باريس
النجم المعني هنا ليس أي مواطن فرنسي عادي بل هو ابن الرئيس
الفرنسي جان ـ كريستوف ميتران نجل الرئيس الراحل فرانسوا ميتران
، والذي شغل منصباً رفيعاً كمستشار لوالده الرئيس للشؤون الأفريقية في فترة
التسعينات ، والذي جمع ثروة طائلة من جراء علاقاته التي بناها في ظل والده
واستغلاله لنفوذه ومنصبه من أجل الإثراء الشخصي وممارسة تجارة السلاح والحصول على
عمولات كبيرة من هذه الأنشطة المنافية للقانون الفرنسي .
وكان نجل الرئيس يحظى
باحترام كبار الشخصيات العالمية التي يحل عليها ضيفاً من وزراء وأمراء ورؤساء
جمهورية في مختلف بقاع العالم ويتقرب اليه لكسب وده رؤساء الشركات العالمية
الكبرى وعلى رأسهم شركات تجارة الأسلحة من طراز شركة فالكون وغيرها
.
الابن يدفع ثمن تصرفات والده. فالرئيس فرانسوا ميتران سحق معارضيه
ومنافسيه على السواء عندما كان حياً وهم ينتقمون منه بعد وفاته من خلال التضييق على
ابنه المدلل وسجنه ومحاكمته . تجرأ القضاء الفرنسي فأودع السجن أحد أكبر رجال
الأعمال وتجار السلاح بيير فالكون مدير شركة برنكو انترناسيونال لبيع الأسلحة الذي
كان يملك طائرة خاصة فاخرة ويصطحب معه رجال السياسة والمال ونجوم العالم
ورؤسائه ومن بينهم جان كريستوف ميتران ، وجورج بوش الابن الذي أصبح رئيساً للولايات
المتحدة الأمريكية اليوم . فبيير فالكون يقبع في سجن لاسنتيه منذ الأول من كانون
الأول / ديسمبر ، وجان فرانسوا ميتران لحقه في نفس السجن منذ 22 ديسمبر،
الأول بتهمة " الاتجار غير المشروع بالأسلحة والتلاعب
الضريبي ، والثاني بتهمة التواطؤ في الاتجار غير المشروع بالأسلحة وسوء استخدام
صلاحيات عامة واستغلال المنصب وأخذ عمولات بصورة غير مشروعة . وهكذا انحدر النجوم
من أعلى المواقع المتألقة إلى أسفل الحضيض في زنزانات السجون . وقد رفض القضاء
الفرنسي إخلاء سبيل نجل الرئيس الفرنسي إلا بكفالة مالية عالية جداً رفض المتهم
دفعها بحجة أنه لا يملك مثل هذا المبلغ وبالرغم من علاقات والده في الحكومة
الاشتراكية القائمة برئاسة ليونيل جوسبان ونفوذ والدته دانيال ميتران لم ينجح
جان كريستوف من الإفلات من العدالة . وقد رفضت والدته بعد زيارته والبقاء معه
ساعتين في السجن الإدلاء بأي تصريح لكنها طالبت القاضيان فيليب كروا وايزابيل
بريغو اللذين اتخذا قرار سجن ابنها بتوضيح المعطيات والملابسات التي استوجبت اعتقال
ابن الرئيس السابق .
