أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - الوثائق التاريخية للحركة التروتسكية فى المنطقة العربية - الثورة العربية طبيعتها، وضعها الراهن و ّافاقها - مارس/آذار 1974















المزيد.....



الثورة العربية طبيعتها، وضعها الراهن و ّافاقها - مارس/آذار 1974


الوثائق التاريخية للحركة التروتسكية فى المنطقة العربية

الحوار المتمدن-العدد: 3961 - 2013 / 1 / 3 - 15:58
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


(يصدر هذا القرار باسم المنظماث المنتسبة الى الأممية الرابعة، وهو يمثل في خطوطه العريضة موقف الشيوعيين الثوريين –التروتسكيين- في المنطقة العربية. وقد تم انجاز تحرير النسخة الأولى لهذا القرار في شهرفبراير/ شباط 1973. أما النسخة النهائية هذه، التي أنجزت في مارس/ ّاذار 1974، فهي تتضمن نص النسخة الأولى مع بعض التعديلات الثانوية، وقد اضيف اليه فصل جديد حول حرب اكتوبر 1973، هو الفصل الثالث. ان الشيوعيين الثوريين العرب، اذ ينشرون هذا القرار يأملون ان يشكل مساهمة منهم في اغناء النقاش حول قضايا الثورة العربية، تمهيدا لتأسيس حزب شيوعي لعامة المنطقة العربية).


ان الثورة العربية قد لعبت دورا هاما في الموجتين الأخيرتين لحرب المستعمرات: ففي اواخر الخمسينات، وقفت الثورة الجزائرية في طليعة نضالات الاستقلال القومي وبلغت ذروتها بعد ذلك ببضع سنوات في سيرورة تجذر اجتماعي اقتربت لفترة من النموذج الكوبي، وفي ّاواخر الستينات، في غمرة المد الجديد للثورة العالمية، برزت المقاومة الفلسطينية في الخندق الامامي للنضالات المعادية للامبريالية. غير ان تقدم النضالات في منطقة واحدة كان في كل مرة يحول دون رؤية ضرورة استراتيجية شاملة: فـكان ثمة ميل، ازاء الجزائر أو فلسطين، الى اغفال الكل الذي تنتميان اليه. وكان للامبريالية و لعملائها العرب مصلحة بالغة في تشجيع هذا الاغفال، أما واجب الثوريين فكان في محاربته. ولم تقتصر الامميةالرابعةفي ادانةهذه المهمة، فأشارت في كل مناسبة الى السياق الجقيقي الذي يندرج فيه نضال كل قطاع: الثورة العربية الشاملة.


أن الثورة العربية اذا نظرنا اليها من حيث مجراها التاريخي، ثورة تفوق أهميتها بكثير أهمية كل من مركُباتها القطرية. وهي نفسها جزء عضوي من الحركة الثورية لشعوب الشرق، وهي ايضاً – عدا عن اهميتها الذاتية النابعة من كونها تخص مائة مليون نسمة كما هي نابعة من دور المنطقة العربية بوصفها مخزنا للطاقة و بئرا ماليا للغرب الإمبريالي- ثورة تمتازبإشعاع واسع النطاق: فالثورة العربية، لأسباب هي بصورة رئيسية جغرافية وثقافية(الإسلام)، ثورة مع أقسام هامة من القارتين الاَسيوية والإفريقية وحتى من القارة الآوروبية(لاسيما بواسطة العمال المهاجرين).

وتتناسب أهمية الثورة العربية مع حجم المهام التي تواجهها هذه الثورة، والتي تكمن أعظمها دون ريب في إزالة السيطرة الإمبريالية على المنطقة العربية ، اي تحرير الآمة العربية فعليا وكاملاَ.

أولا: الثورة العربية ثورة دائمة

1- كانت المنطقة العربية تثير المطامع الإمبريالية قبل اكتشاف النفط بوقت طويل، وهذا بسبب موقعها الاستراتيجي الفريد الذي يجعل منها محطة وصل بين الغرب و الشرق وافريقيا السوداء من الجهة الاخرى، وأيضاً بسبب ثرواتها الخاصة. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، استولت القوى الاستعمارية الآوروبية وعلى رأسها فرنسا و بريطانيا، استولت تدريجياً على الآراضي العربية الواقعة في نطاق الامبراطورية العثمانية . فامتد الاستعمار الفرنسي من الجزائر الى مراكش و تونس، بينما كانت الإمبريالية البريطانية تحكم سيطرتهاعلى وادي النيل و ترسي قاعدة لها في جنوب الجزيرة العربية لضمان طريقها الى الهند . ثم جرى تقسيم المشرق بين الدولتين الآوروبيتين بوصفهما دولتي انتداب، إثر الاتفاقيات المعقودة بعد الحرب العالمية الآولى . وبذلك أنجز التقسيم الجغرافي الاستعماري ا لكلاسيكي للمنطقة العربية .


جاءت الحرب العالمية الثانية لتقلب الاوضاع: فنالت المستعمرات و شبه المستعمرات العربية استقلالها واحدة تلو الاخرى، في سيرورة بلغت ذروتها بحرب التحرير الجزائرية، تاركة تحت نظام الحماية البريطانية بعض الآراضي في الجزيرة العربية حصلت مذ ذاك على استقلالها. بهذا كان شكل من اشكال السيطرة الإمبريالية يشهد نهايته في البلدان العربية كما شهدها في بلدان اخرى، غير ان اشكالاً اخرى بقيت، وجلت بعض القوى الإمبريالية من بعض الآماكن: الا ان قوة اخرى تغلغلت تغلغلاً هاما- متلبسة أحياناً مظهر المعاداة للإستعمار : هي الإمبريالية الآميركية ، الظافر الرئيسي في الحرب العالمية الثانية .

نجد اليوم في المنطقة العربية ثلاثة اشكال للسيطرة الإمبريالية إذا استثنينا وجود الرساميل الإمبريالية :
- سيطرة "غير مباشرة" بواسطة التبعية الاقتصادية: فقد شوٌهت الإمبريالية بنية معظم الاقتصاديات العربية بمحورتها حول تصدير منتوج وحيد، منجمي او زراعي(النفط، القطن، الخ). وتجد هذه الاقتصاديات نفسها تابعة بصورة وثيقة للسوق الرأسمالي العالمي، و هي بالتالي شديدة التأثر بتطور شروط التبادل العالمية و بتموجات النظام النقدي الدولي . وهي علاوة على ذلك رهينة تكنولوجيا البلدان الإمبريالية، خاصة وأن الاتحاد السوفييتي اتضح عاجزا عن الحلول محل الإمبريالية في هذا المجال في الواقع، تشكل المزاحمة بين الدول الإمبريالية المجال الرئيسي لتحرك الاقتصاديات العربية، وقد اتسع هذا المجال في السنوات الآخيرة نتيجة تفاقم التناقضات بين البلدان الإمبريالية.

- سيطرة سياسية-عسكرية شبه مباشرة: وهذا وضع الملكيات والإمارات العميلة لللإمبريالية ، حيث تشرف هذه الاخيرة عن كثب على الجهاز العسكري لتلك الدول التي لا تستطيع البقاء دون دعم الإمبريالية لها (المقصود هنا بصورة خاصة المناطق النفطية في الخليج العربي-الإيراني).

- سيطرة من النمط الإستعماري ، وهو وضع دولة اسرائيل الصهيونية التي تجمع بين ثلاث سمات مختلفة : فقد جندت حركة الهجرة الصهيونية ، بوصفها حركة استعمارية استيطانية ، جندت عبر العالم مئات الآلوف من اليهود الفارين – بمعظمهم – من وجه الاضطهاد اللاسامي، و غرستهم في فلسطين على حساب السكان الاصليين العرب الذين طرد معظمهم: هكذا ترافق خلق الدولة الصهيونية بخلق بروليتاريا يهودية منبثقة عن الهجرة. خلافا للنمط التقليدي من الاستعمار المبني على استغلال جماهير السكان الاصليين(أما الاقلية التي بقيت في اسرائيل فهي خاضعة لاستغلال اقتصادي فائق واضطهاد قومي تكرسه المؤسسات الصهيونية): و اخيراً فالدولة الصهيونية بحكم طبيعتها بالذات – شروط خلقها ووجودها – دولة تابعة مباشرة للإمبريالية، تلعب دور قلعة عسكرية في خدمة استراتيجية الإمبريالية الاميركية المضادة للثورة، وذلك في المشرق العربي بصورة رئيسية.

2- إن الإمبريالية الغربية مسؤولة عن تجزئة المنطقة العربية. فتاريخيا ،كانت الإمبراطورية العثمانية قد وحدت تحت سلطة واحدةالآراضي المعُربة بعد الفتح الاسلامي(بإستثناء مراكش و القسم الجنوبي من الجزيرة العربية).
ودعم هذا التوحيد الاسس الموضوعية لتكوُن أمة عربية؛ فقد انضاف إلى اللغة والثقافة المشتركتين تاريخ يرسم معالمه محتل واحد، و بالتالي وعي الانتماء إلى مستقبل مشترك؛ وبقيت الحاجة إلى طبقة قادرة على تمثيل الطموح القومي- طبقة تشكل القاعدة الاقتصاديةللامة- في غياب مصهر هذه الطبقة عينه: السوق القومي الموحد.
لقد ظهرت بعض الاتجاهات القومية منذ بدء القرن التاسع عشر ، لكن غالبا ما كانت قطرية أكثر منها عربية، تعبر عن رفض السيطرة العثمانية من قبل الذين كانوا يعانون من وطأتها بصورة خاصة: السلطات القبلية أو شبه الاقطاعية المقهورة، المثقفون و المسيحيون. غير أن الحدود التي وضعتها الإمبرياليتين البريطانية و الفرنسية، بتقاسمهما للمنطقة العربية، جاءت لتعيق تكوٌن الوعي القومي العربي؛ و علاوة على ذلك، شجعت الإمبريالية شتى النزعات الضيقة ، القطرية أو العرقية أو الدينية، وفقاً للمبدأ المعهود " فرق تسد" . لكن الامبريالية في الوقت نفسه ، بمساعدتهاعلى تغلغل الرأسمالية في البلدان العربية و بقضائها على الاكتفاء الذاتي القديم للمناطق الزراعية الذي ساد في العهود السابقة للرأسمالية، و بتطويرها للمدن و لطرق المواصلات و تشجيعها لنمو الشرائح المدينية، كانت ترسي الاسس المادية للآمة العربية، تلك الامة عينها التي جزأتها الامبريالية.
إن الوعي القومي العربي قد انتشر انتشاراً فعليا بعد الحرب العالمية الثانية بصورة خاصة ، و ذلك بمساعدة ثلاثة عوامل: صمود ثورة المستعمرات، و انطلاق الصناعة العربية القصير الآمد إبان الحرب العالمية بفعل الانعزال و الإضعاف اللذين لحقا بالإستعمارين البريطاني و الفرنسي، و أخيراً و ليس اَخراً، حرب فلسطين في عام 1948 التي انتهت بتكريس دولة معادية للعرب في الشرق الآوسط موفرة بذلك أكثر الحوافز فعالية للآمنيات العربية.

3- أما اليوم فقد اصبح وعي الانتماء إلى أمة واحدة راسخاً بقوة في ذهن الجماهير العربية حتى في أشد المناطق تخلفا اجتماعياً(الجزيرة العربية) أو تلك التي ترك فيها الاستعمار أعمق الآثار الثقافية(المستعمرات الثقافية في المغرب) . و غالباً ما دخل هذا الوعي بشكل سياسي مباشرة، تدفعه التيارات المعادية الإمبريالية و تحفزه الاعتداءات المتتالية التي شنتها الدولةالصهيونية.
ان الطبيعة الاصطناعية للتقسيمات الحدودية الحالية في المنطقة العربية جلية تماماً. فقد تم تفصيل الدول العربية بما يلائم المضالح الإمبريالية: هكذا فما هو العراق غيرمجمل امتيازات شركة نفط العراق؟ (ليس العراق بالتأكيد كيانا قوميا حيث يضم جزأً من كردستان!) . و إلى أى منطق تستجيب حدود الدولة اللبنانية و حدود الدولة السودانية، الخ، إن لم يكن منطق التركيبات الطائفية التي وضعتها الامبريالية؟ ومن رسم الحدود الحالية لدول المغرب العربي سوى الإستعمار الفرنسي؟ وما هي العربية السعودية، غير امتياز ضخم لشركة الارامكو الاميركية؟ الخ...

ان تجزئة الامة العربية تظهر اليوم أكثر مما في أي وقت مضى تجزئة بائدة و معاكسة للتقدم التاريخي: فهي تقف عائقا في وجه التطور الاقتصادي للمنطقة العربية بمنعها تكّون سوق قومي موحد، و تتعارض مع الآماني الواعية لغالبية العرب الساحقة. ان التوحيد القومي العربي ضرورة تاريخية و اقتصادية: انه الشرط الذي لا غنى عنه لتحقيق تصنيع حقيقي للبلدان العربية. وتتجاوز طاقته الثورية طاقة الوحدتين الايطالية و الالمانية في القرن التاسع عشر: فلا يقتضي التوحيد القومي مجابهة نزعات محلية فحسب، بل يقتضي التوحيد القومي العربي مجابهة الامبريالية العالمية التي لن تقبل طوعاً بتشكيل دولة قومية عربية قادرة على السير بقواها الذاتية. و علاوة على ذلك، لا تستطيع اي دولة من الدول العربية الحالية أن تصمد وحدها في وجه الإمبريالية العالمية.
بهذا المعنى، تشكل الوحدة القومية العربية المهمة المركزية للثورة العربية. غير أن هذا لا يعني اطلاقا ان الايديولوجية السائدة في الثورة العربية سوف تكون الايديولوجية القومية: يجب التمييز بوضوح تام بين المهام القومية الثورية و النزعة القومية ذات الجوهر البرجوازي التي تشكل عائقا على طريق الثورة، بتأخيرها تكون الوعي الطبقي لدى الجماهير العربية.

4- لقد انضافت إلى المسألة القومية العربية مشكلات قومية أخرى، من جراء التقسيم الإمبريالي للمنطقة العربية ذاته: مشكلة الجماهير البربرية غير المعرّبة و مشكلات القوميات التي تم ضمّهابصورة اصطناعية إلى الدول العربية، و مشكلة السكان اليهود لدولة اسرائيل.

ان الماركسيين الثوريين ينظرون إلى توحيد الامة العربية من وجهة نظر اممية بحتة. فلا يمكن التوحيد أن يكون مفروضاً ضد ارادة احد الشعوب؛ هكذا فتعريب الاقليات البربرية في مراكش و الجزائر يجب أن يكون مقبولا من قبل هذه الجماهير. ويدين الثوريون كل تعريب قسري؛ انهم يدافعون عن الجماهير البربرية في تقرير مصيرها؛ بيد أنهم يشجعونها على الاندماج في المنطقة العربية مع احترام خصائصها الثقافية.

