|
حوار مع الاكاديمي الطاهر سعود
نورالدين علوش
الحوار المتمدن-العدد: 3959 - 2013 / 1 / 1 - 02:25
المحور:
مقابلات و حوارات
حوار خاص مع الأكاديمي الجزائري الدكتور الطاهر سعود(اجراه نورالدين علوش) مرحبا بكم على هذا الموقع: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخي نور الدين، شكرا جزيلا على الاستضافة في هذا الفضاء السبراني المميز، وأملي أن يكون هذا الحوار تدعيما لشبكة الأواصر الثقافية والفكرية بيننا كمغاربيين والتي أعتبرها لازمة وضرورية لتدعيم شبكة العلاقات بين مجتمعينا، وبالتالي لعناصر الوحدة بيننا في هذا العصر العولمي. الجزء الأول: بداية من هو الدكتور الطاهر سعود؟ - هو أصيل منطقة صالح باي (ولاية سطيف)، من مواليد شهر أوت 1973، درست بهذه البلدة من الابتدائي إلى المتوسط فالثانوي؛ حيث كنت طالبا في شعبة العلوم الطبيعية بثانوية الشهيد رقيعي البشير، وقد حصلت على بكالوريا التعليم الثانوي سنة 1992 بتقدير قريب من الجيد، وسجلت في شعبة علوم الطبيعة والحياة بجامعة فرحات عباس-سطيف، غير أن بعض الظروف الخاصة، ومنها ميلي للدراسات الإنسانية جعلتني أغير شعبة الدراسة؛ حيث سجلت في اختصاص علم الاجتماع بجامعة قسنطينة. وبها أتممت دراستي وحصلت على الليسانس في علم الاجتماع التربوي، ثم شاركت في مسابقة الدخول للماجستير في تخصص علم اجتماع التنمية سنة 1998، فكنت الثاني على الدفعة، وبعد سنة من التكوين النظري سجلت رسالة حول موضوع: التخلف والتنمية في فكر مالك بن نبي، ناقشتها في فبراير 2001 تحت إشراف الأستاذ الدكتور فضيل دليو. واستكمالا لدراساتي التخصصية سجلت في السنة الموالية موضوع أطروحة دكتوراه بجامعة قسنطينة حول "الجذور التاريخية والأيديولوجية للحركة الإسلامية في الجزائر" تحت إشراف الأستاذ الدكتور ميلود سفاري؛ أنهيتها في شهر أكتوبر 2009 وناقشتها في جويلية 2010. أما الآن فأنا أستاذ محاضر بقسم علم الاجتماع بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة سطيف-2 أزاول التدريس والإشراف والبحث. كما اشتغلت منذ 2004 مساعدا لرئيس قسم علم الاجتماع والديمغرافيا مكلفا بالبيداغوجيا، ثم نائبا لعميد الكلية مكلفا بالدراسات والمسائل المرتبطة بالطلبة، بالإضافة إلى أنني كنت عضوا للجنة العلمية للقسم وعضوا في المجلس العلمي لكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد صدرت لي بعض الكتب والدراسات في شكل فردي أو جماعي منها: - التخلف والتنمية في فكر مالك بن نبي، كتاب صدر سنة 2006 عن دار الهادي بلبنان. - كتاب ثنائي: المدخل إلى المنهجية في علم الاجتماع، كتاب صدر سنة 2007 عن مخبر علم اجتماع الاتصال للبحث والترجمة، جامعة قسنطينة. - كتاب جماعي: في منهجية البحث الاجتماعي، صدر سنة 2007 عن مكتبة إقرأ بقسنطينة. - الحركات الإسلامية في الجزائر: الجذور التاريخية والفكرية، كتاب صدر سنة 2012 عن مركز المسبار للدراسات والبحوث بالإمارات العربية المتحدة. - كتاب جماعي صدر باللغة الفرنسية سنة 2012 في طبعة فرنسية عن دار كارطالا، وأخرى بالجزائر بالاشتراك بين مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية CRASC الكائن مقره بوهران، ومعهد البحوث حول المغرب المعاصر IRMC بتونس. SAOUD Tahar, in : Amar MOHAND-AMER et Belkacem BENZENINE (sous la direction de), Le Maghreb et L’indépendance de l’Algérie, Paris : Edition Karthala, 2012. - كتاب تحت الطبع بعنوان: أبحاث وآراء في الفكر والثقافة والاجتماع الجزائري. شاركت في العديد من الفعاليات والتظاهرات العلمية والأكاديمية المحلية والوطنية والدولية المنظمة على مستوى بعض الجامعات الجزائرية والعربية. - مهتم بموضوعات الثقافة والدين والهوية والحركات الإسلامية، وقد صدرت لي حولها عديد الدراسات والمقالات في مجلات محكمة داخل الجزائر وخارجها. - ناقشتم أطروحة دكتوراه تحت عنوان"الجذور التاريخية والأيديولوجية للحركة الإسلامية في الجزائر" فما هي الإشكالية التي عالجتموها؟ وما هي الخطوط العريضة لهذه الأطروحة؟ - قبل الإجابة على هذا السؤال بشقيه لا بد أن أؤكد لكم بأن موضوع الحركات الإسلامية يعد موضوعا جديرا بالبحث والدراسة العلمية لاعتبارات كثيرة لعل أبرزها ما أصبح يشغله من اهتمام على الصعيد العالمي نظرا لما خبره المجتمع الدولي من أحداث جسيمة خلال العقود الثلاث الأخيرة ومنها تحديدا الحدث الإيراني؛ أي حدث الثورة الإيرانية، والحدث الأفغاني، ثم الحدث الجزائري ثم ما تبع ذلك من أحداث، كواقعة الحادي عشر سبتمبر بأمريكا، فقد كانت هذه الأحداث-وغيرها- محفزا لانطلاق عشرات البحوث والدراسات التي تمسح الموضوع من جميع جوانبه، ولعل الأحداث الأخيرة التي اصطلح عليها الخطاب الإعلامي بالربيع العربي قد أعادت الموضوع من جديد إلى ساحة النقاش الإعلامي والعلمي، وبخاصة أن دول هذا الربيع المستيقظة على زخم الثورة والديمقراطية والحرية و... قد اكتسحت ساحاتها السياسية والاجتماعية و... الحركة الإسلامية من جديد. ولعل موضوع الحركة الإسلامية في الجزائر لا يقل أهمية وجدارة بالبحث فيه برغم أن هذه الحركة لم تبق اليوم فاعلا في المشهد السياسي الجزائري-لعديد الاعتبارات- مثلما كانت حالها قبل 1992، وأن زخمها السياسي والاجتماعي ليس كزخم نظيراتها، على الأقل في الساحة المغاربية (النهضة في تونس، والعدالة والتنمية في المغرب). إذا كان عديد الباحثين قد انصرفوا إلى البحث في هذا الموضوع من زاوية واقع الحركة الإسلامية الجزائرية خلال فترة الانفتاح بعد 1988، ودخولها مجال العمل السياسي والاجتماعي بالواجهات الحزبية والجمعوية المتعددة وهو ما سلط الضوء على هذه الحركة في بعدها الحاضر والمشهود، فقد آثرنا نحن الاشتغال على الظاهرة في بعدها السوسيو-تاريخي، بالبحث في إرهاصاتها وأصول تشكلها. ولذلك كان موضوع بحثنا حفرا حول "الجذور التاريخية والأيديولوجية للحركة الإسلامية في الجزائر". لقد تمحورت إشكالية دراستنا حول سؤالين أساسيين يتعلق الأول منهما: بالبحث في الظروف التاريخية التي تولدت فيها الحركة الإسلامية في الجزائر، والسياقات التي تشكلت فيها، بمعنى هل ولدت الحركة الإسلامية في الجزائر كردة فعل على واقع سياسي واجتماعي وثقافي لدولة ما بعد الاستقلال، أم أنها كانت استئنافا لجهود سبقتها في التاريخ الجزائري، أم هي ثمرة ردة فعل على خيارات إيديولوجية اشتراكية تم تبنيها. ثم ما هي العوامل التي ساعدت على نشوء هذه الحركة كتيار يشتمل على حد أدنى من التنظيم، وهل كانت في انبثاقها الأول متميزة في بنائها وتركيبتها، أم أنها حاكت نظيراتها في العالم الإسلامي فكريا وتنظيميا. أما السؤال المحوري الثاني فقد تركز حول البحث في الخلفيات الأيديولوجية التي استندت إليها هذه الحركة الناشئة، وهو سؤال يقود إلى أسئلة فرعية أخرى حول أهم رواد هذه الحركة، وكذا عن البحث حول أصولهم الثقافية وطبيعة تكوينهم وخلفياتهم اللغوية وآليات عملهم وطرق تحركهم خلال تلك الفترة. لقد كان هدفنا من كل ذلك هو محاولة الإسهام في تدعيم المكتبة الجزائرية بعمل علمي موثق حول هذا الموضوع الحركة الإسلامية الجزائرية يسد بعض النقص الملاحظ حول هذا الموضوع الحساس، وبخاصة في الفترة المختارة كمجال زمني للدراسة أي الفترة الممتدة بين 1962 إلى منتصف الثمانينيات. أما عن الخطوط العريضة لهذه الأطروحة فيمكن تلمسها في خطاطة الفصول والمباحث التي اخترناها للاقتراب من الموضوع؛ وبغض النظر عن الفصول الثلاثة الأولى التي هي فصول مدخلية ذات منحى منهجي وتحليلي وتاريخي أسسنا فيها لموضوعنا من النواحي المنهجية والتحليلية. فإن الفصول الأخرى وهي موسومة على التوالي بـ"الحركة الإسلامية الجزائرية: إرهاصات النشأة، وسياقات التشكل"، و"الحركة الإسلامية الجزائرية: الجماعات الرئيسية، حدود الاقتراب والافتراق"، و"الحركة الإسلامية الجزائرية: نماذج من الإنتاج الأيديولوجي" حاولنا فيها تتبع البدايات الأولى للحركة الإسلامية منذ كانت محض نشاط فردي غير منظم لبعض الفعاليات الإسلامية، ثم عندما تحولت إلى عمل جمعوي ثم عمل جماعي منظم بعد ذلك. كما تتبعنا فيها مجالات نشاط الحركة الإسلامية في الجزائر وطرق ووسائل عملها وكذا مراحل تشكلها منذ 1962 إلى بدايات الثمانينيات، وركزنا على الجماعات الرئيسية الثلاث المشكّلة لجسم الحركة الإسلامية في الجزائر، وهي جماعة البناء الحضاري (جماعة الجزأرة)، وجماعة الشرق أو الإخوان المحليين (جماعة جاب الله)، وجماعة الإخوان العالميين (جماعة محفوظ نحناح)، محاولين تتبع البدايات الأولى لهذه الجماعات وأهم أفكارها ومصادر تلقيها، كما حاولنا في الأخير تحليل جانب من البناء الفكري للحركة الإسلامية الجزائرية. كان طموحنا من خلال ما سبق تقديم صورة صحيحة وموثقة عن مرحلة تاريخية هامة من تاريخ الحركة الإسلامية في الجزائر لا تزال إلى اليوم تحتاج إلى جهد علمي صادق ودءوب لتصوير ملامحها وتقديمها إلى الأجيال، على اعتبار أنها جزء وفصل مهم من فصول تاريخ الجزائر المعاصر لمرحلة ما بعد الاستقلال الذي يحتاج إلى أن يخدم علميا مثل أي جزء وفصل آخر من فصول هذا التاريخ. - عرفت الحركة الإسلامية الجزائرية الكثير من التحولات الفكرية والتنظيمية فما هي أهم تلك التحولات؟ الإجابة على هذا السؤال تقتضي الحديث عن مسألة مهمة تتعلق أساسا بتتبع سيرورة هذا التحول، وهي مسألة مرتبطة بما يمكن أن نسميه عملية التأريخ أو التحقيب (Périodisation) للحركة الإسلامية الجزائرية، ومثلما هو معلوم فإن عملية مثل هذه تكتنفها عديد الصعوبات، وبالخصوص لحركة بقيت سنوات طويلة في مرحلة تأكيد الذات، ولم تخرج من أجواء العمل السري إلا لفترة قصيرة (فترة نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات). وفي وقت كان من الممكن ومن المنتظر أن تثمر فترة الانفتاح السياسي التي عرفها المجتمع الجزائري بعد أحداث أكتوبر 1988 بروز حركة تأليف تصوّر لنا حيثيات وملابسات نشأة هذه الحركة من بعض من صنعوها وأسهموا في التأسيس لها. وتكون كتاباتهم وشهاداتهم مادة توضع بين يدي الباحثين ليخضعوها للتحليل والنقد، وليعيدوا من خلالها تشكيل الصورة بالأساليب العلمية المبنية على التوثيق والبحث التاريخي. في الوقت الذي كان من الممكن أن يحصل كل ذلك دخل المجتمع الجزائري فجأة ومعه الدولة والحركة الإسلامية في مرحلة من التدمير والاهتلاك الذاتي والعنف الدموي، جعلت هذه المطامح لا تتأخر فحسب، وبالتالي تفوّت فرصة تاريخية هامة على البحث العلمي، وإنما تصبح-أكثر من ذلك- أبعد منالا من ذي قبل نتيجة ما فقده المجتمع والحركة (بالموت أو الإبعاد أو الاضطرار للصمت..) من العديد من العناصر والنماذج القيادية الفاعلة التي كان لها دور مخصوص في صياغة وصناعة هذه الحركة منذ بداياتها الجنينية. وإذا كانت قضية التأريخ والتحقيب -بما هي عملية تتيح لنا الوقوف على التمفصلات والتحولات التي من الممكن أن تمس خط التطور في كل حركة اجتماعية من زاوية البناء والتنظيم كما من زاوية الفكر ومنهجية العمل- لا تزال إشكالا مطروحا حتى لدى حركات قومية أو إسلامية عريقة في دول أخرى مضى على تأسيسها عقود طويلة كما هي حالة حركة الإخوان المسلمين في مصر مثلا، فلا شك أنها في الحالة الجزائرية أصعب وأعقد، ذلك أننا لم نشهد حتى الآن-باستثناء بعض المحاولات المحتشمة- تلك الاجتهادات والكتابات حول الحركة الإسلامية في الجزائر ولو حتى في صيغة المذكرات والبيوغرافيات الشخصية، وهو ما يجعل البحث في هذا الميدان مغامرة علمية بامتياز. مهما يكن من أمر فإنه وبناء على مطالعتنا واهتمامنا بموضوع الحركة الإسلامية في الجزائر يمكن أن نقسم أبرز التمفصلات التي مرت بها هذه الحركة على الصعيد التنظيمي والفكري إلى ما يأتي: - في البدء كان الإسلام الإصلاحي: فقد بدأت الحركة الإسلامية في الجزائر بطريقة تلقائية فرضتها مقتضيات مرحلة ما بعد الاستقلال، ومثّلتها جهود بعض رجالات جمعية العلماء الذين حاولوا إعادة بعث نشاطهم الجمعوي من جديد، وعكستها مواقفهم الاحتجاجية من اختيارات النظام البنبلي والبومديني بعد ذلك (مواقف الشيخ الإبراهيمي، أحمد سحنون، عبد اللطيف سلطاني...)، وكذا جهود ما يمكن تسميته بالنخبة الإصلاحية الجديدة ممثلة في جمعية القيم اّلإسلامية. لقد كان جهد هؤلاء جميعا مرحلة مهمة من مراحل التطور الذي سيقود فيما بعد إلى تبلور حركة إسلامية جزائرية. كما شكّل-أيضا- مرحلة أساسية وضرورية لحصول التراكم المطلوب والدفع بالجهد الإسلامي لجهة التجمع والتكثف وإحداث النقلة المرجوة في المرحلة اللاحقة. إذًا بفضل كل تلك المبادرات أمكن للعمل الإسلامي (L action islamique) أن يستمر وأن يتطور في مرحلة لاحقة-بإسهامات آخرين-إلى حركة إسلامية (Mouvement Islamique) منظمة ومهيكلة، نقلت الجهد الإسلامي من مرحلة التلقائية والفردية إلى مرحلة العمل الجماعي المنظم. ثم ليتم تطوير هذا الجهد في مكان آخر وبوسائل عمل جديدة وبنظرة ورؤية أكثر جدة وواقعية. - مالك بن نبي وظهور العمل الطالبي الجامعي: ستتيح التطورات اللاحقة البزوغ التدريجي لنواة حركة جديدة منظمة ومهيكلة. وسوف يكون العنصر الطالبي دعامتها الأساسية وستكون الجامعة فضاءها بامتياز. وهنا لا بد من التنبيه إلى أنه إذا كان العمل الإسلامي في هذه الفترة قد تركز حول بعض الشيوخ، وحول