|
طه حسين وفيماوراء ثورة 25 يناير
أسامة حبشي
الحوار المتمدن-العدد: 3970 - 2013 / 1 / 12 - 13:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(قراءة فى كتاب الأيام والثورة) أسامة حبشى يضعنا طه حسين عبر البداية فى كتابه "الأيام " فى بيئة مغلقة ، لاتوحى بمخرج، وكأننا سنظل كحال الصبى فى دوائر مفرغة أبدية فيقول طه حسين (يذكر أنه كان يحب الخروج من الدار إذا غربت الشمس، فيعتمد على قصب هذا السياح مفكراً مغرقا في التفكير، حتى يرده إلى ما حوله صوت الشاعر وقد جلس على مسافة من شماله ، والتفّ حوله الناس وأخذ ينشدهم في نغمة عذبة أخبار أبي زيد الهلالي وخليفة ودياب ، وهم سكوتٌ إلا حين يستخفهم الطرب فيستعيدون ويتمارون( ويؤكدها طه حسين مرة ثانية بقوله ( كان مطمئنا أن الدنيا تنتهى عن يمينه بهذه القناة التى لم يكن بينها وبينه إلا خطوات معدودة) ويزداد المجتمع غرابة وشذوذا عندما يخلق لنفسه عوالم تزيده تعقيدا وترمى به فى حافة الغيبيات والمجهول بلا رجعة أو رحمة لنجد الصبى )يخاف أشدّ الخوف أشخاصاً يتمثلها قد وقفت على باب الحجرة فسدّته سداً ، وأخذت تأتي بحركات مختلفة أشبه بحركات المتصوفة في حلقات الذكر، وكان يعتقد أنه ليس له حصن من كل هذه الأشباح المخوفة والأصوات المنكرة ، إلا أن يلتفّ في لحافه من الرأس إلى القدم، دون أن يدع بينه وبين الهواء منفذاً أو ثغرة ، وكان واثقاً أنه إن ترك ثغرة في لحافه فلا بدّ من أن تمتدّ منها يد عفريتٍ إلى جسمه فتناله بالعمز والعبث) وإن كان ذلك الوصف يمثل شمولية وخصوصية فى آن واحد لريف ينتحر فكريا، قبل أن ينتحر إجتماعيا ، فهناك أيضا مساحات الطفولة التى تحاول البحث عن نفسها ذاتيا كما نعهدها) عرف الصبيّ أكثر أنواع اللعب دون أن يأخذ منها بحظ، وانصرافه هذا عن العبث حببَ غليه لوناً من ألوان اللهو، هو الاستماع إلى القصص والأحاديث ، فكان يحبّ أن يستمع إلى إنشاد الشاعر أو حديث الرجال إلى أبيه ، والنساء إلى أمه.. ومن هنا تعلّم حسن الاستماع…) وهنا يضعنا طه حسين مرة أخرى فى لب المعضلة الإجتماعية الممثلة فى صعود طبقة الشيوخ وتعاظمها سواء بجهل منا أو بعلم متفق عليه ( وكم كان لسيدنا على الأسرة من حقوق! وحقوق سيدنا على الأسرة كانت تتمثل دائماً في الطعام والشراب والثياب والمال. فإذا ختم صاحبنا القرآن فهناك عشوة دسمة ثم جبـّة وقفطان وزوج من الأحذية وطربوش مغربي وطاقية وفوق هذا كله جنيه أحمر) تلك المعضلة- المبنية على غموض فكرى وعلى غياب ثقافى وسط الجهل والعبث الإجتماعى - تجعل من طفل فى التاسعة شيخا (منذ هذا اليوم أصبح صبينا شيخاً وإن لم يتجاوز التاسعة لأنه حفظ القرآن) إذن محدودية المساحة البيئية والمجتمعية عندما تتجاوز الإشكالية المكانية تواجه مشكله ما كالتى واجهها الصبى عندما عاد من دراسته الأزهرية (لما عاد الفتى الأزهري إلى القرية شاع أنه سيلقي خطبة الجمعة ، وسمع الشيخ هذا الحديث ولم يقل شيئا. حتى إذا كان يوم الجمعة وامتلأ المسجد بالناس، وأقبل الفتى يريد أن يصعد المنبر، نهض الشيخ حتى انتهى إلى الإمام وقال في صوت سمعه الناس: إنّ هذا الشاب حديث السنّ وما ينبغي له أن يصعد المنبر ولا أن يخطب ولا أن يصلي بالناس.. فمن كان منكم حريصاً على الأّ تبطل صلاته فليتبعني. سمع الناس هذا فاضطربوا ، وكادت تقع بينهم الفتنـة ، لولا أن نهض الإمام فخطبهم وصلى بهم. فعل الشيخ هذا متأثراً بالحقد والموجدة على الشاب الأزهري. وغضب الوالد وراح يلعن هذا الرجل الذي أكل الحقد قلبه فحال بين ابنه وبين المنبر والصلاة( وهذه الضدية المكانية المصحوبة بنقله فى الوعى والفكر تتكرر فى رجوع بطل الأيام من باريس، إننا بصدد عمل يتخذ من السيرة الذاتية تشريحا إجتماعيا وثقافيا مرتبطا بتغير