وفيما يخص الاقليات القومية المضطهَدة في موريتانيا و جنوب السودان وفي المناطق الكردية في العراق و سوريا ، فمن الواضح ان برنامج الثورة العربية لا يسعه سوى التأكيد على حقها غير القابل للإنقاص في تقرير مصيرها بنفسها، بما فيه حقها في تشكيل دولة مستقلة كلياً. ويشكل هذا الحق بالنسبة للشعب الكردي جزءاً من حقه العام في التوحيد القومي ضمن دولة موحدة لكردستان . و يتوجب على الماركسيين الثوريين أن يسهموا في خلق قيادة بروليتارية للثورة الكردية، بالتوازي مع دعمهم غير المشروط لنضال الكردي في سبيل تقرير مصيره، ضد مضطهديه البرجوازيين العرب والآخرين.
اما الوضع الاسرائيلي فمختلف تماما: ان الاغلبية المضطهِدة اليهودية في دولة اسرائيل الحالية قد اقامت اضطهادها بصورة رئيسية عن طريق طرد السكان الاصليين العرب. وبهذا المعنى، فإن الموقف الثوري الوحيد هو الاعتراف بالحق الكامل وغير المشروط للشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره، اي حقه في العودة إلى مجمل الاراضي التي طرد منها وان يعيش متحرراً من كل اضطهاد قومي.

إن ممارسة هذا الحق تقتضي تحطيم الدولة الصهيونية القائمة على اسس عنصرية تتنافى مع افق كذاك. ولن يصبح بالامكان معالجة مسألة حقوق الاقلية القومية اليهودية في فلسطين معالجة ملموسة وصحيحة سوى بعد انجاز تلك المهمة التاريخية الضرورية للثورة العربية. ان تصفية العلاقات الصهيونية- الاستعمارية النمط- بين اليهود و العرب تطرح على الثوريين في اسرائيل مهمة بالغة الاهمية هي سلخ الجماهير اليهودية عن الصهيونية، مهمة تحقيقها وحده يسمح بضمان اندماج الاقلية اليهودية في المنطقة العربية اندماجا منسجماً ؛ اما كيفية هذا الاندماج فمرهونة بالضبط بالوتيرة والاتساع اللذين سوف يحكمان انتشار الوعي الطبقي- أي المعادي للصهيونية - بين الشغيلة اليهود . ومن ناحية اخرى لايمكن تصور هذا الحل بمعزل عن تحول ثوري في عموم الشرق الادنى على الاقل، هو العامل الوحيد القادر على توفير القوى التي يقتضيها تحرير فلسطين من السيطرة الصهيونية و الامبريالية؛ وهذا يعني أن تدمير الدولة الاسرائيلية سوف يقترن بإزالة دول عربية أخرى، باتجاه خلق دولة عربية موحدة. هكذا فإن الطابع القومي للثورة في الشرق الآدنى لا تحدده قضية الشعب الفلسطيني فحسب، بل أيضاً وبالآخص المشكلة العامة للوحدة العربية.
في هذا الاطار إذن تطرح مسألة السكان اليهود الحاليين في إسرائيل الذين سوف يتحولون الى اقلية بعد إزالة الدولة الصهيونية. ان برنامج الديمقراطية العمالية إزاءهم كما إزاء كل جماعة قومية ، هذا البرنامج المعادي بحق لأي شوفينية، قد حدده لينين بوضوح:"لا لأدنى امتياز لأي أمة و لأي لغة. لا لأدنى تنكيد، لا لأدنى ظلم إزاء أقلية قومية". وهذا يعني ضمانة كامل الحقوق المدنية و الثقافية للسكان اليهود المساواة الكاملة بين يهود و عرب. كذلك تقتضي الديمقراطية العمالية الاعتراف بحق الشغيلة اليهود في الادارة الذاتية لمناطقهم ، في إطار المركزية السياسية و الاقتصادية الضرورية القائمة في الدولة العمالية. هو ذا البرنامج العمالي لحل المشكلة الاسرائيلية.

إن مطلب "حق الآمة الاسرائيلية في تقرير مصيرها" ، مرفوعا في الظروف الحالية، ظروف بقاء الدولة الصهيونية، لايمكن أن يكون في التحليل إلا رجعيا؛ أما بعد تحطيم الدولة الصهيونية و بعد استعادة الفلسطينين لحقوقهم، و فقط بعد ذلك يصبح بالإمكان الاعتراف بحق تقرير المصير الأقلية القومية اليهودية في فلسطين، بما فيه حقها في تشكيل دولة مستقلة على جزء من الأرض الفلسطينية، لكن بشرط جازم هو أن لاتمس ممارسة هذا الحق حقوق أي شعب، و هذا يعني قبل كل شئ أن تكون ممارسة هذا الحق منسجمة مع حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره. وفضلاً عن ذلك، لايمكن للثورة العربية أن تقبل بخلق دولة تحمل مطامع توسعية أو دولة تسلحها الإمبريالية. وفي جميع الأحوال، يتوجب على الماركسيين الثوريين في إسرائيل أن يثقفوا البروليتاريا اليهودية بأفق الدولة الموحدة الذي يتناسب وحده مع مصالح البروليتاريا الحقيقية، مثلما يتوجب على الثوريون العرب مكافحة الميول الشيفونية في صفوف الشغيلة العرب.

5- إن المسألة الزراعية في البلدان العربية كما في معظم البلدان المتخلفة أهمية أساسية حيث أن جزءاً هاماًمن السكان العاملين في هذه البلدان يشتغل في الزراعة. ويمكن وصف الأوجه الأساسية للمسألة الزراعية في البلدان العربية، التي هي في الأصل أوجه مشتركة بين العديد من البلدان المتأخرة، بما يلي: سكان زراعيون تتكون أغلبيتهم الساحقة من فلاحين فقراء أو معدمين مقابل أقلية ضئيلة جداً من الملاكين الكبار و المزارعين الأغنياء؛ فائض فادح في السكان الزراعيين يتجلى في بطالة ريفية- موسمية و دائمة- بالغة الخطورة؛ زراعة تتميز بمعدل مكننة منخفض للغاية، ما زالت تهيمن عليها التقنيات البدائية؛ نسبة كبرى من الاراضي القابلة للزراعة لكن غير المزروعة، غالباً بسبب غياب الشروط التقنية الملائمة(الري).

أن حل هذه المشكلات مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاوجه الأخري للإنقلاب الاقتصادي و الاجتماعي الضروري في المنطقة العربية: يكمن هذا الحل في التصنيع العام للبلدان العربية(بما فيه ميكنة الزراعة) وخلق سوق قومي موحد؛ يقتضي سياسة توظيف و تمويل تحددها خطة شاملة على صعيد الامة العربية. فالثورة الزراعية في البلدان العربية، دون توحيد قومي و دون سياسة اقتصادية، لاتستطيع بأي صورة من الصور حل مشكلة تخلف المنطقة كما نوُه به تروتسكي بشأن الوضع الصيني المشابه.
ومن جهه أخرى، فإن الإصلاحات الزراعية العديدة التي سبق و اجريت في بعض البلدان العربية- كما في غيرها من البلدان- قد دلُت بصورة لاتقبل الجدل على أن توزيعاً للأراضي في إطار اقتصاد السوق وبأساليب بيروقراطية من شأنه أن يسرع على المدى البعيد التمايز الاجتماعي في الارياف بدل الحد منه، وذلك بدفعه الى الامام نمو "الكولاك" أي الفلاحين الاغنياء. يضاف الى ذلك أن محاولات "التحويل الاشتراكي" للزراعة المفروضة على الفلاحين بشكل بيروقراطي قد عرفت فشلاً مؤسياً يتحجج به بخبث القادة العرب التقدميون المزعومون لتبرير حالة أريافهم. أما نادر تجارب الإصلاح الزراعي الناجحة في البلدان العربية( الجزائر في أولى سنوات الاستقلال، اليمن الجنوبي) فقد استند الى تعبئة الجماهير الفلاحية ضمن صيرورة عامة تخطت الإطار البرجوازي.

6- وإذا ام تكن الحجج النظرية بكافية، فإن التجربة التاريخية قد اثبتت أنه لايمكن أي من المهام الأساسية للثورة العربية في إطار الدولة البرجوازية: ولهذا السبب بالضبط بقيت هذه المهام دون حل حتى اليوم. إن الخيار الوحيد بالنسبة للمنطقة العربية، شأنها شأن مجمل البلدان المتأخرة، إما ثورة إشتراكية أو مسخ من ثورة؛ وليس ثمة طريق لتحطيم تخلف البلدان العربية غير طريق ديكتانورية البروليتاريا المستندة إلى الفلاحين الفقراء.

إن ديكتانورية البروليتاريا هي وحدها القادرة على تحقيق التعبئة الشعبية الضرورية لمجابهة الإمبريالية العالمية و مصادرة ممتلكاتها العربية ، و تحطيم القيود التي تربط اقتصاد البلدان العربية بالسوق الرأسمالي العالمي؛ وحدها تستطيع تحطيم الحدود القطرية التي أقامتها الامبريالية والتي حضنت برجوازيات محلية ذات مصالح متضاربة، وحدها تستطيع تحقيق وحدة الأمة العربية؛ وحدها ديكتانورية البروليتاريا تستطيع مركزة موارد الأمة العربية موارد الأمة العربية بتأميم الملكيات الكبيرة الزراعية أو المنجمية و الصناعية الكبرى تأميناً بدون تعويض؛ وحدها تستطيع توحيد السوق العربية بتأميم مجمل التجارة الخارجية ز بمركز التوزيع العربي الداخلي؛ وحدها تستطيع تنفيذ إصلاح زراعي جذري –على اساس تعاوني- بالاستناد إلى تعبئة الجماهير الفلاحية الفقيرة (التي جزء كبيرمنها بروليتاري بالأصل)؛ و بالتراكم الاشتراكي البدائي، وحدها ديكتانورية البروليتاريا قادرة على تصنيع المنطقة العربية التي لا تنقصها الموارد المادية لأجل هذا الهدف؛ وهي وحدها القادرة من خلال برنامجها الأممي على نيل تأييد الاقليات القومية في البلدان العربية و البروليتاريا اليهودية في إسرائيل؛ وهي وحدها تستطيع انجاز الثورة الثقافية ذات الضرورة القصوى في البلدان العربية، والتي هي شرط لاغنى عنه لتحرير النساء العربيات؛ الخ.
ان الثورة العربية إما ان تكون اشتراكية أو لا تكون؛ وسوف تنتصر على امتداد المنطقة العربية وتوحد الاقسام الجغرافية الكبرى للأمة العربية (المغرب و المشرق ووادي النيل) في اطار جمهورية اشتراكية اتحادية عربية.
وسوف تتطور الثورة الاشتراكية العربية بالضرورة على الميدانين الآسيوي والافريقي الملاصقين لها وبتضامن وثيق مع الحركة الاممية الثورية لعمال الغرب الامبريالي. وهي تؤكد تأكيداً ساطعاً نظرية الثورة الدائمة التي صاغها ليون تروتسكي والتي الهمت برنامج الاممية الشيوعية في زمن لينين و برنامج الاممية الرابعة.

ُثانيا: الهزيمة العربية في يونيو/ حزيران1967 وعواقبها

7- في إطار شروط اجتماعية-اقتصادية (موضوعية) مهترئة منذ زمن طويل، جاءت احداث ذات طبيعة سياسية لتزعزع أكثر من مرة الانظمة القائمة في المنطقة العربية. والاهم بين هذه الاحداث هي الحروب الاسرائيلية-العربية فدولة اسرائيل التي أنشئت في فلسطين للدفاع عن المصالح الامبريالية في الشرق الادنى قد ساهمت موضوعياً و بفعالية تفوق تأثير سنوات من التحريض، في تطوير الوعي القومي المعادي للامبريالية لدى الشعوب العربية، معززة هكذا الخطر الذي يهدد المصالح عينها التي يقع الدفاع عنها على هذه الدولة.

قبل حرب يونيو/حزيران 1967 بعشرين عاماً، كانت حرب 1948 – عقب التأسيس الرسمي للدولة الصهيونية- قد تسببت في تبدل الخريطة السياسية العربية: فقد أضيفت، ألى الازمة الاقتصادية و الاجتماعية التي كانت تعاني منها الانظمة العربية، هزيمة جيوش هذه الانظمة في وجه الدولة الجديدة، هزيمة ساهمت في افقاد الحكومات القائمة هيبتها، و خلقت شروطاً ملائمة لاسقاطها. فساد المنطقة العربية وضع سابق للثورة، و ذلك خاصة في مصر حيث كانت الازمة الاجتماعية على اشدُها، بلاضافة إلى كونها المهزوم الرئيسي في حرب 1948 .

فدخل حكم فاروق المهترئ في احتضار لا علاج له؛ غير أن الوضع افتقد إلى القوة الاجتماعية القادرة على الحلول محل الحكم الملكي القائم. فالبرجوازية المصرية، الكمبرادورية في قسمها الاكبر و غير المنزعجة بتاتاً من الملكية، كانت ترى في احتمال سقوط فاروق سبباً للخوف أكثر منه مصدر فائدة؛ ومن جهة اخرى، كانت البرجوازية الصناعية المسماة بالقومية اضعف من أن تقود الشعب إلى الإطاحة بالملكية، خاصة وأن تظاهرات الشوارع في تلك كانت تميل إلى التطور بإتجاه معادي للبرجوازية. وأخيراً، فالبروليتاريا، عدا ضعفها العددي(وهو عامل مؤثر لكنه ليس بحاسم)، كانت تفتقد ألى قيادة ثورية. و كان الستالينيون انفسهم ضعفاء و مفككين و ساقطين في اعين الجماهير بسبب موقفهم العصبوي للغاية بصدد المسألة الفلسطينية.

إن هذا الوضع النموذجي- أزمة سابقة للثورة ، بغياب قيادة ثورية- قد انجب حلاً نموذجياً بالقدر نفسه: الانقلاب البونابرتي. و مما شجع هذا الانجاب، فضلاً عن ذلك الوضع ، السمة المميزة للجيش، و المشتركة بين العديد من البلدان المتخلفة: فبوصفة اقوى مكونات جهاز دولة متضخم – ومتضخم بالضبط نتيجة هزال البنى الاقتصادية و هزالة البرجوازية المسيطرة- شكُل الجيش في هذه البلدان، غداة استقلالها، الاداة الرئيسية للسلطة. و قد جمع ضمنه اهم الاتجاهات القومية البرجوازية و البرجوازية الصغيرة التي وجدت فيه إطاراً منظماً و ملائماً ، بصورة خاصة، نتيجة لتركيبة الاجتماعي وايضاً نتيجة للايديولوجية التي تشرف على تأسيسه. إن حكومة " الضباط الاحرار" العسكرية هي عين الحكومة البونابرتية.

