مجدى زكريا
الحوار المتمدن-العدد: 3987 - 2013 / 1 / 29 - 15:14
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
" لعمل كتب كثيرة لا نهاية ". (جامعة 12 عدد 12) ان هذه الكلمات التى دونت منذ زمن بعيد تنطبق ايضا على ايامنا. وخير دليل على ذلك فيض المطبوعات المتوفرة بين ايدينا. فكيف يمكن ان يختار القارئ الحريص ما يستحق اهتمامه ؟
عند اختيار كتاب للمطالعة , يرغب كثيرون فى اخذ لمحة عن حياة المؤلف. لذلك يضيف بعض الناشرين نبذة تذكر مسقط رأس المؤلف , سيرته الاكاديمية , وقائمة بالمؤلفات التى اصدرها. وثمة واقع يثبت مدى اهمية هوية الكاتب. ففى القرون الماضية , غالبا ما كانت الاناث يكتبن باسم مستعار مذكر حتى لا يستخف القراء بمؤلفاتهن.
وكما ذكر فى المقالة السابقة , من المؤسف ان البعض يتجاهلون الاسفار العبرانية ظنا منهم ان الله الموصوف فيها اله قاس يهلك اعداءه دون رحمة. فلنتأمل فى ما تخبرنا به حقا الاسفار العبرانية والاسفار اليونانية المسيحية عن مؤلف الكتاب المقدس.
فى الاسفار العبرانية , قال الله لأمة اسرائيل : " انا يهوه , لا اتغير ". (ملاخى 3 عدد 6) وبعد 500 سنة , ذكر يعقوب احد كتبة الكتاب المقدس عن الله : " ليس عنده تغيير دوران الظل ". (يعقوب 1 عدد 17) اذا لم يخيل للبعض ان الله فى الاسفار العبرانية يختلف عن اله الاسفار اليونانية المسيحية ؟
الجواب هو ان اجزاء الكتاب المقدس المختلفة تبرز اوجها مختلفة لشخصية الله. ففى سفر التكوين وحده , يرد ان الله " حزن فى قلبه " وأنه " خالق السموات والارض " وأنه " ديان كل الارض ". فهل تشير هذه الاوصاف المختلفة الى نفس الاله ؟ نعم , لا شك فى ذلك.
للايضاح : قد يعرف قاض محلى عند الذين مثلوا امامه فى المحكمة بأنه قاض صارم. من ناحية اخرى , قد يرى فيه اولاده ابا محبا وكريما. وقد يجده اصدقاؤه الاحماء رجلا ودودا يتحلى بروح الفكاهة. فلاشك ان القاضى والاب والصديق هم الشخص نفسه , لكن الظروف المختلفة تكشف عن الاوجه المتنوعة لشخصيته.
بشكل مماثل , تصف الاسفار العبرانية يهوه بأنه " اله رحيم وحنان , بطئ الغضب ووافر اللطف الحبى والحق ". لكننا نتعلم ايضا انه " لايعفى من العقاب ". وهذان الوجهان من شخصية الله يعكسان معنى اسمه. فالاسم " يهوه " يعنى حرفيا " يصير " اى ان الله يصير ما شاء ليحقق وعوده. ولكن يبقى الاله نفسه. قال يسوع " الرب الهنا رب واحد " مرقس12- 29
من الشائع اليوم استبدال الكتب المدرسية حين تظهر ابحاث جديدة وتتغير الاراء السائدة. فهل حلت الاسفار اليونانية المسيحية محل الاسفار العبرانية لدواع مماثلة ؟ كلا.
فلو اراد يسوع ان تستبدل الاسفار العبرانية بسجل خدمته وكتابات تلاميذه , لأشار الى ذلك بالتأكيد. لكن الرواية فى انجيل لوقا تذكر ما فعل يسوع قبيل صعوده الى السماء , فتقول : " فسر (لأثنين من تلاميذه), مبتدئا من موسى وكل الانبياء (فى الاسفار العبرانية), ما يختص به فى الاسفار المقدسة كلها ". وفى وقت لاحق ظهر يسوع لرسله الامناء وغيرهم , وقال لهم : "هذا هو كلامى الذى كلمتكم به اذ كنت بعد معكم , انه لابد ان يتم كل ماهو مكتوب عنى فى شريعة موسى وفى الانبياء والمزامير ". (لوقا 24 عدد 27 ,44) فهل كان يسوع سيستمر فى استخدام الاسفار العبرانية لو ان الزمن تخطاها ؟
وبعدما تأسست الجماعة المسيحية , بقى اتباع يسوع يعتمدون الاسفار العيرانية مسلطين الضوء على النبوات التى لم تتحقق بعد , الدروس القيمة التى تستمد من المبادئ فى شريعة موسى , وحياة خدام الله القدماء الذى يشجع مثالهم الحسن المسيحيين على البقاء امناء. (اعمال 2 من 16 - 21. كورنثوس الاولى 9 عدد 9 , 10. عبرانيين 11 من 1 - 12) كتب الرسول بولس : " كل الاسفار المقدسة موحى بها من الله ونافعة ". (تيمثاوس الاولى 3 عدد 16). - تتضمن الاسفار العبرانية مبادئ كثيرة قيمة جدا فى ايامنا , لكن ينبغى الاشارة الى ان المسيحييبن ليسوا تحت ىالشريعة التى اعطاها الله لاسرائيل بواسطة موسى. فكيف تبرهن الاسفار العبرانية انها نافعة اليوم.
