|
أشياء من الحداثة الثانية في فن النحث
محمد حستي
الحوار المتمدن-العدد: 3978 - 2013 / 1 / 20 - 17:52
المحور:
الادب والفن
أشياء من الحداثة الثانية في فن النحث
محمـــد حستـــي
بعد الأعمال الخالدة للنحات أوغست رودان، أخذ فن النحث مسارا تصاعديا في التطور و التحديث و ظهرت اتجاهات عديدة تزامنت مع التحولات العميقة التي تجري في الواقع. هنا أضع في مجال اهتمام القارئ هذه القراءة المتواضعة لأعمال رودان بروديل، مايول، كارجالو، مارنيتي، يوكسيوني، ارشيمبانكو، فيون، برانكيزي و غونزاليز. يرجع الفضل في دخول فن النحث الى العصر الجديد ( بمعنى الحداثة الثانية) الى أوغست رودان ( 1840- 1917) هذا النحاث الفرنسي الثائر على آراء و تعليمات أساتذته و لا يعمل بها في فنه، أخذ فن رودان طريقا خاصـــا بــه و عمل على تحاشي الإستعـــارة الرمزيــة ( الليغـوري) و التزيينية و النمذجة الأكاديمية. انتقل رودان بفنه هذا الى العمل الفني الفاضح في حميميتــه و واقعيته التي تبدو واضحــــة فـــي حركــــات أشخاصه. وجوههــم و أجسادهــم و وقفاتهم و ملبسهم، هذه الواقعية البارزة تخرج اشخاصه من السكوت و الجلال اللذين تفرضهما النمذجة الأكاديمية. كما أن هذه الواقعية ساهمت في انفراج الأجساد و الوجوه من الغليان الداخلي و نزاعه و حتى هذيانه، و ما توحي به من الآلم و العنف، بدون أن يكون ذلك إبرازا للعاطفية المبتذلة، أو للبؤسية المفرطة. كان رودان مدرسة بعينها في فن النحث، حيث كان مسيطرا في زمنه و تتلمذ على يده كبار النحاتين الذي أخذوا مشعل رسالته من بعد، كانت الصعوية بمكان للتخلص مـــن تأثير – رودان- عليهم، و الاهتـــداء و البحث عن التجارب الفنية الخاصة بهم، لقد كان النحات انطوان بروديل (1861-1929) تحت سيطرة أسلوب رودان و شق طريقه الى محترفـــه و استسلم لقوة نحته. كانت تماثيل بروديل تحمل بالوضوح طابع رودان في حسيتــه و حركيته و تعبيريته، مع جدية بروديل في العمل المتواضع نجح في إتخاذ طريق خاصة به خارج التأثير الروداني - نسبة الى رودان- حيث خرج من صمته قائلا : " اتحاشى التصميم العرضي، لأجد التصميم الدائم، أسعى للبناء الجوهري، منحيا الموجات العارضة، أبحث عن الإيقاع الشامل" و قال كذلك: " أضيفوا الى كل كائن خاص الموجه العامة" ( مجلة الشاهد العدد 80 سنة 1991 عن تحقيق فادي محمد). إن ما هو جوهري و شامل و عام و كوني قد تعني عند بروديل الإرتداد على تعبيرية معلمه رودان الذي كان يركز على التفصيلية المفرطة و ذات الطابع الآني الذي يبرز على شخوصه، و يبرز بروديل تميزه على رودان في منحوتاته النصبية حيث أخذ بروديل الإتجاه الذي لم ينجح فيه رودان الذي سبق له أن ابتكر " بوابة الجحيم" و انتبه بعد حين أنها تفتقر الى الوحدة المتناغمة كما أن تمثاله النصبي لبلزاك قوبل بتهكم و فشل ذريع حيث مر وقت طويل قبل أن يعترف به كتحفة فنية و بعد عشرين سنة منذ وفاة رودان يرفع التمثال على قاعدته. استغل بروديل أخطاء رودان بسعيه الى فرض التناغم و الوحدة على كل الأجزاء المكونة لمنحوتاته، كما ينبغي