دولار)، فإن ثروة هذه الدول (1050 مليار دولار) لم تتجاوز 93% من ثروة إسبانيا (1125 مليار دولار).(2) مقارنة مع المغرب، كانت القوة الاقتصادية لإسبانيا في سنة 1960 تساوي ست مرات قوة الاقتصاد المغربي، أي 12 مليار دولار مقابل 2 مليار. ثم ارتفع هذا العامل تدريجيا ليصل الفارق إلى 10 مرات سنة 1970 (40 مليار مقابل 4 مليار)، ثم إلى ضارب 12 مرة سنة 1980 (226 مليار مقابل 19 مليار)، ليقفز إلى حوالي رقم 19 سنة 2005 (1125 مليار مقابل 59 مليار)، قبل أن يستقر في رقم 16 تقريبا سنة 2010 (1407 مليار مقابل 91 مليار). أما فيما يخص الصين، فبعد أن تجاوزت ثروتها ثروة إسبانيا سنة 1994 (559 مليار دولار مقابل 515 مليار)، فقد أصبحت رابع قوة اقتصادية في العالم سنة 2004 بناتج داخلي خام قيمته 1971 مليار دولار، أي ما يفوق القوة المجتمعة لكل من إسبانيا والعالم العربي، أو تقريبا ضعف قوة كل منهما على حدة. في سنة 2010 تجاوزت الصين اليابان وأصبحت القوة الاقتصادية الثانية في العالم وراء الولايات المتحدة الأمريكية، بناتج داخلي خام يناهز 6000 مليار دولار، أي ما يفوق أربع مرات القوة الاقتصادية لإسبانيا، وثلاث مرات قوة العالم العربي الاقتصادية.(3) وفي سنة 2011 ارتفعت قيمة الناتج الداخلي الخام في الصين إلى 7000 مليار دولار، محققة نسبة نمو برقمين، أي 10%.(4) أما في المغرب، فقد قاربت قيمة الناتج الداخلي الخام حوالي 100 مليار دولار في سنة 2011، بنسبة نمو لم تتجاوز %4,9.(5) لا مجال إذن للمقارنة. الثابت هو ضعف وهزالة الاقتصاد المغربي، الذي لا يزال يعول على القطاع الفلاحي في الرفع من وتيرة نموه وأدائه، وفي تشغيل قوى العمل. فرغم التراجع النسبي لحصة هذا القطاع في إنتاج الثروة الوطنية، فإنه خلال الحقبة الممتدة من سنة 1980 وإلى حدود سنة 2005، ظل يتدخل في المعدل السنوي بحوالي 16% تقريبا؛(6) ولا زال يحوم حول هذه النسبة حاليا، بل قد يقارب أحيانا الـ 20% سنويا في حالة موسم فلاحي جيد. على امتداد نفس الفترة، أي ربع قرن، ظلت صيرورة التصنيع تحتل مكانة جد هامشية في التطور الاقتصادي للبلاد، إذ بقيت مساهمة القطاع الثانوي في إنتاج الثروة الوطنية متدنية، متواضعة، إن لم تتراجع لصالح تدخل قطاع الخدمات الذي تفوق حصته (خارج الإدارة) 56%. هكذا، ففي سنة 2010 نجد تقريبا نفس البنية التي ميزت إجمالا الناتج الداخلي الخام على امتداد ثلاثة عقود من الزمن: 16% للفلاحة، 29% للصناعة و55% للخدمات.(7) ويتكلف القطاع الفلاحي بتشغيل حوالي 40% من السكان العاملين، مقابل 38% بالنسبة للقطاع الثالث، في حين تكتفي الصناعة فقط بحصة 22%.(8) أمام عناد الواقع المادي لا ينفع في شيء ركام المبادرات الدولتية وتضخم الخطابات الرسمية وتكاثر أوراش التنمية والبهرجة الزائفة المواكبة لها. قبيل تدشين مرحلة "التناوب التوافقي" كثر الحديث عن الاقتصاد المغربي المهدد بـ"السكتة القلبية"، ثم عقدت آمال عريضة في البداية على ولوج المعارضة التقليدية إلى الحكومة، قبل أن تتبخر كل الوعود المعسولة التي تقدمت بها إلى الجمهور. بدأت تتجسد تدريجيا التراجعات الكبرى عن بعض المكاسب الهزيلة التي تحققت في البدء. ساهمت بالفعل عدة عوامل موضوعية في حجز التحول، أهمها مرتبط باختلال موازين القوى وبطبيعة النظام السياسي القائم. لكن ساعد أيضا على تسهيل هذا التطور الانحداري غياب الإرادة السياسية، فضلا عن الشوائب القاتلة المتمثلة في الانتظارية والتخاذل والثقافة المنفعية التي استبدت بالحزب الذي كان يقود شكليا "حكومة التناوب" وبحلفائه الصغار من القوى المحسوبة على اليسار، ودفعت بهم جميعا إلى المراهنة على القوى الناكصة والارتماء بسهولة في أحضان الرجعية التقليدية، السياسية والإدارية منها بسواء. ثم جاء الارتداد القوي عبر توغل التقنقراط وتربعه على رئاسة الحكومة وإحكام قبضته على الجهاز الإداري، متبوعا بغارة الصبيانية السياسية واختراقها للمشهد السياسي برمته، بما في ذلك فروعه الحزبية والنقابية والجمعوية والثقافية، بل وحتى الفنية والرياضية. إلا أن رياح "الربيع العربي" هبت وعكرت صفو الجو في وجه ذلك الجمع صعب المراس من صبية "العهد الجديد"، الذين كانوا يعدون العدة لاكتساح الحقل السياسي ثم السطو وإحكام السيطرة الكاملة على الجهازين التشريعي والتنفيذي، وبالتالي التحكم المباشر في دواليب الإدارة. إذ، لاعتبارات أمنية خالصة، وتحت إكراه الظرفية، استقر القرار السياسي المركزي في النهاية على خيار تنصيب حكومة إسلاموية سلفية، صراحة رجعية، بتحالف مع الإقطاع؛ زُوّقت بحزب صغير (الحزب الشيوعي المغربي سابقا) ما زال يُحسب على اليسار التقليدي، مع أنه أضحى في الواقع مفقود الهوية الإيديولوجية والسياسية. مباشرة بعد تسلم الحكومة الجديدة زمام الأمور، بدأت بوادر التقهقر تظهر على ملامح المشهد السياسي، وبخاصة على صعيد أداء وسلوك الفريق الحكومي. ثم انطلقت صيرورة تنزيل قيمة العمل السياسي إلى مستوى الصبيانية الإدارية. 