ترتكز البونابرتية الناصرية على توازن القوى بين الجماهير العاملة البروليتارية و البرجوازية الصغيرة من جهة، وبعض اقسام البرجوازية من الجهة الاخرى. وهي تمثل، بوصفها بونابرتية برجوازية، المصالح التاريخية العامة للبرجوازية القومية و تحارب أعداء هذه الاخيرة- الاستعمار والامبريالية و البرجوازية الكمبرادورية و الملاكين العقاريين الكبار، وأيضاً الحركة العمالية و منها خاصة الشيوعيين- وتحاول إنجاز المهام التاريخية للبرجوازية القومية و لاسيما مهمة التصنيع. و يستجيب بالاساس نضال السلطة الناصرية في سبيل الوحدة العربية للمصلحة التي تجدها البرجوازية القومية في توسيع سوقها. أما عبادة الجماهير البرجوازية الصغيرة – شرائح البرجوازية الصغيرة المدينية و الفلاحين الصغار و المتوسطين – للزعيم (عبدالناصر في هذه الحالة) فتنسجم تماماً مع الإطار البونابرتي لا بل تميُزه.
إن خصوصية البونابرتية الناصرية – ما يميزها عن البونابرتية التقليدية لبرجوازية صاعدة- خصوصية مقرونة بنتائج السيطرة الامبريالية على البلد الذي تحكم فيه: فإن الضعف البالغ للبرجوازية القومية، التي خنقها السوق الامبريالي في مهدها، يجعل من مشاركتها الفعلية في التجربة التي تمثل مصالحها التاريخية مشاركة لا يمكنها أن تكون إلا محدودة جداً. و يتوجب بالتالي على البونابرتية الناصرية أن تجد طريقاً اقتصادياً اَخر: فتجد نفسها مضطرة في سبيل دفع تصنيع البلاد إلى النيابة عن الطبقة التي تمثلها نيابة اقتصادية – و ليس فقط سياسية كما هو شأن البونابرتية التقليدية. و لهذه الاسباب يشكل القطاع العام الاداة الاقتصادية المفضلة للسلطة الناصرية؛ غير أن هذا القطاع يبقى مع ذلك محكوماً بعلاقات انتاج رأسمالية: إنه رأسمالية دولة برجوازية و ليس " طريق تطور لا رأسمالي " كما تزعم التحريفية الستالينية الجديدة.

علاوة على ذلك، ينتج عن الاستقلالية الاقتصادية للبونابرتية الناصرية أنها اكثر تأثيراً بعلاقات القوى الاجتماعية مما هي البونابرتية البرجوازية التقليدية؛ فيمكنها، إذا ما واجهت ضغطاً جماهيرياً قوياً ، ان تقوم ببعض الاجراءات الجذرية الطابع، تكون أحياناً مناقضة تماماً للمصالح البرجوازية، كما كان الحال في عامي 1961و1963 . بيد أن هذه الاجراءات لا تعدو بالطبع كونها إجراءات محدودة و خاصة مؤقتة.

لقد قطعت التجربة الناصرية الاصلية شوطاً بعيداً في محاولتها بناء مصر برجوازية متقدمة و توحيد السوق العربي؛ غير أنها فشلت برغم ذلك مثبتة بصورة لا تقبل الجدل نظرية الثورة الدائمة. و تكررت الظاهرة الناصرية في عدة بلدان عربية (العراق و سوريا و اليمن و إلى حدِ ما الجزائر). و قد طبعت الناصرية بطابعها، و بقوة، المنطقة العربية و العالم المستعمَر بأسرة طوال أكثر من عقد. إلا أن حرب حزيران 1967 أظهرت حدود الناصرية و سددت ضربة حاسمة إلى صورتها الاصلية المصرية.

8- يندرج عدوان 1967 الاسرائيلي في الهجوم المضاد الذي شنته الامبريالية الامريكية خلال الستينات. وكان الهدف من هذا العدوان لجم الدينامية المتصاعدة للنضال المعادي الامبريالية التي كان الشرق الادنى يشهدها، والتي وجدت تعبيرها في نهوض الشعب الفلسطيني إلى النضال و ظهور قوى مسلحة داخلة داخله و تزايد نشاطها العسكري ضد الدولة الصهيونية، من جهة ، من جهة أخرى، في تجذر النظام السوري الذي نتج عن انقلاب عام 1966 و الذي كان جناحة اليساري البرجوازي الصغير يفرض سياسته الراديكالية على جهاز الدولة الذي ما زال برجوازياً.

لقد كانت حصيلة حرب حزيران 1967 انتصاراً عسكرياً ساحقاً للمحور الامبريالي الصهيوني؛ و بهذا المعنى تكلل الهجوم المضاد الامبريالي بالنجاح . غير ان هذا النجاح قد اصطدم بردة الفعل التي أثارها النصر الامبريالي عينه و التي لم يكن بمقدور المنتصرين توقعها إطلاقاً. فقد تحركت الجماهير الشعبية العربية التي الهزيمة و ما مثلته من إهانة قومية ، تحركت في أكثف تعبئة سياسية عرفتها في تاريخها المعاصر. وقد التقى هذا الصعود لحركة الجماهير العربية المعادية للامبريالية بالمد الثوري العالمي ، ووازن النصر الامبريالي بقوة وقد سمح ببقاء السوري و المصري في السلطة بعد أن أصابتها الهزيمة إصابة قاسية.

لقد جاءت التظاهرات العارمة في 9 و 10 يونيو/ حزيران 1967 لتنقذ عبدالناصر و تكشف التوازن الجديد القائم بين الضغط الامبريالي و ضغط الحماهير العاملة: فبقي عبدالناصر في السلطة، غيرأن الناصرية – وقد أصابها النصر الاسرائيلي إصابة قاتلة- كانت تحتضر بدورها مثلما احتضر سالفها الملكي في الماضي. إن حدود المناهضة الناصرية، بعد أن كانت جلية على الصعيد الاقتصادي ، ظهرت للعيان في الميدانين السياسي والعسكري. فالسلطة الناصرية، العاجزة عن منافسة الدولة الصهيونية في المجال التقني- حيث أن هذه الاخيرة مسلحة من قبل الامبريالية و مزوَدة باختصاص بشري أكثر تقدماً لكونه مستورداً مباشرة من البلدان المصنّعة- السلطة الناصرية هذه لم يكن بمقدورها أيضاً دفع التعبئة الشعبية والتسليح الشعبي الضرورين للتغلّب على إسرائيل واللذين من شأنهما لو حصلا أن ينسفا أسس حكمها البنوبارتي.

لقد أدركت الناصرية في يونيو/ حزيران 1967 حدودها الآخيرة : فتميزت سياسة عبد الناصر بعد حزيران بإستسلامها- تعاون نظامه مع الذين كانوا بالآمس أعداءه، عملاء الامبريالية في المنطقة ومنهم خاصة العربية"السعودية" ؛ وكان هذا التعاون الشرط الضروري للحصول على دعمهم المالي.

إن الناصرية قد أصبحت منذ حرب يونيو/حزيران 1967 شبه مستحيلة في المنطقة العربية حيث أن أي مناهضة فعلية للامبريالية في هذه المنطقة تقتضي دينامية ثورية تتناقض مع سلطة دولية بونابرتية بزرجوازية. وليس الانقلابان السوداني و الليبي بالنسبة للناصرية كما كانت قبل عام 1967 ، سوى مسخين يمينين. أما اتحاد الجمهوريات العربية القصير العمر الذي تم تأسيسة عام 1971 ، فليس له من صفة مشتركة مع الجمهورية العربية المتحدة القديمة سوى الدور القمعي الرجعي، وكان خالياً تماماً من المضمون الوحدوي و المعدي للإمبريالية الذي ميز محاولة التوحيد العربي الناصرية. مع احتضار الناصرية أدركت حقبة من الثورة العربية نهايتها؛ و بدأت حقبة أخرى ترتسم.

9- أن المظهر الرئيسي لصعود حركة الجماهير العربية بعد يونيو/حزيران 1967 كان الإتساع الفائق السرعة لمنظمات الشعب الفلسطيني المسلّحة المعرفة بإسم مشترك هو "المقاومة الفلسطينية". بعد عشرين عاماً من السبات كان الشعب الفلسطيني خلالها مخدراً بوعود الحكومات العربية، جاءت الهزيمة العربية و النزوح الفلسطيني الجديد الذي نتج عمها ليوقظا هذا الشعب بعنف- وبالدرجة الأولى، جزءه الأسوأ مصيراً: جماهير اللاجئين الفلسطينين المجمعة في "مخيمات". و قد عبّر تطور المقاومة الفلسطينية عن ارادة الشعب الفلسطيني في أن يمسك بنفسه زمام النضال في سبيل تحرير فلسطين، وطنه. لكن عفوية ردّ الفعل هذه فرضة عليها ايضاً حدوداً.

إن اللاجئين الفلسطينين، بوصفهم تجمعاً بشرياً غير منتج بقسمه الأكبر وخاصة غير مالك يفتقد حتى لإرض، يشكلون وسطاً اجتماعياً ذا تقبّل فريد لكل ميل قصوي حيث ليس لديهم اطلاقاً أي شيء يخسرونه، بل أمامهم وطن يكسبونه. و يساهم هذا الواقع في تفسير الشعبية الهائلة التي حازت عليها المقاومة الفلسطينية برغم الطابع القصوي الواضح لشعاراتها و لتصورها لتحرير فلسطين.

وبالفعل بلم تقدم المقاومة الفلسطينية أو على الاقل قسمها الأكبر، أي افق سوى" حرب التحرير الشعبية"- وهي هدف استراتيجي يكون غير واقعي اطلاقاً لآذا ما بقي دون محتور إجتماعي محدد و دون اهداف انتقالية سياسية و تنظيمية و عسكرية. وأنه بالطبع لضرب من الوهم الأعتقاد بأن المقاومة الفلسطينية، مع أنها شعبية بما لا جدال فيه، قادرة على التغلّب على الجيش الصهيوني- الشعبيّ هو الآخر لكن على أساس رجعي، و المجهّز تجهيزاً افضل بما لا يقاس. إن بلوغ مثل هذا الهدف لايقتضي فقط مساهمة الثوريين اليهود، القادرين وحدهم على نسف الأسس الأيدولوجية للتماسك الذي يميز سكّان الدولة الصهيونية و الذي هو مصدر قوتها، بل يقتضي
ايضاً و خاصةً اشتراك الشعوب العربية الأخرى في حرب ثورية شاملة ضد الامبريالية و حصنها الصهيوني، هي الطريق الواقعي الوحيد إلى النصر.

فلم تفلح المقاومة الفلسطينية في تقدم أي برنامج قادر على تأمين هذا الاشتراك المزدوج للجماهير العربية و اليهودية في نضالها: ان قصوية المقاومة مرتبطة عضوياً بقطريتها الفلسطينية. ونجد هنا انعكاساً للتجربة التاريخية للشعب الفلسطيني الذي تجد الميول الانعزالية ضمنه حافزاً لها في خصوصية المصير الذي شهده و في تبدد أوهامه حول الانظمة العربية.

لكن مهما بلغت أهمية العوامل الكامنة وراء اتجاه المقاومة الفلسطينية القصوي- القطري، فإن هذا الاتجاه ليس بحتمي بل هو ميلي فقط. و لو وجدت طليعة بروليتارية ماركسية-ثورية، لكانت عرفت كيف تكافح الأوهام الخاطئة الشائعة بين الجماهير الفلسطينية وكيف تفسّر لهذه الجماهير أن تحرير فلسطين يمر بالضرورة عبر الأطاحة الثورية بالانظمة العربية القائمة، الامر الذي يستحيل بدون قيادة بروليتارية على الصعيد العربي تضم الثوريين اللذين يناضلون في إسرائيل نفسها. وتفادياً للمأزق و خيبات الأمل، كانت طليعة كهذه عرفت، لو وجدت كيف تدرج نضالها العسكري ضد الدولة الصهيونية في استراتيجية ثورية شاملة، جاعلة من نشاطها العسكري مساهمة – هي بالاصل مساهمة بالغة الاهمية-في بناء الحزب الثوري لعموم المنطقة دون وصف هذه النشاط خطأَ بأنه "حرب تحرير شعبية" والحال أن طليعة كهذه كانت غائبة تاريخياً.

فقد إستحال أن تنبثق قيادات المقاومة الفلسطينية عن الحركة العمالية الممثلة بالستالينيين حيث أن هؤلاء قد اعترفوا بحق الدولة الصهيونية قي الوجود على أثر اعتراف الاتحاد السوفييتي به. إن هذه القيادات جميعها منبثقة عن التيار القومي البورجوازي الصغير السائد في المنطقة العربية؛ إذ إستثنينا الامتدادات المباشرة لإحزاب عربية حاكمة، فتلك القيادات مجموع من الفرق الوطنية البرجوازية الصغيرة المتجذرة إلى هذا الحد أو ذاك أقتربت الأكثر تقدماً بينها من البرنامج الماركسي-الثوري دون أن تستخلص قط ما ينجم عنه من مقتضيات عملية سياسية-عسكرية و تنظيمية. أما أوسع القيادات الفلسطينية نفوذاً ، قيادة "فتح" ، فهي أيضاً اكثرها يمينية: فقد بررت بحجج فادحة في قطريتها و يمينيتها تبعيتها المادية إزاء الانظمة العربية، بما فيها حتى وبالأخص اكثرها رجعيّة، الانظمة العميلة علناً للإمبريالية الامريكية، سند اسرائيل المعتمد. و بررت قيادة فتح، بإسم "التناقض الرئيسي" مع إسرائيل، تعاونها مع الرجعيين الفلسطينيين و الأردنيين اللذين يتحملون قصطاً من مسؤولية خلق دولة اسرائيل عينها. و باسم الهوية الخاصة للشعب الفلسطيني عزلته عن باقي الشعوب العربية الذي هو على احتكاك بها و منعته من الاشتراك في النضالات الاجتماعية التي تخوضها هذه الشعوب.
وغارقة في المساعدات المالية الهائلة التي تلقتها، نمّت قيادة "فتح" جهازاً بيروقراطياً يكاد يضاهي بأهميته جهاز يولة بورجوازية عادي. وتنظيمها العسكري تنظيم مأجور، الامر الذي يتناقض بصورة فادحة مع مبادئ خلق جيش شعبي ثوري.

