|
قصة ابن السرّاج نموذج للأدب الموريسكي في إسبانيا
خالد سالم
أستاذ جامعي
(Khaled Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 3984 - 2013 / 1 / 26 - 13:46
المحور:
الادب والفن
الحديث عن "ابن السرّاج" في الأدب الإسباني يحمل المتلقي دائمًا إلى العصر الذهبي في الأدب الإسباني، وضمنه إلى القصة الموريسكية ، خاصة وأن هذا العمل الأدبي، "ابن السراج"، عمل رئيس في أدب تلك الحقبة، التي عكست بشكل أو بآخر، سلبًا أو إيجابًا، الحضور العربي في شبه جزيرة أيبريا، إسبانيا والبرتغال، طوال ما يقرب من عشرة قرون. هذا إذا أخذنا في الحسبان أن هذا الحضور لم ينته بتسليم غرناطة عام 1492، بل استمر إلى حضور ممثل في الموريسكيين، أي العرب الذين تحملوا عناء العيش في الأرض التي شهدت مولدهم لأجيال طويلة حتى طردهم بشكل نهائي في بداية القرن السابع عشر بعد حرب طاحنة في سنة 1609م . شهد هذا العصر الذهبي في الأدب الإسباني ظهور أعمال أدبية مولَّدَة، مرآة للتعايش بين الثقافتين العربية الإسلامية والمسيحية في هذه البقعة من أوروبا، حملت الأدب الإسباني الوليد إلى مصاف الآداب العالمية إلى يومنا هذا، من أبرزها دون كيخوتي، ودون خوان مانويل، ولاثارييو دي تورميس ، ومسرحيات لوبي دي بيغا، إلى جانب العمل الذي بين أيدينا، ابن السراج، وأعمال أخرى. وهي أعمال تنقل صورة العربي الأندلسي في المتخيل الإسباني، في هذا الفضاء الخيالي الذي صنعته قرائح الكتاب الإسبان اعتمادًا على الخيال تارةً وعلى الوقائع التارخية تارةً أخرى، لكن من منظور المنتصر، المتعالي على الآخر، في أغلب الأحيان، وإن حاول المؤلف جعل المسلم مثاليًا حسب مفهوم القصة الموريسكية، إذ إنها ولدت في هذا السياق. إنه السياق الذي بدأ ليرد إلى المسلم المهزوم بعضًا من حقه، وتعاظم هذا السياق ليصل إلى الرومانسية على المستوى الغربي التي تخللها تيار يستلهم أعمالاً تنتمي إلى هذا الحضور: "ابن أمية"، لمارتينيث ديلا روسا، "قصيدة غرناطة" لخوسيه ثورّييا، في إسبانيا، و"آخر بني السراج"، للفرنسي شاوتوبريان ، و"قصص الحمراء" للأميركي واشنطن أرفينغ. لم يكن هناك من عائق أمام نعت الفرسان العرب بالنبل في مساواة مع نظرائهم الإسبان بموجب روح التيار الأدبي السائد في عصر النهضة. وهو ما سيدركه القارئ لقصة ابن السراج التي تعود جذورها إلى ما يسمى بالقصائد الشعبية الحدودية وتعالج أحداثًا واقعية، حوادث وقعت على الحدود بين الثقافتين، مع منح الشخوص المسلمين درجة من المثالية، وهو ما يُشاهد في شخص ابن الريس بطل هذه القصة، بسردها وقصائدها الشعبية، إذ يتصف بالنبل والوفاء بكلمته للإسباني المسيحي وإن عرضته هذه الخصال للحبس والحرمان من الزواج بشريفة، وهو المشروع الذي كلفه الوقوع في الأسر بينما كان ذاهبًا للقائها والزواج بها. وهذه المثالية تشمل طرق حياة المسلمين وملابسهم وعاداتهم. والملفت للنظر أن هذا الجانب الإيجابي عن العرب لا يزال قائمًا في مخيلة الإسبان اليوم رغم التشويش الذي شابها جراء ظروف سياسية ودينية وأخرى تتعلق بالعمالة المغاربية المهاجرة إلى إسبانيا في نهاية القرن العشرين وبداية الحالي. وتعكس هذه القصة خصائص القصة الموريسكية من مثالية، فهناك تعاون وتفاهم بين الملسم والمسيحي، مع وجود لعنصر يقشب العقبات كلها، وهو الحب، حب ابن الريس لشريفة. وهو تيار يحاول إعادة