2. من الصبيانية السياسية إلى الصبيانية الإدارية يحيل مفهوم الصبيانية إلى التصرفات المميزة للرعايا الذين ليس في مستطاعهم رؤية العالم المحيط بهم كما هو في الوقائع لأنهم يتخذون في المقابل رغباتهم كحقائق، ولا يبالون البتة بالعواقب الحقيقية لأفعالهم التي تتحول إلى مجرد لهو وسلوك لعوب (Ludique)؛ إنه يعني باختصار شديد اللامسؤولية.(9) يقصد بالصبيانية السياسية هنا الابتذال في فهم وممارسة السياسة، كأنها لعبة في غاية البساطة، والادعاء إن لم يكن الاعتقاد بأنه في مستطاع فرد معزول أو رجل سلطة منفرد إنتاجها وتسويقها بسهولة فائقة. وفق هذا المنظور، يختفي تماما المجتمع الحقيقي، الواقع الملموس، وبالتالي يتم اقتصاد عناء تحليله؛ ويحل محله المتخيل، العالم الافتراضي الخالي من التناقض، الجامد، المعوق ذهنيا والغارق في البلادة والجهل. مما يجعل عملية الاحتواء في متناول أي متطفل. لا يستدعي هنا تملك فن السياسة والدراية بشؤونها مهارة ولا فكرا، ولا يتطلب تأسيس الجماعة السياسية تبلور المصلحة الجماعية المشتركة. هكذا، يوازي افتقاد العقل (الرشد) السياسي تغييب الصراع الاجتماعي، وتجري الأمور كأن السياسة مفصولة عن الاقتصاد وعن المجتمع. إننا بصدد "سياسة" تتحدى المؤسسة أو تختزلها في الشخص، منحلة تماما من أي رابط أو علاقة اجتماعية؛ لا تنطلق من تأسيس الجماعة التي ترمي إلى غزو السلطة، بل على العكس من ذلك تعتمد على امتلاك السلطة الإدارية والمال مسبقا بهدف احتواء الجمهور. يرمز مصطلح الصبيانية السياسية إذن إلى إدراك فطري وتلقائي لعالم السياسة، لعلائق السلطة، يترتب عنه (رد) فعل سياسي غير مفكر فيه ولا في نتائجه البعيدة، أي الحقيقية، (غير) المباشرة. في حالة المغرب السياسي الراهن، يعكس هذا النوع من التفكير والممارسة واقع ابتذال السياسة وافتقادها المعنى، بسبب خلوها من أي رهان حقيقي وتضخم الخطاب حولها، وكذا بسبب الجمودية القاتلة لنسق وعلائق السلطة وعدم مواكبتهما للتطور الاجتماعي. شهدت الساحة السياسية بالفعل بعض الانفراج المحدود والمحسوب في أواخر القرن الماضي، وخرج بكيفية مشروطة العمل السياسي من ظلمات المحظور ودائرة الممنوع، من شبه السرية، إلى العلنية والشرعية القانونية؛ ثم انعتق نسبيا الفضاء العمومي من جبروت العنف الدولتي اللامشروع والقمع الأعمى، وتم تخفيف وطأة التسلط الجاثم على صدر المجتمع وإرخاء العنان للقوى الحية في البلاد، مع ما رافق ذلك من تحسن طفيف لوضعية حقوق الإنسان وانتعاش مراقب لحرية التعبير. لكن ظلت هذه المكتسبات بعيدة كل البعد عن تحقيق التحول أو الانتقال الديمقراطي المطلوب؛ بل تحولت إلى عامل إعاقة. إذ ركبت عليها الدولة وعملت على توظيفها إيديولوجيا وسياسيا من أجل الحصول على إجماع وطني صوري سوف يشل بالمرة الدينامية الاجتماعية الناشئة ويقفل باب الإصلاح الحقيقي. جندت أجهزتها ووسائلها لاستقطاب النخب المخزنية الجديدة وسط القوى المحسوبة على اليسار وعلى الجبهة الحداثية الناشئة أو التي كانت قيد التشكل، قبل الدفع بهذه الفعاليات أفرادا وجماعات إلى الالتفاف حول فئة "الخبراء" (التقنقراط)، ثم تأهيلها لتقوم بدور "الكومبارس" في تحصين وإعادة إنتاج التقليد والمحافظة تحت لواء "الحداثة". وقد ساهمت في هذه العملية، بمغالاة وحماسة زائدة أحيانا، فئات واسعة من النخب الحضرية، تتشكل في معظمها من رجال الأعمال وأهل السياسة والقانون والثقافة والتعليم والإعلام، مستغلة ضعف وانهزامية الفاعل الحزبي والتراجع الفكري والثقافي الكبير في البلاد. هكذا ارتمت السياسة على التو في أحضان الانتظارية وركنت إلى هامش "الحرية" الممنوح. في المقابل، استمرت الدولة في نهج مخطط تأمين عودة المخزن بتدرج ولكن بقوة، مع ما ترتب عن ذلك من تراجع وارتداد في الحقل السياسي وعلى صعيد علائق السلطة، حيث جرى تبديد القدرات المؤسساتية الضعيفة أصلا في البلاد، علاوة على تعميق اختلال موازين القوى لفائدة بؤر ورموز الاستبداد والفساد. بحكم افتقادها للتجربة السياسية، وعلى خلفية الصراع الخفي تارة والمكشوف تارة أخرى من أجل الاقتراب أكثر من مركز النظام واحتلال المواقع الأمامية في المساعدة على صنع القرار السياسي، بدأت بعض الوجوه البارزة في محيط البلاط تتلمس طريقها نحو كسب الثقة الكافية لجعلها تتسلق بسرعة هرمية السلطة الفعلية. تم لهذا الغرض استقطاب