أن يشملها بتعبير واحد و فكرة واحدة و شاملة على هذا الحد أنجز " نصب الموتى" و " نصب ميكيافيتر". تحديث الكلاسيكية - كان أتباع رودان في مدرسته و أسلوبه كثيرون حيث لم ينجحوا في الإبتعاد قليلا أو كثيرا عن مساره. لكن هناك تيارا كان في أساسه بمثابة معارضة رودان و مدرستــه، هـــو تيـــار " الكلاسيكيــة المتطورة" و كان ( أرستيد مايول) (1861-1944) من يتزعم و يمثل هذا التيار المنشق عن رودان. كان ارستيد مايول يشتغل على السجاد و سيطر عليه الرسم و النحث، حيث كان لقاؤه مع غوغان و " جماعة نيبي" سببا في التأثير على فنه، حيث أن غوغان يهتم بالتعبير البدائي في الفن، و بالفنون البدائية بشكل عام و كان آثر غوغان في إلهام مايول واضحا في البساطة و الحسية المفرطة اللتين تبدوان في تماثيله. أخذت الكلاسيكية المتطورة كأساس لطريقها ، رفض تعبيرية رودان و لدراميتــه و لواقعيتــه الفاضحــة و لتفصيليته المملة، و لاهتمامه بالحركة و ملاءمته بين الحركة و الإنفعال، و كذلك لعنف و عصبية تماثيليه. اعتبر سلز نحت مايول لا تعبيري بتاتا ، حيث أن وجوه عارياته ليس فيها تعبير و لا تحمل التعبير نفسه من تمثال الى آخر، كما أن مايول معروف بنحته للعاريات كثيرا، ولا تبدو هذه الأجساد الأنثويــة إلا بأنوثتها و استدارتها و اكتنازها عادة، حيث لا يحمل الجسم الأنثوي في تفاصيل عضلاته أي توتر و لا أي انفعال و لا أي حدة، بمعنى أن تماثيل مايول ذات طابع هادئ و مليئ بالسكون و عريها الناعم. إنها أجسام ذات جمال و تكوين متناغم الأطراف، مستقرة و متشابهة إلى حــد مقلق، و افتقارها للتعبير يغرقهـا في الثقــل و الرتابة و فقر المخلية، و مع ذلك تعطي انطباعا كأنها صادرة عن نموذج للمرأة، عن لحظة في طقس عبادة المرأة، عن امرأة إلهية، و هذا ما يجعلها تقترب مشاتلها البدائية. كان روادا لكلاسيكية المتطورة يهدفون من ورائها الخروج من درامية رودان، لكنهم من الناحية الأخرى تراجعوا بخطوة إلى الخلف، حيث أعادوا الفن المنمدج الساكن الرتيب بمعنى الرجوع الى الفن الأكاديمي. مــلامـــــح النحـــت الجـــديد: لم يستطع الرودانيون الجدد و الكلاسيكيون المتطورون في نقل النحت و وضعه على سكة التجديد و التحديث. و عرف هذا العصر إنتضارا حتى أن استبدل الرخام و الطين بالحديد و بــدأت ملامح التغيـير و التحـــديث مع بــروز الآلــة و الصناعة. ففي إسبانيا باشر النحاتون توظيف الحديد في النحث حيث ضل مادة أساسية في عمل الحرفيين و النحاتين حيث أطلق عليهم اسم مادة " خياطي الحديد" و ذلك في القرن السابع عشر و الثامن عشر. كان بابلوكارجالو من الأوائل في النحث بالحديد الذي ينحدر من اسبانيا حيث خالط في فرنسا موديكلياني و كري وأبولينير و ماكس جاكوب وقام بالتجريب و البحث عن طريقة جديدة في النحث و ذلك بخلط صفائح رقيقة متعددة من الحديد و النحاس، حيث يصنع منها أقنعته التي عرفته بجمهوره المتذوق للنحت. كما طور كارجالو طريقته في النحث المعدني و وضف في ذلك تقنيات تشعر المتفرج بكتله المنحوتة بأقل جهد، كما طور طريقة تركيب الصفائح