بيد أن "فتح" –أهم منظمات المقاومة الفلسطينية- قد خاضت بالرغم من ذلك كله، نضالاً لا ينكر طابعه المعادي موضوعياً للإمبريالية؛ وجسدت "فتح" الأماني الوطنية العادلة للشعب الفلسطيني و شكًلت ستاراً احتمت به الاتجاهات الثورية التي ظهرت في الشرق الادنى بعد يونيو/حزيران 1967 . و تجد هذه المفارقة تقسيرها في موقع قيادة "فتح" المزدوج حيث هي خاضعة للتوازن القائم بين علاقاتها مع الانظمة العربية من جهة و الحركة الجماهيرية التي تترأسها قيادة "فتح" من الجهة الأخرى، والتي، بضغطها في إتجاه التجّذر تمنحها حداً معيناً من الاستقلالية.

10- إن سحق المقاومة الفلسطينية- الذي كانت مرحلته الرئيسية حملة الابادة التي خاضتها السلطة الهاشمية الاردنية في سبتمبر/ أيلول 1970 – هو نتيجة مباشرة للسياسة التي اتبعتها قيادة المقاومة وخاصة قيادة "فتح".
وبالفعل، فقد ساهمت قيادة "فتح" اكثر من أي طرف اَخر في خداع الجماهير الفلسطينية حول النوايا الحقيقية للسلطة الهاشمية، وروّجت الاضاليل الداعية إلى " وحدة الصفوف في وجه العدو القومي" بدل أن تغذي حذر الجماهير من حسين و تنظّمه.

وبرفضها لأي محاولة تهدف إلى أن تحل لصالحها إزدواجية السلطة التي شهدها الاردن قرابة السنتين و بسلوكها دائماً سلوكاً دفاعياً، اتاحت قيادة فتح للسلطة الرجعية الاستفادة من موقع المبادرة و روّجت وهم المصالحة النهائية بعد كل حملة تصفية شنتها السلطة. و علاوة على ذلك، قدمت التنازل تلو التنازل للسلطة الاردنية- إلى حد تجريد الجماهير من السلاح- وذلك ثمناً لإتفاقيات لم تأخذها السلطة يوماً بعين الاعتبار. و فضلاً عن ذلك الموقف التضليلي حرمت قيادة "فتح" نفسها من الضمانة الحقيقية الوحيدة في وجه السلطة الهاشمية: دعم الجماهير الاردنية و جنود جيش حسين. فباسم "الهوية الفلسطينينة" و " عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية"، لم تتقدم بأي برنامج قادر على تأمين هذا الدعم لها ذاهبة حتى إلى حد الوقوف أحياناً في وجه نضالات الشغيلة.

أما اليسار الفلسطيني فبالرغم من تجنبه وهم " الوحدة الوطنية" مع السلطة الهاشمية، لم يتميز تقريباً عن فتح في المجال العملي. ولم يعرف هو أيضاً كيف ينغرس بين الجماهير الكادحة في الاردن و لا كيف يستعد لمواجهة حملة الإبادة الحتمية. و لم يحسن تقديم برنامج إنتقالي قادر على تعبئة الجماهير الاردنية، بل رفع شعارات كانت تارة قطرية دون محتوى طبقي("كل السلطة للمقاومة الفلسطينية") وتارة يسارية متطرفة لاتقابل أي شئ ملموس(" كل السلطة للمجالس الشعبية"). ولم ينظم اليسار معارضة فعلية لإستسلام قيادة فتح وانتهى إلى عدم التمايز سيايساً عنها بحجة وحدة الصفوف. لقد تميز اليسار الفلسطيني بإتجاه قصوي-قطري مماثل لإتجاه المقاومة بمجملها. ولم يفهم بالأخص الحاجة الماسة إلى حزب طبقي ثوري قائد للمنظمة العسكرية و قادر وحده على تحقيق الإنغراس في صفوف الطبقات المنتجة على أساس غير فلسطيني المركز. وبالاضافة إلى ذلك ارتبط اليسار الفلسطيني بالانظمة العربية التقدمية المزعومة موفراً لها غطاءً يسارياً، و خائناً بالتالي مصالح النضال الثوري ضد تلك الانظمة.
إن هذه السياسة نفسها التي سلكتها قيادات المقاومة الفلسطينية تفسر النجاح السهل نسبياُالذي لاقته الجهود المشتركةللجيشالإسرائيلي و السلطة اللبنانية في سعيهما إلى عزل المقاومة عن السكان اللبنانيين و تجميد نشاطاتها العسكرية انطلاقاً من الاراضي اللبنانية. أما سوريا ، فلم تفرض المقاومة نفسها يوما سلطة مضادة، دافعة ثمن الدعم الذي تتلقاه من النظام بخضوع تام له؛ و اليوم يؤدي هذا الخضوع إلى تجميد القوات الفلسطينية الموضوعة في الواقع تحت اشراف الجيش السوري.

كان السقوط المتسارع للمقاومةالفلسطينية على شاكلة صعودها؛ و بعد أن حملت المقاومة معها اوهاماُ عديدة، شكّلت هزيمتها صدمة مفجعة كانت أمّر من صدمة حزيران 1967 ذاتهاا. لكن دروس هذه الهزيمة لا يمكن أن تضيع: إن الارتباط العضوي بين النضالات القومية و النضالات الاجتماعية بات اليوم أوضح منه في أي حين مضى. لقد اصبح جلياً جداً أن تحرير فلسطين لايمكن بلوغه كهدف منعزل وانما فقط كجزء من الثورة الاشتراكية العربية تحت القيادةالحازمة لحزب بروليتاري ثوري لعموم المنطقة. و سوف يتحتم على الطليعة الجديدة الفلسطينية و العربية أن تستوعب هذه الحقيقة.

11- جاء سحق المقاومة الفلسطينية في سبتمبر/ أيلول1970 بعد يونيو/حزيران 1967 بثلاث سنوات ليستكمل النصر الامبريالي؛ فبتصفيتهاحركة الشعب الفلسطيني المسلحة في ساحتها الرئسية، حطمت السلطة الهاشمية- اداة الامبريالية الطيعة – التوازن الذي قام بعد 1967 بين النصر الاسرائيلي و صعود حركة الجماهير العربية ، الذي كانت المقاومة الفلسطينية أهم تعبير عنه. و هكذا انفسح المجال امام إعادة تنظيم المنطقة العربية بصورة تناسب المصالح الامبريالية و البرجوازية ، ما يعني في المقام الاول لجم الانظمة العربية المعادية للامبريالية. وكان أيضاً من شأن موت عبدالناصر في الوقت نفسه – و هوالذي اتاح له مجده البونابرتي مقاومة الضغط الامبرياليإلى حد معين- أن يسّر هذه المهمة.
وبعد مذابح الاردن بشهر، سقط الفريق اليرجوازي الصغير الرديكالي الحاكم في سوريا إثر انقلاب عسكري نظمه جناح السلطة اليميني الممثل لجهاز الدولة البرجوازي. و مدت السلطة الجديدة يدها للبرجوازية السورية على الصعيد الداخلي وللحكومات العربية المرتبطة بالامبريالية، على الصعيد الخارجي.
وفي عام 1970، قام نظام السادات في مصر بتصفية البيروقراطية الناصرية- ذلك الجهاز السياسي و العسكري الموروث عن الماضي الناصري-و شرع بتفكيك تدريجي لاجراءات التأميم التي طالت مصالح البرجوازية المصرية، وبإزالة الحواجز امام تطور الرأسمال الخاص المحلي والامبريالي في مصر، الأمر الذي يعني بالفعل الشروع بتصفية المظاهر الاقتصادية الممَيزة للنظام الناصري. وفي الواقع، كان محتماُ أن تكون التجربة الناصرية، شأنها شأن كل سلطة بونابرتية، تجربة انتقالية؛ فقد انتجت الطرفين اللذين كان بامكانهما أن يحفرا قبرها: برجوازية جديدة تتألف من بقايا القديمة(البرجوازيون اللذين لم تؤمم ممتلكاتهم أو الذين قبضوا تعويضاُ عنها) و من جزء من البيروقراطية الحاكمة تمكُن من رسملة الأموال التي راكمها بالاستفادة من جهاز الدولة؛ و من الجهة الأخرى، بروليتاريا كبيرة الحجم و مركُزة لكنها تتميز بإفتقادها إلى تجربة نضال مستقلة و تنقصها قيادة نقابية أو سياسية تمثلها فعلاً. فما ان انقطع التوازن البونابرتي، و بعد موت البونابرت، حتى تمكنت أكثر القوتين المذكورتين تنظيماً، البرجوازية الجديدة، من أن تتخلص من البيروقراطية الناصرية، ذلك الجسم الطفيلي الذي بات يعيق تطوَرها. وكان نظام السادات أداة هذه الردة البرجوازية.
وفي عام 1971 أيضاً، تمكنت الديكتاتورية السودانية، منهية مسخها القصير العمر للناصرية، من تصفية الحزب الشيوعي السوداني- المنظَم الرئيسي للحركة العمالية في السودان- و الشروع بتعاون مكشوف مع الامبريالية الغربية.

أخيراً سعت الامبريالية جهدها للجم التجربة الثورية الجاريةفي جنوب اليمن. و نجحت، بممارسة ضغطها العسكري بواسطة العربية"السعودية" و اليمن الشمالية، في ان تفرض على حكومة جنوب اليمن اتفاق وحدة مع الشمال يهدد، يهدد في حال نقلة الى حيز التنفيذ، بتصفية المحتوى المعادي للامبريالية و للرأسمالية الذي ميز النظام الذي قام في الجنوب بعد إزاحة الجناح اليميني من "جبهة التحرير القومية" في عام 1969.

هكذا اصبح بامكان الامبريالية الامريكية، مع بضع سنوات من التأخُر، جني ثمار النصر الذي احرزته في عام 1967. و بقي عليها تكريس هذا النصر نهائياً بتصفية المضمون الثوري للمسألة الفلسطينية عن طريق تطبيق " الحل السلمي للنزاع العربي-الاسرائيلي.

12- لكن بالرغم من سحق المقاومة الفلسطينية في الاردن و انتصار الردة البرجوازية في بعض الدول العربية و احتداد الضغط الامبريالي على عامة المنطقة العربية، فان النضالات القومية و الاجتماعية للجماهير العربية ما انفكت تتطور، لابل خطت خطوة نوعية هامة مع ظهور حركة تمرد طويلة النفس في مصر- للمرة الاولى منذ عدة سنوات.

ان تفسير هذه المفارقة الظاهرية يكمن فيان استكمال الهجوم الامبريالي لم يغير شيئاً من الاسباب العميقة للاضطراب السياسي في المنطقة العربية. فلم تبق الازمة الاجتماعية-الاقتصادية الاساسية في البلدان العربية دون حل فحسب، بل علىالعكس تفاقمت من جراء عواقب حزيران 1967 في البلدان المشتركة في الحرب (ثقل الميزانية العسكرية، اغلاق قناة السويس، الخ). و قد انضاف الى هذه الازمة. التوتر السياسي الشديد الذي نجم عن هزيمة الدول العربية و الذي كان يتفاقم مع مرور الايام؛ و اخذت جماهير اوسع فأوسع في البلدان العربية تتحرر من أوهامها و تقتنع بالخيانة القومية لحكوماتها.

ان الموجة الرجعية التي انطلقت عام 1970 في المنطقة العربية لم تستطع سوى اسقاط بعض القيادات: فقد اطاحت بالنظامين الرئيسين المرتبطين بالتيارالقومي العربي( البرجوازي والبرجوازي الصغير ) ، وسحقت المقاومة الفلسطينية ذات القيادات المنبثقة من التيار ذاته، وصفَت القيادة الستالينية للحركة العمالية في السودان،
اقوى القيادات الستالينية العربية. لكن ، إذا صح أن الناصرية لن تنهض من جديد، و ان القيادة البرجوازية الصغيرة للمقاومة الفلسطينية قد انفضح امرها بصورة نهائية. وان الحركة الستالينية العربية قد اثبتت افلاسها بأكثر مما يكفي، فأنه جلي بالقدر نفسه أن تجذَر حركة الجماهير العربية قد دخل منذ ذلك الحين في مرحلةجديدة. وكانت مصر مرة اخرى البلد الذي ظهر التجذَر الجديد على أشده، أكان ذلك بالعصيان البليغ المعنى لعمال الصلب و الحديد في حلوان أو بحركة الطلاب المصريين الرائعة.

وهكذا انذرت هذه المرحلة الجديدة من تجذر الجماهير العربية بأن تكون أعمق من المرحلة السابقة و اشد خطراً على السلطات القائمة، كأن موجة ما بعد حرب حزيران لم تكن سوى مقدمة للعاصفة التي كانت تتكون. وبات تفاقم الازمة الاجتماعية-الاقتصادية في البلدان العربية الذي زادت من حدَته أزمة النظام الرأسمالي العالمي، بات يهدد بدفع غالبية قوى البروليتاريا و الجماهير الريفية الفقيرة إلى التحرك، بعد أن بقيت حتى ذلك الحين في موقف الانتظار. وسوف تحاول الطبقات الحاكمة العربية، وقد أدركت الخطر ،أن تزيلة.