الأتباع في مختلف أوساط ومناحي الممارسة الاجتماعية، وجمع خليط من النخب الانتفاعية، قبل أن تتشكل خريطة "حكومة الظل" التي سوف يحكم أقطابها قبضتهم على زمام المبادرة في المجال السياسي بكامله، وكذا على عالم الأعمال. يوظفون أجهزة الدولة لإنتاج البرنامج السياسي، هو ذاته برنامجها؛ والإدارة لجلب النخب الموالية. يعقدون اجتماعاتهم في البيوت والمقرات الخاصة أو في المطاعم الفاخرة والصالونات الليلية والمقاهي؛ ويحسمون في القرارات التي ترسم الخريطة السياسية المرغوب فيها، والتي تقرر بالتالي مصير المريدين والخصوم والأعداء... إننا بصدد إعادة تشكل شبكة الأعيان الحضريين الجدد، والقبلية المتمدنة كركيزة أساسية للنظام. وبدا أن المناخ السياسي "الجديد" المبتغى يتطلب محو الذاكرة الجماعية كي يتأتى إنساء نكاد وأوجاع الماضي. لذا دُبّرت خطة مُتكتّمة ترمي إلى تنحية "الشيوخ": الزعماء السياسيون التقليديون أو القدامى، من المشهد الحزبي وإقصائهم من اللعبة السياسية والقذف بهم خارج دوائر صنع القرار. لأن بعض أولياء الأمر يعتقدون ربما بأن هؤلاء هم وحدهم من يشخصون تلك الذاكرة أو يفترض فيهم أنهم يحملونها، وسوف تختفي لا محالة مع اختفائهم السياسي. لكن الأهم هو التحرر من عبء استذكار الأمس القريب الذي كيَّف العلاقة السياسية في "العهد القديم". نُظمت لهذا المراد حملة "تطهيرية" طالت قيادات كل من الأحزاب الوطنية التقليدية وأحزاب الإدارة والإقطاع السياسي، وتُوجت بتنصيب زعماء جدد موالين للتوجه الرسمي، وخلق آخرين رهن الإشارة لتعويض أي اعوجاج محتمل.(10) تضخم الخطاب حول "تشبيب" النخب وتجديد النظام، واستُدرجت معظم المنابر الإعلامية وجيش من الفعاليات الحزبية والثقافية للهجوم على المناوئين والمخالفين المحتملين في مختلف مواقع الممارسة الاجتماعية، والتعتيم على الوضع السياسي الحقيقي، والمساهمة النشطة في ابتذال السياسة، والجري وراء سراب الجاه وسلطة المال. بل ذهب تهافت النخب إلى حد ترويج إشاعات كان لها مفعول قوي في توهيم قسط وافر من رموز وأتباع "اليسار الجديد" السبعيني بأن هذا التيار مؤهل للمشاركة في الحكم، قبل أن يتم تجنيد بعضهم لإنجاح هذا المخطط الجهنمي. إلا أنه، بعد انقشاع الغباوة وتبخر الحلم، جعلت الطموحات الانتهازية هؤلاء يلهثون في الأخير وراء الحصول على الترقي الاجتماعي الخفيف؛ على الأقل. بحكم طبيعة النظام السلطوي القائم وعلى غرار سلوكه الذي لا يضرب حسابا للمستقبل، أودى هذا الفرز إلى ظهور تبعية (Mouvance) سياسية متميزة، تنتج نمطا خاصا من الفعل السياسي. فضلا عن كونه وليد (إعادة) هيكلة المخزن الجديد الذي يرتبط به عضويا، يتميز الفاعل السياسي الوافد بطابعه النزوي الخالص في التعامل مع الواقع الاجتماعي، الذي يختزله في البيئة السياسية المباشرة، في المحيط الحزبي الاصطلاحي. إذ لا يبالي مبدعو "مفهوم السلطة الجديد" بالماضي، بالتاريخ، ولا بالمستقبل، بما يحبل به المجتمع من مخاض وما تحمله التطورات من مخاطر؛ ما يهم هو متعة اللحظة، هواية السياسة، والتعاطي مع الحدث بطمس تام لكُنه العلاقة الاجتماعية السائدة. في نفس الحين الذي يتم فيه هذا الاحتقار للعقل وهذا الاستصغار للواقع السياسي، يسود الشعور باللامسؤولية، وتتفشى مظاهر الاستخفاف والاستهزاء بالضمائر. ما دامت بركة النظام تؤمن النفوذ الإداري وتعزز السلطة الرمزية، فإن عملية إنتاج السياسة من خلال تأسيس التنظيم الحزبي القوي لا تعدو أن تكون مجرد مسألة إمكانيات مادية يوفرها الريع. كأن الأمر يتعلق بخلق مقاولة سياسية ريعية؛ على غرار وبتواز مع كيفية تشكل السلطة الاقتصادية والثروة عبر قناة الإقطاع، بمختلف أساليبه التقليدية والعصرية، وعبر الإدارة المركزية والترابية. وفق هذا التصور الملتحم التحاما شديدا مع واقع شخصانية السلطة، ينظر إلى السياسة على أنها عبارة عن "سوق حرة"، بمعناها السالب والقابل للتخصيص؛ طليقة، لا ضابط لها ولا تعاقدية، مفصولة عن بنيات المجتمع والاقتصاد. ثم، بما أنه لا حاجة إلى أية فلسفة أو نظرية لممارسة الحكم وتسيير الشأن العام، فإنه لا داعي بالمرة إلى الاهتمام بالانسجام الفكري والمذهبي، كيفما كان نوعه. وهكذا، يضيع "البرنامج السياسي" المقترح أو ما يقوم مقامه، في متاهات خليط من الخطاطات الفضفاضة وركام من الجدادات التقنية والإدارية، في تفاصيل حصائل وخصال دولة "الاستقلال". بدءا من أوهام ولوج المغرب في ظل "العهد الجديد" مرحلة الانتقال الديمقراطي وترسخه في الحداثة، ثم وعود طي صفحة الماضي الاستبدادي وتحقيق العدالة الانتقالية، ووصفة "المغرب الممكن" المتضمنة في التقرير حول "الخمسينية"، ومرورا إلى مشروع "الجهوية