|
في تجسير العلاقة بين الثقافة الشعبية والإعاقة
محمد حسن عبد الحافظ
الحوار المتمدن-العدد: 3954 - 2012 / 12 / 27 - 20:54
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
- 1 - هوميروس الذي تنسب إليه واحدة من الروائع الأدبية الكبرى في التراث الثقافي الإنساني، المؤسِّسة للحلقات الحضارية الأوروبية، المتمددة إلى الإنسانية؛ لا تكتفي الموسوعات والمصنفات بوصفه بالشاعر الإغريقي العظيم - المشكوك في وجوده، لكنه وُجِدَ بالفعل وبالقوة - بل تصفه بأنه الشاعر الأعمى، بل إن لفظ هوميروس ليس له إلا دلالة لغوية واحدة: الأعمى.
وإذا كان هوميروس - الذي أصبح المثل الكامل للشاعر الملحمي عند النقاد ومؤرخي الأدب - مكفوفًا - حسب ما يروي التراث الإغريقي - فإن في ذلك ضربًا من التأكيد على أولوية الشفهية، والسردية، والغنائية الشعرية - أي الموسيقى والكلام - على ما هو مرئي.
يعزو التراث الصيني إلى بعض الموسيقيين المكفوفين الإسهام الأكبر في نشر القصائد المجموعة في المنتخبات القديمة الموسومة بكتاب شي كينج Che King. أما التراث الياباني، فيرجع ذيوع سيرة "التايرا" Taira الملحمية منذ القرن الثالث عشر الميلادي، إلى منشدين مكفوفين، وطالما عُرفت اليابان برواة الملاحم المكفوفين. شبه القارة الإيبرية، ومن بعدها أمريكا اللاتينية، قامتا أكثر من غيرهما من أرجاء العالم الغربي بإعلان شأن تلك الوظيفة الغامضة التي يؤديها الأعمى؛ فمنذ القرن الرابع عشر الميلادي وكلمة Ciego الإسبانية (أعمى) قد تحوَّرت لتشير إلى كل مغنٍ شعبي.
أما في أفريقيا، فيذكر "ب. ألكسندر" أن المنشدين الأكفاء يعلو صدحهم في الكاميرون، حيث يتصور الناس أن الشعراء يدفعون من أجسادهم ثمن المزية المقدسة، أو شبه المقدسة، المتمثلة في تمكنهم من الفن الموسيقي والغنائي. ويسوق زومتور أمثلة لرواة عميان أفارقة تمتعوا بشهرة واسعة في بلدانهم: من غانا (زكريا)، ومالي (باعثمانا)، والكونغو (إيميل ندمبي). ويؤكد زومتور على أن تاريخ الشعر الشفاهي عبر العالم يكشف لنا عن أحد الثوابت التي اكتسبت - في إطار نظام عتيق للمخيلة الجمعية - قيمة طقسية واجتماعية قوية، وهي: كف بصر كثير من الشعراء والرواة والمنشدين.
في مطلع عام 1996، التقيت - للمرة الأولى - عبدالعاطي نايل (قرية النخيلة، مركز أبو تيج، محافظة أسيوط)، مشيت إليه قرابة الساعتين، حيث يقطن في الجزء الزراعي الغربي من القرية (غرب السكة الحديد)، وحيث يقع بيته على طريق ضيقة تتوسط بين ترعة صغيرة شرقًا والزمام الزراعي غربًا. بعد مرور ثانية واحدة، أدركت أنني أمام راوٍ كُفَ بصره، وفُتحت بصيرة ذاكرته، ثم أشار في حديثه إلى إصابة عينيه بمرض أفقده البصر وهو في الحادية عشرة من عمره، وأن موهبته في إبداع الموال، وتربيع السيرة الهلالية، كانت نتيجة إلهام، حيث كان يرعى الغنم في أوان العصر، ومرَّ على شجرة برتقال، فسقطت إحدى ثمارها، فمصها، فصار قوالاًً.
