|
إنهم يقتلون الأدباء .. أليس كذلك؟
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 3987 - 2013 / 1 / 29 - 13:03
المحور:
الادب والفن
منذ أكثر من ألفى عام جلس خمسمائة قاض يحاكمون مفكرا واحدا هو سقراط بتهمة إفساد عقول الشباب. كان سقراط شيخا في السبعين من عمره حينذاك ووقف يدافع عن نفسه - عن كل المفكرين الذين سيأتون بعده ويحاكمون ويقتلون - قائلا "هكذا إذن؟ كنت أنا المفسد الوحيد للشباب واليونانيون جميعهم مصلحون لهم ؟". صدر الحكم بأن يتجرع سقراط السم. جرى ذلك على مرأى من تلاميذه وكان من بينهم أفلاطون الذي وصف المشهد بقوله" لقد تمالكنا نحن تلامذة سقراط شعورنا، لكن عندما شاهدناه يشرب السم انهمرت دموعنا، وحافظ سقراط وحده على رباطة جأشه". صورة المفكر الذي يجبرونه على تجرع السم ، ظلت تموج تحت سطح الأزمنة ، سابحة من عصر لآخر، وهي تتجدد بملامح مفكرين وأدباء آخرين، نصبت لهم أعواد المشانق، وفتحت لهم أبواب الزنازن، وأطلق عليهم الرصاص، وفي أفضل الأحوال تم تجويعهم وحرمانهم من الخبز والعمل، ومطاردتهم، وقتلهم بالإهمال والاستبعاد. في ختام دفاعه وقف الشيخ الجليل يشير بأصبعه إلي القضاة هاتفا فيهم" سأقول لكم أيها الجلادون، ياجلادي، إنه حالما يطويني الردى فإن عقوبة أشد ستنزل بكم"! العقوبة الأشد ، ظلت تحوم في سماء البشرية مثل صقر حر وعنيد ، يحوم ، ثم يهبط فجأة منقضا بمخالبه على الطغاة والجلادين . وظل السم الذي تجرعه سقراط يسري في أبدان المستبدين ويهيل التراب على الأنظمة الغاشمة عدو الحرية والإبداع الخلاق. تمت محاكمة سقراط عام 339 قبل الميلاد، وانقضى عليها نحو ألفي عام، ومازال التنكيل بالكتاب مستمرا على امتداد الكرة الأرضية. وعام 1849 حكم على الكاتب الروسي العملاق فيودور دوستيوفسكي بالأشغال الشاقة في صقيع سيبيريا، وكانوا يجبرونه مع الآخرين على تقطيع الأشجار إلي قطع صغيرة طوال النهار، وفي نهاية اليوم يطلبون منه جمع كل ما قام بقطعه والقاءه في مياه النهر، وذلك لاشعاره بأن كل عمل منهك يقوم به لاشئ وأن الحياة عبث عديم القيمة! ومابين 1950 حتى 1955 شهدت أمريكا بلد الحرية حملة المكارثية الأعنف على الكتاب فلاحقت ونكلت بالروائي العالمي توماس مان، والمغنى الزنجي بول روبسون، والمخرج أورسون ويلز، والروائي الشهير هوارد فاست صاحب رواية " سبارتاكوس" ولم يفلت منها فنان عملاق مثل تشارلي شابلن الذي غادر أمريكا معلنا " هذه بلاد حلت عليها اللعنة " ! ثم سبحت صورة سقراط إلي مياه أخرى ، فأحكمت الستالينية في الاتحاد السوفيتي قبضتها على الفكر والأدب، وتم اعتقال أعداد هائلة من الكتاب، ومنعهم من النشر، وتجويع أديب عظيم نادر المثال هو أندريه بلاتونوف، وسجن آخر هو سولجينتسين الحائز على نوبل في معسكرات إعادة التأهيل، وتحطمت أقلام لزمت الصمت قهر أنفها منها الأديب الساخر " زوشنكو" ومكسيم جوركي الذي لم يكتب حرفا بعد الثورة ! ثم سبحت صورة سقراط إلي عهود أخرى، وفي الستينات – نهاية عام 1958- كان عدد ضخم من أكبر مفكري وشعراء وأدباء مصر يقطعون الأحجار حفاة في الواحات، وفي عهد أنور السادات صدر 19 ألف أمر اعتقال، وفي حملة سبتمبر 1981 اعتقل نحو عشرة آلاف كاتب ومفكر بارز. وفوق سماء المعتقلات كانت تحوم صيحة سقراط لا يخمد رنينها " سأقول لكم أيها الجلادون إنه حالما يطوينا الردى فإن عقوبة أشد ستنزل بكم"! وفي عهد مبارك كان الأدباء والكتاب يموتون في صمت، بالتجاهل والاستبعاد، وحرمانهم من العمل، ومازالت ماثلة أمام عيني صورة أخي الشاعر فتحي عامر الذي أصيب بمرض الكبد، وكان بحاجة لاستبداله، ولم يكن لدي الشاعر الكاتب سوى قلم مسنون يحفر به الحقيقة في صمت. وعندما قررنا أن ندعو الناس للتبرع لأجله رفض ذلك بشدة وقال " أتشحذون باسمي ؟ " . وودعنا فتحي عامر في يناير 2005 عن خمسة وأربعين عاما وهو في قمة عطائه الفكري على مرأى ومسمع من كافة المؤسسات الثقافية بدون أن تتقدم جهة واحدة لانقاذه . كان بحاجة لزراعة كبد وهو أمر سهل ، لكن زراعة الضمير في مجتمعنا أمر أصعب مايكون. ومن بعده توفيت نعمات البحيري، ويوسف أبورية، بعد أن اكتشفت أنظمة الفساد أن بوسعها أن تسقى الكتاب" التجاهل والاستبعاد " بديلا للسم. والآن يعاني أمام أعيننا من مرض السرطان الزميل الكاتب حسين بيومي ولا يجد عونا من أية جهة، ويحتاج زميلنا الكاتب محمد عبد الرحمن المر إلي عملية تركيب دعامات للقلب ولا يجد عونا ولا استجابة لندائه . وعبد الرحمن المر أحد كتاب السبعينات ، من مواليد 1950 ، وله مجموعات قصصية كثيرة جميلة منها " أوراق الحب والعطش" 1983 التي أشاد بها د. على الراعي ، و" الفخ " مجموعة قصصية 1989 ، و" مدينة ميم " 1992 ، و" سحابة بيضاء " 1995 ، و" صندوق الدنيا " وغيرها. هل أن قدرنا أن نقف بصمت شهودا على زملاء يتجرعون الاهمال والنفي؟ الآن ، أقول إنني لا أطالب بمعاملة صحية خاصة للأدباء ، مع أنهم جديرون بذلك. لكنني أطالب لهم بحق المواطن، كل مواطن وأي مواطن ، في العلاج والصحة. وهو المطلب الذي رفعه اضراب الأطباء المصريين حين دعوا إلي رفع ميزانية وزارة الصحة من 3 % إلي 15 % لتوفير العلاج للمصريين بما يليق بهم. وقد جاء في بيان اللجنة العليا لإضراب الأطباء أن مصر " تعد من أقل الدول إنفاقا على الصحة ". ومن المضحك والمؤلم أنه حتى في جيبوتي ترتفع ميزانية الصحة عنها في بلادنا العريقة! فهل لدي حكومة الإخوان أي خطة للخروج بالشعب المصري من فقر العلاج وبؤس الصحة ؟ أم أن الأخوان منشغلون كما فعل أحمد فهمي رئيس مجلس الشورى بالمطالبة بمنع عرض فيلم للنجمة نيللي في طائرة مصر للطيران؟! . هل حكم علينا أن نشهد في صمت رحيل زملائنا من الكتاب والأدباء أمام أعيننا واحدا بعد الآخر؟ هل حكم علينا أن يتبدد نداؤنا مثل دخان في الهواء : " أنقذوا.. ، أسعفوا محمد عبد الرحمن المر ، وحسين بيومي "؟ . إن كان ذلك قدرنا ، فثقوا تماما أنه حالما يطوينا الردى فإن عقوبة أشد ستنزل بكم ، وثقوا تماما أن الصقور ستظل تحوم في سمائنا بنشيد الحرية. وثقوا أن أحلامنا في وطن كريم لا تموت، وأننا عما قريب سنفتح أعيننا على صباح لا يجبر فيه الطغاة مفكرا على تجرع السم، ولا على تقطيع الأخشاب وإلقائها في البحر، وعما قريب تهدأ صورة المفكر التي تسبح بدمائه عبر العصور.
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معركة القضاء المصري معركة الثقافة
-
والله طيب يا حمص أخضر !
-
ثقافة الهوان في دستور الإخوان
-
دعونا نجرب عاما جديدا
-
الطوابير المؤنثة .. وصانعة المستقبل
-
استفتاء شعبي آخر .. وتصبح - لا - قوة مؤثرة
-
مصر والدستور .. زكيبة الدقيق والعصا
-
مرسي والإخوان .. كلهم تكلموا باسم الدين !
-
ومض
-
الثقافة والجلافة فيما جرى مع علاء الديب
-
الإخوان ذراع الطغيان
-
قبضة الفاشية في إعلان دستوري بمصر
-
يكفي أيها اليوم أنك جئت.. لكي لا أعاتبك
-
كيف منحنا قلوبنا للرصاص الذي انهمر ؟
-
خمسون زهرة ياصاحب الوجه الكئيب
-
الدولة العزيزة .. من فضلك لاتحمي الوحدة الثقافية
-
الفاشية في مصر تدق الكعب !
-
إسرائيل تدك غزة .. لن نغفر ولن ننسى
-
- بوس الواوا - .. تهدد الأمن القومي المصري ؟!
-
نجيب سرور .. ذكرى الرحيل
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|