|
قروان ع الباب
محمد أيوب
الحوار المتمدن-العدد: 1144 - 2005 / 3 / 22 - 13:59
المحور:
الادب والفن
قروان ع الباب قصة قصيرة بقلم : د . محمد أيوب تحسس جدران زنزانته السوداء بأصابع يده .. إنه يألف هذه الجدران .. بدأ يتعود عليها تدريجيا ، على الرغم من رطوبتها ، هذه الرطوبة وتلك اللزوجة تشبهان إلى حد كبير رطوبة ولزوجة جلد الضفدع.. حتى الحياة داخل هذه الزنزانة أصبح لها مثل تلك الرائحة التي تصدر عن الضفدعة إذا حاول أحد إيذائها .. وعلى الرغم من كل هذا فقد بات يألف هذه الجدران وهذا النمط من الحياة - لم يدرك لذلك سببا - أهو الاستسلام للقضاء والقدر؟ أم إنها العزيمة الصامتة زرعت هذه الألفة ورعتها ؟ . كان يمضي معظم أيامه في التحرك بين الجدران الأربعة.. يستعيد بعض أبيات الشعر التي حفظها أثناء دراسته ، أو يحاول أن يسرّي عن نفسه بحك نوى الزيتون بأرضية الزنزانة حتى يثقبها ، ثم يحاول إخراج محتويات النواة بواسطة بقايا أعواد الكبريت التي تكون ملقاة في القناة الصغيرة بالقرب من باب الزنزانة .. فإذا تجمع لديه عدد كاف من حبات الزيتون أخذ ينسل بعض الخيوط الرفيعة من الفوطة التي في عهدته ، ثم يفرك عدة خيوط في كفيه ليصنـع منها خيطاً أكثـر سمكاً ، يمرر عليه قطعة الصابون ليزداد قوة ومتانة ، .. يبدأ بعد ذلك في إدخال حبات الزيتون واحدة اثر الأخرى ليصنع مسبحة يستعين بها على قضاء وقته ... فإذا أصابه الملل هرب إلى الجدران السوداء من أثر هباب تراكم عليها .. يبدو وكأن هذه الزنزانة كانت مطبخاً صغيراً في يوم من الأيام - فهي في سعة مطبخ متواضع - معتمة كأنها القبر ، لا ينير ظلمته أشد المصابيح إضاءة ، وعلى الرغم من أن المصباح مضاء ليل نهار ، فإنه لا يكاد يشتت شيئاً من ظلمة هذه الجدران، ومع ذلك فإنه يهرب إلى هذه الجدران يحاول الانتصـار على سوادها القـاتم .. يمسك بقطعة الصابون التي في حوزته ، يخط أبيـاتا شعرية على أحد الجدران ، ويكتب بعض الآيات القرآنية ، وعلى جدار آخر رسم عدة مربعاتً صغيرة يضع في كل منها علامة عن كل يوم يمر بين الجدران الأربعة ... فقد كان يـعرف أن اليوم قد انتهي حين ينادي أحد السجانين للمرة الثالثة " قروان ع الباب " وبتناولهم وجبة العشاء ينتهي يوم آخر... فإذا ما تسلل الملل إلى نفسه حاول أن يسري عنها بالنظر من خلال الفتحة الصغيرة الموجودة بالباب .. كان ينظر إلى السجان وهو يروح ويجئ في الممر .. يدق كعبيه بالأرض ، وعصا غليظة تتدلى من جلدة بين أصابعه .. كان يحاول من خلال هذه الفتحة أن ينظر إلى نزيل الزنزانة المقابلـة ويتحدث معه بالإشارة .. يسأله: ما الأخبار في الخارج؟ ولا يتوقع أن يسمع جواباً فهذا النزيل حل ضيفاً على الزنزانة ليلة أمس فقط ! و لا بد أن يخاف من الكلام ! ترى ما هي تهمة هذا النزيل ؟ أهي حبه للحياة ؟ للناس ؟ أهي مثل التهم الموجهة إليه يا ترى ؟ ها قد مضي عليه شهران بين هذه الجدران الأربعة ! حتى أنه بدأ يعتقد أن من يدخل جوف هذه الغرفة كالجنين الميت في بطن أمه .. لن يرى النور أبدا .. إلا أن فرحة غامرة تشمله حين ينظر من تلك الكوة التي في أعلى الزنزانة، يصيح لنفسه جذل ا: آه الدنيا بخير ..لا زال القمر في السماء ينير الأرض للناس ، ويضحك مع نفسه .. ما دام القمر يرسل أشعته من خلال الكوة العليـا فل ابد وأن يعيش بالأمل .. سيرى النور مرة أخرى ، وستصبح هذه الجدران السوداء مجـرد ذكرى ! يضحك حين يذكرها أو يتحدث عنها إلى أولاده ! لم يكن يزعجه من رتابة أيامه وبطء حركة الزمن سوى تلك الكوابيـس التي تهاجمه كل ليلة ... نفس الكابوس يتكرر ! حتى بات يخشى قدوم الليل ، على الرغم من أنـه يريحه من كثير من عنـاء النهار ... بات يكره الليل من أجل ذلك الكابوس المرعب ، بمجرد أن ينـام وبمجرد أن يغوص في أعماق بحر النوم تطل عليه من فتحة الزنزانة عينان تشـعان بصورة غريبـة! ليس فيها من الحب شئ! ومن بين العينين تتبين له ملامح أنـف ضخم مثل حبة الكمثرى فوق شنب أصفر مائل إلى الشقرة ، لكنه مبروم بعناية فائقـة ، ثم ينفتح باب الزنزانة ، وفجأة يجد نفسه معلقاً من يده بواسطة أساور حديدية