المكان والزمان، وأيضا ما يميز عبقرية طه حسين ،أنه برغم إتكاله على قصة غاية فى الخصوصية والشخصية ،إلا أنه – كالروائيين الروس كدستوفيسكى تحديدا- جعل من بطله نموذجا إنسانيا يتجاوز محيطه الإجتماعى والبيئى، نموذجا يصارع الجهل والفقر سواء البفقر العقلى أو الفقر الروحى والمادى عبر إرادة تتخذ من الحرية والعقل منهجا مغايرا لماهو سائد حولها، وروايته "الأيام" الرواية التى قالت عنها فدوى مالطى دوجلاس فى كتاب العمى والسيرة الذاتية "من المؤكد أنه لايوجد عمل عربى معاصر آخر أكثر شهره منه فى العالمين العربى والغربى بل وقد يكون هذا الكتاب هو الأكثرشهره حتى بين الكتب الكلاسيكية إن نحن استثنينا منها ألف ليلة وليلة" ويقول أيضا فيصل دراج عن "الأيام" أنه" مساهمة من الفرادة فى تطويرالنثر العربى المعاصر و حديث غير مألوف عن لقاء فريد بين الشرق والغرب وشهادة على ما كان عليه الريف المصر ى فى نهاية القرن التاسع عشر بل أن الكتاب وهو يصف (الكتاتيب) وفقهاء القرية المصرية إضاءة لخطاب غامض قام ينادى ب( الثورة العارمة على الجمود والرجعية) غير أن الكتاب وقبل أى شىء آخرهو سيرة الصبى الأعمى الذى يعيد تعريف العمى ويعلم المبصرين أصول النظر". رواية "الأيام" رواية ماكرة وساحرة فى تساؤلها الملح حول سببية العجز عند بطلها ،هل هذا العجز نتيجة تفسخ المجتمع إجتماعيا أو نتيجة شلله الثقافى والفكرى أم نتيجة لكلاهما معا ، وإن كنت أميل أنه نتيجة للشلل الفكرة والثقافى بالأساس ، لأنه بهذه البيئة المغلقة يكون التاريخ مغلقا والمستقبل مجهولا فالناس بالقرية كما يصورهم طه حسين بعد صلاة العصر يلجأون – هروبا من واقعهم - للتاريخ وللغزوات وللسير كسيرة عنترة أو الصالحين، والصبى أضاف عالم السحر والطلالسم بجانب هذه العوالم وهنا ينتفى الواقع وكأنه لم يكن ، لذا أصبح المجتمع المحيط للصبى مجتمعا مغلقا غارقا فى ثقافته الريفية لا يعرف ما "قبل" وما "بعد"، ولكن ماذا عن العقل أو الشك وعن البحث سواء فى الماضى ممثلا فى التاريخ ، أو ماذا عن المستقبل ممثلا فى البحث عن هوية أخرى لصاحبها ومن ثم لمجتعه بصفة أشمل أو بمعنى أدق البحث عن حرية العقل وسط الجمود الإرثى للعقلية التى تستسلم لحكايات من الماضى ، هذا مايجده الصبى فى رحلته الأخرى لأماكن أخرى خصوصا رحلته بفرنسا، و الحقيقة أن رؤية طه حسين رؤية وتحليل طه حسين للمجتمع الريفى فى المراحل الأولى للصبى بالرواية تتقاطع مع ايرك فروم وكتابه "الخوف من الحرية" ورؤيته التى تطرح إشكال الإنسان المعاصر من الخيارات المتاحه له، وخوفه من الدخول فى تجارب غير مسبوقه، ومن منطلق آخر يرصد طه حسين بروايته شيوخ الطريق بالريف الذين هم فى غفلة عقلية، تؤثر فيمن حولهم وأيضا تتحكم بتفكيرهم ، لأن وعيهم يتحقق عبر النقلية البحتة من السلف أو السير دون إعمال العقل فيما يعتقدون ، أو فما يتناقلون من معرفة، ثم ينقلنا طه حسين عبر صبيه فى الرواية لعوالم أرحب ولتصميم على التغيير وإدراك المعنى الحقيقى للحرية التى هى أساس البناء العقلى والفكرى ومن ثم الثقافى والسياسى أيضا إن أردنا ، هروبا من سيطرة المجتمع المغلق إجتماعيا وفكريا ، هذا المجتمع الفكرى الذى وصفه الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم فى كتابه " الريف المصرى فى القرن الثامن عشر" (أن السمات الغالبة على الحياة الدينية فى الريف المصرى فى القرن الثامن عشر هى التسليم المطلق بالقضاء والقدر والإتكالية والشك فى كل تفكير حول المستقبل، وتوطيد النفس على تحمل المظالم والصبر عليها ) ويقول أيضا عبد الرحيم عبد الرحمن أن فقهاء الريف رسخوا هذه الأفكار. إذا كان ظهور طبقة من الشيوخ الذين يحتمون بطقس دينى جلعهم فوق المحاسبة وأيضا فى صعودهم لمكانه