ثالثا: حرب اكتوبر 1973 و المرحلة الأخيرة في استسلام الانظمة العربية

13- ان حرب أكتوبر 1973 قد خيضت بالضبط لأجل إيقاف الموجة الثانية من صعود النضالات. التي بدأت ترتسم في البلدان العربية: كان هدف الأنظمة العربية إنهاء وضع "لاحرب ولا سلم" الذي كانت وطأته تتزايد بإستمرار، والذي عجَل في إهترائها السياسي. والحال أنه كان جلياً أن محاولة لأزالة التوتر السياسي في المنطقة بتطبيق "الحل السلمي" (التسمية الدارجة للقرار رقم 242 الذي أقره مجلس الأمن في الأمم المتحدة، بتاريخ 22 تشرين الثاني 1967 ) تطبيقاً مباشراَ بدون مرحلة انتقال تمهُد له، ان محاولة من هذا القبيل كانت تنذر بأن تؤدي الى مفعول معاكس: حركة معمُمة من الاعتراض على تسوية تمثل في نظر أوسع الجماهير منذ عام 1967 قراراً فرضته الصهيونية والامبريالية، خاصة وان السلطة الاسرائيلية كانت تفسَر قرار الامم المتحدة تفسيراً بالغ الغطرسة. و لما كان أي أفق ل"حرب تحرير" فعلية أفقاً مستحيلاً بالأصل بسبب طبيعة الأنظمة العربية ذاتها، بات " الحل السلمي" في مأزق.
جاءت حرب أكتوبر لتحل هذه المعضلة: فهي حرب استهدفت السلم، عمل عسكري فتح الطريق أمام نشاط دبلوماسي مكثف بغية تسوية النزاع العربي-الأسرائيلي. كان الهدف الرئيسي والأساسي من حرب أكتوبر حفز تطبيق "الحل السلمي" بخلق مبرر لتدخل نشيط من قبل الدول الكبرى- والامبريالية الامريكية بصورة رئيسية- في المناورات الدبلوماسية الهادفة إلى تصفية اَثار حزيران 1967 وإلى الاكثر من ذلك، تصفية المضمون الثوري للقضية الفلسطينية.
كانت الاهداف العسكرية لحرب أكتوبر بالاصل أهدافاً محدودة للغاية. فلم يكن (حتى) في مصر و سوريا تحرير مجمل أراضيهما المحتلة في عام1967 ؛ في الواقع، كان على الحملة المصرية أن تحصر نفسها في نطاق عمل تمرّ حدودة داخل سيناء بالذات. وبالطبع فإن النظامين لم يخططا ل"تحرير فلسطين"، أي للهجوم على الاراضي التي تسيطر عليها الدولة الصهيونية منذ عام 1948 ؛ فلم تقم جيوش الدولتين العربيتين بأي قصف ذي أهمية تذكر وراء حدود 1948 الاسرائيلية. لقد كان هدف الانظمة العربية الوحيد في المجال العسكري محاولة تعديل ميزان القوى بين جيوشها والجيش الصهيوني لصالحها، تعديل كانت فائدته الاولى في نظر هذه الانظمة انه تحسين لموقفها في المساومة حول شروط التسوية السلمية. وقد أفضت هذه المحاولة إلى نصف هزيمة: فعلى الجبهة السورية كان الجيش الاسرائيلي هو الذي تقدم؛ وعلى الجبهة المصرية ، جاء التقدم الاسرائيلي غربي قناة السويس ليوازن عبور القوى المصرية للقناة. لكن نظام السادات قد استطاع بالرغم من هذا الواقع أن ينظم حملة دعائية واسعة على أساس نجاحاته في أولى أيام الحرب ، حملة تضليليّة تظهر الرئيس المصري بمظهر صلاح الدين الأزمنة الحديثة و تجعل من حرب اكتوبر معركة حطين جديدة . وبهذا، رمّم النظام المصري واجهة وطنية تصدّعت منذ 1967 بصدع واسع، غير أن ما زاد من ضرورة ترميمها أن هذا النظام عينه كان ينوي الجلوس إلى طاولة المفاوضات في وجه الحكومة الصهيونية. كانت حرب أكتوبر اذن بكل جوانبها ومن خلال أهدافها المختلفة ، كانت وسيلة لوضع تطبيق "الحل السلمي" على جدول الأعمال الآني ؛ و بهذا المعنى، فإن حرب أكتوبر، بعيدة عن أن تكون "حرب تحرير"، كانت في الواقع حرب استسلام ! ان الماركسيين الثوريين، مع دعمهم للجيوش العربية في وجه جيش الاحتلال الصهيوني، قد أدانوا الاستراتيجية السياسية الاستسلامية التي اندرجت فيهاحرب أكتوبر والتي فرضت على هذه الحرب حدوداً موضوعة مسبقاً. إن حرب أكتوبر- بالرغم مما يظنه إنطباعيّوا القومية البرجوازية الصغيرة- ما هي إلا تأكيد جديد لعجز الانظمة العربية و استسلامها في وجه الصهيونية.

14- لم تكن حرب أكتوبر، بوصفها دافعاً للحل السلمي، مغامرة طائشة؛ بل جزءاً من خطة شاملة مدروسة بعناية تتضمن وسائل ضغط أخرى كانت أكثرها صيتاً "حرب النفط" الشهيرة.
إن حكومة السادات ، وعياً منها لعجز الاتحاد السوفياتي المطلق عن أن يقوم وحده بإزالة المأزق السياسي السائد في الشرق الأدنى ، و رغبة منها في تجنب افتضاح أمرها في نظر الجماهير إذا مدت يدها للولايات المتحدة، إن حكومة السادات هذه حاولت لفترة معينة الاستناد إلى امبرياليات أوروبا الغربية؛ وكانت قد أجرت لهذا الغرض العديد من الاتصالات بحكومات فرنسا و بريطانيا و ألمانيا الغربية. لكن سريعاً ما اضطرت السلطة المصرية إلى الاقرار بالواقع: فإن أوروبا الرأسمالية، مهما كانت الآفاق الاقتصادية التي تقدمها، تبقى اضعف بكثير من الامبريالية الاميركية وبالأخص أقل قدرة منها على ممارسة نفوذ على الدولة الصهيونية ( هكذا فلم يكن للتصريحات والقرارات السياسية الاوروبية المؤيدة للاطروحات العربية بصدد نزاع الشرق الأدنى ، أية فعالية في الواقع) . والحال أن أول المهام التي حددتها حكومة السادات لنفسها كانت بالضبط إزالة التوتر السياسي في المنطقة كشرط مسبق لا غنى عنه لأي خطة تنميةاقتصادية رأسمالية. فلم يبقى أمامها أذن سوى التوجه نحو الامبريالية الامريكية، مستجيبة هكذا لامنيات قسم هام من البرجوازية المصرية وخاصة لأمنيات أكبر الرساميل العرب : السلطة السعودية.
إن دور العربية "السعودية" قد فرض نفسه عام 1973 بوصفها وسيطاً مميزاً بين الانظمة البرجوازية العربية وواشنطن. وسوف تتسبب هذه الوساطة في تطور مزدوج ، في مسارين ملتقيين: مسار مصر نحو التعاون المتعدد الاشكال مع الامبريالية الاميركية ، وأيضاً مسار هذه الاخيرة نحو التخلي عن دعمها غير المشروط تقريباً لموقف السلطة الصهيونية المتطرف و نحو تبني سياسة أكثر انسجاماً مع حاجات الأنظمة العربية.

إن انفتاح مصر على الامبريالية الاميركية سوف يتجلى في كافة المجالات: ففي المجال الاقتصادي، وجد الانفتاح تعبيراً عنه في القرار المصري القاضي بتلزيم تنفيذ مشروع خط الانابيب بين السويس و الاسكندرية (سومد) لشركة أميركية متزاحمة مع مجموعة أوروبية؛ واليوم، فإن التعمير المرتقب لمنطقة قناة السويس التي ينتظرها ازدهار اقتصادي أكيد بعد إعادة فتح القناة، يخطّط له بالتعاون مع الرساميل الاميركية والبنك (الامبريالي) الدولي. وفي المجال السياسي، كان قمع المثقفين التقدميين المناهضين للامبريالية في مصر قد مهّد لذلك الانفتاح الذي سوف يتأكد بصورة فادحة مع عودة عملاء الامبريالية الاميركية المعلنين إلى الظهور على المسرح السياسي المصري و تعيينهم في مسؤوليات هامة، وتأكد أيضاً مع إعادة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وواشنطن، إذا استثنينا تصريحات السادات التي يمتدح فيها "أمريكا" و مفوضها في الشؤون الخارجية، كيسنجر الشهير.
ولاستحال هذا الاتجاه الجديد للسلطة المصرية لولا ضمانات حازمة فيما يتعلق بنتائجة: فبالنسبة للسلطة المصرية كان مد يدها للامبريالية الاميركية خطراً جداً من وجهة النظر السياسية حيث تمثل هذه الامبريالية في نظر الجماهير العربية حامي الدولة الصهيونية ذاته. فقد قدمت العربية"السعودية" ، وهي المساعد الرئيسي على الانعطاف المصري، الضمانات المطلوبة.
إن العرش السعودي الذي يحوز على أضخم احتياطي من النفط في العالم هو، بين المتعاونين مع الامبريالية الاميركية ، الذي تجني منه أكبر الارباح. والحال أن الافول النسبي لسلطة واشنطن في السنوات الأخيرة ، بالعلاقة مع أزمة اقتصاد الدولار واحتداد المزاحمة بين الدول الامبريالية، و كذلك أزمة الطاقة العالمية ومفعولها الرافع لقيمة النفط ، قد أنهيا العصر الذي ما كانت الدول النفطية فيه سوى شبه مستعمرات طيّعة تماماً . فقد اكتسبت هذه الدول مذاك موقع قوة، مع وعي هذه القوة الذي يدفعها إلى إعادة النظر في شروط تبعيتها الاقتصادية إزاء الامبريالية ، إلى تعديل هذه الشروط في إتجاه أكثر ملاءمة لمصالحها الخاصة التي تعلّمت هذه الدول هذه الدول تمييزها عن مصالح الشركات الامبريالية. وكانت الجزائر ثم ليبيا قد دشنتا هذه السياسة الجديدة، مستفيدين من الموقع المتميز لنفط حوض البحرالمتوسط الذي لم يتأثر بإغلاق قناة السويس منذ عام 1967 ( وقد نتجت عنه تكاليف نقل إضافية لنفط الخليج) ؛ ثم تبعتهما دول الخليج النفطية، وأيضاً المجموعة العالمية لمصدري النفط التي فرضت على شركات الكارتيل إعادة النظر في كيفيات تقاسم الأرباح النفطية ، و فرضت عليها أيضاً مشاركة تدريجية للدول المنتجة في رأسمال الشركات صاحبة الامتيازات. إن "حرب النفط" المدشنة في أكتوبر1973 – بالتوازي مع الحملة العسكرية العربية – تمثل خطوة هامة على هذا السبيل ؛ وبهذا المعنى ، فإنها تمثل استمراراً لسياسة دشنت منذ عام 1970 ، بدل أن تشكل انقطاعاً.

لم يكن النزاع العربي الاسرائيلي بالنسبة للدول النفطية العربية سوى فرصة جيدة لتفرض مجدداً إعادة نظر في الاتفاقات التي تربطها بالشركات الامبريالية ، وفي شروط مبادلاتها مع الغرب ؛ وكانت هذه الدول تحقق هدفين في اَن واحد : عملية ماليةممتازة وعملاً سياسياً مأثوراً. فقد هدفت سياسياً إلى حث الامبريالية الاميركية على الضغط على إسرائيل وعلى البدء بتطبيق "الحل السلمي"؛ وكانت العربية "السعودية" قد بدأت بالعمل في هذا الاتجاه منذ بضعة اشهر مطالبة الشركات الاميركية التي تستغل نفطها بدعم مساعيها لدى واشنطن.

وتشكل "حرب النفط"من وجهة النظر هذه "ضغطاً " ذا حدين : فبرفعها اسعار النفط العربي، افادت الامبريالية الاميركية من حيث الاساس بانهاك منافسيها الامبرياليين وبتحسين قدرة انتاجها النفطي الخاص على المزاحمة؛ غير ان حظر النفط قد اطلق حركة في رفع اسعار النفط تخطت الحسابات الاميركية . لذا لم تحتج واشنطن الا بعد حين، بعد أن استفادت ولوهلة أولى وبصورة فادحة من نتائج ارتفاع الاسعار؛ و كذلك كانت الشركات، وهي ترى سلطتها تعارض بشدة ، تحقق في الوقت نفسه ارباحاً فائضة هائلة . غير أنه سوف يتضح مرة أخرى أن الامبريالية ليست سوى مطلق الجنّ: فقد اثارت "حرب النفط" هبة تضخمية عالمية جديدة سوف تزيد لا محال من حدة أزمة النظام الامبريالي بمجمله؛ وعلاوة على ذلك، فإن البلدان المتخلفة المنتجة لمواد أولية حيوية للصناعة الغربية سوف تميل بعد الآن إلى طلب اعلى الاسعار لتصديراتها. وسوف تميل في الوقت نفسه إلى تأمين سيطرتها على إستخراج مواردها، وبالتالي تميل الاستغناء في هذا المجال عن الشركات الامبريالية. أما الدول العربية فإنها منذ الآن –وهو ذا الهدف المالي من حربها النفطية- لم تعوض خسائرها الناتجة عن سقوط قيمة موجوداتها المحررة بالنقود الامبريالية المتدهوره فحسب ، بل حققت أيضاً أرباحاَ اضافية بالغة وذلك نتيجة ارتفاع في الاسعار النفطية تخطى كل الحسابات الامبريالية.

