أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - يوسف ابو شريف - عمى الوان















المزيد.....

عمى الوان


يوسف ابو شريف

الحوار المتمدن-العدد: 3982 - 2013 / 1 / 24 - 07:47
المحور: حقوق الانسان
    


كان ابني البكر شريف يتأرجح بين السنة الثانية والثالثة من عمره حين كنت أتابع نموه بشغف، مجساتي تراقب أقل حركة يقوم بها لتسجلها، وتصبح الملاحظات المسجلة بشكل تلقائي جزءاً من البوم يشبه البوم الصور، ألبوم مشاهدات يزيد من هوسي بوجوده أمام عيني ، وتوقي لقدوم اليوم الذي نجلس فيه معا نضحك على عثرات طفولته كصديقين يستعيدان ذكرياتهما القديمة.
قبل أسبوع بدأ درس الألوان ، وباشر الصغير منذ ذلك الحين يصنف أشياء حياته حسب ألوانها ويسرف في رد كل ما يحيط به إلى لونه. (بطيحة حضلاء، سمامة صفلاء، إسالة ملول حملاء نقف، وحضلاء نمسي) .ولم يكن يهم بابا عدم اكتمال اللفظ طالما أن البطيخة خضراء فعلا، والشمامة صفراء، وطالما شريف يتوقف عند الإشارة الحمراء ، ويمشي إذا صارت خضراء، فما يضير بابا بعد ذلك إذا سقط هذا الكم من النقاط الأصلية من حديث من يتدرب على استخدام لسانه للتو.
أراحني موضوع الألوان لبعض الوقت من مهمة منع الطفل من لمس بضائع المتاجر كلما دخلنا للتسوق ، فلقد استبدل الصغير إصراره على المشي في المتاجر ـ ومعاينة كل مايعرض على الرفوف المنخفضة باليد، وتجربة متانتها حين تسقط على الأرض ـ بجلوس في عربة التسوق جلوسا مؤدبا واصطياد الأشياء بسنارة الألوان الجديدة التي صنعها له بابا
ـ بابا هذا كيس أسود ؟
ـ كيس أسود.... عظيم يا حبيبي.
ــ سيالة حملاء
ــ (برافو) يا عمري سيارة حمراء
وتجّول الصغير في رحاب مدى بصره، بين فستان أزلق ، وطماطم حملاء، حتى وصل إلى سيدة ذات أصول إفريقية:ـ
ـ وهذه املأة بنية.
ـ لا يا حبيبي... هي امرأة سوداء ..قلت هذا متأكدا من إجابتي... ضاحكا من قلة خبرة الصغير
ــ املاة بنية، بنية يا بابا ..
سرعان ما وافقته الرأي حين رأيته يتأرجح بين حماس الثقة وبكاء الخيبة لأعيد اليه المرح الذي كان يلهب رغبته بالتعلم قبل أن يكتشف المرأة موضع الخلاف.
عدت الى البيت حيث ماما تستعد لاستقبال الصغير بحدقتيها المتسعتين كالعادة تشجيعا لما يجلبه الصغير من أخبار عاجلة ومهمة جدا من العالم الواسع الذي يخرج يوميا لاسكتشافه.
ــ طارت الحوامة البيضاء قريبة من رأسي ، واختفت خلف البيت، هي تسكن في ذلك البيت العالي
ــ طائرة مشاكسة سنمسك بها معا إذا رأيناها في المرة القادمة .
ــ أعطتني الخالة في المتجر بالونا أصفرا لكنه طار مني إلى السماء الزرقاء
ــ ربما يكون قد وصل إلى القمر الأصفر مثله الآن، وهو سعيد بذلك
ــ ورأيت امرأة بنية تشتري باذنجانا أسودا؟
ــ ضحكت ماما ضحكة مدوية حين سمعت باللون غير المعروف في قاموس ألوان بني البشر ، وخرجت عن نص مسرحية المرح اليومية حين وجهت سؤالها إلي:ـ
ـ هل رأى امرأة سوداء ؟
فهم الصغير سؤال ماما الذي لم يصمم في الأصل له، وعاد الى رنة التحدي ــ أنا اقول المرأة بنية ياماما بنية، والباذنجان هو الأسود .
غمزت لماما حتى لا تفسد للصغير حماسه للتعلم، بالشعور بخيبة الخطأ وقلت لها :ـ
ــ لا تعكري مزاجه يا حبيبتي ، ستعلمه الأيام تلقائيا.
مرت شهور على حكاية المرأة البنية استطعنا خلالها إعادة الصبي إلى صوابه بطريقة تدريجية ، وحمدنا الله على أن عملية التصحيح كانت خفيفة لطيفة على نفسية الصغير ولم تنزع ثقته بالعالم والعلم والمعلمين من حوله.