مجموعة من المثقفين المعربين الذي تكونوا في مدارس الجمعية، وكان نضالهم متجها لأجل تحقيق بعض المطالب الأخلاقية والمعنوية العامة، فإن هذا العمل سيتجه مع عناصر من النخبة الجامعية التي تركزت في الجامعة للاهتمام بقضايا ذات أفق آخر، أوسع وأكبر، ليس لأنها غير متفقة مع الطرح الإصلاحي، بل لأنها كانت تراه طرحا جزئيا لا يأتي على المشكلة الإسلامية من أساسها وجذورها. ولم يكن صاحب هذا الطرح سوى مالك بن نبي؛ حيث كان لجهده في هذه المرحلة أهميته القصوى في إحداث نقلة نوعية على مستوى طبيعة الخطاب الإسلامي، وعلى مستوى آليات العمل والحركة لاحقا. لذلك يتفق عديد المتتبعين لمسار الحركة الإسلامية في الجزائر على محورية وأهمية الدور الطليعي الذي مارسه ابن نبي في اتجاه الدفع نحو تبلور تيار فكري إسلامي مميز، وتهيئة المناخ الثقافي والنفسي الذي ستقتبس منه عناصر من النخبة الجامعية الإسلامية في تلك المرحلة، بما سينعكس إيجابا على حركيتها ويعمل على تحفيزها لتأسيس نواة حركة إسلامية منظمة في الجزائر. وإذا كان العلماء لا يزالون حتى تلك الفترة يطرحون المشكلة من زاوية التأكيد على ضرورة العودة إلى المنابع، وتطهير العقيدة والسلوك، واكتساب القدر الضروري من المعرفة... فإن ابن نبي كان يطرح المشكلة بمفاهيم الثقافة والفعالية حين يؤكد على أنه ليس المطلوب أن نعلّم المسلم عقيدة هو يمتلكها ولكن المطلوب أن نعيد لهذه العقيدة فاعليتها في حياته . ولعل هذا ما انعكس على تشكيلة رواد تلك الحلقات؛ إذ كانوا يأتون في غالبيتهم من العناصر المفرنسة المتحدرة من الكليات العلمية. هذا الحضور المكثف للعناصر المفرنسة ذات التكوين العلمي والتقني جعلت البعض يستفسرون عن سبب غياب بعض العناصر الإسلامية الرائدة في تلك المرحلة عن حلقات مالك بن نبي أمثال عباسي مدني، وأحمد سحنون وعبد اللطيف سلطاني، ويجيب بعضهم بأنه لا المقاربة الفكرية ولا اللغة كانت مشتركة لتدفع هؤلاء لحضور تلك الندوات. إن هذا المعطى (نوعية المقاربة للمشكلة الإسلامية، الخلفية اللغوية) سيؤرخ منذ هذه المرحلة لشكل من أشكال التشظي الذي سيطبع الحركة الإسلامية الجزائرية، بين تيار فكري تمثله النخبة الإسلامية المفرنسة (les intellectuels francisant)، وتيار فكري آخر تمثله النخبة الإصلاحية التقليدية المتجمعة حول المتبقين من شيوخ الجمعية أمثال سلطاني وسحنون. قبل أن يتغذى هذا الانقسام الفكري المزدوج بانقسام فكري آخر في بداية السبعينيات عندما يبرز إلى الوجود التيار الإخواني في المعادلة الجزائرية، ثم عندما تبلغ الانقسامية أوجها مع بداية الثمانينيات بولادة التيار السلفي بمختلف طبعاته، وكذلك ببروز بعض المجموعات التي تأثرت في تلك الفترة بزخم الثورة الإيرانية. - نشأة المدارس الحركية والتنظيمية في الجزائر، أو الحركة الإسلامية من الوحدة إلى الانقسام: في منتصف ستينيات القرن الماضي وخلال تلك المرحلة الباكرة من عمر الحركة الإسلامية في الجزائر لم تكن هناك تنظيمات بالشكل الذي سنلحظه في الفترة اللاحقة، غاية ما هنالك تيار فكري يستلهم أفكار المدرسة الإصلاحية، وتيار فكري آخر بدأ يتواجد أكثر داخل الجامعة، وهو ما يسميه البعض بتيار الإسلاميين المفرنسين الذين كانوا متحلقين حول مالك بن نبي. هذا ما تؤيده بعض الشهادات التي تتحدث عن خلو حركة الدعوة الإسلامية في تلك الفترة من أي نزعة انتماء حزبي أو حركي. أما الانقسامات التي عرفتها هذه الحركة فلم تحصل إلا في مرحلة لاحقة عندما توسعت دائرة العمل الإسلامي، وامتدت إلى مدن وجامعات أخرى؛ وعندما دخلت إلى الجزائر أفكار مدرسة الإخوان المسلمين عبر الوسائط المختلفة، وبدأت تتغلغل وتتوطن بين صفوف النخب الجامعية المثقفة. لكن حركة الدعوة الإسلامية ستعرف نوعا من التشظي بدءا من منتصف السبعينيات، وهي المرحلة التي ستشهد البروز الفعلي للحركة الإسلامية في الجزائر على أرضيات تنظيرية متعددة المصادر، محلية جزائرية متمثلة في ميراث جمعية العلماء ومالك بن نبي، وخارجية غير جزائرية مجسدة في الامتدادات الفكرية لمدرسة الإخوان المسلمين. وعلى هذا الأساس يمكن لكل متتبع لمسار هذه الحركة أن يقف على أرضية وواقع انقسامي، سواء في المجال الفكري أم التنظيمي. وإذا كان من الصعب تقدير الشكل الدقيق لهذه الحركة وقوتها في السبعينيات بسبب الخنق الأمني ومنع السلطة لكل كيان فكري أو تنظيمي، إلا أنه ومنذ أواخر الستينيات بدا أن بعض الناشطين