المقببة على الصفائح المجوفة للحصول على المساحات الفارغة في أجسام شخوصه. و هناك اسباني آخر هو خوليـو غونزاليس ( 1876-1942) وظف الحديد في سن مبكر حيث كان أبوه نحاتا للحديد. باشر غونزاليس عمله بالمعدن و انتج منحوتاته ذات السطوح البسيطة و المقصوصة بشكل فريد في " الفلاحات" حيث وظف التلقائية العنيفة، بعد ذلك تحول اسلوبه الى التجريدية التي تستمد جــذورها من الطبيعة. لا يبحث غونزاليس على تلطيف الحديد و الحد من قسوته أو صلابته و لا يخفى علاقة الحديد بالصناعة و الآلة، حيث يبدو ذلك واضحا في أعماله التي دخلتها عناصر مصنعة. يصعب إدراج كراجالو و غونزاليس في التصنيف الصارم. بمعنى أن فنهما ظهر في موجة حرة سبقت التكعيبية و عاصرت طرفا محدودا في بدايتها، هذه الموجة عارضت الغنائية المفرطة و التزيينية التي سلكها النحت، كما تصدت للباروكية السيالة للأشكال و البادية التنميق. اتجهت هذه الموجة إلى ترك الخطوط المنحنية المعبرة عن الحركة عند رودان، لكنه دفع حقيقي لتغيير مفهوم الحركة، و هذا يقف على حدود التكعيبية و المستقبلية، حيث مارينيتي في بيانها الأول " لقـد اغتنت روعة العالم بجمال جديد هو جمال السرعة" أما يوكسيوني المنظر الأول للمستقبلية Futurisme ذهب بعيدا في طرحه إضافة محرك ( موتور) للمنحوته كي يكسبها حركة نفاثة. لم يصل يوكسيوني إلى هذا الحد في منحوتاته، و لقــد حرر غابو و كالــدر و تانفيلي الحركة و طوروها أكثر. أما بوكسيوني حاول في منحوتاته أن يقوم ب " تحليل لدينامية انسانية" و " نمو قنينة في الفضاء" أراد أن يعطي للنحت الإنتقال في الفضاء و بمعنى آخر أن يدخل للعمل النحتي مفهوم الزمن كما فعل بطريقة ما ديشامب السريالي في عمله الفني " عارية تنزل السلم". دعا بوكسيوني الى الجمع و التوليف بين المواد المتعددة و المختلفة في المنحوتة الواحدة كالخشب و الحديد و البرونز و الإسمنت و الزجاج و الجلد و الورق المقوى. أما نحته لا يتوفر على ما ينظره و يقترحه بوكسيوني نفسه، فقد انحصر على الغنائية الحقيقية بدون غير قصد، كما بقي نحته ذو سيولة زائدة في الفن الباروكي، مما أدى به إلى العجز في التطور نحو النحت المعاصر كما يرجى منه. ذهب أرشيبانكو أكثر من بوكسيوني في تخلصه من غنائية الشكل و أخذ اتجاها باردا و مجانيا أحيانا في نحته، يميل نحته الى الدمى المجردة حيث ركز على عدة ألوان مساحات متضادة جعلت من نحته نحتا تجريديا يختزل فيه كل العلامات الهندسية. أما النحات فيــون فكانت حياته القصيرة سببا في عــدم إبــراز و إخراج كل طاقته الخلاقة للعلن، مع ذلك يبقى نحاتا كبيرا، حيث أن أعماله الفنية تسري فيها الإيقاعيــة و الإيحائية و قوة التأليف المتناغمة. و مع التأمل في أعمال فيون اليوم نجدها قوية و تتفوق على مجايليه، مع أن مجمل أعماله تتوزع على عدة مدارس ما جعلها في مفترق الطرق علاوة الى قصر عمره و قلة إنتاجه، مع ذلك أسس له مكانة مهمة في تاريخ النحت المعاصر. النحــت التكعيبي La sculpture cubiste دخلت التكعيبية في مرحلتها الثانية- التكعيبية التحليلية- و حملت