تأمل فى مشكلة التمييز العنصرى فى ايامنا. ففى احدى مدن اوروبا الشرقية , يخبر شاب اثيوبى عمره 21 سنة : " اينما اردنا الذهاب , نبقى ضمن مجموعة لكى نحمى انفسنا قدر الامكان من الاعتداءات ". ويتابع قائلا : " لا نستطيع ان نغادر منازلنا بعد الساعة السادسة مساء , وخصوصا اذا كنا سنستقل المترو. فعندما ينظر الناس الينا لايرون سوى لون بشرتنا ". فهل تتناول الاسفار العبرانية هذه المشكلة المعقدة ؟
لقد قيل للاسرائيليين قديما : " اذا تغرب عندك غريب فى ارضكم , فلا تسيئوا اليه. ليكن لكم الغريب المتغرب عندكم كالوطنى منكم. وتحبه كنفسك , لأنكم كنتم غرباء فى ارض مصر ". (لاويين 19 عدد 33 , 34) فمن الواضح اذا ان الشريعة فى اسرائيل قديما دعت الاسرائيليين الى منح الاعتبار للمهاجرين , او الغرباء , وقد حفظت هذه الشريعة فى الاسفار العبرانية. أفلا توافق على ان المبادئ المحفوظة فى تلك الشريعة يمكن ان تكون الاساس للقضاء على التمييز العنصرى اليوم ؟
تأمل ايضا فى مسألة الشئون المالية. فرغم ان الاسفار العبرانية لا تسهب فى اعطاء النصائح فى هذا الصدد , فهى تتضمن خطوطا ارشادية عملية تساعد المرء على تدبير شؤونه المالية بحكمة. ففى امثال 22 عدد 7 نقرأ : " المقترض خادم للمقرض ". ويوافق العديد من المستشارين الماليين ان الشراء بالدين بشكل غير حكيم (باستعمال بطاقات الائتمان مثلا) يمكن ان يؤدى الى الافلاس.
بالاضافة الى ذلك , تتحدث كلمة الله عن السعى وراء الغنى مهما كان الثمن. وهو مسعى شائع فى عالمنا المادى اليوم. فيقدم الملك سليمان , احد اغنى الرجال فى التاريخ , وصفا دقيقا اذ يقول : " من يحب الفضة لا يشبع من الفضة , ومن يحب الثروة لا يشبع من دخل. هذا ايضا باطل ". (جامعة 5 عدد 10) فياله من تحذير حكيم.
يدور الكتاب المقدس بكامله حول محور واحد فقط : ان الملكوت برئاسة يسوع المسيح هو الوسيلة التى ستبرئ سلطان الله وتقدس اسمه. - دانيال 2 عدد 44. رؤيا 11 عدد 15.
من خلال الاسفار العبرانية , نطلع على تفاصيل تتعلق بالحياة فى ظل ملكوت الله تعزينا وتقربنا من مصدر هذه التعزية , الله القدير. مثلا , انبأ النبى اشعيا بأن السلام سيسود بين الحيوانات والبشر : " يتردد الذئب الى ىالحمل , ويربض النمر مع الجدى. ويكون العجل والشبل والمسمن معا , وصبى صغير يسوقها ". (اشعيا 11 من 6 - 8) فما اروع هذا الرجاء.
وماذا عن البائسين بسبب التحامل العرقى او الاثنى , الامراض الخطيرة , والعوامل الاقتصادية التى لا يستطيعون شيئا حيالها ؟ تقول احدى النبوات فى الاسفار العبرانية عن يسوع المسيح : " ينقذ الفقير المستغيث , والبائس ومن لا معين له. يشفق على المسكين والفقير , ويخلص نفوس الفقراء ". (مزمور 72 عدد 12 , 13) وهذا الوعد عملى لأنه يمكن كل من يؤمن به من مواجهة المستقبل بنظرة مفعمة بالرجاء والثقة.
فلا عجب ان يكتب الرسول بولس بالوحى : " ان كل ما كتب من قبل كتب لارشادنا , حتى باحتمالنا وبالتعزية من الاسفار المقدسة يكون لنا رجاء ". (روما 15 عدد 4) فلاشك ان الاسفار العبرانية لا تزال جزءا لا يتجزأ من من كلمة الله الموحى بها , الكتاب المقدس. وهى ذات قيمة كبيرة لنا اليوم. لذلك نرجو بالحاح ان تسعى جاهدا لتتعلم المزيد مما يعلمه كامل الكتاب المقدس وتقترب من مؤلفه العظيم. لانك ان لم تفعل تفوتك بركات جمة.
#مجدى_زكريا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