- 2 -
يرتكز فهم مجال "الإعاقة" على المجال الطبي، ويكاد لا يفترقان، بينما يخفت فهمه على الصعيد الاجتماعي1، ويكاد ينعدم على الصعيد الثقافي، بل إن طرح مسألة الإعاقة على الثقافة الشعبية يدفع الفولكلوريين إلى الهرب أو الانسحاب خجلاً؛ ذلك لأن التصور المكرَّس لدى كثير منهم يتمثل في أن المأثورات الشعبية تحتشد بتعبيرات فائقة القسوة تجاه مختلف أنواع الإعاقة، غالبًا ما تطغى على أذهانهم ألفاظ المثل الشعبي الذي اطلعوا عليه بحكم التخصص: "إن شفت الأعمى دبُّه، وخد عشاه من عبُّه، ما نتاش أرحم عليه من ربُّه". بالطبع، فإن الوقوف عند حدود اللفظ في المثل الشعبي، دون الوعي بالمعاني والدلالات الرمزية التي ينتجها سياقات المثل عبر أفعال تأويلية، هو خطأ فادح من قبل النخب، والأفدح عندما يقع بعض المتخصصين - في التحليل الفولكلوري - في شَرَك انتزاع المثل من سياقات تداوله، حيث يُحلَّل بمعزل عن المواقف الإنسانية المعيشة (أو الافتراضية)، ويُستغرق في فهم مغزاه عبر تفسير ضيق انطلاقًا من ألفاظه، دون غوص في جوهره، وليس هذا الجوهر سوى السياقات والمواقف المتعددة والمتكررة والمتناظرة التي تستدعي المثل وتستحضره وتمنحه كينونته ووظيفته. لا ينطبق ذلك على الأمثال التي تنطوي على ألفاظ الإعاقة فحسب (وهي محدودة للغاية، قياسًا بحجم تداول الأمثال الشعبية على الصعيد العام، فثمة أمثال شعبية تشي بقيم سلبية تجاه النساء، وأخرى بقيم سلبية تجاه الرجال، وأخرى تجاه الأطفال، وتجاه العجائز، فتجاه بعض المهنيين) بل كثيرًا ما تُحاكم الأمثال من منظور الفكر الديني، لنجد معظمها – إن لم يكن كلها – يدخل في تصنيفات الكفر أو الشرك أو الحرام أو المكروه، وكثير من الأفكار النخبوية تضع يدها على التناقضات في الأمثال الشعبية، وعلى التمييز ضد المرأة، وعلى الخضوع والإذعان وطاعة الحاكم المستبد... إلخ، حتى صار المثل الشعبي – كغيره من النتاجات الإبداعية الشعبية - مجالاً مستباحًا يُعاد فيه إنتاج الأفكار الأيديولوجية، بوصفها وعيًا زائفًا بالثقافة الشعبية وبأصحابها. ومن جانب موازٍ، لا يؤول هذا المثل الشعبي أو ذاك إلى الجماعة الشعبية على نحو جمعي مطلق، وإنما إلى طيف أو أطياف منها، فثمة أمثال تنتسب إنتاجًا وتداولاً إلى النساء، وأخرى إلى الرجال، وأخرى إلى جماعات حرفية ومهنية، وأخرى إلى أماكن ونواحٍ ديموغرافية. وفقًا لذلك، فإنني أنظر إلى الأمثال التي تنطوي على ألفاظ الإعاقة ليس بوصفها ألفاظًا دالة على الإعاقة على نحو مباشر؛ وإنما على ما تنتجه – في السياق – من معانٍ وقيم رمزية أبعد ما تكون عن الإعاقة.