إن هذا التحول العام للعلاقات بين البلدان الامبريالية و البلدان المتأخرة المنتجة لمواد أولية لجلي تماماً : غير أنه يجب أن نحذر من التوصل عن طريق الاستقراء إلى استنتاجات متسرعة يمكن أن تجرّ اخطاء سياسية خطيرة.
بل يجب التأكيد بعكس ذلك، على أنه، إذا صح أن ثمة تعديلاً لا ينكر في العلاقات بين الدول النفطية والدول الامبريالية، فهذا التعديل لا يبدّل البتة من طبيعة هذه العلاقات التي تبقى جوهرياً علاقات تبعية.
إن العربية "السعودية" وإمارات الخليج تحوز على موجودات نقدية ضخمة تراكمت عبر السنين، موجودات لا تستطيع هذه الدول توظيفها عندها، إما بسبب ضيق أراضيها (امارات الخليج) أو رغبة منها في عدم تغيير بناها الاجتماعية القديمة التي هي اساس استقرارها السياسي (العربية "السعودية"). وكانت هذه الموجودات حتى تاريخ قريب، مودوعة في المصارف الامبريالية تحت تصرف الرأسمال المالي الغربي. و الحال أن أزمة النظام النقدي الدولي وسقوط قيمة العملات الامبريالية الرئيسية قد كانت لهما وطأة ثقيلة على الودائع العربية، الامر الذي يفسر إرادة الدول المعنية في تحويل موجوداتها النقدية إلى ذهب وإيداعها في أموال غير منقولة ، بل أيضاً إرادتها في إيجاد اشكال توظيف أكثر إيرادية من الايداع الصرف؛ و تنبع عن هذه ضرورة بالنسبة اليها في الاشراف مباشرة على إستعمال رأسمالها المصرفي. وإن الاتجاه الحديث لتلك التوظيفات والايداعات لبليغ للغاية: فالعربية"السعودية" تحاول توظيف قسم من أموالها في الصناعة النفطية في الولايات المتحدة الاميركية- الامر الذي يلائم تماماً حاجات هذه الصناعة إلى التمويل؛ ومن جهة أخرى، فإن القروض التي يقدمها حكَام الخليج إلى البلدان المتخلفة العربية أو غيرها تخصص بصورة عامة لتمويل مشاريع يتم تحقيقها بالتعاون مع الامبريالية التي يتبعون لها، وترفق بشروط سياسية منسجمة تماماً مع ذلك. هكذا يتبين أن تبعية الدول العربية المعنية تجاه الامبريالية، بعيدة عن أن يكون زمانها قد ولّى، تتقوى بالاحرى : نشهد في الواقع إندماجاً متزايداَ لثروات هذه البلدان في الاقتصاد الامبريالي، اندماجاً يكاد يسمح باعتبار طبقاتها الحاكمة فروعاً للبرجوازية الامبريالية (الانكلو-ساكسونية)، وفروعاً متزايدة النشاط باستمرار.و هي ذا بالأصل رغبة هذه الطبقات التي ، عدا عن كونها لا تملك أي اَفاق اقتصادية مستقلة( حيث هي عاجزة عن انشاء اقتصاد صناعي يتناسب مع رساميلها)، تعلم تمام العلم أن لا خلاص سياسي لها بمعزل عن حماية الامبريالية. وإن ضغط شركاء الامبريالية الاميريكية النفطيين على واشنطن ضغط يندرج اصلاً بالعديد من جوانبه في اللعبة التقليدية للتكتلات الضاغطة داخل الولايات المتحدة الاميركية.(يقتصر تحليلنا على الملكيات و الامارات النفطية العربية).
لقد شكل منعطف أكتوبتر 1973بالنسبة للامبريالية الاميركية التكريس الأعلى لهجومها العام المضاد في الشرق العربي والذي بدأ في نهاية الستينات. وهي لم تْعد سيطرتها على منطقة سبق أن فقدتها فحسب ، بل انتزعت مواقع جديدة تشكل مصر اهمها بلا ريب. أما ثمن هذا الانتصار ، فلا يتوجب دفعة على الامبريالية الاميركية ، بل على قلعتها الصهيونية: فعلى هذه الاخيرة أن ترد الاراضي التي احتلتها عام 1967، بعد أن شكلت وسيلة مقايضة لصالح انتشار نفوذ الولايات المتحدة الاميركية السياسي-الاقتصادي. لقد دقت ساعة "الحل السلمي".
15- إن نفوذ الولايات المتحدة الاميركية على الدولة الصهيونية هو الذي دفع مصر إلى مد يدها لها. فبقي للولايات المتحدة أن تمارس هذا النفوذ وفقاً لرغبة الطبقات الحاكمةالعربية، لضمانة و تمتين تغلغلها في المنطقة و تعاون الطبقات المذكورة معها. وقد كانت العقبةالرئيسية على طريق "الحل السلمي" منذ العام 1967 الرفض الاسرائيلي للانسحاب من الاراضي العربية المحتلة خلال حرب حزيران. وكانت الطبقات الحاكمة العربية - وعلى رأسها البرجوازية المصرية- مستعدة لتقديم جميع التنازلات التي ينص عليها قرار الامم المتحدة رقم 242، بما فيها الاعتراف بواقع الدولة الصهيونية ، وضمانة أمن حدودها(و افامة مناطق مجردة من السلاح) و كذلك حرية ملاحتها في قناة السويس. اما الحكومة الصهيونية فكانت ، بالإضافة إلى تأكيدها على رغبتها الاحتفاظ بجزء هام من الآراضي المحتلة عام 1967، تطالب بمفاوضات مسبقة مباشرة مع الحكومات العربية كشرط اضافي لأي انسحاب. وقد انسجمت هذه الغطرسة حتى عام 1973 مع مجرى السياسة الاميركية الساعية إلى كسب أكبر المواقع في المنطقة بموقف هجومي حاد. لكن منذ ان نجحت العربية"السعودية" في اقناع مصر وإلى حد ما سوريا بالتعاون مع الامبريالية الاميركية ، بات متوجباً على هذه الاخيرة أن تلعب ورقتها الاقوى. وهكذا يرجح أن تكون الحكومات العربية قد خاضت حرب أكتوبر مع ضمانات أميركية؛ فاصبح أخيراً وبعد ذلك بامكان السلطة المصرية ، وقد تعززت بعملها الحربي المأثور و بالضمانات الاميركية، ان تقدم تنازلها الاخير: الجلوس على طاولة المفاوضات في وجه السلطة الصهيونية حتى قبل انسحاب هذه الاخيرة من سيناء. فكان مؤتمر جنيف.

انه من الواضح أن المجرى الجديد للسياسة الاميركية في الشرق الادنى لا يناسب المصالح المباشرة للدولة الصهيونية؛ فعدا الخسارة المادية التي يشكلها بالنسبة لها الانسحاب إلى حدود 4 حزيران 1967، يشكل هذا الانسحاب مصدر أزمة هامة للمؤسسة والايدولوجية الصهيونيتين. غير أن السلطة الصهيونية لاتستطيع في نهاية المطاف سوى الخضوع لمطالب الولايات المتحدة الاميركية، حيث أن هامش استقلاليتها بالنسبة إلى هذه الاخيرة قد ضاق بصورة هامة خلال الستينات. فهي تحاول بالتالي أن تحصل على أعلى ثمن مقابل طاعتها، الآمر الذي يجد انعكاسة في تدفق هام من الدولارات إلى صناديقها. ويجدر بهذا الصدد أن نؤكد على أن فائدة الدولة الصهيونية في نظر الامبريالية الاميركية هي أعلى منها في أي وقت مضى ، خلافاً لما قد يظنه بعظهم. فإن النصر الصهيوني في عام 1967 هو الذي أدى إلى ظفر الولايات المتحدة الاميركية الحالي في المنطقة العربية، والسلطة الاميركية واعية تماماً لهذا الأمر. ومن جهة أخرى ، فإن انفتاح مصر على الامبريالية الاميركية، بعيداً عن جعل إسرائيل في المرتبة الثانية، يزيد من أهميتها بوصفها كلب حراسة للمصالح الاميركية، حيث هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تحوز على تماسك اجتماعي-سياسي يميني، له من الاستقرار ما يكفي ليسمح لها بالقيام بدور قلعة عسكرية مضادة للثورة، مستعدة دوماً للتدخل حيث تقتضيه مصالح الامبريالية. ان دور العربية "السعودية" المضاد للثورة ، وخاصة دور ايران –التي ازدادت قوتها العسكرية بصورة هامة خلال السنوات الاخيرة- هما متممان لدور اسرائيل ؛ وليسا بمنافسين لدور هذه الاخيرة.

ان اطالة مدة المفاوضات في سبيل الانسحاب الاسرائيلي تفيد الامبريالية الاميركية التي تحاول تقوية مواقعها الجديدة ولاسيما جرّ سوريا نهائياً إلى معسكرها. لكن ثمة مشكلة أخرى مرتبطة بالانسحاب الاسرائيلي، هي ذاتها التي تسببت في ما يسمى بالنزاع العربي الاسرائيلي: المشكلة الفلسطينية. فلن يكون أي "حل سلمي" مرضياً في نظر الطبقات الحاكمة في المنطقة العربية و في نظر الامبريالية، إذا لم يتضمن شبه "حل" للمشكلة الفلسطينية. أن الرجعية العربية و الصهيونية و الامبريالية الاميركية تريد ضمان استقرار المنطقة التي أعيد تنظيمها حسب مصالحها؛ فلا غنى لها ، لاجل هذا، عن ازالة المحتوى الثوري للمسألة الفلسطينية التي تشكل ، منذ الثلاثينات، أحد المصادر الرئيسية للنشاط المعادي للامبريالية في المنطقة العربية. وتقدّم اليوم لهذه الغاية مشاريع عدة متنافسة بالارتباط مع "الحل السلمي" ؛ وأهم صيغتين هما مشروع الدولة الفلسطينيةو مشروع الدولة الاردنية-الفلسطينية . يكمن الاول في خلق دويلة تتألف من الضفة الغربية لنهر الاردن و قطاع غزة ، ويقضي الثاني باتحاد هذه الدولة مع الاردن. لكن مهما يكن الحل الذي يتم تبنيه ، فمن الجلي أن لا قيمة له دون موافقة ممثلين عن المقاومة الفلسطينية و دون مشاركتهم. وهذا الشرط هو الذي يعسّرتطبيق مشروع حسين ، مشروع المملكة المتحدة الاردنية-الفلسطينية، حيث يكون التعاون مجدداً مع الجزار الرئيسي للشعب الفلسطيني تعاوناً باهظ الكلفة بالنسبة لأي اتجاه في المقاومة الفلسطينية. وفي المقابل فإن احتمال انقلاب شبه تقدمي في الاردن- الذي ليس بمستحيل- قد يسمح بحل هذه المشكلة . أما اليوم وفي الظروف الحالية، فان قسماً مهيمناً من القادة الرسمية للمقاومة الفلسطينية- بما فيه مجمل القيادة التاريخية لفتح وكذلك قيادة الجبهة الديمقراطية التي انتقلت منذ عام 1969من "اقصى اليسار إلى اقصى اليمين"في المقاومة- يعلن تبنيه لمشروع الدولة الفلسطينية. و يمثل هذا الموقف المرحلة الاخيرة من الانحطاط الذي عرفته القيادة البيروقراطية لحركة المقاومة الفلسطينية التي تكشف هكذا عن نيتها في التخلي عن النضال الذي تغذت منه منذ تأسيسها، لكي تكسب مقام جهاز دولة والامتيازات التي تنبع عنه، لا سيما و ان الدويلة سوف تفيض بالمعونات التي يقدمها اليها حكام دول النفط العربية . ان نمط الانحطاط هذا- الذي هو عين النمط التقليدي- كان مرسوماً في طبيعة هذه القيادة بالذات كما وصفناها اعلاه.
ان الثوريين يرفضون الاختيار بين مختلف مشاريع "حل" المشكلة الفلسطينية، المطروحة اليوم على بساط البحث؛ وهم يعتبرون ان هذه المشاريع ماهي إلا صيغ تهدف بالسواء إلى تصفية القضية الفلسطينية، وفي الدرجة الاولى تصفية نضال الشعب الفلسطيني في سبيل تحرير وطنه. وعدا الاضلولة التي تكمن في تصوير دويلة فلسطينية محتملة على أنها تعبير عن تقرير الشعب الفلسطيني لمصيره، يجب التشديد على أن جميع الصيغ المقترحة تندرج في إطار قرار الامم المتحدة، أي أنها مرتبطة لا بتنازلات استسلامية عامة فحسب، بل ايضاً – و بالتحديد – بالايقاف التام للنضال المسلح الفلسطيني، هذا الايقاف الذي لن يكون بدونه أي معنى لضمان أمن الحدود الاسرائيلية. والحال ، حيث يشكل النضال المسلح للشعب الفلسطيني التعبير الاساسي عن نضاله في سبيل تقرير مصيره ، فانه يصبح جلياً ان الصيغ التصفوية المطروحة تؤدي جميعها في التحليل الاخير إلى تكريس الاغتصاب التاريخي لحقوق الشعب الفلسطيني. وفي إطار مطالبتهم الانتقالية بالانسحاب الكلي وغير المشروط للجيش الصهيوني من الاراضي المحتلة عام 1967، يطرح الثوريون مشكلة سلطة "فلسطينية" أو "أردنية-فلسطينية"- كسلطة قومية ثورية ، عمالية و فلاحية – بالارتباط مع النضال الثوري ضد الصهيونية والامبريالية و الطبقات الحاكمة العربية، في سبيل تدمير الدولة الصهيونية؛ و يدافعون دفاعاً غير مشروط عن حق الشعب الفلسطيني –شأنه شأن أي شعب مضطهد- في النضال المسلح ضد مضطهديه، ويعتبرون أن هذا النضال ليس حقاً للثوريون الفلسطينين فحسب ، بل واجباً عليهم.

16- ان رفض شتى الصيغ التصفوية من وجهة نظر معادية جذرياً للصهيونية وللامبريالية هو اليوم مشترك بين تيارات واسعة ضمن قاعدة حركة المقاومة الفلسطينية و بين مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني، بما فيهابالدرجة الاولى سكان مخيمات اللاجئين . أما أضعف موقع للإتجاهات الرافضة الثورية، فهو بين سكان الضفة الغربية لنهر الاردن، وذلك بسبب تضافر تأثير القمع الصهيوني و التضليل الستاليني-القومي و الوضع الخاص لهؤلاء السكان الذين يرون في مشروع الدولة الصهيونية و مرادفه الهاشمي (الذي عرفوه قبل عام 1967)، والذين يجد جزء منهم مصلحة مباشرة في تحرير مجمل الأرض الفلسطينية هي أقل من مصلحة سائر تجمعات الشعب الفلسطيني.
وفي المقابل، يشكل اخصام التوفيقية الانتهازية تياراً جماهيرياً واسعاً داخل مخيمات اللاجئين – أهم ساحات المقومة الفلسطينية. ويتألف هذا التيار اساسياً من اتجاهات قاعدية وكوادر وسطية في المقاومة؛ إذا كان بعض الاطراف القيادية تشترك في الاتجاهات المضادة للتصفوية، فإن غالبية قادة المقاومة الفلسطينية الرسميين مستعدة بدرجات مختلفة للاسهام في التسوية الجارية . ويجب تبديد الاوهام حول القيادات التي تنظم إلى التيار الرافض لأسباب انتهازية تتعلق بالسيطرة على قاعدة منظماتها، وبالارتباط مع الانظمة التي تقوم بمزايدة قومية ديماغوجية رخيصة مثل النظام البعثي العراقي. فلن تتردد هذه القيادات في قلب موقفها عندما تجد مصلحتها في ذلك ، و هي تشوه التيار الرافض بمجمله.

بيد ان الضعف الرئيسي يكمن في عدم تنظيمه و هشاشته السياسية. فالثوريون المعادون للامبريالية في صفوف المقاومة الفلسطينية يفتقدون كلياً للمركزة، في وجه قيادات رسمية يمينية تحوز على جهز شديد التمركز؛ ويوجد بالكاد تنسيق بين بعض الاتجاهات الثورية. و من جهة أخرى، فان رفضهم للمشاريع التصفوية هو استمرار للعفوية القصوية الاصلية التي تميزت بها المقاومة، بدل أن يتخطاها. وعلاوة على ذلك، فان الاجراءات القمعية التي تقوم بها القيادة الرسمية للحركة بالتعاون مع الانظمة العربية ليست بدون تأثير على قسم من الرافضين يحاول تبرير صمته و تخاذله بحجج قومية ، متذرعاً برغبته في الحفاظ على "الوحدة الوطنية" للمقاومة الفلسطينية.
كل هذا يلقي ضوءاً على ضرورة وإلحاح بناء قيادة ثورية على الصعيدين الفلسطيني والعربي على حد سواء. وبالفعل، فإن الشروط الموضوعية الملائمة لتحقيق مثل هذه المهمة لا توجد بين جماهير اللاجئين الفلسطينيين فحسب، بل و في المنطقة العربية بأسرها. فإن مفعول الحملة التضليلية التي تنظمها الأنظمة العربية منذ اكتوبر 1973 يتلاشى بسرعة؛ وتعي الجماهير الشعبية العربية بصورة متزايدة أن التسوية الجارية ما هي إلا استسلام الحكومات العربية في وجه الصهيونية؛ ولا يمكنها إلا أن تلاحظ العودة الظافرة للامبريالية الأميركية – عدو شعوب العالم رقم واحد- إلى المنطقة العربية. و من جهة أخرى ، فإن التغييرات الليبرالية في اقتصاد مصر و سوريا، و هما حصنان رئيسيان لشعور الجماهير العربية المعادي للامبريالية، بالأضافة إلى الاندماج المتزايد للمنطقة العربية في السوق الامبريالي العالمي و تدفق الراساميل الذي تشهده بالعلاقة مع "حرب النفط"، جميع هذه العوامل تحفز التضخم النقدي في البلدان العربية و تزيد فيها التوتر الاجتماعي من جراء ارتفاع الأسعار الذي ينجم عن التضخم.

