|
والله لا يتكلم
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 3959 - 2013 / 1 / 1 - 23:22
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لأن الصوت (الكلام) فعل مادي لا يصدر إلا من كائن فاعل مادي، والله ليس كائن ولا فاعل ولا مادي. لو كان الله يتكلم، والكلام فعلاً مادياً محسوساً، لابد أن يكون الله موجوداً مادياً. لكن الله ليس له وجود مادي. لماذا ليس لله وجود مادي؟ لأن مستحيل أن يكون لله وجود مادي. لماذا مستحيل؟ ببساطة شديدة، لأن كل وجود (مخلوق/نتيجة) مادي لابد أن يكون له موجد (خالق/سبب) مادي أيضاً. عملية الخلق ذاتها عملية مادية بحتة؛ طالما كان المخلوق مادي لابد أن يكون الخالق مادي كذلك. لكن الله ليس مادة. ربما لم توجد أصلاً عملية خلق.
لو كان الله مادة، لابد حينئذ أن يكون موجوداً في محيط مادي. المادة لا توجد في عدم. إذا كانت الخليقة كلها صنعت من المادة، لابد أن يكون الخالق نفسه مادة، وعملية الخلق كلها مادية. لكن هذا التصور مستحيل، لأن السؤال سيظل دائماً بلا جواب: من أين جاء المحيط المادي الذي جلس فيه الله الخالق يشكل مادته؟ ربما يجب أحد: وما المانع أن يكون هذا المحيط المادي من خلق الخالق ذاته؟ ما الغريب في أن يبني النحات لنفسه بيتاً أولاً ثم يجلس في داخله يشتغل على نحت شخوصه؟ لكن يبقى السؤال كما هو: حتى لو كان صانع التماثيل هو من بنا بنفسه البيت المادي الذي يمارس فيه عملية الخلق، هل بيت النحات موجود في عدم، من عدم؟ من أين جاء العالم (الكون) كله الموجود به البيت وبداخله النحات يصنع شخوصه؟ حتى لو كان الله صنع الكون من خارج الكون، لا يزال لابد أن يكون موجوداً أثناء عملية الخلق في كون آخر أكبر من المصنوع، ولن ينحل السؤال: هل الكون الأكبر موجود في العدم، ومن أوجد محيطه المادي؟
الشخص النحات مادة، يصنع تماثيله من مادة مثله موجودة بالفعل، وسط محيط (كون) مادي موجود بالفعل أيضاً. لا خلق يجري في عدم، أو من عدم. العدم لا يخلق مادة. المادة لا تنعدم. الكون كله مادة. الله لا يمكن أن يكون مادة. الإدعاء أن الله هو خالق الكون، مع كون الكون مادة، يحتم أن يكون الله نفسه مادة أيضاً. وفوراً ينهض السؤال بلا جواب الأزلي: لو كان الله مادة، ما مصدرها، أو خالقها؟ الطريق هكذا مسدودة. ابحث عن تصور آخر.
ليس الله وحده الذي لا يتكلم. مصر أيضاً لا تتكلم، ويستحيل أن تتكلم. مندوب مصر هو الذي يتكلم نيابة عنها في كل مكان وزمان. لماذا لا تتكلم مصر؟ ببساطة شديدة، لأن الصوت (الكلام) فعل مادي لا يصدر إلا من كائن فاعل مادي، ومصر ليست كائن ولا فاعل ولا مادي. هل هذا معقول؟ وماذا عن هذا الكيان المسمى "مصر" المحدد المعالم على الخريطة ويملئ كتب التاريخ أحداثاً وأفعالاً وحضارة وضجيجاً منذ ألاف السنين ولا يزال إلى اليوم؟ ألم تسمع مؤخراً من كل الدنيا عن ثورة "مصر" بميدان التحرير؟ صحيح، لكن رغم ذلك لا يزال لم، ولا ولن، يوجد أبداً كيان مادي فاعل ومتكلم اسمه مصر. "مصر" هذه هي مجرد تصور، خيال، كيان اعتباري في أذهان وأفئدة أبنائها وبناتها على مر التاريخ. أما عن الأرض، والتاريخ، والحضارة، والثقافة، والأديان، واللغات...الخ وكل ما لحقت به الصفة "المصرية" العزيزة، كل هذا هو من خلق وصنع البشر أنفسهم، الذين منذ القدم اقتنصوا وحرسوا وصانوا لأنفسهم وأجيالهم المتعاقبة هذه القطعة الأرض بالذات من الكرة الأرضية، وخلقوا وطوروا بأنفسهم لأنفسهم وأجيالهم المتعقبة هذا التاريخ وهذه الحضارة والثقافة والأديان واللغات...الخ بالذات، ولا يزالون. لو كان لمصر أن توجد أبداً لا يمكن أن توجد إلا داخل أذهان وأفئدة أبنائها وبناتها؛ ولو كان لها أن تتكلم أبداً لا يمكن أن تتكلم إلا بلسان أبنائها وبناتها؛ ولو كان لها أن تنهض وتتقدم أبداً، لا يمكن أن تنهض وتتقدم إلا بسواعد أبنائها وبناتها. مصر غير موجودة فاعلة متكلمة ومستقلة بذاتها عن المصريين. مصر هي المصريين، ومن دون المصريين على امتداد تاريخهم لا شيء، أو مجرد امتداد جغرافي برسم واسم وشعب آخر، وتاريخ وحضارة وثقافة وأديان ولغات...الخ أخرى.
هي كيانات تصورية، اعتبارية، تعيش في أذهان وأفئدة البشر، من خلق البشر أنفسهم لكن ليس لها وجود مادي مستقل في الواقع، أي واقع على الإطلاق. هي كيانات أحادية الوجهة، مبعثها ومنشأها من الإنسان، من أمانيه وخياله وتصوره وعبقريته، دون إمكانية أن تعود إليه أو تتصل به أبداً. لم، ولا ولن، يحدث أبداً أن كلم الله إنساناً، أو أن كلمت مصر أي من المصريين عبر تواريخها الممتدة. دائماً الإنسان هو الذي يحلم ويتمنى ويتصور ويناجي ويتكلم من طرف واحد، ويتصور أن الآخر يجيبه ويكلمه. تاريخ مصر لم تكتبه مصر- كتبه المصريون أنفسهم. وكلام الله لم يكتبه الله، لأن الله لا يكتب، ولا يتكلم.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المعنى بين النص والواقع
-
لغة البهائم والبشر
-
لأن الله معهم
-
الشعب والنخبة والحاكم بين الديكتاتورية والديمقراطية
-
الإخوان لا يهزمون أبداً بالوسائل الديمقراطية
-
الدستور أو الشريعة
-
حتى لو خلعت ملابسها في ميدان عام
-
اصرفوا رئيس اليمين الباطل
-
رئيس في الهواء
-
عندما يعتلي الإله سدة الحكم
-
كذلك الكلاب تتزوج أفضل من البشر
-
في وحدانية وسماوية الجسد والمرأة
-
سيدنا الشيخ بديع مع سيدنا الولي مرسي
-
في فلسفة الدستور (عبثية المادة الثانية)
-
الدين والديمقراطية والديكتاتورية الإسلامية
-
في فلسفة الدستور
-
العلماء الكهنوت
-
وكذب القرآنيون-3
-
وكذب القرآنيون-2
-
وكذب القرآنيون
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|