لقد أديتُ المثل (إن شفت الأعمى دبُّه، وخد عشاه من عبُّه، ما نتاش أرحم عليه من ربُّه) في مناسبات وسياقات مختلفة إلى آخرين متعددي المواقع الاجتماعية والاقتصادية، فبجانب القلة القليلة جدًا التي مر عليها، وبالكاد يتذكرونه، بدت استجابات من لم يعرفوا المثل لافتة للوعي (وليس للنظر): يا ساتر – أول مره أعرفه – أول مره أسمعه - إيه دا إيه دا - يا خبر – إيه الفظاظة دي – فيه كدا... كأن المثل الشعبي المذكور (علينا أن نفكر في حجم اللحظات التي يضرب فيها هذا المثل، وفي حدود دائرته الاجتماعية التي تتبنى قيمه. وفي كنه أطرافه ورموزه: من المبصر الشوَّاف؟ من الأعمى؟ من الآخذ؟ من الرب؟ خل أنني – عبر قيم براجماتية أتبناها - أدفعك – بوصفك لصًّا محرومًا أو طامعًا - إلى السطو على شيء وحيد يملكه فقير قليل الحيلة، عاجز عن حماية نفسه، بل أدفعك إلى انتهاك حقه بشرعية مطلقة تفرضها قوة أو سلطة ما تملكها، فأقول لك: "إن شفت الأعمى دبُّه، وخد عشاه من عبُّه، ما نتاش أرحم عليه من ربُّه") يعوق عن معرفة مغزى عشرات الأمثال الشعبية التي أبدعها الإنسان المصري، وورَّث بها "الحكمة" جيلاً بعد جيل بعد جيل، أودع فيها منظومة متكاملة من القيم الرمزية التي يغوص مغزاها في أعماق التأويلات، لتحمي الناس من الوقوع في الإذعان، والاستسلام للفقر وللجهل وللمرض، عبر تعزيز قيم التفاؤل، والكرامة، والتضامن، والتواصل، والترشيد، والعمل والمثابرة، وحب الحياة، والاعتداد بالنفس، والاعتماد على الذات، والتعاون، ومقاومة الفقر والعوز والعجز والإعاقة، وتحقيق المشاركة الجماعية، والالتصاق بالواقع وبالأرض وبالأصول وبالناس2. ليس بوسعي أن أسوق نصوص هذه الأمثال الشعبية، وعيًّا بأن سياقات الحياة اليومية لدى الجماعة الشعبية، ومواقفها الإنسانية والكونية، ولحظاتها التاريخية، هي التي تسوقها لفظًا ومعنى ومغزى.
يمثل قصر النظر إلى "الإعاقة" (أليس قصر النظر – في هذا السياق - مجازيًّا؟) بوصفها "عاهات جسدية" انحصارًا ماديًّا للإعاقة، وتغييبًا مطلقًا لمجالها غير المادي؛ ذلك لأن المدخل الثقافي يغيب عن الإسهام مفاهيميًّا وإبداعيًّا في شؤون الوقائع الإنسانية، ليس لأن الثقافة عاجزة عن أداء هذا الدور؛ بل لأننا معاقون عن الإسهام بالثقافة في هذه الشؤون. إننا معنيون بمعرفة الآليات التي تعمل بموجبها هذه الإعاقة للثقافة؛ لدى النخب، وفي الوسائط، وفي السياسات.. إلخ، والوعي بما تصنعه الثقافة العالمة (الرسمية أو النخبوية أو السائدة) وأجهزتها ومؤسساتها، في مقابل ما تنطوي عليه هذه الثقافة الشعبية من قيم رمزية بديلة. هل في الوسع أن نراجع مفهوم "ذوي الاحتياجات الخاصة" مثلاً3؟ ومراجعة الحيز المفهومي الضيق لمفهوم "الإعاقة"؟ والعجز؟ ومجاوزة حدود التجليات والصور الثابتة والمستقرة للإعاقة والعجز في التصورات الذهنية العامة؟ والتفكير في ما يمكن أن تمنحه الثقافة الشعبية وفنونها وآدابها من أفكار ملهمة؟ واستلهام الفنون الحديثة: الأدبية والموسيقية والغنائية والتشكيلية والحركية - التي تحظى بالحماية المؤسسية، والذيوع عبر وسائط فاقت كل الحدود القديمة - للقيم الإبداعية الشعبية التي سَمَتْ بالمعاقين، ونفذت إلى باطن الإعاقة، وأضاءت الجوانب الروحية والجمالية الإعاقية؟
- 3 -
تشير نهاد حلمي، الناشطة في مجال دمج المعاقين، إلى أن استراتيجية الشفقة والإعانة التي تُمارس تجاه المعاقين - بدءًا من تخصيص نسبة الـ 5% من وظائف الدولة، وصولاً إلى الامتيازات التي تمثل، في معناها العميق، تمييزًا وليس عدلاً أو دمجًا – تدفع الفقراء، بكثافة، نحو الحصول على شهادة تأهيل المعاقين من الجهة الإدارية المختصة (التي تغير اسم الوزارة التابعة لها مرارًا: الشؤون الاجتماعية، التضامن الاجتماعي). في تقديري، ليس لدى الفقراء مشكلة في أن يكونوا معاقين في الأوراق الرسمية، فليست الإعاقة سبة بالنسبة إليهم، بل لا غضاضة من أن يتعرضوا للإعاقة الجسدية فعليًّا في أية لحظة من لحظات المخاطر التي يمرون بها في حياتهم اليومية. ليست الإعاقة سبة عند الفقراء المدفوعين دومًا إلى الاستعاقة، فالعار الجوهري هو الفقر، بل العار هو الإفقار. إننا معنيون بوضع اليد على سياسات إفقار المصريين وأساليبها المقننة منذ عقود، لنكفها عن تمدد زمامها الذي يطال أرواح القاعدة العريضة من الشعب المصري.