الإسلاميين بدأوا يتجمعون على مدى هذه السنوات ويؤسسوا لكيان تنظيمي ينهض بطموحاتهم. لكن سرعان ما ستشهد السنوات اللاحقة مبادرات أخرى من إسلاميين آخرين، وبالتالي بروز اتجاهات جديدة ضمن جسم الحركة الإسلامية الجزائرية. وهكذا ما إن دخل عقد السبعينيات حتى بدأت بوادر ظهور مختلف المدارس الحركية والتنظيمية في الجزائر واضحة للعيان، على أن السنوات اللاحقة (نهاية عقد السبعينيات وبداية عقد الثمانينيات) ستعمل على نموها وبلورتها. غير أننا إذا ما تتبعنا مسار تطور الحركة الإسلامية في المرحلة اللاحقة (أي بعد منتصف الثمانينيات وهو ما لم نشتغل عليه في رسالتنا) فإننا سنرى بأن هذه الحركة ستمر بتمفصلات أخرى ربما أكبر وأخطر؛ فبعدما دخلت الجزائر مرحلة الانفتاح السياسي عرفت الحركة الإسلامية بداية خروجها من دائرة السرية إلى دائرة العمل الجماهيري العلني. واتسع نطاق نشاطها متجاوزا حقل العمل الوعظي والدعوي الشعبي إلى حقل العمل السياسي الرسمي، ومجال العمل النقابي والمطلبي، عندما أنشأت لها واجهات للعمل الجمعوي الاجتماعي والثقافي (الإرشاد والإصلاح، النهضة...) وواجهات للعمل السياسي الحزبي (الجبهة الإسلامية للإنقاذ، حركة حماس، حركة النهضة الإسلامية...). لكن هذا البروز العلني لم يدم إلا لفترة قصيرة لم تتجاوز الأربع سنوات (1988-1992)؛ حيث ألجأت الأحداث المأساوية التي عاشتها الجزائر بعد إلغاء المسار الانتخابي فعاليات كثيرة من هذه الحركة إلى التخفي أو الصمت أو الانجرار وراء مسلكيات أخرى في العمل والنضال (عمل مسلح، عمل سياسي). فمن انكفاء وانغلاق على الذات دام لأكثر من ربع قرن، إلى مرحلة من الانفتاح غير المدروس قاد الحركة إلى الاهتلاك والتآكل وتشوه الصورة والسمعة، وفقدان الكثير من الثقل والتأييد الشعبي، إلى مرحلة أخرى أشد وأنكى حينما تحول إخوة السبعينيات إلى جماعات متناحرة على الصعيد السياسي، تنشأ أحزابهم كفضاء للنضال فتتحول إلى حلبات للصراع والسجال الذي خرج في حالات عديدة عن اللياقة التي تقتضيها أخلاق الإسلام حتى وصل الأمر بالبعض إلى وصف مشهد الجماعات الإسلامية الجزائر بالجماعات "منتهية الصلاحية، والتي تتكرس كتاريخ وجغرافيا ووثيقة وتغيب كمستقبل ومشروعية جديدة وحضور وقائعي. صورة الإسلاميين الحاليين المنشطرين إربا إربا حيث لا واقع لهم ولا رهانات ولا خطط، وهو وصف رقم قسوته فيه بعض من الصحة. - إذا كانت الحركة الإسلامية في المشرق تستفيد من إنتاجات المفكرين الإسلاميين فلماذا لا تستفيد الحركة الإسلامية المغاربية من إنتاجات المفكرين المغاربة وعلى رأسهم الفيلسوف طه عبد الرحمان والمفكر مالك بن نبي؟ هل نتحدث هنا عن حركة إسلامية أم عن حركات إسلامية؟ في حقيقة الأمر فإن المطلع على الخارطة المغاربية (الجزائرية، التونسية، المغربية...) للحركة الإسلامية سيقف على أرضية وواقع انقسامي وفسيفسائي، إن في المجال الفكري أو التنظيمي؛ حيث لم تمنع وحدة الأهداف ووحدة الدوافع، والاشتراك في نفس الأرضية المرجعية، الافتراق في مستوى الطريق المسلوك والاستراتيجية المتبعة للوصول إلى تحقيق هذه الأهداف. إن هذا المعطى ينطبق تمام الانطباق على الحركة الإسلامية المغاربية؛ فمع اشتراك الجماعات الإسلامية التي هيمنت على الساحة الدعوية والحركية المغاربية منذ سبعينيات القرن الماضي وتقاطعها في العديد من الأفكار والمبادئ؛ إذ هي جميعا تنتسب إلى الإسلام كأساس وكمرجعية وهو ما يفرقها عن غيرها من الحركات والجماعات التي تتخذ من الأيديولوجيات الأخرى مصادر للإلهام والتوجيه. إلا أن هذا الجذر المشترك لم يمنع التعدد والتنوع الذي يصل في بعض الأحيان إلى درجة الاختلاف المفضي للتنازع والصراع (وهو ما خبرته الحركة الإسلامية في الجزائر بقوة وخاصة في فترة منتصف الثمانينيات). كأنما هي بهذا المسلك تحاكي بعض فصول التاريخ الإسلامي، وتعيد إنتاج نماذجه التاريخية عندما نشأت فيه الفرق والمذاهب. ويرجع هذا التعدد في بعض أسبابه إلى المرجعيات الفرعية والخلفيات الفكرية التي تشكل مصدرا آخر للإلهام والتوجيه لهذه الحركات. وإذا رجعنا لسؤالكم حول عدم استفادة الحركة الإسلامية المغاربية من إنتاجات المفكرين المغاربة وعلى رأسهم مالك بن نبي وطه عبد الرحمن فإننا يمكن أن نقول بأن السؤال صحيح في مستوى بعض هذه الحركات وليس جميعها؛ إذ ليس صحيحا أن كل الحركات الإسلامية المغاربية لا تستفيد و/أو لم تستفد من إنتاجات