خلق فضائل الفروسية في العصور الوسطى، بدلاً من البعد عنها على غرار دون كيخوتي. وهي بصفة عامة قصص قصيرة مكثفة، مع استثناءات قليلة في هذا السياق خرجت عن هذه القاعدة، من بينها "الحروب الأهلية في غرناطة". والشخصية الموريسكية تنتشر في أعمال ذلك العصر الذهبي الإسباني والفترة اللاحقة، ولم تقتصر على السرد، بل امتدت إلى الشعر الشعبي والمسرح وبحثًا عن المناخ الثقافي لهذه القصة، المجهولة المؤلف، لجأ هذا الأخير إلى شخوص بأسماء وألقاب عربية أندلسية، إضافةً إلى كلمات عربية إقتبستها الإسبانية إبان الحضور العربي في شبه جزيرة أيبيريا، لا يدركها قارئ النص المترجم، بل الأصلي. وتسعى القصة إلى تعايش ممكن بين ثقافتين متنافرتين سنتئذ، في زمن كان يحاول النظام الجديد، المسيحي، توحيد ثقافة إسبانيا وافساح المجال أمام المسيحية كي تكون الدين الوحيد في شبه الجزيرة الأيبيرية، وهو ما أدى إلى طرد الموريسكيين بشكل نهائي في مطلع القرن السابع عشر. إلا أن هذا التعايش المنشود في "ابن السراج" لم يكن سوى حلماً، يوتوبيا، صعب المنال. ومع هذا فقد تجلت في القصة روح العرفان بفضائل المهزوم، ما كان يخالف الروح السائدة حينئذ، الأمر الذي وصفه البعض بأنه مغالاة في تمني التعايش بين ثقافتين متنافرتين بسبب ظرف الصراع التاريخي في تلك الفترة الذي ترتب على حرب الإسترداد، إسترداد إسبانيا من أيدي العرب. ورغم هذه المثالية واليوتوبيا فإن واقعًا ملموسًا نجده في هذه القصة، وهذا الواقع يتمثل في خلفية حقيقية وتاريخية وأحداث شهدتها مملكة غرناطة، إلى جانب عائلتي بني سراج والثغريين، ما يثبت أن التاريخ لعب دوره في مسرح "ابن السراج". إنها مزج لعالم الفرسان العاطفي على حدود ثقافتين في حالة تنافر في لحظة تاريخية فاصلة بينهما. تشكل هذه القصة إحدى زوايا مثلث الأعمال المهمة المجهولة المؤلف التي تنتمي إلى عصر النهضة إلى جانب "القوادة" و"لاثارييو دي تورميس". ولا تزال هناك علامات استفهام حول هوية هذه القصة، تتعلق بتاريخ تأليفها، إذ كانت هناك ثلاث طبعات لها، أبرزها النص الذي ضُمن في القصة الرعوية المشهورة "ديانا" ونشرت في مدينة بلد الوليد Valladolidعام 1561 وزيد عليها قصة حب ابن الريس لشريفة. ويذهب البعض إلى أن الناشر ضَمّن هذه الطبعة من الرواية الرعوية القصة سالفة الذكر، حب ابن الريس وشريفة، لأسباب تجارية . وعمد هذه القصة مجموعة من الأغاني الشعبية الإسبانية، وهي مجهولة المؤلف وتاريخ التأليف كغيرها من التراث الشفاهي في أي ثقافة، وظلت هكذا إلى أن تناثرت ضمن صفحات مؤلفات أخرى حتى نشرت لأول مرة في منتصف القرن السادس عشر. وقد تناقلتها الأجيال حتى القرن الماضي وتغنى بها أهل الريف الإسباني في سهراتهم قبل سيطرة التلفزيون والتطور الذي طرأ على الحياة في الريف. وقد أكد لي أصدقاء إسبان من ريف إقليم قشتالة إي ليون، بورغس، إذ شهدوا هذه القصص التي شكلت جزءًا من أغانيهم الشعبية وتغنوا بها في سهراتهم في صيف عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين. والقصة تبدو للوهلة الأولى بسيطة في موضوعها، فهي تعرض لقصة ابن الريس، أحد أشراف الأندلس، فبينما كان في طريقه من قَرطمة ، للقاء محبوبته شريفة الجملية التي تعيش في قصرها بكوين، وكان عليه أن يعبر منطقة حدودية معادية، ألورة، بينما كانت حرب الإسترداد لا تزال قائمة