إذن، وعلى نحو مجازي وحقيقي في آن، فإن عارنا الصريح هو في الإفقار، وليس في الإعاقة. وبالرغم من أن الإفقار ليس الفقر، فإن الفقراء والمُفْقَرين يضربون المثل – منذ آلاف السنين – على إبداع الحياة والعيش والاستمرار والاتصال. إن إبداعهم يغير ما يسمى بـ"الحد الأدنى" لإشباع الحاجات الأساسية الذي يحولونه إلى حد أدنى نسبي ومتحرك، فيخلقون من "الفسيخ شربات"؛ لأن إبداعهم يقدم نماذج تفيد في درس التعبئة؛ لمواجهة اليومي المباشر؛ ولتحدى التبعية بآلياتها؛ ولأنه إبداع يُظهر، في بعده الفني والروحي، ضرورة التصالح مع الحياة، للبقاء وللاستمرار وللتجدد، ولمواجهة المشكلات والإعاقات مواجهة مبدعة، رغم أنف الظروف المحيطة به وبأصحابه الذين لا يملكون إلا الضعف الذي يتضاعف مع الأيام، ويضحون – عبر هذه الرحلة المريرة - بكل طاقاتهم العقلية والذهنية والنفسية.
إنهم نتاج أوضاع البنية الاجتماعية التي تجبرهم على التصرف بلا اختيارات حقيقية، ليلتقطوا المتاح من الفرص، بينما تعوزهم الشروط التي توسع دائرة اختياراتهم. إنهم أصحاب القطع القزميَّة من الأرض (وربما أكثرهم بلا أرض)، هم العمال الأجراء، ذكورًا وإناثًا وأطفالاً، ومنتجو بعض أدوات العمل وبعض السلع. هم أصحاب الحرف والصناعات اليدوية البسيطة والشاقة. ورغم أنهم يعملون أكثر من غيرهم- بمجهود مضاعف – في الحقول، وفي الشوارع، وفي الدور، وفي الورش، وفي البحيرات، فإنهم يعيشون من أيديهم إلى أفواههم مباشرة، مضطرون لقبول ما يسمح به الآخر لهم. إنهم الفئات التي حُوصر إبداعها ومقولاتها ومشاعرها، وحُجِبَا عن المرور إلى الثقافة المكتوبة والمسموعة والتاريخ المسجل والسياسات العليا، هي التي فرضت أوضاع البنية الاجتماعية أن يكون إبداعها من أجل البقاء4، من خلال المقاومة اليومية لكل ما يُعيق عن تحقيق مقادير من إنسانيتهم وكرامتهم وعيشهم. هي نفسها الجماعات الاجتماعية الشعبية التي تمثل المجال الإنساني الشعبي الرحب الذي يسكن فيه ضعف المعاقين، وهواجس المعاقين، وقوة المعاقين، وإبداع المعاقين، ودمج المعاقين.
في الثقافة الشعبية، ليست الإعاقة سوى الفقر (ليس مفهوم الفقر هنا ماديًّا حصرًا، كما الإعاقة). وبالرغم من ممارسات الإعاقة على دوائر اجتماعية واسعة عبر إفقارها، فإن الفقراء استطاعوا أن يكونوا أثرياء جماليًّا، حيث ظلوا يبثون الإبداع والقيم الروحية في الأقدار الإعاقية، أجيالاً فأجيال. تلكمُ قوة الضعفاء، وقوة من يُعتقد أنْ لا قوة لهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * مدرس الأدب الشعبي المساعد بأكاديمية الفنون – القاهرة.