معها خروج النحت التكعبي إلى الوجود، مع أنها ركزت على التصوير الذي هو مجالها الأوحد، حيث طرحت على فن النحت مسائل غريبة لم تكن من صميم سياقه و تجديده. كانت التكعيبية في النحت تستغني بكتلتها الفعلية عن الإيهام بالكتلة مع أن مفاهيم التصوير انتقلت الى النحت حيث تبنى النحت تفكيك السطوح و هندسة الكتل مع عدة زوايا للنظر تراكم في منظورات متضادة، مع أن هذا لا يصلح إلا في التصوير ولا قدرة للنحات التكعيبي على تطبيقها، ذلك واضح في المنحوتات الأولى للتكعيبين، فهي دامسة متراكمة و مطموسة بدون فراغ ولا تهوية و لا نفس. كانت المنحوتات التكعبية تفتقر كثيرا للفضاء و الحركة. كان الهم الشاغل عند ليبشتنر و لورنس هو إبراز الحركة في منحوتاتهم ما أدى بهم إلى الإبتعاد عن التكعيبية في كليتها. أما زادكين لقد توصل إلى خلق مساحات فارغة يهوي منحوتاته كما تقلل من تراكمها، مع ذلك لم يسلم لتكعيبيته. دفع التصوير التكعيبي إلى بروز التجريد فإن الأمر غير ذلك في فن النحت، نفس الشيء في التصوير التجريدي و النحت التجريدي حيث لا تصلح نظرية التصوير التجريدي في النحت التجريدي كما يقول جان سيلز في كتابه : " اكتشــاف النحت" ذلك أن التصوير التجريـدي يسقـــط التمثيل من انتاجاتــه ســواء كــان التمثيـــل لشيء حـقيقــي أو مخترع، و بما أن النحث هو تمثيل في حد ذاته، يقع الإختلاف بين المجالين، حيث أن النحت التجريدي يسعى في طرحه إلى الإنتقــال من التمثيل إلى التجريد عبر مراحل متتالية و متلاحقة، اختزال الشيء و تحليله و تصميمه الى حد العلامة من أجل الإنقطاع و التخلص من الأثر الكلي الأول، و التنكر لأصله. هذا ما اتخذه كونستانتين برانكيزي (1876-1957) حيث قام بتصفية الأسلوب الروداني و انسلخ عنــه، و قام بالبحث و التجـــريب في تصفية الأشياء للوصــول الـــى الجوهـــري فيها، و كانــت تيمــة البيضة و العصفــور مجال المعالجة و الاشتغــال طيلة 30 سنــة، و كــان ذلك في " بروميثيوس" و فـــي "المولود حديثا". اشتغل برانكليز على المواد التالية كالخشب الذي كان يبرز فيه القساوة و العنف الذي يوحي بالنحت الإفريقي، أما منحوتاته الرخامية فهي ذات أشكال بيضوية أو حادة كسطوح ناعمة و لطيفة، ما أدى الى الجنوح نحو النحت البدائي الغابر، في نحته بالخشب و هذه جعلته حلقة وصل بين الفنون القديمة و الفنون المعاصرة. لقد برز برانكليز كأهم نحات في وقته، و مع غونزاليس و كاراجالو و بوكسيوني و فيون اللذين بحثوا للخروج من التبعية الرودانية في أفق حداثة ثانية. أما الآخرون كهنري مور و جيياكوميتي و فينوزا و رشييه و روزاتي كانوا من النحاتين الذين صنفوا في الطور الثاني حيث يشتغلون في اتجاهات أخرى. الهوامش: • كتاب " اكتشاف النحت" لسيلز • مجلة الشاهد: العدد 80 – 1991 تحقيق محمد فادي • L’art et le monde moderne tome 1 par : - RENE HUYGHE - JEAN RUDEL
#محمد_حستي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أشياء من الحداثة الثانية في فن النحث
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|