|
هوية مصر العربية بين أصالة الصفر واستلاب -الزيرو-
خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 3988 - 2013 / 1 / 30 - 12:23
المحور:
المجتمع المدني
تكثر مواضع في القرآن على أنه أُنزل بلسان عربي مبين، من بينها الآية الثانية في سورة يوسف " إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "، ومع هذا فإن المتأمل في حيواتنا نحن آل يعرب بالسير في شوارعنا يستطيع أن "يمتع" نظره بجماليات لا تجدها في شوارع الكثير من مدن العالم، إذ تهاجم بصرك لافتات وأسماء المحلات وقد شوهت الخارطة البصرية ومعها الهوية الوطنية والقومية. فلا تكاد تجد متجرًا يكتب ما حلي له على واجهته بعربية خالصة دون أن تشوبها أسماء وألفاظ وتعبيرات بالإنجليزية أو الفرنسية، حسب لغة المستعمر القديم والحالي، وركاكة في إستخدامهما وأخطاء إملائية يقشعر لها العقل. ومع آخر صيحة سياسية، سيطرة الإسلام السياسي في معظم دول العروبة والإسلام، وعملاً بالمثل الشعبي في أرض الكنانة "اللي يتجوز أمي أقول له يا عمي"، انتشرت متاجر تضع أسماء أجنبية بحروف لاتينية وإلى جانبها آية قرآنية أو دعاء أو تعويذة. أضرب مثالاً شاهدته أمس في قاهرة المعز إذ تفتق ذهن صاحب الحانوت فأقام حفلاً بأضواء ملوثة للبصر ومكبرات صوت هادرة بآيات الذكر الحكيم، ووضع اسمًا "روشًا" لا أفهم القصد منه هو "Castro" وإلى جانبه تعبير "ما شاء الله". فما كان مني إلا أن استدعت ذاكرتي المناضل الأميركي اللتيني الميت الحي فيدل كاسترو، رفيق تشي غيفارا، وتصورت أن من له الأمر ربما كان ثوريًا في شبابه ثم اضطر إلى مجاراة روح اللحظة السياسية التي نعيشها. الأمثلة بفجاجتها وتلويثها للبصر لا حصر لها، ومن زار أرض الكنانة من الأشقاء، يدرك حجم هذه المشكلة المتفاقمة في عهد الحكام الإستغرابيين ، السادات ومبارك، ولا في زمن الإسلام السياسي الذي أخذ يتمكن من البلاد. لعل تضخم لفظ "الزيرو" العربي الأصل في شكله الإنجليزي خير مثال على سيميائية هذا التردي الذي نعيشه منذ عقود. وكان هذا الأمر سبب صدمة فاجعة لي عندما عدت إلى مصر، بعد غياب للدراسة والعمل دام ما يقرب من عقدين، إذ شاهدت كيف يُصدم الناس عند إملاء رقم فيه هذه الرقم بنطقه العربي، فيصححون لي قائلين: "تعني زيرو؟!!" أتذكر أنني توقفت أمام تصرف سائق السيارة الأجرة التي أقلتني إلى احتفالية ثقافية واتفقنا أن يعود ليحملني مرة أخرى، وعندما كنت أمليه رقم هاتفي، بينه الصفر العربي المسكين، أخذ يكرر الرقم مدخلاً الزيرو وهو ينظر إليّ على أنني كائن غريب أتشدق بكلمة عفى عليها الزمن، وهو ما استشرفته من نظرته لي وتكرراه للزيرو الملعون. لم تكن لعنة "الزيرو" الوحيدة التي أدركتها بعد العودة الميمونة إلى أرض الكنانة في نهاية التسعينات، إذ جاءت في سياق إستلاب أمام كل ما هو غربي تماشيًا مع عصر الإنفتاح الساداتي، في منتصف السبعينات، الذي أتى بأكله في عهد طويل العمر مبارك الذي أقر هذا الإستلاب وقننه في شكل تعليم مدرسي وجامعي خاص بلغات