هؤلاء الأعلام المغاربيين. وإذا كانت بعض هذه الحركات قد تمشرقت أكثر من اللازم وولت وجهها قبلة التنظيرات المشرقية واستفادت منها؛ بل يمكن أن نقول بأن بعضها قد استنسخ هذه التنظيرات استنساخا وحاول إعادة إنتاجها في واقع المجتمعات المغاربية، فإن حركات أخرى سواء في تونس أم في الجزائر وربما عندكم في المغرب قد حاولت الاستفادة من الذخيرة الفكرية لبعض الكتاب والمفكرين والأعلام المغاربة، ولعل هذا الانشغال هو الذي جعل واحدا من نخبة جماعة البناء الحضاري في الجزائر-وهي للإشارة واحدة من الجماعات الإسلامية التي تحتفل بالمعطى المحلي (أفكارا رجالا ومؤسسات) حتى سميت بالجزأرة- مثلا يعقب على الشيخ راشد الغنوشي الذي أكد على أن الحركة الإسلامية في تونس استفادت بشكل كبير من الأطروحة البنابوية، في حين أن الحركة الإسلامية الجزائرية قد تمشرقت أكثر من اللازم. وقد رد مؤكدا أن هذا القول ينطبق في عمومه على المدرسة الإخوانية بشقيها العضوي والفكري (يقصد جماعة الإخوان العالميين، وجماعة الإخوان المحليين في الجزائر) التي استصحبت معها بعض المواقف الإخوانية من مالك بن نبي، وخاصة من اختلافه مع سيد قطب حول مسألة تخلف الأمة، أما حركة البناء الحضاري فهي على حد قوله تمكنت من الجمع بين الأطروحتين والاستفادة من الخبرتين معا.. فاستفادت كثيرا من التنظير القطبي وذخيرته الفكرية والروحية والتربوية العالية، ومن مجمل الفكر الإخواني المتوازن، وأطّرت ذلك على الصعيد المنهجي بفكر مالك بن نبي الواقعي وتنظيره السنني. وإني على علم-بناء على متابعاتي واهتمامي بموضوع الحركة الإسلامية، وعلى خلاف ما أشرنا إليه في الإحالة السابقة التي وصفت عموم الحركة الإسلامية في الجزائر بالحركة الموات منتهية الصلاحية- بأن كثيرا من شباب هذه الحركة هم اليوم على صلة بما يصدره بعض أعلام المنطقة المغاربية أمثال طه عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي ... وغيرهم، (بل على صلة بما ينتجه المحسوبون على التيارات الفكرية الأخرى أمثال محمد أركون ومحمد عابد الجابري وعلي حرب وغيرهم من المغاربة والمشارقة)، ويعقدون له الندوات لشرح أطروحات هؤلاء المفكرين ومشاريعهم الفكرية والتعريف بها لجهة الاستفادة منها وتوظيفها تجديدا للعمل، وتساوقا مع مقتضيات المرحلة والواقع الراهن، بعد تجربة العقدين الماضيين التي قذفت بالحركة الإسلامية في الجزائر في أتون السياسة وتبعاتها المرة. الكثير من الباحثين يقولون بنهاية الحركة الإسلامية فهل أنت متفق معهم ولماذا؟ لقد صدرت عديد العناوين حول أفول الإسلاموية، ونهاية الحركات الإسلامية؛ وقد اعتبرتها هذه الكتابات إذا ما استعرنا تعبير ألفن توفلر موجة من الموجات الأيديولوجية التي اجتاحت العالم الإسلامي وسرعان ما سيخفت بريقها مثلما خفت بريق الحركات اليسارية والقومية والناصرية التي شغلت حيزا هاما من الفضاء الفكري والاجتماعي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومن بين الكتاب الذين رفعوا ورافعوا حول أطروحة إخفاق ونهاية الحركة الإسلامية الكاتب الفرنسي أوليفييه روا في عديد كتاباته، وهذا المسلك رفضه في حينه بعض الكتاب الغربيين المشتغلين على الظاهرة أمثال الكاتب الفرنسي فرانسوا بورغا(أنظر مثلا تعقيبه في الفصل المعنون الموقف الآن في كتابه الإسلام السياسي صوت الجنوب)، وقد عكس أطروحة أفول الإسلام السياسي عندنا في الجزائر عديد الكتاب والمهتمين تحت وطأة التراجع الذي مس الحركة الإسلامية في الجزائر خلال العقدين الماضيين. غير أن هذا الرأي وإن صح حول الحركة الإسلامية في الجزائر وهو ما لا نشاطره كلية؛ إذ إن للظروف التي خبرتها الجزائر في العقدين الأخيرين من غياب الحرية وسيطرة الأجهزة الأمنية وسياسة ممنهجة ومبرمجة لإفساد الحياة السياسية والثقافية... قد انعكس في مستوى أداء جميع الفاعلين السياسيين والثقافيين في الجزائر الحالية، بمختلف توجهاتهم وأيديولوجياتهم وليس الإسلاميون في ذلك استثناء. غير أن هذه الكتابات تعاني اليوم مأزقا فإن كانت ولادة أطروحة أفول الإسلاموية أو ما بعد الإسلاموية... قد تواقتت واكتست بعض صدقيتها من اللحظة الجزائرية المشبعة بالدماء والدموع في تسعينيات القرن الماضي، ومن المناولة الإعلامية التي صورت الحركة كأقلية مفعول بها في مجتمعات كتونس ومصر وليبيا... فإن اللحظة الراهنة على المستوى الإسلامي تبرز مدى عدم وجاهة هذه الأطروحة أو على