|
صباح الخير ياعيد الميلاد!
نصار إبراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 3953 - 2012 / 12 / 26 - 13:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
اليوم، هو صباح عيد الميلاد المجيد، 25 كانون الأول 2012، كل عام والجميع بخير.. من على مرمى صوت يأتيني صدى الاحتفالات بأعياد الميلاد في مدينة بيت لحم، تحملني ذاكرتي بعيدا وتعيدني سنوات طويلة للوراء، تلتمع في الذاكرة أضواء الميلاد الملونة في ساحة المهد، وخليط الناس وبهجتهم، كان قلبي الصغير يرقص، وكانت أمي تقول: انتظر! الآن سيصل البطرك، أما أنا فلم أفهم ما هو البطرك، سوى أنه "شيئ" ما مهم وخطير ومحترم وحتى لم أكن أدرك يومها بأنه إنسان، إنه أكثر من ذلك والدليل هذا الصخب والازدحام وهتافات " هذا هو، هذا هو، شفته؟". أتطاول فلا أرى سوى جموع حاشدة تهتف وتصلي وتدق الطبول، ورغم دهشة الطفل عندي إلا أن كل ذلك لم يكن يعنيني في شئ، ما كان يعنيني قبل البطرك المحترم وبعده، وأنا أتشبث بثوب أمي وأشدها نحوي بحثا عن الأمان، هو بسطات حلوى الميلاد الملونة المصطفة بجلال وإغراء على جنبات الساحة صعودا على درجات السوق، الأمر الذي يجعل أي محاولة للتفكير بحقيقة سيدنا البطرك بالنسبة لي عملا لا معنى ولا جدوى منه، كانت بسطات الحلوى تحتل مساحة عقلي ولم تترك لغبطة البطرك مكانا، ولكنني في الحقيقة كنت أحب هذا البطرك بكل جوارحي وذلك لسبب بسيط،هو: أن حضوره أصبح مرتبطا بحضور الحلوى حتى تلاشت أو تداخلت المسافة بينهما، وبهذا المعنى أخذ البطرك عندي قداسته من قداسة الحلوى التي مارست معي كل أنواع الغواية لكي تجذبني إليها ونجحت بهذا نجاحا مطلقا، واليوم وبعد كل هذه السنين التي مضت لم يفقد بطركي مكانته وقداسته، ولا أريد له أن يفقدها... فسقى الله ذلك الزمن. جلست وحيدا هذا الصباح في مكتبي، وتذكرت كل ذلك، فيما كنت أتصفح الأخبار، أرشف فنجان القهوة بهدوء، أدخن وأقرأ وأسرح بعيدا وقريبا، أستعيد الأفكار والحوارات وأتذكر الأصدقاء واحدا واحدا. ألقيت نظرة على المشهد العربي والكوني العام، فهالني وأحزنني ذلك الاشتباك الطائفي والديني المرهق والرهيب، هذا الاشتباك الذي يكاد لا يبقي ولا يذر شيئا من إنسانيتنا وفرحنا، فعواء الطائفية بين الأديان وفي داخل الدين الواحد يخيم كوباء مرعب وشرس، يدمر في طريقه كل ما راكمته البشرية من خبرة في التكيف للبقاء والتوحد، وكأن الأديان ما أتت إلا لتحرق وتمزق وتشيع الحقد والكراهية والموت لمن لا يقبل بهيمنة تيار أو طائفة أو دين بعينه، هكذا.. في لحظة جنون، في عصر الجنون الطائفي والديني تهوى المجتمعات والأفراد في هاوية الدمار الذاتي، نلوم الطبيعة على غضبها الفطري، ولا نقف لحظة أمام هذا الجنون الجماعي الواعي والمنظم والمنسق إلى درجة تثير القرف. أجلس وأتذكر في صباح هذا اليوم 25 كانون أول 2012، أتذكر أيام وسنوات التآلف الفطري، عندما لم نكن نلقي بالا للانتماء الطائفي أو المذهبي، هكذا ببساطة كنا نرى ذلك كجزء من الطبيعة الأم وعار علينا الاحتجاج عليه، لم يكن يثير حساسيتنا صوت الآذان أو أجراس الكنائس، لم نكن نتحسس من الأسماء ومن اللباس إلا بقدر ما يسئ ذلك لثقافتنا الجمعية، كنا نتعامل مع كل ذلك باعتباره امتداد طبيعي لجمال حقلنا الاجتماعي بذات القوة والطريقة التي تتآلف فيها أشجار اللوز والزيتون والرمان والتين والعنب على تلال بلادنا. لم أكن أرى في جارنا أبو جميل أو أبو جورج أو صليبا إلا تنويعا طبيعيا لأعمامي الحاج عيد وأبو علي وأبو خليل، لا فرق إلا بقدر ما يرشيني أي