الموسعة"، علاوة على متاهات تضخم المبادرات والمشاريع والمجالس "غير الحكومية" للدولة، الخ. بغض الطرف عن وظائفها الإيديولوجية الصرفة، ودورها في برطلة وإفساد النخب الموالية بطريق أو بنسق الاختيار (Système de cooptation)، فإن مختلف هذه البرامج الفارغة المحتوى تساهم بشكل كبير في استنزاف الميزانية العامة للدولة، وإرهاق كاهل الساكنة (الناخبين المفترضين) بالضرائب، والضرائب غير المباشرة على وجه الخصوص التي تحد من القدرات الشرائية للأسر. يمكن تقدير حجم هذا الضغط على المال العام أو الخسارة الناجمة عنه، في بلد ضعيف الموارد، من خلال القيام بجرد بسيط للعدد الهائل من المؤسسات التي أنشئت على امتداد العقد الأخير، ليس نزولا عند طلب اجتماعي محدد وواضح المعالم، بل أساسا لتلبية رغبة الدولة في الاستعانة بتوظيف ارتشاء نخب ميالة أصلا إلى مساومة نفوذ مزعوم.(11) طالما "البرنامج السياسي" الممكن والوحيد هو ذاته برنامج الدولة، "دولة الواحد" حسب تعبير عبد الله العروي، فليس ثمة داع لفصل السلط ومأسسة العلاقة السياسية، إذ يكفي حصر الاختيار على التكتلات السياسية المؤهلة أكثر للتناوب على تسيير الإدارة المركزية الشكلية، دون إعارة أي اهتمام لمسألة الانسجام السياسي والمذهبي، ولا إلى إرادة الناخب، ولا إلى تقييم النتائج، ولا إلى المراقبة والمحاسبة. إنه التسيب المؤسساتي بعينه. يوازيه فعل المخزنة الشاملة. من الناحية الاجتماعية، لا مكان للأمل في ظل واقع سياسي مثل هذا. إننا بصدد حالة احتقان لا يمكن لها سوى أن تولد التيئيس من التغيير، من أي إصلاح. يعتبر السلوك الذي تنهجه وترعاه الحكومة الحالية، رئاسة وفريقا، امتدادا لهذا النوع من الطفولية المخزنية الذي كان يسيطر على معظم مكونات الفريق الحكومي السابق. لكن بتجريد كلي لهذه الحكومة -غير المرغوب فيها أصلا- من لب الدولة، من حرية التصرف الذي يُستمد من متانة العلاقة المباشرة مع الدوائر الضيقة للسلطة المركزية، أي من أية إمكانية لممارسة صلاحياتها التنفيذية فعليا، ولو في نطاق الحدود الدنيا المرسومة سلفا والمعهودة؛ وذلك بحكم بعدها العضوي وإبعادها المقصود من مركز القرار الدولتي. فقد قبلت طواعية قيادة التشكيلة الحكومية الجديدة ليس بالاستسلام للأمر الواقع وبتحجيم سلطتها الوظيفية فحسب، بل أيضا باقتصار دورها حصرا على التدبير الإداري الصرف؛ واختارت المشي تقهقرا وباندفاع زائد على خطى نخبة المخزن الجديد التي كانت تعاديها بالأمس القريب، وأكثر من ذلك عملت على استنساخ أساليبها الفجة في التعامل بسخافة مع المحيط والجمهور. وراء سعيها الحثيث للدفع بالنظام نحو المزيد من التقليدانية والمحافظة وإلى لفظ كل تحديث، تعتقد الأصولية المخزنية وهي في موقع تدبير الشأن الإداري بأنه في وسعها توظيف والالتفاف على "إمارة المؤمنين" لبلوغ مراميها السياسية البعيدة: اختراق النظام، في انتظار ربما الاستيلاء على الحكم في كليته.(12) فهي تريد أن تعطي الانطباع بأنها الأكثر تشبثا بأهداب العرش ودفاعا عن ثوابته التقليدية وأعرافه المتجدرة في التاريخ على "امتداد أربعة عشر قرنا"، ما دام الأمر يدخل في نطاق تجسيد إرادة الله في الأرض ولا يخرج عن طريق الدولة الدينية وتعاليم الإسلام كما تنظر إليه هي: الأصولية المخزنية، وشيوخها. لا يهمها في شيء تمادي دولة الحكم الإلهي في إعادة إنتاج الاستبداد والتخلف، شرط أن يسترشد الحاكم بالإيديولوجيا الدينية التي تقتسمها معه أو تتنافس معه في توظيفها لأغراض سياسية ولإضفاء المشروعية على السلطة المركزية. حتى يتسنى لها القيام بما تعتقده مهمتها الجوهرية، الإستراتيجية، المتمثلة في أسلمة الدولة والمجتمع إلى أقصى الحدود الممكنة، فهي مستعدة لأي شيء من أجل تصليب عود وعماد السلفية عبر إحياء الحكم السلطاني على منهاج "الخلافة الإسلامية"، في أفق احتلال موقع الصدارة في هرم السلطة السياسية، إن لم يكن دفعة واحدة فبالتدرج. في جزء منه، ينم هذا السلوك ذاتيا عن غياب الرشد الإداري قبل السياسي لدى النخبة الحكومية الجديدة، وعدم قدرة فعالياتها الفردية والجماعية على استيعاب أدوارها الرسمية ومهمتها الدولتية المباشرة، فضلا عن لفظها لصفتها الشكلية ككائن مؤسساتي. لكنه يحيل في شقه الأوفر إلى تأثير يمكن وصفه بالموضوعي، يتمثل في العدوى المنتشرة جراء نفوذية السخافة السياسية كتعبير عن شيوع وتعميم الشخصانية الملازمة للسلطة المركزية. فعوض تركيز الجهود صوب تفعيل الدستور الجديد، رغم علله، والنهوض بمهامها التنموية، اختارت الحكومة الحالية اعتماد التأويل المخزني الأصولي لمضامين القانون الأسمى، والاكتفاء بالذيلية التامة للتوجهات السياسية الأكثر رجعية للقوى المتنفذة داخل النظام السلطوي. لأنها تدرك جيدا أنه لا فائدة من وراء البحث عن تملك هامش حرية في التصرف واتخاذ القرار، وأنه من الأفضل الامتثال للأوامر للحفاظ على المنافع الذاتية التي تجنيها من المواقع الإدارية الآنية، المكتسبة في ظروف غير عادية. ليس انعدام الأخلاق في السياسة شيمة تخصها لوحدها، بل هي القاعدة التي تحكم مجموع الأحزاب المنخرطة في اللعبة السياسية. فلماذا الاستثناء إذن؟ تحت إكراه الظرفية المرتبطة أكثر بعوامل خارجية، بالمحيط العربي تحديدا، وبخاصة المصير المفزع لرأس النظام الليبي السابق، اضطرت فلول النخبة المخزنية الجديدة إلى التراجع والتخلي مؤقتا عن سلوة الضحك في ذقن العموم، تاركة زمام الجهاز الإداري بين يدي الأصولية المخزنية. هكذا انتقل المغرب السياسي من دورة الصبيانية السياسية مع تسلط جبابرة المخزن الجديد في ظل الفشل المعلن لتجربة "التناوب"، إلى دورة الصبيانية الإدارية الصرفة مع صعود الأصولية المخزنية إلى دواليب السلطة الحكومية على خلفية النتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع. يكمن الفرق الجوهري بين هذه الدورة وتلك في أن الفاعل السياسي في الحالة الأولى، الفاقد الشرعية والعاري من أي سند شعبي، يستمد قوته من قربه من "دار المخزن"، موظفا الشعار الخالد للمؤسسة الملكية: "الأصالة والمعاصرة"؛ ولا يشكل بالتالي أي خطر على هذه الأخيرة، مما جعل دورته تعمر طويلا، زهاء أكثر من عقد من الزمن، منذ ذهاب حكومة "التناوب التوافقي" الأولى. أما في الحالة الثانية، يراهن الحزب الأصولي على تجذره وسط المجتمع، معتمدا الشعبوية وتجنيد شيوخ ومريدي التقليد والمحافظة والدعوة إلى الرجوع إلى السلف الصالح واستثمار الإيديولوجيا الدينية؛ ويمكن أن يمثل بذلك تهديدا لأسس النظام المرتكز على نسق مشروعية قوامه بالذات الحق الإلهي. كما أن ثمة مؤشرات توحي بأن عمر الحكومية الحالية سوف يكون قصيرا إن هي استمرت على نهجها الارتدادي وتبعيتها المطلقة للتقليدانية السياسية؛ وبخاصة أن رواد الدورة الأولى يتربصون بهذه الحكومة قصد الإطاحة بها. وإذا كان دهاقنة النخبة المخزنية الجديدة يتوفرون على الخبرة ولهم دراية بتدبير الشأن العام، فإن ما يشد الانتباه في تركيبة الفريق الحكومي الأصولي وقياداته السياسية هو الهواية (Dilettantisme) وانعدام التجربة الإدارية: إنه فريق مُتدرَب. يتعلق الأمر في الحقيقة بلحظة ارتداد سياسي سوف تكون له تبعات ملموسة في المستقبل القريب. واهم من يعتقد في هذا المضمار بأنه في وسع الدولة/المخزن الدفاع عن الحداثة وتحصينها ضد التقليد والمحافظة، وهي دولة بطبيعتها تلفظ وتعادي المأسسة السياسية ولا ترغب في التخلي ولو عن شبر واحد من مجال "سلطة الواحد". فقد سبق لها من قبل، في بداية عهد "الاستقلال" ثم ابتداء من مطلع عقد السبعينيات من القرن المنصرم على وجه الخصوص، أن وظفت بشكل عنيف دعاة هذا التقليد والمحافظة بالذات، أي الحركة الإسلامية الناشئة آنئذ، في إطار خطة محكمة لإقحام الدين في السياسة. وذلك قصد القضاء آنئذ على القوى التواقة إلى التحديث والدمقرطة، وفي مقدمتها التيارات الماركسية الراديكالية، وذلك باللجوء إلى حد التصفية الجسدية لأحد الرموز البارزة الأكثر تأثيرا وسط هذه القوى، باغتيال القيادي الاشتراكي عمر بنجلون. وإذا ما قررت الدولة يوما ما الانحياز لدعاة الديمقراطية ودولة الحق والقانون، في محاولة لتعديل الكفة لصالحهم ودعم صفوفهم، فإن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد تكتيك لإضعاف الخصوم الجدد الذين أنجبتهم ورعتهم أجهزتها؛ والحد من مخاطر الانزلاق نحو المجهول الذي قد يتسبب فيه بالضبط التيار الإسلاموي المخزني الذي اخترق الدولة بفضل اعتماده على الدهاء السياسي، وليس على المنحدر الدعوي والانضباط أو الانسجام المذهبي. إن الدولة/المخزن هي بكل بساطة دولة لاقطة، ليس لها أي مذهب محدد أو فكر معين، وليس في مستطاعها صياغة أو الانخراط في أي مشروع مجتمعي كيفما كان نوعه. تلتقط من كل واد عصا، تقش من هنا وهناك قشور الأفكار وتمزجها بتنافر لا مثيل له في القوالب الإيديولوجية المتعددة الولاءات، وتعد بغزارة البرامج التي لن ترى النور. ويستمر الدوران في نفس الحلقة المفرغة من الوعود الكاذبة. فهي تمتح من كل حدب وصوب؛ ما يهمها هو البقاء والحفاظ على المصالح الحيوية لأقطاب النظام والإقطاعات المحلية، بدعم من الرساميل والأسواق الأجنبية والمؤسسات البنكية والنقدية العالمية. فضلا عن ذلك، لم ينتج ولوج الحزب الأصولي إلى رئاسة الحكومة عن صيرورة تاريخية عادية، طبيعية، تندرج ضمن السياق العام المعتاد، أو عن رغبة