وقد أمضى جان كريستوف أعياد الميلاد وراء القضبان بسبب
الفضيحة التي انفجرت عن تقاضيه عمولات غير مشروعة عن بيع الأسلحة |إلى
انغولا إبّان اشتعال الحرب الأهلية فيها . وبعد رفض القضاء التساهل مع ابن
الرئيس وانتشار الحدث عبر وسائل الإعلام العالمية وجدت عائلة ميتران نفسها
وسط فضيحة تهدف بلا أدنى شك إلى " تحطيم شرفها كما ذكرت ذلك الصحافة الفرنسية التي
لم تجد في عناوينها الرئيسية ماهو أكثر خطورة وأهمية من هذا الموضوع الذي
ينصب في سلسلة الفضائح المالية الخطيرة التي تعصف بأوساط اليمين واليسار على
السواء ولم ينس الجمهور الفرنسي بعد فضيحة وزير الخارجية اليساري الأسبق رولان
دوماس وعشيقته الموظفة في شركة ألف النفطية ولا فضيحة عمدة باريس وزوجته في
البيوت الاجتماعية HLM أو فضيحة مساعد جاك شيراك عندما كان رئيساً لبلدية
باريس الخ .. وهكذا اثبت القضاء الفرنسي أنه منزه بالفعل وهو فوق الجميع . فقد عمل
ابن الرئيس مستشاراً لوالده فرنسوا ميتران من عام1997 حتى عام 1992 في قصر
الاليزيه. وقد اعترف جان كريستوف الذي سخرت منه الصحافة الفرنسي وسمته [ السيد "
بابي قال لي " ] بأنه ليس الوحيد الذي حصل على مثل هذه العملات التي أشار
اليها القضاة بل اشتركت معه العديد من الشخصيات النافذة في الدولة ، وانه
استلم بالفعل من شركة " بيير فالكون : برينكو تريدنغ العالمية المحدودة " مبلغاً
قدره 13 مليون فرنك فرنسي لا غير وصيغة الدفع جاءت مقابل أتعابه في [ الاستشارات
الجيوبوليتيكية ] . وقد استلم هذا المبلغ ما بين عامي 1997 و 1998 على أربع
دفعات في حسابه في سويسرا. واعترف ابن فرانسوا ميتران بأنه لم يستلم
المبلغ الكلي من الشركة المذكورة بل أن 5 ملايين فرنكاً منه
استلمها نقداً من عملية أخرى [ تريدنغ بيترول ] في عام 1994 قبل أن يذهب المبلغ إلى
حسابه المصرفي في سويسرا . وهذا المبلغ الأخير لا علاقة له بشركة
بيير فالكون كما ذكر محامي المتهم . واعترف ابن الرئيس السابق انه قام بدور
الوسيط في تسهيل حصول الشرطة المذكورة على صفقات بيع أسلحة
المضمونة على بيع البترول . ,أكد القضاة وجهة الاتهام ان جان كريستوف ميتران
استغل موقعه الرسمي وكونه ابن الرئيس السابق فرانسوا ميتران
واستغلال نفوذه في قصر الايلزيه من أجل تمرير هذه الصفقة مع انغولا لكن محامي
المتهم فيرسيني كامبينشي أكد أنه لا توجد في ملفات الصفقة المذكورة أية
لآثار من هذا القبيل ولا يوجد أي دليل مادي على الاتهامات الموجهة لموكله الذي
انتهى عمله كمستشاراً في قصر الايليزيه منذ العام 1992 وبالتالي
لايمكن أن يكون قد استغل منصبه. لكن القضاة أصروا على أن المتهم كان يتعامل
مع صفقات بيع الأسلحة بصورة مباشرة إلى انغولا . وتورط مع جان كرستوف أشخاص آخرين
هم بيير فالكون ، وسكرتيرته، والمدير المالي لشركة برينكو العالمية، وبيرنارد
بوسييه المدير السابق لشركة سوفريمي، وهي الشركة التي تتفاوض في بيع الأسلحة والتي
انسحبت منها الحكومة الفرنسية .
