|
التواطؤ الثالث بالسياسة
سميرة المانع
الحوار المتمدن-العدد: 3988 - 2013 / 1 / 30 - 00:01
المحور:
الادب والفن
التواطؤ الثالث بالسياسة (طلع " كول "، طلع هدف، هدف واحد ، لا ما طلع " ليش ، ليش " يا محمود، راحتْ الكرة منك ....، والله راحتْ، والله كانت ضربة، ضربة مسددة، راحتْ، ضاعتْ ، ضاع الهدف، هدف آخر....) فجأة، رنّ جرس الهاتف قرب هاشم اثناء ما كان يراقب مباراة كرة قدم بلندن منقولة على احدى الفضائيات العربية. ضغط على زر الرموت كونترول قربه بسرعة فانقطع الصوت. كان جالسا في منزله وحده. صارت اللعبة مؤخرا إحدى هواياته لمراقبتها من أجل قتل الوقت وطق الحنك في الانتصارات اللامؤذية بساحة المرمى. رفع السماعة قريبا من أذنه: " هلو " سمع صوتا في الجانب الآخر يعرفه جيدا. إنه زميله القديم فؤاد الذي سبق أن درس معه يوما، في إحدى الدول الاشتراكية آنذاك. عاد للاتصال به، بعد غيبة طويلة : " أين أنتَ؟!" ، " ماذا حصلَ ؟!"، " كيف حالك؟!" . اسئلة وأجوبة بينهما، كخيوط متقطعة يعيدان ربطها، الآن. خلال هذه الحوار فهم هاشم منه، أنه بصدد تأسيس مجلة سياسية، حذره ناصحا : " لا، لا، لا تفعل ذلك"، " لماذا؟! ردّ فؤاد محتجا :" لماذا ؟ هذه مجلة مختلفة" أجابه : " كلهم يقولون هذا، ألم تفدك التجارب؟! ألا ترى كيف حول شعبنا الاحزاب إلى تكتلات طائفية عنصرية، عشائرية وقبلية؟! ردّ عصام عليه مملوءاً بالتصميم والرغبة : - لا، لا ، انت لا تعرف، ستؤسس هذه المجلة مجموعة من المثقفين المتحدثين بالفكر السياسي المحض. لم يقل له هاشم ما هذه الخزعبلة؟! أتريد ان تضحك علي؟ هل توجد سياسة دون تطبيق؟ سأله بدلا عن ذلك: - ومَن هؤلاء العاملون معك في هذه المجلة؟ - والله جماعة. فسر الماء بعد الجهد بالماء! أجابه باختصار غامض وقد تصور الردّ كافيا. بالتأكيد جماعة. إن صاحبه لا يستطيع ذكر الاسماء بوضوح وشفافية. عادة التكتم والتخفي ظاهرة مستحكمة لمن مارس العمل السياسي السري بالماضي، مثل فؤاد. ليس سهلا أن يكشف أوراقه ببساطة وعفوية. إنه طبق الاصل. على أية حال، الموضوع لا يخصه. أنهى المخابرة معه حسب الاصول، أخذ رقم هاتفه الجديد ليتصل به في بعض الاحيان. +++ بعد اسبوع واحد ، عاد فؤاد زميله القديم للاتصال به مرة ثانية. رن َ الهاتف مرة أخرى. يريد التأكد منه اليوم حول وصول وقبول الدعوة الموجهة له لحضور مؤتمر الصحفيين العرب بالقاهرة بصفته صحفيا سابقا: - نعم وصلتني، لكن لا نية عندي للذهاب بعد حوادث الزلازل هناك في المدة الأخيرة. يا أخي لا استطيع السكن والتمتع بالرفاه باجواء الفنادق الضخمة هناك بينما البؤس مخيم على المنكوبين النائمين في الشوارع. ذهل فؤاد من هذا المنطق، لم يصدق أذنه. ما علاقة الفقراء بالامر؟ كيف يضيَع هذه الفرصة؟ إنه متهييء للذهاب بكل الاندفاع واللهفة. لا يريد خسارة فرصة ذهبية تاتي بالمجان. ردَ منزعجا منه مناقشا: - الزلازل من ربنا، هذه من ربنا. أنظر للفقراء هنا بلندن ، المتواجدين في منطقة " توتن هام كورت رود" و " جيرنك كروس" وغيرهما! أعوذ بالله، صمت هاشم صمت اليائس منه: ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) لكن زميله فؤاد ليس جاهلاً! أيقارن الفقراء بمصر بفقراء بريطانيا؟ هؤلاء المشمولون بالضمان الاجتماعي حيث تساعدهم الحكومة بالاعانة المادية الاسبوعية والمعالجة الطبية المجانية، بعضهم يميل إلى التسكع والتشرد لاسباب مزاجية أو بسبب السكر وشرب المخدرات. هل تقارن الفقراء هنا بالفقراء هناك، النائمين المنبطحين المضطرين في مقابر القاهرة أو الذين تتهدم البنايات على رؤوسهم بين حين وآخر، بعد أن ُبنيت بالغش والتزوير والفساد من قبل مقاولين جشعين دون رادع من ضمير أو خوف عقاب؟ لم يذكر هاشم له أياً من هذه الاشياء التي خطرت بباله وهو على الهاتف معه. عاد له جموده وانكماشه من ابناء قومه المغالطين في هذه الايام. يقرأ لهم في الصحف والمجلات في الفترة لأخيرة ، يخدعون البسطاء من العرب المساكين، مصورين حظهم أفضل من حظ أبناء الدول المتقدمة صناعيا. يكذبون عليهم في مقالاتهم وقصصهم. الحياة في أوربا مسألة لا تُطاق، المرأة الغربية ضعيفة الشخصية مهزوزة لا حقوق لها ، يعتدون عليها في كل مكان ، العنف في الشوارع على قدم وساق بينما النظام والقانون لا يحركان ساكنا، بل ليس لهما أثر. كيف يتصرف مع فؤاد الآن؟ ليته يكف عن الاتصال به نهائيا، لا وقت لديه لامثاله. يقاطعه. فهذا المتحدث يعرف الخطأ من الصواب جيدا. يكافح ويبذل الغالي والنفيس كي يبقى ببريطانيا، مزورا الجوازات له ولاخوته كي لا يضطر للسكن مع أهله في البلاد العربية، لكنه يتعامى، يغض الطرف، يتواطأ، إذا تعلق الامر ببطاقة طائرة مجانية أو الكتابة والارتزاق وذكر اسمه في المجلات والصحف العربية، السكن في الفنادق الضخمة على حساب المؤتمر القادم الذي اسال لعابه. يتذكره قبل فترة اختفائه الأخير وعندما عاد من مؤتمر " المربد" الشعري بالعراق، ربما للمرة العاشرة، وأثناء احتفالات العراق بالانتصارات الدموية الجنونية في الحرب العراقية الايرانية، سأله هاشم آنذاك : " ماذا تقول لهم هناك، كي يرضوا عنك، بالله عليك" ابتسم الزميل القديم فؤاد بدهاء واستخفاف قائلا: " لا شيء ، سوى أن أصفق يدا بيد وأقول اللعنة عليك يا سالم النمر، فأنا أعرف مدى غيرة حكام العراق هناك وغيرتهم من سالم النمر حاكم بوريا". كان يكتب في المجلات والصحف كناقد للافلام والمسرحيات والقصص والروايات والشعر والفنون التشكيلية. يكتب كناقد يقدم ويؤخر ويشوش ، دون حياء، ممارسا سلطة وهمية مطلقا الاحكام دون اعتبار لقيمة النص الفنية أو لجودة الصياغة في التعبير والمغزى من القص، وانما على مقدار الفائدة والمقاضاة التي سيجنيها مستقبلا من اصحابها ، أو على طريقة القبائل والعشائر : عمك ، خالك، أو صديقي، صديقتي، والجميع يعرف أنه دون اختصاص أو امكانية لكنه على رأي المثل المصري المعروف : " كله على بعضه" أو على حد قول الانكليز الملاعين اثناء التندر والسخرية من الدعي المتظاهر بالمعرفة فيما بينهم فيصفونه ب " الشخص الذي يعرف كل شيء". حتى صار نموذجا حيا للكاتب المشعوذ المتكالب هذه الايام الذي يغتصب مكانا بالضوضاء والتحشر في الحياة الادبية والسياسية والفنية عموما، خصوصا بعد أن طبع له صفحات طويلة من الانشاء والوصف أعتبرها هو نفسه ومن يشبههه شعرا ورواية. على اية حال، قنط هاشم منه اليوم قنوطا تاما. ما العمل؟! الاعلام العربي اليوم مرتع خصب لهؤلاء، يفسح لهم المجال، معظم الاحيان، كي يرتقوا ويفتقوا حسب ميولهم وأهوائهم الشخصية، دون حساب أو اعتراض من الشعب المقهور المضلل. العلاقة بينه وبين فؤاد مقطوعة منذ زمن. يشبهها بعلاقة الاسلاك الكهربائية المستهلكة المهترئة، كثيرا ما يفلت السالب عن الموجب بحدة، ويبقى منقطعاً عنه لفترات طويلة، ربما لسنوات، ثم يبدأ فؤاد بالمناوشة لا سترداد الطاقة، لعودة المياه لمجاريها، معوّلا على ذكريات قديمة أثناء وجودهما معا كزملاء بالدراسة في الدول الاشتراكية سابقا. يسترضيه، يرقق قلبه، فيبدأ الدفء بالسريان، تعود الحرارة مرة ثانية، مجردا هاشم من سلاحي الصمت والاهمال. في اثناء فترة الترضية هذه، وبعد الخصام والمصالحة، يظهر لفؤاد وجها آخر، شخصية ثانية، يردد أمامه، بزهد وموضوعية اثنا ما يكونان