1. ثمة طرق بديلة إلى فهم الإعاقة، تُجاوز الدلالات المادية إلى الدلالات الاجتماعية. فإذا كنتُ لا أستطيع المشي لدخول بناية، فإنها غير مهيأة لي، فالدرج (السلم) يمثل الأداة الوحيدة للصعود. وبما أنني لا أستطيع الوصول إلى الهدف، فإنني معاق على نحو مطلق من وجهة نظر الآخر، لكنني – بوصفي معاقًا - لا أفسر الموضوع ولا أنظر إليه استنادًا إلى منظور الآخر، ولكن من منظوري المتمثل في أن هناك مجموعة من درجات السلم تمنعني من الوصول إلى البناية. ومن ثم، فهي التي تعيقني؛ أي إن الإعاقة بالسلم ومنه وفيه، قبل أن تكون الإعاقة لي. إنني لست معاقًا بالمعنى المطلق؛ لأن ثمة حلول ممكنة، لكنها لم تتحقق لأني لم أكن موجودًا في وعي مصمِّم البناية. إنه عندما يريد شخص، لا يستخدم الكرسي المتحرك، الدخول إلى بناية، يكون لديه توقع مسبق يستند إلى ثقته بالقدرة على دخولها بدون أية تعديلات، والصعود إلى الأعلى باستخدام الدرج، هذه هي الطريقة التي يفكر فيها المهندس عندما يخطط للبناء. وبالمثل تمامًا، فإن الشخص الذي يستخدم الكرسي المتحرك، لا يجد في نفسه إعاقة، ما دام يتوفر في البناية مصعد ومنحدرات معدة له. هذا يعني أنه ليس لدى الشخص المعاق جسديًا عجزًا جسديًّا، ولكن القصد هو أن سياسات التوزيع الاجتماعي مصمَّمة بطريقة تعوق المعاق عن التمكين.
عندما يكون الآخرون معاقين عن رؤيتي والإحساس بوجودي في هذا العالم، فإن ذلك يمثل الانتكاس الحقيقي. علينا أن نعرف الآخرين دومًا، وأن نراهم في أنفسنا، وأن نفكر بهم ولهم ومنهم، عندما نصمم ونبني ونخترع وننظر ونبدع.
عندما نقول بأن العاهات الجسدية للإنسان هي مكامن إعاقاته، فمن شأن ذلك أن يضع الأمور في سياقها الخاطئ، ربما كان يحظى هذا التفسير بالقبول النسبي في الماضي، رغم تبعاته السلبية، لكننا معنيون الآن بتعبيد طرق جديدة للوصول بالإعاقة إلى آفاق جديدة، عبر إعادة تفسير المشكلات التي يواجهها المعاقون ورؤاهم لذواتهم وللعالم وللكون (في كثير من الحالات، قد تبرز هذه الفعاليات عبر الفنون اللغوية وغير اللغوية)، إنها نفسها الآفاق التي يسكن فيها تقدم عمراننا البشري وتطوره.
على الرغم من تطور فهم مجال الإعاقة والمعاقين، فإن الأخطاء ذاتها لا تزال تتكرر مجددًا، فمن حيث التغيير في بنية الخطاب الموجه إلى المعاقين، أصبحت الألفاظ والمصطلحات لا تتعامد على الجوانب السلبية للإعاقة (انظر إلى تعبيرات الجماعة الشعبية في مشارب ثقافية متعددة: كريم عين، أبو عوينة، أبو النضر، نخلة، مجري، رهوان، لبلب، بركة، من أهل الله، بتاع ربنا، ولي، شوَّاف، عرَّاف، ملاك، ... إلخ). لكن لا يزال البعض يطلق مصطلح "معاق" على كل شخص أصيب بخلل عضوي أو حسي، جزئي أو كلي (ومعها تترافق الأوصاف التي تبدو دقيقة وثابتة لغويًّا وطبيًّا: الكفيف، الأعمى، العاجز، المشلول، المعاق ذهنيًا، المختل عقليًّا، الأصم، الأبكم، الأخرس، الأعرج، الأعور... إلخ). ولو لم تكن الإصابة في جسده أو حواسه، وإن لم تعيقه عن الأداء العادي في حياته اليومية، فإن القلة المؤثرة من الناس لا تزال تسمه بأنه "معاق"، وفي حالة التغلب على إعاقته عبر استخدام أجهزة وأدوات، وتعديل البيئة لتناسب إعاقته، فلا يزال منعوتًا بالإعاقة. إنهم لا ينتبهون إلا إلى العاهة، حتى بعد علاجها، حتى بعد الاستعانة بأداة للتغلب عليها.