من المعروف عن ابن الرئيس السابق انه كان مولعاً
بأفريقيا وهو ولع دام ثلاثون عاماً وهو الولع الذي قاده إلى السجن في
عمر 45 عاماً وقد بدأ اهتمامه وعمله في أفريقيا منذ عام 1975 حيث عمل مراسلاً
صحافياً لوكالة الأنباء الفرنسية في موريتانيا. وفي عام 1979 قام بالعمل ذاته أي
مراسل لوكالة الانباء الفرنسية في توغو. لكن انتخاب والده رئيساً للجمهورية سنة
1981 هو الذي حد ظاهرياً من اهتمامه المباشر بأفريقيا والعودة منها للعمل منذ
عام 1982 في قصر الأليزيه في ظل والده وعين مستشاراً للشؤون الأفريقية بعد أن
كان مجرد [ موثق ارشيفي ] لايتجاوز راتبه العشرة آلاف فرنك فرنسي وهو راتب بسيط
جداً قبل أن يصبح مستشاراً . ومن المعروف عن جان كريستوف انه كان حائراً في اختيار
نوعية العمل الذي يلائمه . فقد سافر إلى الجزائر ومن ثم ذهب إلى الكيبوتز في
إسرائيل قبل أن يستقر في مهنة المراسل الصحفي . وقد ابهر الكثير من الرؤساء
الأفريقيين بقدرته على الإقناع والاتصال . وبالرغم من انتهاء عمله كمستشار
لأبيه سنة 1992 إلا أنه حافظ على اتصالات جيدة بالرؤساء الأفارقة أمثال
الرئيس الغابوني عمر بونغو والمحيطين به . وبعد ذلك أصبح
مستشاراً في مصلحة المياه الفرنسية وهي أغنى مؤسسة فرنسية إضافة إلى عمله في إحدى
المؤسسات السويسرية التي تعمل مع شركة ألف النفطية . وفي عام 1996
عاد ليصبح مستشاراً مستقلاً لحسابه الخاص من خلال الإفادة من
علاقاته واتصالاته في أفريقيا ومعرفته للرؤساء الأفارقة الذين كانوا يزورون
قصر الاليزيه إلا ان اسمه ارتبط بصفقة الصواريخ التي باعتها فرنسا إلى
الكونغو برازافيل وهي كانت في حقيقة الأمر موجهة إلى دولة جنوب أفريقيا
العنصرية آنذاك وكان فرانسوا ميتران يدافع كثيراً وبضراوة
عن ابنه ويؤكد ان أي هجوم على ابنه هو هجوم ضده وانه لن يسمح بذلك . وكشفت مصادر
أخرى عن ان إبن الرئيس المتهم كان ايضاً شريكاً في عدد من الشركات المحلية في
أفريقيا مثل مساهمته المهمة في شركة لصيد الأسماك في مورتيانيا الأمر الذي عده
محاميه عملاً إيجابيا لأنه يستثمر أمواله في أفريقيا نفسها لتعود الفائدة إليها
.
لم يكن جان كرستوف ميتران من الشخصيات المحبوبة في فرنسا فهو معروف بأنه الابن
المدلل لوالده وهو يتصف بانعدام شخصيته المستقلة لأنه كثيراً ما
كان يردد " والدي قال لي " ويستغل كثيراً وفي كل مناسبة الموقع الرئاسي لوالده لذلك
فان سجنه بتهمة تقاضيه مبلغ 8 ،1 مليون دولار لا يمكن إلا أن يزيد من درجة
الازدراء تجاهه والشماتة به .
إن عدم وجود أي تعاطف شعبي أو رسمي معه ناجم كذلك
عن المشاعر السلبية التي كانت تثيرها شخصية والده المركبة والمعقدة لدي
الكثيرين ما يوحي بأن هناك الكير ممن ينوي تصفية الحسابات مع الأب الراحل من خلال
الانتقام من الابن فالفضائح الكثيرة التي أحاطت بالرئيس الفرنسي كانت من النوع
الشخصي التي لا يحاسب عليها القانون الفرنسي [ كعلاقاته غير الشرعية مع
العديد من العشيقات وابنته غير الشرعية مازارين وانتهاءاً باخفائه
اصابته بمرض السرطان طوال مدة رئاسته عبر ولايتين متتاليتين واستعانته
بالمنجمات والمنجمين في إدارته لحياته وعمله الخ ] لكنه الرئيس السابق
بقي بمنأى عن أي فضيحة مالية رغم تورط وسقوط العديد من المقربين إليه في فضائح
مالية ادت إلى انتحار بعضهم مثل صديقه ورئيس وزرائه بيير بيرغفوا وانتحار
ابرز اصدقائه الشخصيين فرانسوا دوغرسوفر ، وانفضاح أمر صديقه رجل
الأعمال برنار تابي الذي عينه في منصب وزاري فأودع السجن وصودرت ممتلكاته
بتهمة الفساد والتلاعب الضريبي. وكذلك صديقه ووزير خارجيته السابق رولان
دوماس في إطار قضية صفقة الفرقاطات الفرنسية إلى تايوان وقضية
عشيقته وسحبها أموالاً من شركة ألف الفرنسية .وهاهو القضاء الفرنسي
يوجه اهانة كبرى للرئيس الراحل الذي لم يتردد في حياته في توجيه الاهانات
للآخرين وهذا ما يفسر قساوة التعابير المستخدمة في وسائل الإعلام الفرنسية
تجاه القضية مثل [ سقوط السيد الابن ] و [ انحدار النجل المدلل إلى الحضيض ]
.