حقيقية في تدشين حلقة الإصلاح السياسي والمؤسساتي، أو حتى عن هم "استراتيجي" كما حدث سابقا مع صعود اليسار التقليدي إلى السلطة وقيادة الائتلاف الحكومي في أفق تأمين الاستخلاف السلس للنظام. مثلما أن هذا الواقع الجديد لم يكن وليد دينامية ثورية أودت إلى تسلم هذا التيار السلطة المركزية كما وقع مؤخرا في تونس ثم في مصر، في سياق تاريخي مفتوح على كل الاحتمالات، بما فيها فرضية نجاح عملية السطو على الثورة من طرف الإسلام السياسي، أو على العكس من ذلك احتمال استئناف الثورة مجددا كي تستكمل كافة حلقاتها. في المغرب، جاء تنصيب الحكومة الأصولية كوصفة لإجهاض الدينامية الاجتماعية المستحدثة التي كانت توهم بأنها قد تتحول إلى حركة ثورية؛ إذ الأمر يتعلق هنا بمحاولة سرقة "حلم/فكرة الثورة" إن جاز التعبير، وليس سرقة "الثورة" في حد ذاتها كما يقع في الجوار، في شمال/شرق إفريقيا. بل إنه قبل تربعه على كرسي رئاسة الحكومة، أبان الحزب الأصولي عن أنيابه في خضم الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة وهدد بمعانقة الحركة الاحتجاجية المستحدثة والخروج إلى الشارع في حالة حرمانه من الوصول على الأقل إلى الجهاز الحكومي. حصل فجأة على أثمن من ذلك لأسباب أمنية صرفة، ليست خالية بالطبع من الحساب السياسي السريع، إن لم يكن المتسرع، بالنظر إلى الخطة التي كانت معدة سلفا بعناء كبير من طرف قطب النظام. يكشف هذا النوع من السلوك عن درجة السخافة التي تستبد بالنخب المخزنية الجديدة، سواء ارتدت الزي العصري أو التقليدي، ونوعية المكر الذي تمارسه هذه وتلك بهدف تحقيق أغراضها الأنانية؛ وبخاصة منها النحب السياسية. 3. انسداد الأفق وغياب البديل لا يوازي فشل الدولة في تحقيق التنمية والنهوض بالأوضاع الاجتماعية، وعجزها عن القيام بالإصلاح السياسي المطلوب، سوى نجاحها في ضبط الساحة السياسية على إيقاع الإجماع الوطني الصوري حول المقدسات، والتحكم بشكل مطلق في اللعبة السياسية. ذهب دون رجعة زمن "التعاقد" السحري الذي ظلت مع ذلك أحزاب الحركة الوطنية تراهن عليه حتى آخر رمق، محاولة لهذا الغرض بالذات بعث الروح في "الكتلة الديمقراطية" التي أضحت جثة جامدة منذ أمد بعيد، منذ ولوج اليسار التقليدي إلى الإدارة. تضخم المشهد الحزبي وأُغرق في بحر لا طعم له من الخطابات السياسية الرديئة والمتشابهة إلى حد التماهي، ثم هجر الجمهور الواسع صناديق الاقتراع وأحجم عن التصويت، لأنه كره السياسة ورجالاتها لشدة معاناته من نفاق وفساد النخب السياسية ومن دوامة الوعود المضللة للدولة. ولا يغير صعود الأصولية إلى الجهاز الحكومي في شيء هذا الارتداد السياسي، بل إنه سوف يعززه من الآن فصاعدا بتقديم الدعم الحزبي والشعبي اللازم لتمرير المزيد من التراجعات وتبرير التخلف والاستبداد، باسم التقليد والمحافظة، وعلى قاعدة الدعوة الإصلاحية السلفية. إذ، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، من السذاجة الاعتقاد بأنه في وسع نظام الحكم في البلاد التخلي عن التقليدانية السياسية والتحلي بالجرأة الكافية لقبول التحديث السياسي، لأن جوهر علاقة السلطة لا يتجسد في المؤسسة، بل خارجها، في الأعراف والتقاليد. فليس من باب الاكثرات بنسج العقد الاجتماعي وعقلنة السياسة، أو بدافع نهج طريق خصوصي لولوج الحداثة السياسية أن يتضمن نص الدستور الجديد ترسانة من القواعد الوضعية، وفي نفس الآن ما يكفي نوعيا من البنود التي هي على النقيض تماما منها والتي توفر بشكل دقيق، لكن على نطاق واسع وبفعالية قوية، الحصانة للتقليد. بل إن ازدواجية المرجعية النموذجية، الفلسفية والقانونية هي بمثابة المخرج الأمثل للالتفاف على دولة القانون، والحصن الشرعي الذي يسمح بشل كل حركية تاريخية من شأنها تغيير الوضع القائم من داخل النظام في اتجاه فصل حقيقي للسلط وتوزيعها بعدل. فلا يترك تمثيل الدولة في "الواحد السياسي"، المتعدد الأبعاد والرموز، أي حظ إذن لمأسسة العلاقة السياسية أو اقتسامها مع أي كان، سواء مع هذا الطرف أو ذاك من طرفي المعادلة: السنة والتحديث. على صعيد الممارسة، يستمر الواقع السياسي على ما هو عليه من حالة سكون وثبات، ويتمادى احتكار السلطة في نزع القوة المادية عن القوانين وتجميدها، في تحد سافر لقواعد التطور الاجتماعي في العصر الحديث. وكما يقول عن حق مونتسكيو، لا يهم إنتاج التشريعات الجيدة، وهو الشيء الذي نعثر عليه في كل بقاع العالم، لكن المهم هو مدى التقدم في تطبيق تلك الموجودة أصلا. فما يجب أن يشد الانتباه فيما يخص هذه الثنائية التي ينفرد بها هنا النسق المعياري هو النجاعة السياسية للرمزي والروحي. وذلك ليس فقط في تثبيت التسلط واقتصاد