إلى برواز حديدي لشباك غرفة جدرانها كاتمة للصوت .. يصرخ فلا يسمعه أحد ... يحاول أن يستريح فلا يستطيع ... يحاول ابتلاع ريقه فيشعر أنه أكثر جفافاً من الحطب المشتعل . تهتز الدنيـا أمام عينيه ، ثم تنـفلت يداه ويسقط وقد اختلط لديـه الوعي باللاوعي ؛ فيرتطم بالأرض بشدة ويمتلئ جسده بالكدمات.. حاول أن يغير موضع رأسه ، فقد كانت جدته العجوز تقول له إنه إذا رأى ما يزعجه في نومه فما عليه إلا أن يغير من وضعه أثناء النوم .. أن يجعل رأسـه مكان قدميه وقدميـه مكان رأسـه .. فعل ذلك على الرغم من عدم قناعتـه به – لعـل وعسى - لعل أفكار هذه الجدة العجوز تنجح أخيراً، ويقرأ بعض آيات القرآن ، ومع ذلك يأبى الكابوس أن يتراجع عن لياليه .. كان في بداية معرفته بهذه الجدران يكره النهار من كثرة ما يراه في ضوئه.. يتمنى قدوم الليل، حتى الليل نغصه عليه ذلك الكابوس اللعين .. وحتى الفتحة الصغيرة في باب الزنزانة ... يبدو أن هناك من اقتنع بضرورة إغلاقها ، ربما كانت أكثر مما يحتاج إليه .. أغلقت الفتحة لتحرمه من آخر منفذ له يطل منه على عالم السجن الذي كان يراه أوسع مما يتصور على الرغم من صغره ! إنـه يشعر بحريته الحقيقية هنا ! يستطيع أن يطلق لأفكاره العنان دون خوف ! حتى لسانه تمكن أن يطلقه بلا تردد.. فليس هناك ما هو أسوأ من زنزانة في سجن .. إنه يستطيع أن يشتم .. أن يلعن وأن يسب .. لم يكن في الخارج ليجرؤ على مجرد التفكير في أي شيء خشية أن تقوده أفكاره إلى السجن . لقد كان على الرغم من حريته الظاهرية في الخارج حبيس الخوف القابع في جوفه ، وها هو الآن في السجن ! فمم يخاف ؟ ليطلق لأفكاره العنان ، وليقل ما لم يكن باستطاعته قوله في الخارج .. سيلعن ويشتم .. سيقول كل شئ - أي شئ - ويدق باب الزنزانة بعنف .. يهزه بشـدة ، ويأتي الحارس على صوت الطرقات .. يشتمه الحارس ، فيستجمع كل ما يستطيع فمه أن يفرزه من لعاب ويبصق في وجه السجان ويقول : من تظن نفسك ؟ أنت مجرد سجان ! أقل حتى من شرطي قذر ! ويمسح السجان البصقة عن وجهه مهددا متوعدا : لن تنل ولعة هذه الليلة ! يبصق مرة أخرى ويمزق سجائره ثم يدوسها بقدمـه قائلا : هذه هي سجائرك التي تهددني بها ، وينصرف السجان ويغلق الفتحة بقطعة خشبية وضعت خصيصا لذلك .. لقد منعوه من النظر خلال الفتحة ، لكنه لن يعدم الوسيلة .. سينظر من تحت الباب وسيرى ولو مجرد أقدام من يمرون أمامه وسيعرفهم من أقدامهم .. خلا طارق إلى نفسه .. لم يكن يود أن ينصرف السجان .. كان يود لو تبادلا العزف على هذه السمفونية من الشتائم .. لكنه الآن وحيد ، وسيأتيه النوم ومعه ذلك الكابوس المزعج .. نام هذه الليلة ، لم يزره الكابوس .. زاره بدلا منه حلم لذيذ .. رأى نفسه يسير في حديقة واسعة مترامية الأطراف كأنها الجنة.. فيها كل ما تشتهيه الأنفس ، وجداول ماء تنساب بين أشجارها ، وقلوب مرسومة علي جذوعها ، وكيوبيد يرفرف بجناحيه يوزع سهامه على هذه القلـوب ، وحبيـبان يختلسان القبلات تحت ظلال شجرة ياسمين في ليلة قمرية . همس لنفسه : لقد كان هذا الكابوس حلماً في ليلة صيف ! وفي الصباح استيقظ على صوت السجان يقول: قروان ع الباب . ملاحظة : القروان : وعاء الطعام
#محمد_أيوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
( قصة قصيرة بمناسبة يوم المرأة العالمي بعنوان: ( قبض الريح
-
المرأة في فلسطين
-
هدية من عامل إلى معلمه
-
البذرة تتمرد
-
لمصلحة من هذا الاستقطاب داخل حركة فتح ؟
-
من المسئول عن بط ء الإجراءات في وزارة العدل والمحاكم الفلسطي
...
-
خالد
-
عذابات نورس
-
وانتصر الحب
-
شجرة الزيتون
-
الموت المجاني
-
حركة فتح على مفترق طرق
-
أين وزارة المالية الفسطينية مما جرى في حي الأمل
-
نعم لسيادة القانون في فلسطين
-
القراءة في المجتمع الفلسطيني بين العوائق وعوامل التشجيع
-
أمنيات مواطن فلسطيني غلبان
-
الزمان والمكان في القصة القصيرة
-
البرامج الانتخابية لمرشحي الرئاسة بين التشابه والاختلاف
-
من دفتر الاجتياح
-
جدار السلام هو الضمانة الأكيدة للسلام
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|