الأقل نسبيتها؛ فمن تركيا إلى المغرب إلى تونس مرورا بمصر وغيرها يبدو أن الإسلاموية التي بشر أوليفييه روا -ومعه المستشرقون الجدد- بأفولها وانتهائها قد عادت من جديد، بل وأسهمت مع فعاليات مجتمعية أخرى في الإجهاز على أنظمة الاستبداد الشرقي التي تحكمت وتسلطت على الرقاب. إن أطروحة أفول الحركة الإسلامية تعارضها الشواهد الواقعية اليوم، فالحركات الإسلامية عادت من جديد، ولعل مشهد الغنوشي المنفي لأكثر من عقدين وابن علي المتسلط لأكثر من عقدين يعكس نقيض الأطروحة بشيء من الدهشة؛ ففي حين يقبع الثاني في منفاه بجدة السعودية يعود الغنوشي ليسهم في الحراك السياسي والثقافي في تونس العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين. غير أننا ننبه هنا إلى أن هذه العودة للحركات الإسلامية في هذه الفترة الدقيقة من التقويم العربي والإسلامي المعاصر واعتلائها لسدة الحكم في عديد البلاد العربية يضع هذه الحركات أمام محك كبير وخطير، وإنني أتصور أنها لم تكن الفترة المفضلة للعودة، ذلك أن فترات ما بعد الثورة هي أخطر الفترات في عمر المجتمعات، وإذا لم تحسن هذه الحركات تسيير وتوجيه اللحظة الراهنة فيما يستجيب لطموحات شعوبها نحو الحرية والتنمية فإنها ستفقد كثيرا من بريقها وعمقها الشعبي، وهو ما ينتظره المعادون لها بكل شوق. - هل الفكر الإسلامي المعاصر قادر على تقديم أجوبة للتحديات التي تعيشها الأمة العربية الإسلامية؟ لم لا، لقد قدم الفكر الإسلامي قبل اليوم أجوبة على العديد من التحديات التي واجهت الأمة في حينها، ولكن للأسف الشديد يتاح للأفكار المستوردة من أسواق الشرق والغرب المجال واسعا للاختبار وللتطبيق والتنفيذ في مجتمعاتنا وتنفى أفكار رائدة في مجالها لعديد مفكرينا وهو ما فوت ويفوت فرصا كبيرة للانتهاض، وأعطيكم مثالا على ذلك، فقد ناقشت رسالة ماجستير حول موضوع التخلف والتنمية في فكر مالك بن نبي وبينت فيها كيف أن الرجل قدم أفكارا رائدة في مجال تحليل ظاهرة التخلف وبيان سبل البناء والنهضة منذ منتصف القرن الماضي لكن للأسف الشديد وجدنا الجزائر تطبق إرشادات وتوجيهات منظري التنمية على هدي النظريات الاشتراكية فينمو تخلفها وتعطي ظهرها لأفكار مالك بن نبي. الجزء الثاني: - لماذا لم تنخرط الجزائر في موجة الربيع الديمقراطي؟ الجزائر لم تتخلف عن الربيع العربي الراهن كما يتصور البعض، بل إنها دشنت ربيعها قبل ذلك بعقدين من الزمن فيما سمي بالربيع الأمازيغي الذي حمل بعض المطالب والمطامح ذات الطابع الثقافي لشريحة من المجتمع الجزائري في بداية الثمانينيات، ثم مع ما سمي بأحداث أكتوبر 1988 التي كانت بحق هبة شعبية رفعت هذه المرة مطالب ذات مضمون اجتماعي وسياسي، لكن يبدو أن طبيعة تلك الفترة (لم تصل العولمة الإعلامية والاتصالية لما هي عليه اليوم....) لم تتح لهذا الحدث أن يصل للجميع وأن يسمعه الجميع ومن ثم أن يحدث فيهم الأثر المرجو مثلما كانت حال البوعزيزي في تونس الذي أطلقت وفاته شرارة الثورة على الظلم في كامل الرقعة العربية. لكن للأسف الشديد فإن هذا الربيع الثمانيني في الجزائر لم يصل إلى المأمول منه في تحقيق الانعتاق والديمقراطية وبناء الدولة الجزائرية المنشودة إلا لفترة قصيرة، لأن هذا الربيع أجهض ذات يوم من شهر يناير 1993 عندما سطت النخبة العسكرية على اختيارات الشعب مجسدة نهج الوصاية على القاصر(الشعب)، ومن يومها دخلت البلاد في فوضى أمنية وسياسية واقتصادية وأخلاقية... ورغم التحسينات المظهرية إلا أن الواقع الجزائري اليوم هو بجميع المقاييس واقع مأزوم رغم ما يحاوله الخطاب الرسمي من إبراز "للمكاسب المحققة". ولولا المناعة الذاتية والحذر-الذي يطبع الجزائريين اليوم نتيجة ما خبروه من الحرب الأهلية المدمرة والويلات التي ذاقها الجميع جراء العنف الأعمى...- من مغامرة الدخول في حركة احتجاج شعبي على مسلكيات النظام؛ وكذا ما آل إليه سيناريو الثورات العربية في ليبيا وسوريا؛ لدخلت الجزائر اليوم في فلك ربيع ثالث لانتزاع حقها المشروع في العيش بكرامة وحرية وفي ظل الديمقراطية الحقة، والتدوال السلمي الحقيقي لا الشكلي المظهري على السلطة... والكثير من الجزائريين على وعي كامل بأن الطريقة التي تسير بها البلاد اليوم لا تقودهم إلا نحو أفق مجهول، فالسلطة تشتري السلم الاجتماعي بالدولار وكل حركة احتجاج تظهر هنا أو هناك يجري إطفاؤها بريع البترول-المتدفق خلال السنوات الأخيرة بكثرة- لإسكات المحتجين. إنها حقا مأساة جزائر الألفية الثالثة، التي لا نرقب لها حلا في الأفق المنظور. - بعد الربيع الديمقراطي هل من الممكن الحديث عن اتحاد مغاربي حقيقي؟ على الصعيد النظري نعم لأن الحالة التي تفرزها لحظة الثورة هي حالة من التفاؤل والتوثب النفسي والروحي... في اتجاه العمل والبناء والتخلص من ميراث الاستبداد الذي فتت المجتمع على الصعيد الداخلي وأسهم في توسيع الشقة على الصعيد الخارجي. أما على الصعيد الواقعي فلا أتصور ذلك على الأقل في المنظور القريب لأن شروط هذا الاتحاد لم تتهيأ بعد، فالإخوة في تونس منشغلون بمرحلة ما بعد الثورة وهي مرحلة لها مغارمها مثلما يعلم الجميع ولها تحدياتها وكلفتها، كما أن الحالة السياسية لم تستقر بعد هناك وبخاصة في ظل التجاذبات الحادة بين النخب وبين أطراف العملية السياسية، والوضعية في الجارة الأخرى ليبيا ربما هي أعقد لأن نموذج الانتقال في تونس كان أقل كلفة من نموذج الانتقال في ليبيا، ولكن ربما على المستوى المتوسط والبعيد تدفع هذه الديمقراطيات الناشئة بجهود نخبها السياسية في اتجاه تكثيف العمل مع الأطراف المغاربية الأخرى لإقناعها بضرورة تدشين مشروع اتحاد مغاربي حقيقي. لكن هناك مرحلة يفترض أن تسبق كل ذلك هي مرحلة تكثيف العمل والتواصل بين النخب الثقافية والحزبية ومجمل حساسيات ما يسمى بالمجتمع المدني، فدورها ومسؤوليتها في هذا الصدد كبيرة لأن من شأن شبكة علاقات ثقافية تنشأ بين النخب المثقفة (كتابا ومفكرين وفنانين....) وتتكثف، ومن شأن تنسيق الجهود بين فعاليات المجتمع المدني (جمعيات، أحزاب، زعامات...) أن يتوفر من خلال جهدها، المناخ الفكري والنفسي للاتحاد، فيكون الجهد السياسي شرطا مكملا في الأخير وليس شرطا منشأ لفعل الاتحاد. - لماذا لم نحقق تكاملا اقتصاديا بين دول المغرب العربي؟ ببساطة بسبب غياب الإرادة السياسية لدى هذا الطرف أو ذاك من أطراف الاتحاد المغاربي، ولعل مسألة "الصحراء الغربية" التي لا تزال المشكلة الكبرى بين الطرفين المهمين في هذا الاتحاد وهما المغرب والجزائر هي أكبر معطل لهذا التكامل الاقتصادي رغم طابعه الملح في اللحظة الزمنية الراهنة. إن اختلاف الرؤية في معالجة هذه المسألة بين الجزائر والمغرب تحول دون الوصول إلى هذا الهدف الاستراتيجي، وعلى الرغم من اتفاق الطرفين على أن المسألة تعالج في مستوى هيئة الأمم المتحدة ولا ينبغي أن تكون عائقا في طريق إحياء مشروع الاندماج المغاربي إلا أن شيئا لم يتحقق في هذا الاتجاه رغم الزيارات والمجاملات الدبلوماسية المتبادلة في هذه المناسبة أو تلك. إن تحريك هذا الاتحاد يمكن أن تبادر به الأطراف المغاربية الأخرى (ليبيا، موريتانيا، تونس)، وإذا كان الاستقطاب بين الجزائر والمغرب مبررا بهذا المسوغ أو ذاك فإن سلبية الأطراف الأخرى هي من يعطل انطلاق المشروع، ويمكن في هذا الصدد الاستئناس بتجربة السوق الأوربية المشتركة فقد بدأت بمبادرة القيادة السياسية لطرفين هامين في أوربا هما فرنسا وألمانيا ولكن هذه التجربة سرعان ما توسعت لتشمل أطرافا أخرى ولتتطور اليوم تحت مسمى الاتحاد الأوربي. فإذا لم تتوفر هذه الإرادة لدى الجميع فإنها يمكن أن تبدأ بالأطراف التي تتوفر على هذه الإرادة لتبدأ التجربة جزئية ثم تكتمل بالأطراف المتخلفة.
#نورالدين_علوش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوارمع الاستاذ الباحث عبد العزيز ركح
-
الجزئ الثاني من الحوار مع المفكر الاسلامي حيدر حب الله
-
حوار مع المفكر الاسلامي حيدر حب الله
-
حوار مع الناقد المغربي الدكتور محمد الداهي
-
حوار خاص مع الاكاديمي المغربي الدكتور عبد الحي ازرقان
-
حوار مع الدكتور حمدي عبد الرحمان حسن
-
حوار مع الدكتور محمد عثمان الخشت حول الثورات العربية
-
حوار مع الناقد المغربي الدكتور محمد بوعزة
-
حوار مع المفكر السياسي الدكتور عصام عبد الشافي
-
حوار مع الاكاديمي التونسي محسن الخوني
-
حوار مع الدكتور منير كشو
-
حوار مع الناقد المغربي الدكتور فريد الزاهي
-
حوار مع الدكتور رحال بوبريك
-
حوار مع الاستاذ الباحث سمير بلكفيف
-
حوار مع البروفسور موسى معيرش
-
حوار خاص مع الدكتور احمد الطريبق
-
حوار مع الدكتور مراد قواسمي
-
حوار مع الاكاديمية التونسية ام الزين المسكيني
-
حوار مع الدكتور هيثم مزاحم
-
حوار مع الدكتور عامر عبد زيد الوائلي
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|