أو الاستغناء عن ضرورة الحكم وفق القانون، لكن أساسا في قبول هذا الواقع السياسي من طرف قاعدة واسعة من المحكومين، وفي مقدمتهم النخب التي لا ترى مانعا في استمرار تركيز السلطة في يد واحدة ما دام الأمر يخدم مصالحها وأهدافها الخاصة، الفئوية. بل إن هذه النخب في معظمها، وعلى اختلاف مشاربها الفكرية والإيديولوجية وتوجهاتها السياسية، تطالب بديمومة ما هو قائم في واقع الحال: الانفراد بسلطة القرار السياسي؛ بعض منها بدافع الدفاع عن "مكسب" القانون الوضعي (العصرنة)، والبعض الآخر باسم الحفاظ على "إرث" الأمة الحضاري والثقافي (التقليد). طالما إذن لم يتم الحسم النهائي في هذا الاتجاه أو ذاك، لا مع التراث بتحقيق القطيعة اللازمة معه، ولا مع الحداثة بلفظها صراحة والرجوع إلى السلف الصالح وتطبيق الشريعة الإسلامية، ولا مع إشكالية اللغة والهوية بالتمزيغ أو التعريب أو التغريب، يبقى المستقبل رهينة الحاضر؛ سجين ذلك الراهن الإجماعي الشكلي. لأن كل واحد من أبطال المشهد السياسي والثقافي ينظر، وفق حساباته السياسية، بعين الرضى إلى السلطة المطلقة باعتبارها آخر قلعة دفاعية وسد ممانعة في وجه خصومه، في المعركة التي يعتبرها مصيرية بالنسبة إليه ضدهم. يتوهم بوجود دولة مجردة فعلية تقف على الحياد وتقوم بوظيفة الحكم في تدبير الأمور؛ ويعتقد أنها وحدها القادرة على حماية حرية أفكاره وصد الأخطار المحدقة بكيانه، سواء تعلق الأمر بمنع استيقاظ شياطين الماضي القدامى: التقليد (= الإسلاموية، القبلية، الشوفينية...)، أو بتدجين عفريت الحداثة (= التغريب، المادية، الإلحاد...)، الخ. والحال أنه، حتى لو سلمنا بملاءمة اعتماد المقاربة التاريخانية لعرض خصوصية الدولة في المغرب المعاصر، لا شيء يدل على أرض الواقع على امتثال بنية المخزن إلى منطق الإصلاح وقوانين التطور في العصر الحديث. باستثناء استسلامها لفضاء وسلطة الرأسمال العالمي، والهيمنة الأجنبية الغربية المواكبة له، ظلت الدولة على حالها، كبنية تحتية راكدة، مشدودة إلى الأعراف؛ مستمدة من ذلك الحين فصاعدا مشروعيتها أساسا من التقليد، وقوتها المادية من أجهزة الردع والقمع الحديثة، التي تمكنها من بسط سيطرتها عبر التحكم في التراب والتربيع السياسي للساكنة. إن الدولة/المخزن، التي فقدت هويتها القبلية وانهار كليا بنيانها السياسي التقليدي عندما اصطدمت بالحداثة تحت وطأة الاستعمار المباشر، لم تأخذ من الغرب سوى التكنولوجيا السياسية اللازمة لتعزيز المراقبة الترابية والبشرية، مجردة إياها من روحها ومحتفظة بالهيكل الملائم لضمان استمرارية التراث الاستبدادي البالي والإقطاع الشرقي السافر. تماما مثلما يفعل الإسلام السياسي حاليا في تعامله مع الحدث، من موقع مغاير طبعا، يدعي التغيير ويدعو إلى المزيد من التشدد مع ثقافة السوق والعلمنة. سواء تعلق الأمر بالديمقراطية على وجه الخصوص، التي يختزلها في الآليات الانتخابية وصناديق الاقتراع وينتزع منها القيم والمبادئ الإنسانية والسيادية؛ أو بالحضارة الكونية عموما، الغربية الجوهر والهيمنة راهنا، التي يجري وراء اكتساب منافعها الفنية والمادية ويلفظ في نفس الوقت علميتها وعقلانيتها وفلسفتها، بل يتمادى في خلطها بهتانا، وبسوء نية بينة أحيانا، مع المسيحية (Chrétienté). في ظل محيط اجتماعي محافظ وغارق في التقليد، ووضع سياسي شديد الانغلاق بحكم احتكار وشخصنة السلطة، واختلال موازين القوة السياسية لصالح معاقل الرجعية، ليس ثمة من بديل آخر، سياسي ومؤسساتي، سوى تراكم الارتدادات السياسية وديمومة الاستبداد المترامي الأطراف. يقنع ويرضى بهذا الانحدار تغلغل الأصولية المخزنية، ويساهم اليسار التقليدي بقوة في تبريره ودعمه والاستفادة منه. في حين يتحين "زعماء" الإقطاع المحلي -"الوافد الجديد"، الفرصة المناسبة للعودة إلى الميدان وإحكام القبضة على الحقل السياسي واحتكار مقاليد الإدارة؛ بالاستفادة من الدعم المادي الكبير الذي يؤمنه التواطؤ المكشوف أو الخفي لبعض أعضائه مع شبكة الأعيان ورموز الفساد المالي والإداري المنظم في شكل "مافيا" حقيقية... ________________ الهوامش: (1) أنظر: تقرير البنك الدولي حول المغرب، 2005. (2) معطيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. (3) معطيات المكتب الوطني للإحصاء الصيني. (4) وهي النسبة المعتادة التي ظل يحققها في المعدل السنوي الاقتصاد الصيني، ويتجاوزها أحيانا، منذ انطلاق ورش الإصلاحات الاقتصادية الكبرى التي عرفتها الصين ابتداء من نهاية عقد السبعينيات، أي على امتداد ما يفوق ثلاثة عقود. بل إن السلطات العمومية اختارت طوعيا الحد من تصاعد وتيرة أو نسبة النمو التي قد تفوق بكثير