لم يعد الأمر متعلقًا بمنظور الآخر للإعاقة، ولكن بمنظور المعاق إلى نفسه: مشاعره ورغباته وتوقعاته وفهمه للعالم. ووفقًا لهذا المنظور الذاتي، تتبلور مفاهيم الإعاقة التي يُعتد بها في مضمار بحوث الإعاقة. إن كثيرًا من الناس أعاقتهم أفكارهم ومعتقداتهم ونظرتهم السلبية إلى الذات، عن تحقيق أهدافهم، أو عن وضع أهداف قابلة للتحقيق في حياتهم. ليس المعاقون هم المعاقون حصرًا، بل أكثر المعاقين هم ممن يُعتقد أنهم غير معاقين، والخلاصة أن الإعاقة مفهوم كوني وإنساني بامتياز. إن كثيرًا من الإعاقات التي كانت تعد "إعاقة" في الماضي، لم تعد كذلك الآن، فقد كانت "الإعاقة" دومًا في الماضي "أم الاختراع"، وكذلك يجب أن تكون في أفق المستقبل: خلاقة ومبدعة ومنتجة ومحركة ومضيئة للإنسانية.
2. راجع: محمد حسن عبد الحافظ، الثقافة الشعبية والمجتمع المدني، الحوار المتمدن، الشبكة الدولية للمعلومات: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=34156
3. يمثل استخدام تعبير "ذوي الاحتياجات الخاصة" التفافًا على استخدام مفهوم "المعاقين"، وإن شئت الدقة، فإن كل إنسان هو من ذوي الاحتياجات الخاصة. عندما يفتش كل منا في نفسه يجد أن بداخله احتياجات خاصة حتمًا. إننا نهرب من استخدام مصطلح "معاق" بسبب محمولاته السلبية التي تستشري في البنى النفسية والذهنية. وعندما يدركون بأن محمولاته الإنسانية الإيجابية فائضة، ستتلاشى أوهامهم حيال الإعاقة والمعاقين. ولا يفوتني أن أقول في هذا السياق: من كان منكم بلا إعاقة، فليقل: ذوي الاحتياجات الخاصة.
4. راجع: عبدالباسط عبدالمعطي، توزيع الفقر في الثقافة المصرية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1979.
#محمد_حسن_عبد_الحافظ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نص بلا عنوان
-
إضاءات3
-
سحر السخرية المصرية
-
إضاءات4
-
حكاية 2
-
عن نصر حامد أبو زيد
-
مناسك 7
-
إضاءات 2
-
إضاءات 1
-
مناسك 6
-
حكاية 1
-
في الأصولية وقضايا المرأة
-
في المرحلة الانتقالية
-
في الأصولية والأصوليين
-
في انتظار القطار
-
في الاحتجاج بالجسد
-
في تناسل المقدس
-
رسالة إلى شباب مصر على الفيس بوك
-
رسالة إلى الرئيس مرسي العياط
-
مناسك 5
المزيد.....
-
ماذا قالت أمريكا عن مقتل الجنرال الروسي المسؤول عن-الحماية ا
...
-
أول رد فعل لوزارة الدفاع الروسية على مقتل قائد قوات الحماية
...
-
مصدران يكشفان لـCNN عن زيارة لمدير CIA إلى قطر بشأن المفاوضا
...
-
مباشر: مجلس الأمن يدعو إلى عملية سياسية شاملة في سوريا بعد ف
...
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|