إن الأزمة الاجتماعية داخل دولة إسرائيل بالذات لا تني تتعمق، يحددها عاملان اثنان هما أزمة الاقتصاد الاسرائيلي التضخمية والأزمة السياسية-الايدولوجية الصهيونية التي تلقت غطرستها صفعة قوية. و قد أدت هذه الأزمة في البدء إلى تقاطب سياسي بين اليمين المتطرف و "المعتدلين"؛ و تترافق أكثر فأكثر بصعود للنضالات الاجتماعية يقوي المعارضة للحكومة. و بقدر ما سوف تتزايد هذه النضالات الاجتماعية وتكسب دينامية سياسية مضادة للحكومة ومضادة موضوعياً للرأسمالية، سوف تجد السلطة الصهيونية نفسها مضطرة لقمعها بعنف، كاشفة بهذا عن طبيعتها الحقيقية أمام أعين الجماهير اليهودية ذاتها. وبالأصل، فإن التنازلات الصهيونية للدول العربية التي فرضتها واشنطن تثبت بوضوح أن الدولة الصهيونية هي قبل كل شئ قلعة عسكرية للامبريالية الاميركية تخدم مصالح هذه الاخيرة بثمن اّلاف الضحايا العربية واليهودية. و بهذا، يحوز الثوريون المعادون للصهيونية داخل إسرائيل على فرصة سانحة أكثر من أي وقت مضى ليفسروا للجماهير ان أمن الدولة الصهيونية، بدل أن يطابق أمن سكانها، هو بالمقابل مبني على الانعدام الدائم لأمنهم وعلى التضحية بالشغيلة اليهود. إن مصلحة هؤلاء الاخيرين الحقيقية هي في الانظمام إلى النضال المضاد للرأسمالية و للامبريالية (والمضاد بالتالي للصهيونية) الذي تخوضة الجماهير الكادحة العربية؛ فلا يمكن أن يوجد وعي طبقي سياسي للشغيلة اليهود سوى مضاد مباشرة للصهيونية.

تقف اليوم الحركةالطلابية في مقدمة النضالات في عموم المنطقة العربية، كما حصل في أمكنة أخرى من العالم. فمن المغرب إلى الخليج العربي-الايراني، مروراً بمصر و سوريا ولبنان ، تعيش شبيبة القطاع التعليمي في خضم اختمار سياسي وهي تجابه قمع الانظمة القائمة. أما الجماهير الكادحة فلم تخض بعد ، فيما يخصها، نضالات شاملة، عدا بعض النضالات القطاعية و الجزئية؛ و لن تتأخر حتى تنطلق في تحركها كما يشير إليه منذ الاّن تزايد النضالات القومية والاجتماعية في لبنان، أكثر البلدان العربية تأثراً بأزمة النضام الرأسمالي العالمي.
إن الثورة العربية تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى قيادة بمستوى مهامها. وإن قيادة بروليتارية فقط تستطيع توفير هذا الشرط ؛ وبناؤها هو، بالنسبة للثوريين في المنطقة العربية ، الهدف الرئيسي. إن هذا البناء يتطلب، كتمهيد له، تقييماً شاملاً للتيارات السياسية المعادية للامبريالية في المنطقةالعربية.

رابعا: بناء القيادة الثورية العربية

17- لم ينجح التيار القومي العربي، باتجاهاته البرجوازية و البرجوازية الصغيرة، في تزويد الثورة العربية بقيادة صلبة و ثابتة تاريخياً. فلم يكن المجد الشخصي العظيم الذي حاز عليه عبد الناصر بكافٍ وحده لقيادة جماهير الأمة العربية؛ وبالأصل فقد تعرض هذا المجد لمنازعة شديدة منذ أن بلغ ذروته في عام 1958، و ظهر له منافسون على الارض القومية ذاتها . إن حركة القوميين العرب ، التي كانت المنظمة الناصرية الولاء الوحيدة على الصعيد العربي، قد عرفت مصيراً بليغاً بما يكفي: فتجذر الحركة في الستينات ، تحت الانعطاف اليساري للنظام الناصري في مصر ، أدى بعد حرب 1967 إلى أن جزءاً، يمثل أغلبية هذه الحركة المعادية للماركسية في أصلها، تخلى عن ولائه الناصري ليتطور نحو الماركسية. وإذا كان للناصرية نبيها، فلم تترك قراّناً (ايدولوجية منسجمة) ولم تستطع إيجاد خلافة لها، كمايشير إليه تطور مصر بعد موت عبد الناصر في عام 1970.
ان الحركة البعثية رغم إنبثاقها عن حزب بعكس الناصرية المنبثقة عن نظام قد ابدت انسجاماً اقل حتى من انسجام الحركة الناصرية. فقد اتاحت لحزب البعث ايديولوجيته القومية المعادية للامبريالية واشتراكيته الضبابية اجتذاب انصار من شرائح اجتماعية شتى، خاصة وأن الحركة الستالينية العربية قد هجرت ارض النضالات القومية. و ما دام البعث حزب معارضة ، استطاع الحفاظ على وحدته؛ لكن عندما جابه المشكلات الملموسة للسلطة، تحتم أن تؤدي هجونة تركيبة الاجتماعي إلى انشقاقات. واهم هذه الانشقاقات ، ذلك الذي تواجه فيه منذ 1963 الجناح التقليدي في الحزب المجتمِع حول مؤسسي البعث و قادته التاريخيين، و اتجاه شاب ومتجذر تأثر بانعطاف النظام الناصري لليسار. وكان الاتجاه الاول مستمراً على درب البعث في اولى سنوات مشاركته في السلطة في سوريا: ولما كان اتجاهاً يمينياً في خدمة البرجوازية، عارض كل اجراء معادٍ للبرجوازية بأسم أولوية القومية على الاشتراكية، غير أنه هادن ايضاً الامبريالية كما يتبين من علاقته مع شركة نفط العراق سنة 1963 . وقد تميز هذه الاتجاه على الأخص بمعاداة للشيوعية: فقد اشترك في قمع الشيوعيين في سوريا إبان الوحدة السورية-المصرية التي قامت 1958، و خاض حملة ابادة الشيوعيين في العراق (1963) ، و نظم في هذا البلد عينه انقلاباً رجعياً في عام 1968 اخذ على عاتقه تصفية الشيوعيين من جديد ولا سيما الجناح اليساري للحزب الشيوعي العراقي الذي اجتذبه الكفاح المسلح. و بعد أن فقدت اعتبارها نتيجة موقفها في الدعم نتيجة موقفها في الدعم الموضوعي لحسين خلال مذابح ايلول 1970 في الاردن، حاولت السلطة البعثية العراقية ترميم واجهتها القومية بتأميم (مع تعويض) لجزء من امتيازات شركة نفط العراق في حزيران 1972، وهو اجراء لم يضايق الامبريالية بشئ حيث قابلته زيادة الانتاج النفطي في الامتيازات الباقية (شركة نفط البصرة) التي هي اكثر إيرادية بالاصل.
مذُاك إستفاد النظام العراقي من "حرب النفط" التي دشنتها الدول العربية في أكتوبر 1970 ليمدّ التأميم إلى كل انتاج العراق النفطي لكن ليترك حصة الامبريالية الفرنسية دون مساس. ويكشف إتجاه هذه التأميمات طبيعة الدكتاتورية البعثية ممثلة مصالح البرجوازية العراقية: فهي تسعى إلى زيادة ارباحها الخاصة اقصى مايمكن بالاستفادة من تبدل ميزان القوىبين منتجي النفط والامبريالية العالمية؛ وهي تسعى بالاضافة إلى ذلك تنمية علاقاتها الاقتصادية مع الامبرياليات الاوروبية (لاسيما الفرنسية) و اليابانية حيث هي على خلاف مع الامبريالية الاميركية لأسباب تاريخية (فقد اقصي عن السلطة في 3 تموز 1968 الجناح المؤيد للأميركيين من بين إنقلابيي 17 تموز).
وعلى الجبهة الكردية، كانت السلطة قد عقدت هدنة في عام 1970 مع القيادة البرجوازية-شبه الاقطاعية للحركة الكردية؛ و تمكنت بذلك أن تصبح طليقة اليدين في وجه الحركة العمالية. اما اليوم، فقد ادركت فترة الهدنة نهايتها وعلى السلطة أن تمنح الأكراد الحكم الذاتي الذي وعدتهم به .
والحال انه من الجلي ان ديكتاتورية البعث القومية البرجوازية لا تستطيع حل المسألة الكردية حلاً ديمقراطياً؛ فالحرب هي بالتالي حتمية مهما تأجلت.
اما الاتجاه الآخر من حزب البعث فقد جمع شرائح برجوازية صغيرة شتى وحتى قسماً بروليتارياً ، وبعد أن استأثر بالسلطة في سوريا- اثر ازاحة الاتجاه القومي اليميني من البعث في عام 1966- اتخذ سلسلة من اجراءات جذرية ضد البرجوازية الكبيرة السورية ودشن سياسة هجومية معادية للامبريالية . لكن خلافات ذات طبيعة اجتماعية ظهرت ضمن هذا الاتجاه ذاته ، وقد تم حل فرق الميليشيا العمالية بالرغم من تأييدها للنظام ، وانتهى الامر بأن سقط بدوره الفريق البرجوازي الصغير اليساري عام 1970 على يد اليمين المستند إلى جهاز الدولة و الذي شرع في اعادة المصالح البرجوازية إلى نصابها. ان فشل الاتجاه اليساري من حزب اليعث يثبت بوضوح ان ديكتاتورية البروليتاريا وحدها تستطيع ، بتحطيمها الدولة البرجوازية ، أن تشرع في بناء مجتمع متحرر من البرجوازية والامبريالية بصورة نهائية لا عودة عنها ؛ و كانت هزيمة هذا الاتجاه في حزيران 1967 قد سبق وبينت حدود معاداة للأمبريالية لاتستند إلى تعبيئة الجماهير الكادحة . وفي هذا اثبات جديد لتعاليم التروتسكية، تعاليم الثورة الدائمة.

18- إن الدور القيادي الذي لعبته فرق برجوازية و برجوازية صغيرة في النضالات القومية المناهضة للامبريالية التي خاضتها الجماهير العربية، و تجذر أجنحة كاملة من الحركة القومية و تطورها نحو تبني "ماركسية" مبهمة دون أن تتخطى الاطار القومي ، جميعها ظاهرات يمكن فهمها تماماً لو لم يكن ثمة احزاب عمالية شيوعية. والحال أن الاحزاب الشيوعية هي بين أقدم المنظمات السياسية في المنطقة العربية، أقدم بكثير من البعث و الناصرية. إن هذه المفارقة تجد تفسيرها في التقصير التام لهذه الاحزاب في مجال النضالات القومية.
إن الاحزاب الشيوعية العربية ، وقد تشكلت في صميم المرحلة الستالينية ، كانت دوماً خاصعة خضوعاً تاماً لدبلوماسية الكرملين: ودفعت ثمناً باهضاً لقاء هذه التبعية التي كلفتها احياناً انفصال جماعات واسعة عنها و مراحل من الانعزال السياسي التام .

هكذا، فمنذ منعطف الكومنترن عام 1935 ، و خلال الحرب العالمية الثانية بالاخص، اقترنت سياسة التحالف مع "الديمقراطيات" الغربية التي اتبعتها بيروقراطية الاتحاد السوفييتي ، اقترنت في المنطقة العربية بتخلي الشيوعيون عن النضالات في سبيل الاستقلال، الموجهة ضد حلفاء الكرملين الامبرياليين . و في عام 1948 ، قامت الاحزاب الشيوعية، على إثرموقف موسكو ، باعادة نظر مأساوية في موقفها المعادي للصهيونية، ووافقت جميعها على خلق دولة اسرائيل، مدينة رد الفعل العربي الذي نشأ عنه. وقد الغى هذا الموقف كل المجد الذي أضفاه على الحركة الشيوعية العربية انتصار الاتحاد السوفييتي على النازية. و لتبرير موقفهم ، طوّر المنظرون الستالينيون العرب جملة اطروحات بالغة العصبوية حول المسألة القومية طبعت الاحزاب الشيوعية بقوة. و بلغت هذه العصبوية ابعاداً رجعية بوضوح فيما يخص الفروع المغربية للحزب الشيوعي الفرنسي، التي أدانت مراراً حركات التحرر القومي في منطقتها كما فعل الحزب الشيوعي الجزائري ازاء النضال المسلح في سبيل الاستقلال عام 1954 .
إن عدم الفهم العصبوي للمسألة القومية قد جعل الاحزاب الشيوعية العربية، وخاصة الحزب الشيوعي السوري، تعارض عزلاء وحدة عام 1958 السورية-المصرية الموجهة جزئياً ضدها. وبدل متابعة نضاله الديمقراطي في اطار الوحدة، عارض الحزب الشيوعي السوري الوحدة بحد ذاتها، الامر الذي عزله كلياً عن الجماهير السورية ويسّر القمع الذي انهال عليه. كذلك، فإن الحزب الشيوعي العراقي بمعارضته للوحدة لأجل تأييد الفريق قاسم خسر الكثير من نفوذه لصالح القوميين. في كل هذه المواقف كانت الحركة الستالينية العربية تقف عند الطرف النقيض للحركة القومية، مشهرة بالاماني القومية للجماهير العربية باسم موقف طبقي مزعوم كان في الواقع يتجاهل كلياً الطاقة الثورية لمشكلة الوحدةالعربية.وفضلاً عن ذلك، لم يبرهن الستالينيون يوماً عن موقف طبقي في وجه الانظمة البرجوازية العربية، محددين مواقفهم ليس تبعاً للطبيعة الطبقية للانظمة بل على ضوء علاقات كل منها بالاتحاد السوفييتي.
إن مثل العراق هو الاغنى بالدروس في هذا الصدد: فقد جنّد الحزب الشيوعي العراقي انصاره دعماً لنظام قاسم البونبارتي البرجوازي الناتج عن انقلاب 1958 . وبدل توجيه جماهير الشغيلة نحو الاستيلاء على السلطة ابان الوضع الثوري الذي شهده العراق عام 1959 ، بذل الحزب الشيوعي كل جهده لتحويل التعبيئة الشعبية نحو دعم البونابرت. و فضلاً عن بداية قمع الشيوعيين في ايام قاسم ، و جدت هذه التعبئة مكافأة لها في انقلاب عام 1963 الرجعي الذي ذهب ضحيته اَلاف الشيوعيين قبل المأساة الاندونيسية بسنتين. و في عام 1964، قام ستالينيو مصر ، متجاهلين هذا الدرس الجليّ ، بحل تنظيمهم لينخرطوا في الاتحاد الاشتراكي العربي ، الستار السياسي لدكتاتورية عبدالناصر البونابرتية. وفي عام 1969 ، اعلن الشيوعيون السودانيون تأييدهم لانقلاب النميري الذي ما كان منه الا أن اغتال قادتهم الرئيسيين بعد ذلك بسنتين. هكذا، خطّت الاحزاب الشيوعية العربيةمراراً ، خلال الخمسة عشر سنة الاخيرة ، خطّت بدماء شهدائها تعاليم الماركسية الثورية حول ضرورة الحذر الطبقي تجاه كل سلطة برجوازية، والحفاظ على استقلالية البروليتاريا، و تسليحها. إن الطليعة البروليتارية العربية سوف تستوعب هذه التعاليم، أما الاحزاب الستالينية فلن تستوعبها أبداً! فهي، اليوم تشترك في حكومة الردة البرجوازية في سوريا وأيضاً في حكومة الديكتاتورية البعثية في العراق؛ ويستعد الستالينيون في الجزائر لحل تنظيمهم في جبهة التحرير الوطني ، حزب ديكتاتورية بومدين البيروقراطية البرجوازية .
إن حاصل الحركة الستالينية العربية هوالافلاس التام؛ فمنذ عام 1967 عرفت اربعة من أهم الاحزاب الشيوعية العربية انشقاقات: حزب العراق، و السودان، و الاردن، و سوريا. إن ازمة الستالينية العربية تلك هي جزء لا يتجزأ من ازمة الستالينية العالمية. ولن يكون من شأن فشل سياسة الاتحاد السوفياتي العربية- الذي يظهر في انحطاط علاقاته مع الحكم المصري ، حليفة المّميز السابق – سوى مفاقمة هذه الازمة.