الإيقاع الحالي وتصل إلى 16% أو أكثر؛ وذلك قصد تفادي توتر الاقتصاد (Surchauffe de l’économie) وخوفا من عواقبه الوخيمة. منبع المعطيات: المكتب الوطني للإحصاء الصيني؛ البنك الدولي. (5) منبع المعطيات: البنك الدولي؛ وزارة التجارة والصناعة؛ وزارة المالية؛ بنك المغرب. (6) تقرير البنك الدولي. (7) وزارة التجارة والصناعة؛ غرفة التجارة والصناعة الفرنسية للمغرب. (8) المندوبية السامية للإحصاء. بل إن القطاع "المصنعي" (Manufacturier) لا يمثل سوى نسبة 16,5 % حسب دراسة للبنك الدولي حول تطور الاقتصاد المغربي ما بين 2000 و2008؛ مسجلا تراجعا مقارنة مع سنوات التسعينيات حيث كانت هذه الحصة تقارب 19 %. (9) فيما يخص إشكالية الصبيانية، أنظر: - Lénine, Sur l’infantilisme de « gauche » et les idées petites-bourgeoises, in La Pravda, 9-10-11 mai 1918, Moscou. - Christopher Lasch, The Corruption of Sports, in The New York Review of Books, 28 avril 1977. (10) في الحقيقة، كانت الخطة انتقائية، إذ استهدفت "الشيوخ" غير الطيعين، الذين من شأنهم التشويش على مشروع احتواء المشهد السياسي برمته. فلم تطل مثلا بعض الشيوخ" المشهود لهم بالولاء التام لدار المخزن رغم انتمائهم للحركة الوطنية كما هو الشأن بالنسبة لحزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي. وفي الآونة الأخيرة، عادت الأيادي "الخفية": أقطاب نخبة المخزن الجديد، لتفعل فعلها في اختيار وتنصيب قادة وزعماء "الأحزاب التاريخية" الجدد من بين الزبناء الموالين صراحة لهذه الأقطاب. بدءا من "حزب الاستقلال" ووصولا إلى حزب "الاتحاد الاشتراكي"؛ وقبلهما "حزب التقدم والاشتراكية". (11) قد يكون من المفيد جدا تشجيع وتوجيه البحث الجامعي نحو الاهتمام بدراسة تكلفة مثل هذه المؤسسات الكثيرة، المعطلة والعديمة الفائدة؛ ثم مقارنة ذلك مثلا مع القطاعات التي تمت التضحية بها في المقابل، من صحة وتعليم وسكن لائق، إلخ. فهناك العشرات من المؤسسات واللجن والهيئات المستحدثة ظرفيا، والتي تمتص موارد هائلة من المال العام، دون نفع. ومن شأن أبحاث من هذا القبيل أن تسمح بمعرفة والتعرف على النخب عن قرب: طبيعتها، تركيبتها، تحصيلها العلمي، مواقعها المهنية والاجتماعية، انتماءاتها السياسية والسوسيولوجية، بل أسماؤها حتى؛ وذلك في علاقة بظاهرة الإرشاء. أين نحن الآن مثلا من تلك البهرجة التي رافقت في السابق "المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان" ثم "المجلس الوطني للشباب والمستقبل"، إلخ.؛ وفيما بعد "هيئة الإنصاف والمصالحة"، إلخ.؟ ومن يمكن له قياس نجاعة وفوائد المؤسسات العابرة التالية على سبيل المثال لا الحصر، مقارنة مع الميزانيات السخية التي تتمتع بها دون أية متابعة، علما بأن المشرفين عليها يحتمون بظهائر التعيين التي تجعلهم بمنأى عن المحاسبة ولا يتزحزحون من مناصبهم لعقود من الزمن، مثلهم مثل وزراء "السيادة": "وكالة التنمية الاجتماعية" (2001)؛ "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية المغربي" (2001)؛ "الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري" (2002)؛ "المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب" (2005)؛ "المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية" (2006)؛ "المجلس الاستشاري للجالية المغربية بالخارج" (2007)؛ "الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة" (2007)؛ "مجلس المنافسة" (2009)؛ "المجلس الاقتصادي والاجتماعي" (2011)؛ "المجلس الوطني لحقوق الإنسان" (2011)؛ "المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان" (2011)؛ "مؤسسة الوسيط" (2011)؛ إلخ.؛ وفي الطريق مشاريع إحداث "المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي"؛ "المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة"؛ "المجلس الوطني للصحافة"؛ إلخ. هذا دون الحديث عن ركام المرافق و"الإقطاعات" التقليدية: عشرات المجالس والمندوبيات السامية شبه المجمدة (التعليم، البيئة، الصناعة التقليدية، المياه، إلخ.)، والمؤسسات والمراكز العمومية، والقطاعات العامة المنتجة، إلخ. (12) كما تحاول أن تفعل مثيلاتها في البلدان العربية التي شهدت الثورة مؤخرا؛ وبخاصة "جماعة الإخوان" في مصر ما بعد الثورة التي أسقطت مبارك.
#أحمد_الحارثي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المغرب في زمن الثورة الضائع
-
-الربيع العربي--: حالة المغرب
-
الربيع العربي
-
العالم الجديد بين طوبا الأمس وواقع اليوم: الصين-عالم
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|