منهم ببعض الحلوى، عدا ذلك هم أقمار تدور في فلك طفولتي هكذا كالقدر، لم أكن أفرق في "السطو" بين تينة عمي أبو علي ومشمشة عمي أبو جورج، كما كان يبهجني ويفرحني كثيرا أن تتبادل شقيقتي مع ابنة جيراننا جانيت الملابس الفلاحية والمدنية من باب التجريب البريء.. لا فرق، يمد أبو جورج يده إلى الطعام ويسمي بالعذراء والصليب وفي ذات الصحن يمد والدي يده ويبسمل، ينهيان طعامهما ويرفعان رأسيهما للسماء ويحمدان ربهما.. تلك هي أيام الصفاء الطبيعي الذي يحفظ الذات من الدمار والبؤس النفسي.. واليوم، يحزنني ويجرحني في أعماقي عواء الطائفية التي تمزق أشرعة السفينة وتدفعها بلا رحمة نحو صخور الفقر الأخلاقي والروحي البائس. فلماذا سمحنا للصوص الفكر والثقافة الطائفية بأن يقتحموا سفينتنا الجميلة التي كانت تبحر في هدأة الحياة بكل بهائها، فكيف لنا أن نحيا بعيدا عن تنوعنا وتمازجنا، كيف لنا أن نكون أمة تستحق الاحترام ونحن لا نحترم طبيعتنا، تاريخنا سياقاتنا، وأحلامنا المشتركة. بماذا وعلى ماذا تختلف مريم عن فاطمة وأحمد عن جورج، فلهما ذات سمرة الوطن وذات الذاكرة وذات الآلام وذات التاريخ وذات الجذور وذات الثقافة.. هكذا كانوا وهكذا سيكونون. الوجه الآخر لهذه للثقافة والممارسة الطائفية الثقافة والممارسة المذهبية، التي تتسلل إلى تلافيف عقولنا وعقول أطفالنا حيث تقيم المتاريس وتبني جدران القطيعة بين السني والشيعي، بين الشافعي والمالكي، بين الحنفي والحنبلي، بين اللاتيني والأرثوذكسي بين السرياني والأرمني، بين الماروني واللوثري، وتدور رحى التكفير والتهجير وتصفية الذات باسم الله وباسم أنبيائه وباسم الحقيقة التي تتأرجح مشنوقة وحيدة في فضاء التمزق النفسي والمعنوي والروحي المروع. كم هو مثير للحزن مصير هذا الوطن ومصير هذه الأمة التي تبدع في دفع أسوأ ما فيها إلى سطحها، وتنسى أجمل مافيها، قدرتها على الانتماء والبقاء وأن تقدم للانسانية درسا في فن الحياة، أمة أول ما تعتز بعروبتها، بأسودها وأحمرها، برجالها ونسائها، بعربيتها الفصحى ولهجاتها الممتدة من المحيط إلى الخليج، بأديانها وطوائفها ومذاهبها وتنوعها الاجتماعي... فمن بمقدوره أن يلغي من عقلي وذاكرتي ثقافتي المسيحية أو الإسلامية، من بمقدوره أن يلغي من فضائي أقواس ومقنطرات المعمار الإسلامي أو معمار الأديرة والكنائس التي ورثتها عن أجدادي في اليمن وبلاد الشام وشمال إفريقيا، ومن بمقدوره أن يلغي ثقافتنا الغذائية المشتركة، ومن بمقدوره أن يقول بأن أثواب جداتنا وأمهاتنا المطرزة هي حكر على هذا الدين أو هذه الطائفة أو تلك، ومن بمقدوره أن يعيد صياغة أغاني أعراسنا وحصادنا وقطاف زيتوننا وطهور أولادنا وعمادهم بما يناقض ما هو في وعينا... ومن بمقدوره أن يقول لي ما الفرق بين الآية القرآنية الكريمة التي نرددها عند الفقد والموت " إنا لله وإنا إليه راجعون" والآية التي وردت في الكتاب المقدس والتي نرددها في ذات الموقف " الرب أعطى والرب أخذ". ومن بمقدوره أن يجردنا - نحن أبناء وبنات هذا الشرق العظيم – من رجع أساطيرنا الأولى التي تسافر في أعماق وعينا منذ ولادة اسطورة الخلق البابلي اينوما ايليش في بلاد مابين النهرين [عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء وفي الأسفل لم يكن هناك أرض]، ومن بمقدوره أن يلغي دورة الفصول والشوق بانتظار المطر وزارعة البعل في حدائقنا وحقولنا.. أو أن يفصلها عن أسطورة الآلهة تيامات وإنليل وتموز وآذار وجلجامش وعناة وبعل وموث؟ وكيف حينها ستنتظم الفصول وتتوالى وتتجدد الحياة؟ يقول الكاتب اللبناني ناصر قنديل: "عندما كنا ما دون العشرين في سبعينات القرن الماضي ، ما كان متيسرا أن نتعرف على طوائف اصدقائنا ولو أردنا، لأن الأسماء الدالة على الهوية الطائفية كانت نادرة ومحدودة التداول، وبالأصل كان الواحد منا يخجل من نفسه عندما يريد ذلك". يا الله كم أفتقد لذلك الزمن، كنا نتراكض في باحات مدرستنا نتقاسم اللقمة والبسمة والدمعة لا نسأل عن طائفة أو دين، كنا نعيّد في أعيادنا جميعا، كنا نحن الأطفال المسلمون نفرح ونحتفل بأعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية والفصح " لأننا سنتغيب عن المدرسة" وكنا نحن الأطفال المسيحيون نفرح ونحتفل بأعياد رمضان والأضحى ورأس السنة الهجرية " لأننا سنتغيب عن المدرسة" هذا ما كان يجذبنا وبعد ذلك ليحتفل كل منا كما يشاء.. كنا نتبادل التهاني والابتسامات والحب العابر للأديان والطوائف، تجمعنا لغتنا العربية الجميلة وجذورنا وهمومنا وثقافتنا وتقاليدنا وحبنا لذات الأشياء وكان الله يظللنا جميعا ويمسح بيده على رؤوس الجميع الحليقة بذات الحنان وأحيانا بقسوة.. لم نكن نلقي يومها بالا أو نتحسس لأن صوت الآذان في مساجدنا قد ارتفع قليلا، أو لأن صوت أجراس كنائسنا قد علا بعض الشئ، فمن هو يا ترى ذلك الذي أخذ يلفت نظرنا اليوم إلى هذه التفاصيل ويعطيها أبعادا ومعان سلبية باتت تمس وتهز أعماقنا.. ومتى أصبحت الصلاة عنوانا للتحدي والمناورة والاستفزاز وتسجيل النقاط ضد أقرب الناس إلينا، بل ضد ذاتنا ذاتها! من يتحمل مسؤولية الإساءة لأطفالنا ويعبث ببراءتهم ووعيهم وانتمائهم في محاولة لإقناعهم بأن هناك انتماء يتعدى عروبتهم، وكأن الأديان جاءت نقيضا للعروبة ولم تولد في فضائها ورحمها، وكأن الوحي لم يهبط على بلدان وأمم وشعوب وقبائل وأعراق مختلفة... في أعياد الميلاد أقول للمسلمين قبل المسحيين في بلادي وفي بلاد العرب وغيرها كل عام وأنتم بخير، وفي أعياد الفطر والأضحى أقول للمسيحيين في بلادي وفي بلاد العرب وغيرها كل عام وأنتم بخير، فأي عيد عيدي يا ابن أمي وأنت حزين وأي عيد عيدك يا ابن أمي وأنا حزين. وفي أعياد الحرية والاستقلال والعمال والمرأة والصيف والشتاء والربيع والخريف أقول لجميع الناس كل عام وأنتم بخير. وفي النهاية لينهض عملاق وعينا الجمعي النائم ليستعيد راية انتمائنا الواحد وراية تنوعنا الجميلة بجمال قوس قزح في يوم ماطر وخصيب.
#نصار_إبراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التحدي السوري ومأزق الديمقراطية الكولونيالية في دول - الربيع
...
-
الشعب السوري: هو البطل الملحمي وقوة الحسم..شيئ من السياسة وب
...
-
التحولات في الشارع العربي.. هي ستنحج في استعادة الذات والقطع
...
-
سورية: الصراع على المستقبل
المزيد.....
-
فيديو يُظهر اللحظات الأولى بعد اقتحام رجل بسيارته مركزا تجار
...
-
دبي.. علاقة رومانسية لسائح مراهق مع فتاة قاصر تنتهي بحكم سجن
...
-
لماذا فكرت بريطانيا في قطع النيل عن مصر؟
-
لارا ترامب تسحب ترشحها لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا
-
قضية الإغلاق الحكومي كشفت الانقسام الحاد بين الديمقراطيين وا
...
-
التمويل الغربي لأوكرانيا بلغ 238.5 مليار دولار خلال ثلاث سنو
...
-
Vivo تروّج لهاتف بأفضل الكاميرات والتقنيات
-
اكتشاف كائنات حية -مجنونة- في أفواه وأمعاء البشر!
-
طراد أمريكي يسقط مقاتلة أمريكية عن طريق الخطأ فوق البحر الأح
...
-
إيلون ماسك بعد توزيره.. مهمة مستحيلة وشبهة -تضارب مصالح-
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|