وأخيراً لابد من الاشارة إلى أن الكابتن بول بارييل يعتبر من أهم الشخصيات
التي ساهمت في الكثير من الانقلابات في افريقيا وهو الأكثر معرفة بأسرارها.
وقد أصدر مؤخراً كتاباً تحت عنوان " التحقيق المتفجر " عن دار فلاماريون الذي
يشرح فيه الشبكات الأفريقية لفرنسا ودور صفقات الأسلحة في
السياسة الفرنسية في أفريقيا . وأكد هذا الضابط المرتزق موضوع
تورط فرنسا في عمليات صفقات أسلحة مشبوهة إلى أفريقيا باتت معروفة للجميع .
والمعروف ان الرئيس الانغولوي دوس سانتوس صديق لفرنسا. وعن دور جان
كريستوف ميتران يقول الكابتن بول بارييل في مقابلة نشرتها صحيفة [ Le
Parisienـ الباريسي ] بأنه كان يتمتع بعلاقات جيد مع الرؤساء الأفارقة ،
وكانت هذه وظيفته الحقيقة في واقع الأمر بنصيحة من والده . وبسبب موقع
أنغولا اللغوي وانتماءها إلى منظمة الفرانكوفونية ـ بينما لغتها هي
البرتغالية ـ وذلك بفضل شركة ألف البترولية الفرنسية التي تسيطر على معظم
السوق النفطية في انغولا وفي افريقيا ، كان وما يزال الدور الفرنسي فاعلاً
هناك على حد تعبير الكابتن بارييل . ويعتبر هذا الأخير أن القضية ـ الفضيحة
المثار حالياً ضد ابن الرئيس تخص الدولة الفرنسية لأن المتورط
الكبير فيها هو ابن رئيس الدولة السابق. واعتبر خذه الفضيحة المالية
والأخلاقية بمثابة كارثة بالنسبة لفرنسا. خاصة وأن توقيت هذه
الفضيحة جاء ليترافق مع انعقاد القمة الفرنسية ـ الافريقية في
الكاميرون في منتصف شهر يناير / كانون الثاني 2001 وان قضية ابن الرئيس
فرانسوا ميتران جعلت الرؤساء الأفارقة يتخوفون من نبش قضايا أخرى
وفضائح أخرى قد تطال معظمهم . وعلى الخصوص أن بعض الرؤساء الأفارقة قد تورطوا في
قضية شركة الف النفطية الفرنسية مثل الرئيس عمر بونغو الذي أجّل
زيارته لفرنسا كنوع من الاحتياط . ولعل |أهم ما كشف عنه الكابتن بول
بارييل أن الأموال الأفريقية تستخدم في تمويل الأحزاب الفرنسية
وحملاتها الانتخابية . ومما يخفف من وطأة هذه القضية أن الأموال
مأخوذة من أنغولا وليس من المؤسسات الفرنسية الوطنية كما
هو الحال في قضيتي شركة ألف البترولية وبنك كريدي ليونيه ، وهي أموال تخص
الشعب الفرنسي مباشرة وهي من الأملاك العامة إلا أن وضع أموال
هذه القضية في بنوط سويسرا يساهم في خسارة فرنسا من الضرائب المفروضة
على الدخل .
ويجمع كافة السياسيين الفرنسيين بمختلف مشاربهم وتياراتهم
واتجاهاتهم بأن اثارة قضية صفقات بيع الأسلحة لأفريقيا يزيل الستار عن آخر
الممنوعات في المجتمع الفرنسي الذي ظل صامتاً إزاء هذا الموضوع قرابة خمسين
عاماً .
وهكذا كان جان كريستوف ميتران ابن الرئيس الفرنسي الراحل
يعيش تحت الأضواء الساطعة كنجم سياسي ومالي كبير إلا أن الأضواء خفتت بعد خروجه من
الاليزيه لكنها عادت اليه مرة أخرى ولكن بشكل سلبي لأنها اضواء السجن
وفلاشات المصورين والصحافيين لتعلن نهاية المشهد .