والطوائف العربية الإسلامية تتنازع على السلطة، اعترضه فرسان مسيحيون يعملون في خدمة عمدة ألورة رودريغيث دي نربايث. وقع صراع غير متكافئ الطرفين، ومع هذا تغلب العربي على الفرسان المسحيين، إلا أنهم استنجدوا "بالبطل" المسيحي، العمدة، الذي تمكن من ابن السراج في هذه الجولة الثانية. وقع ابن الريس في الأسر، وبينما كان الحزن يملؤه نظرًا لأن الواقع الجديد سيحول دون وصوله إلى خطيبته والزواج بها. حكي مأساته للنبيل المسيحي الذي تفهم قضيته وأطلق سراحه لأيام يعود بعدها إلى الأسر. يفي المسلم بكلمته، فبعد لقائه بمحبوبته وزواجهما عاد إلى العمدة الذي أطلق سراحه نهائيًا، بلا فدية، فما كان منه إلا أن أرسل هو وزوجه، شريفة، للمسيحي هدية ثمنية تتناسب مع كرم العمدة الإسباني. د. خالد سالم
هوامش: (1) موريسكي صفة تطلق على العربي الذي عاش في إسبانيا المسيحية بعد خروج العرب منها، وبالتالي فهي تنسحب على ما يرتبط بعرب ذلك السياق التاريخي. (2) تبعت في الترجمة النص الوارد في طبعة فرانثيسكو لوبيث إسترادا. Franciso López Estrada (Edición), El Abencerraje (Novela y romancero), Cátedra, Undécima edición, Madrid, 1997: (3) نشرت ترجمتها بالعربية مسلسلة على حلقات في جريدة "المساء" المصرية، خفي الفترة من 16 إلى 22 أبريل عام 1979، بينما كنت في السنة الرابعة في كلية الألسن، تحت عنوان "مغامرات صعلوك"، وكانت أول ترجمة لهذه القصة إلى لغة الضاد، ثم تلتها ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي في نهاية السنة نفسها ضمن إصدارات معهد الثقافة الإسبانية العربية قبل انتقاله إلى العالم الآخر ليحل محله معهد العالم العربي ثم ذوبان هذا الأخير في الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي، وكان يمثل أيامًا خوالي من إهتمام إسبانيا بالثقافة العربية قبل أن تحل العولمة بأثارها السيئة على ثقافات العالم الثالث. ويرجع الفضل في إنشاء ذلك المعهد إلى واحد من أبرز مستعربي إسبانيا في القرن العشرين الراحل إميليو غارثيا غوميث. (4) ترجمها إلى العربية شكيب أرسلان ونشرت في مصر، مطبعة المنار، 1925. (5) ترجم الشاعر الفلسطيني والأستاذ في جامعة مدريد "القوادة" ونشرها ضمن إصدارات المعهد الإسباني-العربي للثقافة، عام 1979. قبل انتقاله إلى العالم الآخر ليحل محله معهد العالم العربي ثم ذوبان هذا الأخير في الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي، وكان يمثل أيامًا خوالي من إهتمام إسبانيا بالثقافة العربية بعيدًا عن توجهات العولمة. ويرجع الفضل في إنشاء ذلك المعهد إلى واحد من أبرز مستعربي إسبانيا في القرن العشرين الراحل إميليو غارثيا غوميث. (6) Víctor de Lama y Emilio Peral Vega (Edición), EL abencerraje y la hermosa Jarifa, Editorial Castalia, Madrid, 2000, p.9. (7)
#خالد_سالم (هاشتاغ)
Khaled_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حلم ربط ضفتي البحر المتوسط عبر مضيق جبل طارق بين الواقع السي
...
-
مسرحية -رأس الشيطان- نموذجًا للتعايش في الأندلس العربية تأمل
...
-
لاهوت التحرير وموقفه من الشعب: الشاعر والأب إرنستو كاردينال
...
-
كنت شاهدًا على التجربة الإسبانية في المرحلة الإنتقالية
-
كان ياما كان
المزيد.....
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|