وشاء القدر أن أتعثربعد ذلك بأسابيع قليلة بكتاب يتناول في أحد فصوله محاكمة من محاكمات الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا . اقتطع دماغي من المحاكمة الطويلة العريضة مقطعا صغيرا أثار اهتمامه ، بينما عيناي تكملان مشوار القراءة دون تركيز بعد تخلي وعيي عن إكمال المشوار وتفضيله الوقوف عند ذلك المشهد للتحليل
يقول رئيس الادِّعاء للمتهم مانديلا
ــ سيد مانديلا، في الكثير من خطاباتك التحريضية تستخدم كلمة بيض لتدلل على أصحاب البشرة الفاتحة من أهل هذه البلاد ، مع أنك تعرف بأن لونهم ليس أبيضا تماما، فهو في الحقيقة طحيني ، أو اصفر مائل الى البني أو الأحمر. سمه كما تشاء لكنه في كل الأحوال ليس أبيضا كالورقة التي أمامك، ولفظ البيض تستخدمونه في مجموعاتكم العنصرية بهدف التمييز وهذه إشارة إضافية تدلنا على صحة االتهمة الموجهة لك بالتحريض العرقي فبم تدافع عن نفسك؟
أجاب المتهم على الفور:
ــ السيد ممثل الادّعاء ، في مذكرة الاتهام الموجودة أمامكم والمكتوبة من هيئة الادّعاء التي تمثلونها وردت لفظة أسود أوسود أكثر من مئة مرة استخدمت من قبلكم للإشارة إلى سكان هذه الأرض الأصليين . مع أنك تعرف بأن لوننا ليس أسودا تماما ، فلوننا حسب ما يقوله علم الألوان هو بني ، نتراوح فيه بين البني الغامق والفاتح، ولم أشاهد في حياتي رجلا أسودا بمعنى السواد كما هو حال الفحم، فهل نستطيع بناءً على ذلك اعتبار مذكرة الإتهام التي بين يدي عدالة المحكمة مذكرة عنصرية، كتبت بالفاظ عنصرية صرفة ، لا مكان لها في محاكمة عادلة ؟
لولا قصة شريف والمرأة البنية لمررت على هذا المقطع من الكتاب مرور الكرام ، دون أن أتعمق فيما يقف خلفه من دروس لي أنا شخصيا. فموافقة نيلسون مانديلا على نظرية شريف ابني في إعادة تسمية ألوان البشر نبهتني إلى أني قضيت عمري ألوّن أهم شيء على هذه الأرض ـ وهو الانسان ـ بألوان الخطأ .
أربعون عاما مرت على عمى الألوان عندي دون أن أتنبه بأن اللون الأبيض والأسود ليسا ألوانا للبشر، وأن هذه الألوان زرعت في وعي الكثير من سكان هذه الأرض، ليس بهدف توصيف البشر حسب ألوان جلودهم الطبيعية، بل لحضهم على تصنيف أنفسهم كمخلوقات تختلف عن غيرها. فالأبيض والأسود هنا لم يتواجدا فقط لقلة الألوان في الطبيعة، أو لقلة الكلمات في اللغات البشرية، أوعجز الإنسان عن اختراع لفظ يصف به كل لون من ألوان البشر بدقة ، بل وجدت بوعي عنصري تمييزي يقظ، يقول أن الاختلاف بين هذا الإنسان وذاك كاختلاف الأبيض والأسود، ولا يمكن أن يصبحا شيئا واحدا في يوم من الأيام.
هذا هو مثال واحد بسيط على الكثير من المسلّمات التي ترقد في وعينا اخترعها شخص ما في يوم ما ، وأراد أن يكرّس بها تميّزا ما لشيء ما فأخذناها بالتربية وكبرنا معها دون أن نحاول ولو لمرة واحدة أن نردها إلى أصلها المنطقي.
بقيت إلى اليوم أحلل خطأي ذاك، وأقيس عليه أخطاءً أخرى كثيرة مشابهة خارج إطار الألوان، لكنها مزروعة في وعي الإنسان. وذهبت في رحلتي التصحيحية تلك بعيدا لدرجة أني حدثت نفسي باقتراح على المرحوم (مايكل جاكسون) بتغيير اسم أغنيته (بلاك أند وايت)، أو التعدي على حقوق المؤلف لكثير من الأغاني العربية مثل(البنت بيضا وانا اعمل إيه) علني بهذه التغييرات البسيطة أكفّر عن ذنبي التاريخي ذاك حين كان قلبي مصابا بعمى الألوان.
في النهاية بدأت أصدق حديث أختي ـ الأم المجربة ـ حين قالت لي :ـ
وستكتشف أثناء تربيتك لأبنائك يا عزيزي بأنك تتعلم منهم أكثرمما يتعلمون منك.
صدقت أختي فلقد أردت في ذلك اليوم أن أعلم ابني درسا صغيرا في الألوان، فإذا به يعلّمني درسا كبيرا في الإنسانية والمنطق (الله يرضى عنك يا بني ).



#يوسف_ابو_شريف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حياة جديدة من رواية طين بلادي رواية لم تنشر بعد
- رائحة ابطي بين المشوي والمحشي
- أيام الرسائل الورقية _ مرزوق وحسان


المزيد.....




- الأونروا: النظام المدني في غزة دُمر.. ولا ملاذ آمن للسكان
- -الأونروا- تنشر خارطة مفصلة للكارثة الإنسانية في قطاع غزة
- ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر ...
- الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج ...
- مفوضية شؤون اللاجئين: 427 ألف نازح في الصومال بسبب الصراع وا ...
- اكثر من 130 شهيدا بغارات استهدفت النازحين بغزة خلال الساعات ...
- اعتقال رجل من فلوريدا بتهمة التخطيط لتفجير بورصة نيويورك
- ايران ترفض القرار المسيّس الذي تبنته كندا حول حقوق الانسان ف ...
- مايك ميلروي لـ-الحرة-: المجاعة في غزة وصلت مرحلة الخطر
- الأمم المتحدة: 9.8 ملايين طفل يمني بحاجة لمساعدة إنسانية


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - يوسف ابو شريف - عمى الوان