19- لقد حفزت هزيمة يونيو/ حزيران 1967 ، بصورة هامة، التجذر الذي جرى في المنطقة العربية خلال الستينات . و تحت تأثير هزيمة الجيوش العربية، تطورت نحو الاطروحات الماركسية الثورية قطاعات واسعة من الشبيبة –ولاسيما ضمن القاعدة البرجوازية الصغيرة للحركة القومية-، بعد أن سقطت أوهامها فيما يخص الانظمة العربية المسماة "التقدمية". فمن جهة ، كانت المعاداة البرجوازية و البرجوازية الصغيرة قد فشلتا فشلاً ذريعاً؛ و من جهة اخرى ، دلّت الثورة الفيتنامية على أن الطريق البروليتاري وحده قادر على مكافحة الامبريالية بصورة فعّالة. وبوحي من هذه الامثلة، تشكلت داخل فروع حركة القوميين العرب الفلسطيني واللبناني و اليمني الجنوبي واليمني الشمالي اتجاهات تنسب نفسها إلى الماركسية –اللينينية ، ما لبثت أن انفصلت عن الاتجاهات اليمينية. غير أن "تمركس" هذه الاتجاهات بات مدموغاً دمغاً قوياً بطابعه العفوي: وفي رفضها للحركة الستالينية ، لم تستطع هذه الاتجاهات صياغة استراتيجية ثورية منسجمة معارضة للستالينية ، وبنت شعاراتها العامة على انتقائية نظرية سطحية . و كان للمنظمات البرجوازية الصغيرة المتجذرة التي نشأت على هذا الاساس ، سلوك سياسي من الطراز الوسطي، تتأرجح حسب الظروف بين اصلاحية قريبة من الستالينية و مواقف يسارية متطرفة. و فضلاً عن ذلك ، تخلت هذه المنظمات تحت تأثير النموذج الستاليني، عن التصور القاضي بوجود حزب على الصعيد العربي، وهو التصور الذي طبقته الحركة التي انبثقت عنها هذه المنظمات ، لتكتفي بمجرد التضامن بين تجمعات قطرية مستقلة عن بعضها.

وما دامت المقاومة الفلسطينية في مرحلة صعودها، وقفت تجمعات الشرق الادنى بصورة عامة على خط ثوري، لكنها انحطت مع سقوط المقاومة عام 1970 لتستقر على مواقف انتهازية يمينية. اما فيما يخص الفرع اليمني الجنوبي لحركة القوميين العرب ، الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن، فقد نفذ جناحة اليساري – الذي استولى على السلطة منذ عام 1969 إثر ازلحة الجناح اليميني- سلسلة اجراءات جذرية معادية للامبريالية وللبرجوازية اطلقت سيرورة ثورة دائمة، لكن هذه القيادة قد بدأت مؤخراً انعطافاً يمينياً تحت ضغط الامبريالية وبيروقراطية موسكو وبكين بقبولها اتفاق الوحدة الدمجية مع اليمن الشمالية ذات النظام الرجعي شبه الاقطاعي والخاضع للامبريالية. ولقد بقي هذا الاتفاق مذّاك دون تنفيذ ؛ بيد أن الركود السياسي لنظام جنوب اليمن يسمح بتوقع تثبيت انعطافه السياسي اليميني الذي لم يتجلّ على كلٍ حتى الآن على الصعيد الاجتماعي-الاقتصادي. ان الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي تخوض منذ بضع سنوات نضالاً بطولياَ ضد سلطنة عمان الدمية و ضد الامبريالية البريطانية، ولكنها لم تنجح بعد في مد حرب العصابات إلى مناطق اخرى من الخليج. وانه لجلي بالاصل أن كل نضال ينحصر الخليج العربي لايمكنه ان يأمل في تحريره بقواه الذاتية، حيث أن كافة سكان الخليج (وعددهم محصور جداً) لايكفون وحدهم لطرد الامبريالية من تلك المنطقة من العالم التي تجني منها اكبر ارباحها. انها مهمة سوف يكون على الثورة العربية الشاملة أن تحققها.

وبين الطلائع الجديدة التي ظهرت في المنطقة العربية يجدر ذكر "القيادة المركزية" للحزب الشيوعي العراقي والمنظمة الاشتراكية الاسرائيلة (متسبن). فغداة انشقاق الحزب الشيوعي العراقي ، جذب جناحة اليساري من قبل التجربة البؤروية الجارية في جنوب العراق؛ لكن القمع الوحشي الذي انهال عليه اثر الانقلاب البعثي في تموز 1968 قد فككه كلياً. ومذّاك انزلقت التجمعات الناطقة باسم "القيادة المركزية" خارج العراق إلى مواقف من الطراز الماوي المتطرف تجاه الاتحاد السوفياتي، مع احتفاظها بالاستراتيجية الستالينية للثورة علىمراحل.

أما المنظمة الاشتراكية (متسبن) . فكانت عبر الستينات تجمعاً شبه جبهوي لاتجاهات ثورية معادية للصهيونية رفضت تكيف الحزب الشيوعي الاسرائيلي مع الصهيونية الذي يميّز بدرجات مختلفة جناحية(ماكي و راكاح). وبدفع من بعض اعضائها ، المنتمين إلى الاممية الرابعة والحاملين إرث التجمع التروتسكيالذي تكوّن في فلسطين في الثلاثينات و تفكك بعد عام 1948، تبنت ماتسبن سلسلة مواقف ثورية متقدمة. وبعد حزيران 1967، عرفت المنظمة مصير مجمل اليسار العربي والعالمي بزيادة عدد اعضائها وثقلها السياسي بصورة ملحوظة ؛ غير أن الجزر النسبي للحركة الثورية العربية بعد عام 1970 انعكس عليها . فأدت سلسلة انشقاقات إلى انفجار التجمع الاصلي إلى اتجاهاته المختلفة : اتجاهات عفوية شتى، واتجاه لامبرتي ، واتجاه تروتسكي. إن "منسبن –الماركسية" (تجمع نصير للاممية الرابعة) هي اليوم المنظمة الوحيدة التي تملك فهماً ديالكتيكياً للارتباط بين الثورة العربية و الصراعات الطبقيةداخل إسرائيل، مع القرينة اللينينة لهذا التصور : ضرورة خلق حزب بروليتاري على صعيد المنطقة العربية، هي مهمة يلتزم بها التروتسكيون في إسرائيل مع مجمل التروتسكيين العرب.
20-ان تجمعات و نوى تروتسكية –بعضها جنيني- هي اليوم في طور التكّون ، في عدة بلدان عربية. ويشكل هذا تقدماَ هاماً للاممية الرابعة في منطقة لم يكن لها فيها حتى الآن أي انغراس تقريباً. ان المناضلين التروتسكيين في المنطقة العربية – بما فيهم الذين يناضلون داخل اسرائيل- يعملون بهدف تأسيس الفرع العربي للاممية الرابعة.
ان نضالهم في بناء حزب شيوعي ثوري لعامة الامة العربية ينطلق من تحليلهم للمسألة القومية العربية وللتأثير المتبادل بين النضالات الثورية على صعيد عموم المنطقة العربية. ان تجاذب النضالات الثورية في كبريات المناطق الحضارية-الجغرافية في العالم، ظاهرة جلية جلاءً خاصاً في عصرنا : فالتطور الخارق لوسائل المواصلات والتبادل منذ الحرب العالمية الثانية، بالتوازي مع الاندماج الامبريالي المتنامي لاقتصاديات العالم اجمع ، قد بدّلا بصورة هامة شروط النضال بالنسبة إلى بداية هذا القرن. ويتجه هذا التطور باتجاه تقوية المركزية الأممية للنضالات الثورية –المفهوم اللينيني للأممية- وايضاً تنسيق النضالات على مستوى كبريات مناطق العالم (أوروبا الغربية، امريكا اللاتينية، شبه القارة الهندية ، جنوبي شرق اَسيا، الخ.) كما ظهرت تجارب منظمة التضامن الاميركية الللاتينية والجبهة الثورية الهند صينية. وبالاصل فان الامبريالية والبرجوازيات العالمية متقدمة على الثوريين في هذا المجال حيث لها هيئاتها للتنسيق الإقليمي العسكري أو السياسي او الاقتصادي حسب الحالات (السوق الاوروبية المشتركة، منظمة الجول الاميركية، منظمة حلف جنوبي شرق اَسيا، الخ).

وفي المنطقة العربية ، يخلق العامل القومي –وخاصة اللغة- ارتباطاً متبادلاً وثيقاً بين البلدان العربية تجلى منذ منتصف هذا القرن بخلق الجامعة العربية، و يتجلى بمؤتمرات القمة التي يعقدها رؤساء الدول العربية ، كما يتجلى بمختلف هيئات التنسيق العربي في شتى المجالات ، هذا اذا استثنينا محاولات الوحدة العربية . ولايمكن لهذا الارتباط المتبادل سوى ان ينعكس على صعيد النضالات الثورية التي تجابه منذ الآن ، و سوف تجابه اكثر فاكثر في المستقبل ، قمع الطبقات الحاكمةالعربية المشترك. وبالاضافة إلى التأثير المتبادل الوثيق الفعلي في اوضاع البلدان العربية، فان المكانة المركزية لمهمة التوحيد القومي في برنامج الثورة العربية تجعل ان مجرد التنسيق بين النضالات الثورية لا يكفي على الصعيد العربي، بل يجب استكماله بوحدة البرنامج النابعة عن وحدة القضايا الاساسية، و بوحدة المواقف السياسية إزاء الاحداث الهامة و ايضاً بوحدة عمل حول مواضيع النضال المشتركة . ولقد سبق و فهمت المنظمات القومية البرجوازية الصغيرة ضرورة هذه الوحدة.

إن مركزة النضالات الثورية العربية حاجة ضرورية. ولا يستطيع تحقيق هذه المركزة على الصعيد العربي بصورة ثابتة سوى حزب بروليتاري، لكونه يمثل الطبقة الوحيدة ذات المصالح غير المتضاربة بين الطبقات الاجتماعية في البلدان العربية. و إن الحركة التروتسكية ، وارثة البرنامج البلشفي والممثل الوحيد للمصالح التاريخية لمجمل البروليتاريا العالمية، هي الوحيدة القادرةعلى تحقيق هذه المركزة البروليتارية للنضالات الثورية على الصعيد العربي . فإن العفويين و الوسطيين يعجزون عن ذلك حيث لايحوزون على برنامج متماسك ؛ والستالينيون يرفضون ذلك لكونهم خاضعين لمصالح برجوازيات بلدانهم ولعدم معارضتها.

إن المناضلين التروتسكيين في المنطقة العربية يأخذون على عاتقهم بناء الحزب الشيوعي الثوري القائد للبروليتاريا العربية و الوحيد القادر على ترؤس الامة المضهدة والمجزأة نحو تحقيق المهام الاساسية للثورة العربية واندماجها بالثورة العالمية في اطار الاممية الرابعة.


المنظمات المنتسبة إلى الاممية الرابعة في المنطقة العربية

(تاريخ انجاز النسخة النهائية : مارس/اّذار 1974)



#الوثائق_التاريخية_للحركة_التروتسكية_فى_المنطقة_العربية (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 583
- تشيليك: إسرائيل كانت تستثمر في حزب العمال الكردستاني وتعوّل ...
- في الذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة التونسية: ما أشبه اليو ...
- التصريح الصحفي للجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد خل ...
- السلطات المحلية بأكادير تواصل تضييقها وحصارها على النهج الدي ...
- الصين.. تنفيذ حكم الإعدام بحق مسؤول رفيع سابق في الحزب الشيو ...
- بابا نويل الفقراء: مبادرة إنسانية في ضواحي بوينس آيرس
- محاولة لفرض التطبيع.. الأحزاب الشيوعية العربية تدين العدوان ...
- المحرر السياسي لطريق الشعب: توجهات مثيرة للقلق
- القتل الجماعي من أجل -حماية البيئة-: ما هي الفاشية البيئية؟ ...


المزيد.....

- الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل / آدم بوث
- الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها ... / غازي الصوراني
- الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟ / محمد حسام
- طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و ... / شادي الشماوي
- النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا ... / حسام عامر
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ... / أزيكي عمر
- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - الوثائق التاريخية للحركة التروتسكية فى المنطقة العربية - الثورة العربية طبيعتها، وضعها الراهن و ّافاقها - مارس/آذار 1974