جالسين على انفراد، مظهرا براءة ذمته معلقا: " ببعض البلاد العربية التي تدعي أنها تمارس الديمقراطية ويلتصق دابر الحاكم بكرسي الحكم وتدق الحاشية الفاسدة المسامير له لتثبيته كي تعبث هي بمقدرات الشعب. هذه ليست ديمقراطية، هذه أوضاع سايبة". لا تدوم هذه التوبة والحكمة والمصداقية طويلا، من اخباره الأخيرة أنه فرض على زوجته وبناته ارتداء مناديل الرأس كحجاب، ليسرن في الشوارع كالراهبات الكئيبات المهمومات، تحسبا للطواريء، فهو من مكانه الاستراتيجي بلندن يشم رائحة الاوضاع بالبلاد العربية من بعيد، فلربما تفلت الامور من يد اصحابه العلمانيين مستقبلا. لا بأس من التهيؤ لمتطلبات المرحلة المقبلة مستعدا لارضاء الاحزاب السياسية الاسلامية. سارع ملتفتا ، كالعادة، إلى الجنس الآخر اللطيف الذي سينقذه وليتحمل الجزء الأعظم من المحاسبة والمسؤولية. التضحية بحرية البنات وراحة الزوجة أمران يسيران لن يكلفاه شيئا، سيقيدهن ما استطاع لذلك سبيلا، حفاظا على سلامته كقاطع طريق تغيرت مهنته بمقتضى الظروف كي لا يخسر الدنيا ومتاعها ومغرياتها. ابتدأتْ تظهر له مقالات سياسية - اجتماعية في الصحف والمجلات مؤخرا كلها تدعو لاصلاح الامة كي تتهيأ للقرن الميلادي الواحد والعشرين، مكثرا من النصوص الدينية التي ظهرت في القرن السابع ، مقتبسا من كتب التفسير والاحاديث النبوية، الأمر الذي لفت انتباه هاشم، خصوصا أن الاخير يعرفه في الماضي جيدا، وقد عجنه وخبزه، كما يقال، فكان يساريا علمانيا، إن لم يكن كافرا بصريح العبارة وبشكل استفزازي للمتدينين الجالسين قربه. تدارك فؤاد الأمر سريعا عند التقائه به مؤخرا. كان متهيئا للدفاع عن نفسه باساليب صناعة الكلام المصفف اللزاق المحيّر بكثرة الاسماء الاجنبية المعتاد عليه للادعاء بأنه مثقف فاهم للجاهل الغشيم. لابد له من تفسير انقلابه الجديد أمام هاشم، وقبل أن يحتاج للسؤال ابتدأ مدافعا عن نفسه: - يا أخي ما العمل؟! عليك أن تفهم مثل هذه الاشياء. قال ( سيسل كنك) رئيس إدارة صحيفة ( الديلي ميرر) في محاضرة ألقاها سنة 1969 وقبل أن يموت بفترة وجيزة : " لقد قضيت حياتي في شارع الصحافة ( فليت ستريت) بحيث صرتُ لا أصدق ما اسمعه ولا نصف ما أراه بعيني". يا أخي إنها مشكلة، ما العمل ؟! إنه الحكم، الشهرة، القيادة ، النقود، النفوذ، ماذا تظن يا استاذ؟! أمسك فؤاد بعد هذا التوضيح ربطة عنقه يحاول تعديلها كمن ينفخ في زيقه مستغفرا منتهيا من الآثام، لاويا رأسه في جميع الاتجاهات، لا على التعين. ثم ابتدأ يمطها مطا بطيئا أمام صدره محتارا بسبب كون المقابل لا يمكن اصلاحه، أنهى ذلك ضاحكا منه بصوت عالٍ. بينما في تلك اللحظات ثمة حناجر تستغيث بأكثر من محطة فضائية تلفزيونية وفي عدة أماكن بهذا العالم الصاخب الدائخ المتصارع وبلغات مختلفة يصيح المعلق في كل واحدة منها ، مناديا حتى يبح صوته : " طلع كول ، طلع هدف، هدف واحد، لا ما طلع......" بات شوق وحاجة هاشم للنقاء، بعد ذلك ، أقوى من حاجته ورغبته في الطعام والشراب.
مالقة- 1996 ++++++++++
#سميرة_المانع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التواطؤ الثاني بالجنس
-
التواطؤ الاول بالفنون
-
البحث عن الموجود
-
العاقلة جدا
-
بداية حملة السرقة
-
الخال
-
ها....ها...ها
-
ألا ابشروا بالاعمال الخلاقة
-
ثمة اسرار
-
من مفكرة امرأة مغتربة
-
أجوبة أسئلة تخطر بالبال
-
مَن دفع للمزمرين
-
خصائص رواية منفى
-
هي بقيت علي ، يعني!
-
التوحّش
-
احتضان غير مرئي
-
الطريق إلى دهوك
-
هزّة ارضية
-
إفرحْ يا قلبي
-
درب الصدّ ما ردّ
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|