أجنبية وكأن لغة الضاد عجزت عن مواصلة كونها أداة لتسكين المعرفة والتكنولوجيا. وكان التيار الإسلامي ينشئ المدارس والمعاهد الأزهرية، فأخرج التعليم في مصر قبائل متنافرة من الشباب وخريجي الجامعات، هم الذين تعج بهم اليوم صفحات التواصل الإجتماعي فيكتبون اللهجة العربية بحروف لاتينية، نظرًا لأنهم درسوا العربية بالكاد في مادتي اللغة والدين. يدرك المواطن الحاضر الغائب جراء غربته لسنوات طوال، وهو في هذا يتساوى مع الزائر الأجنبي، ما استجد على الحياة في بلده، إبجابًا أو سلبًا. وعليه كانت أذناي تئنان بهذا التلوث اللغوي الذي تعج به مفردات العربية المصرية، إذ اكتشفت أن غالبية المصريين يتفوهون بألفاظ أجنبية كي يثبتوا ارتقاء مستواهم الثقافي وعلو الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها. وكان اللفظ العربي السحري، الصفر، بين ضحايا تداعيات عصر الإنفتاح وما تلاه من إستغرب، بينما صار "الزيرو" يتبختر رافعة هامته على رأس هذه المفردات الغازية. هذا ناهيك عن الدعوات الإقليمية الضيقة بفرعونية مصر، والتخلص من هويتها العربية، التي ارتفعت نبرتها في حالتين عشتهما، الأولى بعد معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل والمقاطعة العربية لمصر، وبعد الحرب على العراق واحتلاله. ونسي أصحاب هذه الإدعاءات والدعوات الهوجاء أن يقرءوا التاريخ، تاريخ مصر على وجه التحديد، ليدركوا هوية مصر قبل وصول الإسلام، ليجدون أنها ضاربة في الثقافة العربية رغم فرعونيتها. لقد عفى الزمان على هذه النداءات الرخيصة فالعالم يدخل في تكتلات لم يعد فيها مكان للإفراد والوحدانية. والملفت للنظر أن غالبية المتشدقين بالإنجليزية لا يعرفون أن مطار القاهرة الدولي، أي لم تعش في دول هذه اللغات وإن عاشوا فينطقونها بشكل خاطئ وفج بحيث أنهم عندما يتعاملون مع ابن هذه اللغة لا يفهمهم ويثيرون سخريته وتهكمه على طريقة نطقهم لهذه اللغة الأجنبية. هناك واقعتان شهدتهما في هذا السياق. فأذكر أن زميلاً لنا، في أيام الدراسة في مدريد، كان لا يجيد اللغة الإسبانية رغم أنه دارس لها، وكان يصر على خلط الإسبانية بالعربية رغم جهله باللغتين، وخاصة نطقه النشاز للإسبانية. ورغم تنبيهي له بأن الحديث مع عربي بغير لغتنا أمر لا أتحمله، كان يصر على الحديث بهذه اللغة المهجنة. مع الأيام أدركت أنه ينحى هذا الأسلوب لضعفه في الإسبانية التي درسها في كلية الألسن، بغية إيهام المتلقي أنه يتقنها لغرض في نفس يعقوب. أما الواقعة أخرى فبطلها شاب لم يوفق في الدراسة إذ لم يحصّل منها سوى على دبلوم، ومع مرور الوقت أصيب بعقدة بعد أن دخل أترابه ورفاقه الجامعة، فأصيب بعقدة الدراسة الجامعية، وسنحت له الصدفة أن سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وفتحت له أبواب الثراء في بلاد اليانكي. لكنه لم يكتفِ بهذا إذا ادعى أنه حصل على الدكتوراه في عامين، بلا دراسة ثانوية عامة ولا معادلة. صدقه البعض بعد أن أغدق على فقراء المنطقة بالمال وأعمال الخير