مميزة، فى زمن طفولة الصبى، قد ساهم فى نمو هذا المجتمع الريفى المغلق بسبب قيوده الفكرية ، ومن ثم اختفت الحرية فيما وراء الفقر، والظلم ، فإننا بنظرتنا لطه حسين وروايته التى رصدت صراع الحرية ضد الفقر وصراع العقل ضد التخلف وصراع العمى ضد البصيرة أود أن نقفز- بقفزة زمنية طويلة – لنصل للألفية الثانية وتحديدا 2012 قامت الثورات ببعض البلدان العربية، وصار مصطلح "الربيع العربى" يملأ بقاع الدنيا، وعرفت شعوب الثورات هتاف"الشعب يريد اسقاط النظام" ولاحت الأحلام فى الأفق قريبة بعدما كانت هناك قرب السماء لاتطاولها العقول أو الأيدى، وتراوحت الثورات مابين سلمية هنا- تونس ومصر- ودموية هناك- ليبيا واليمن وسوريا- ولكن للأسف سرعان ما تحول الأمل لخوف من المجهول، تحول الربيع لشتاء، ووصل الإسلام السياسى لسدة الحكم بشكل يشبه الإتفاق فى جميع بلاد الثورات - وسيصل لسوريا التى مازالت تثور إلى اليوم- وصار الجميع فى خندق الخوف والشك، مما قد يصير عليه المستقبل على أيدى الإسلاميين، بعدما صعد الصراع الأيدولوجى (الدينى) للسطح - الغريب أن الثورات قامت بالأساس على مطالب إنسانية وإجتماعية بحته – وأصبح الجامع المعادل للكُتّاب فى رواية طه حسين ،يمتلك تشكيل الوعى الفكرى والثقافى ، وأصبحت سير الأولين تحدد مستقبل الأمة، وبدأنا ندخل مرحلة الخطر على مجتمع يبحث عن خلاص جديد يتيح له فرصة من الأمل فى أوضاع إجتماعية أفضل تنتشله من فقره ، وأيضا يبحث عن فرص للتطور الفكرى والثقافى وهنا بالعودة لأيام طه حسين نجد أنفسنا مطالبين بثورة فكرية تحمينا من التوغل الدينى الذى قد يفرض علينا طبقة الشيوخ مجددا، تلك الطبقة التى تعتمد على مسلمات وغيبيات محددة وتتناقل عبر حديثها حديث السلف فى كل شىء، دون وضع فى الإعتبار ضرورة النظر فى التطور الزمنى والإجتماعى والفكرى الآن وأننا لسنا فى فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أو فى زمن الخلفاء، ولا أقصد هنا التقليل من الدين الإسلامى أو تحجيمه كمتعقد وكدين فى حدد ذاته ، ولكن الأمر يفوق ذلك بكثير، الأمر يتعلق ببناء ثقافة وفكر ووعى بمستقبل نريد الوصول إليه، والحقيقة أن طه حسين وبشكل مذهل فى أسبقيته تناول بروايته ما نود الوصول إليه وأيضا تناول صراعنا الآن وخلافتنا وإن كان بشكل مصغر عبر صبيه وعجزه وقيوده ثم انتقاله لمرحلة السفروالوعى ومن ثم عودته لمحاربة الجمود والأخذ بالعقل لأفق المستقبل، فنحن بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير لا نود البقاء فى العمى سواء العمى الإجتماعي أو الثقافي كما كان الحال فى زمن صبى"الأيام"،ولا نود الوقوع فى مأزق التقسيمن مابين مؤمن وكافر،ولا نود الدخول فى متاهة حرب أهلية بسبب العقيدة، إننا نود عودة مسار الثورة لنقطته التى إنطلق منها ألا وهى عيش حرية عدالة اجتماعية فى إطار فكرى وثقافى يسمح لنا بمستقبل مثمر.
#أسامة_حبشي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طه حسين وفيما وراء ثورة 25 يناير ..قراءة فى كتاب الأيام
-
قراءة فى رواية حكاية شمردل لعمار على حسن
المزيد.....
-
السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات
...
-
علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
-
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
-
مصادر مثالية للبروتين النباتي
-
هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل
...
-
الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
-
سوريا وغاز قطر
-
الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع
...
-
مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو
...
-
مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|