وبناء مسجد ضخم. غير أن الملفت للنظر أنه في إجازاته كان يتكلم العربية بلكنة أمريكية وكأنه خواجه، دخيل على لغة الضاد التي يطعمها بألفاظ إنجليزية لا يفهمها من يحيطون به. حري أن نذكّر آل يعرب في أرض الكنانة، خاصة المتشدقين بألفاظ إنجليزية وفرنسية تلوث صفاء وجزالة لغتنا وتهين هويتنا، أن هذه الكلمة السحرية، الصفر، نقلت العالم من حال إلى حال عندما اكتشفه العرب بتأثير هندي، وصدرناه إلى الغرب عبر الأندلس وصقلية ليصبح في الإسبانية cero وفي الفرنسية zéro وفي الإنجليزية، الملعون الزيرو zero ، وفي الإيطالية وفي البرتغالية zero ، ولم تبرأ من نسخه صوتيًا سوى لغات جرمانية وسلافية إذا حافظت على دلالته السيميائية، أي لا شيء. ومن يراقب معظم المتحذلقين في إدراج كلمات من لغات أوروبية يدرك أن عقدة ذلك الزميل تنطبق عليهم. فلم أجد أحد الأصدقاء الذين درسوا في الخارج وأجادوا اللغات الغربية ينزلقون في هذا الهوة. لعل أبرز ما يمكن الإشارة إليه في هذه الظاهرة البليدة هو الاستلاب أمام الغرب، وهو الغرب نفسه الذي نشكو منه ومن كيله بمكيالين عند التعامل مع قضايانا واحتلاله أجزاء من وطننا العربي والمساعدة على احتلال أخرى. أذكر أنني بعد أن سافرت إلى إسبانيا للدراسة جلست أشاهد وقائع جلسة في مجلس النواب الإسباني وإذ برئيسه يحيل النواب إلى صفحات في تقارير مرقمة بالأرقام العربية وأخرى مرقمة بالأرقام الرومانية وكانت دهشتي كبيرة عندما علمت أن الأرقام التي يستخدمها الغرب يقر بأنها عربية، بينما نحن في ذلك الوقت لم نكن نتحدث عن هذا الأمر، وفي التسعينات بدأ الحديث عنه ثم انطفأ وانقسمنا على أنفسنا في مطلع القرن الجديد غير متفقين على أي الأرقام نستخدم، هل العربية أم الهندية؟ هذا ناهيك عن أسماء المحال والمتاجر، فقد جرؤ كل صاحب حانوت، صغيراً أم كبيراً، في أن يطلق اسماً أجنبياً على هذا المكان. ومن المدهش أن معظم هذه الأسماء الأجنبية تكتب بحروف عربية، فلا يفهمها المصري ولا الأجنبي، وقد يكتبها بحروف لاتينية، ويا ليته ما كتبها، فمعظمها أخطاء مطبعية، على غرار Sinter بدلاً من Center، Travil بدلا ً من Travel، فلو اعتز صاحب الشأن بهويته العربية لما وقع في هذا المأزق الإملائي بالإنكليزية، وهلم جرا. وكانت هذه اللافتات موضع انتقاد من أعضاء لجنة التحكيم في إحدى المهرجانات الثقافية التي شهدتها القاهرة مؤخراً، إذ سألتني إحداهم: إذا كان أصحاب المتاجر لا يعرفون كيف تكتب الأسماء صحيحة بالإنجليزية فلماذا لا يكتبونها بالعربية؟ هل كل الشعب المصري يتقن الإنجليزية أم أن عدد السياح الأجانب يزيد على عدد المصريين؟ وما ينطبق على شوارع ومتاجر القاهرة ينسحب على مدن الأقاليم. إن أصحاب هذه المتاجر يعتقدون أنهم بهذه السذاجة قد بلغوا قمة التمدن والتحضر، نافين عن بضائعهم أية شبهة عربية أو مصرية. دون أن يدروا أنهم يثيروا سخرية الغربيين منا، وفي هذا قراءة ومؤشر على استلابنا أمامهم. فإذا كان هذا هو وضع عامة الشعب، فماذا هم بنا فاعلون سياسياً واقتصادياً وثقافياً؟ ومن تهن عليه نفسه، تهن على الناس. إننا نتحدث عن اضطهاد الغرب لنا بينما نحرق له البخور دون أن يطلب منا ذلك، وهذه أمور لا تتعلق بالسياسيين، بل بالشعب الذي يسخط طوال ساعات النهار على أمريكا والغرب. الصومال جعلت من العربية لغة رسمية لها بينما العرب، من يدعون أنهم أقحاح، يفسدون لغتهم بألفاظ أعجمية. هذا بينما مصر التي تغوص في هويتها العربية منذ حوالي أربعة عشر قرناً تبتعد عن لغتها، اللغة التي سوف يكتب لها البقاء مع حفنتي لغات أخرى في العالم، بعد انقراض الأخريات، على أثر عالم المعلوماتية والعولمة، هذا هو ما يقوله اللغويون. بعد تجولي في بلدان عدة من أوروبا رأيتهم كيف يعتزون بلغاتهم ورموز هوياتهم المتعددة والمختلفة من بلد لآخر، رغم أنهم أصبحوا يشكلوا منظومة سياسية واقتصادية موحدة. لا أذكر أنني شاهدت في مدريد على سبيل المثال لافتة بالإنكليزية أو الفرنسية على متجر رغم أن عدد السياح الأجانب يساوي عدد الإسبان مرة ونصف، في حين أن السياح في مصر لا يمثلون سوى أقل خمسة في المائة من عدد المصريين. إن لمصر دوراً مركزياً في قلب أمتها العربية، وقدرها أن تقود أبناء هذه الأمة، واحترام هويتنا العربية يتطلب موقفاً حاسماً من السلطات المختصة في هذا الشأن بمنع كافة الأسماء الأجنبية، سواء كتبت بحروف عربية أو لاتينية، ولنا في بلدان أخرى مثال على محاربة هذا الاستلاب، إذ منعت كتابة اللافتات بغير العربية، لعل أبرزها في هذا الصدد العراق منذ سنوات، وفرنسا وكندا في السنوات الأخيرة.
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إطلالة على الحضور العربي في شعر رفائيل ألبرتي
-
قصة ابن السرّاج نموذج للأدب الموريسكي في إسبانيا
-
حلم ربط ضفتي البحر المتوسط عبر مضيق جبل طارق بين الواقع السي
...
-
مسرحية -رأس الشيطان- نموذجًا للتعايش في الأندلس العربية تأمل
...
-
لاهوت التحرير وموقفه من الشعب: الشاعر والأب إرنستو كاردينال
...
-
كنت شاهدًا على التجربة الإسبانية في المرحلة الإنتقالية
-
كان ياما كان
المزيد.....
-
يوم أسود للإنسانية.. أول تعليق من الرئيس الإسرائيلي على أوام
...
-
حماس: أوامر اعتقال نتنياهو وجالانت تصحيح لمسار طويل من الظلم
...
-
رفض إسرائيلي لقرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو
...
-
منظمة الفاو تحذر من وصول المجاعة إلى أعلى درجة في قطاع غزة،
...
-
مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت والضيف.. كل ما نعرفه للآ
...
-
مذكرة اعتقال ضد نتنياهو.. أول تعليق من مكتبه وبن غفير يدعو ل
...
-
زلزال سياسي: المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال في
...
-
حماس ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحق ن
...
-
حماس تحث المحكمة الجنائية الدولية على محاسبة جميع القادة الإ
...
-
هولندا تعلن استعدادها للتحرك بناء على أمر الجنائية الدولية ب
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|