|
نظرة سوسيولوجية على ظاهرة الحركة الوطنية لعرب فلسطين
محمد خليل حسين
الحوار المتمدن-العدد: 3953 - 2012 / 12 / 26 - 00:11
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
نظرة سوسيولوجية على ظاهرة الحركة الوطنية لعرب فلسطين للمؤرخ الاسرائيلي يهوشع فورات ترجمة محمد خليل حسين(داود)
مقدمة المترجم
لا شك ان المنتصر هو من يكتب التاريخ بناء على ما يخدم مصالحه. بالتالي كتب الاسرائيليون تاريخاً للمنطقة بحسب معتقداتهم ومصالحهم. مع ذلك فليس كل ما كتبوه محكوم عليه بالزيف والتحريف كما يدعي الكثيرون من العروبيين والاسلاميين. فبسبب المستوى الثقافي والحضاري المنخفض لمثقفي هذه الامة، ما زالت النظرة القديمة لكل ما يكتب عن العرب والاسلام سواء من قبل العرب والمسلمين انفسهم، أو من قبل الاجانب مما لا يتجاوب مع الطرح المسيطر او لا يمدحه ويزمر له، خصوصاً ان احتوى على نقد معين او كشف للمستور، تفعل فعلها الكريه والضار. فالردود الدفاعية المجافية والمحاربة لكل نقد وكشف جاهزة بتقييماتها ومصطلحاتها التي عفى عليها الزمن والتي لم تعد تقنع اصغر الكائنات الحية. أقول هذا وانا أتخيل البعض يعلقون على هذا المقال او ما يشبهه من الكتابة بأنه مقال " يزيف الواقع، ولا يتوخى الحقيقة والدقة، بل انه يشكك وغايته هدامة خبيثة، لا سيما وأنه مكتوب من قبل يهودي...الخ"
كاتب هذا المقال يهودي وهو باحث متخصص في الدراسات الفلسطينية ان جاز لنا القول. وهو يكتب بالعبرية. بمعنى انه لا يوجه كتاباته وابحاثه للعرب او لمن يقرأ العربية. وبالتالي فهو ليس معنياً بالتأثير على العقل العربي شديد الحساسية لدرجة الهشاشة. فهو يكتب لليهود خصوصاً لمن يقرأ بالعبرية من بحاثة وطلبة جامعات. وهنا فهو غير معني بتقديم مادة غير حقيقية او مزيفة لابناء جنسه. هذا علاوة على ان الكتابة البحثية في الدول التي تعيش في القرن العشرين والواحد والعشرين لها نقادها. فلا يستطيع كل من ادعى البحث ان يكتب للاكاديميين ما ليس له قيمة علمية او انه لا يتوخى الدقة والتوثيق وما الى غير ذلك. أقول هذا ليس دفاعاً عن احد. بل دفاعاً عن العقل والتعقل، ورداً على اصحاب الرؤوس المدببة الذين يغارون على ما يسمونه "بالمصلحة الوطنية" والقدسية القومية..الخ ويقاومون كل كشف لعفونة الماضي التي دأبت كتبنا المدرسية على تقديمها لنا راكبة على حصان أصيل وشاهرة سيفاً هندياً وراية تحمل رسم سيفين متقاطعينِ.
أما هذا المقال فهو صفحة من الصفحات المحرمة Taboo من تاريخ الشعب القلسطيني. التي لم يسبق ان سجلها اي مؤرخ فلسطيني او عربي. والسبب الحقيقي وراء ذلك يكمن في كون ان نفس تلك القيادات العائلية الاقطاعية التي تزعمت الحركة الوطنية الفلسطينية في زمانها ما زالت حتى اليوم بأبنائها واحفادها تمارس نفس الهيمنة ولكن بأشكال مختلفة عن السابق بما يتلائم مع العصر. ما زال التعرض لتلك العائلات بالنقد او تبيان دورها الحقيقي في تاريخ هذا الشعب أمر غير مرغوب به لما له من تداعيات قد تهدد النسيج الاجتماعي- السياسي القائم رغم كل تناقضاته. وهذا ما ترفضه العقلية السياسية الفلسطينية المسيطرة بما تتميز به من محافظة وكراهية للتغير. ومختصر القول أن هذا المقال يقدم لنا معلومات تاريخية قيمة وتحليل اقتصاد- سياسي جيد للاسس الاقتصادية والاجتماعية لظهور وتطور واخيراً إنهزام الحركة الوطنية الفلسطينية في النصف الاول من القرن الماضي.
* * * * *
تركيبة النخبة الاجتماعية خضعت ارض اسرائيل[فلسطين] في أيام العثمانيين الى نظام حكم إجتماعي مركزي شبيه بشكل كبير بنظام الحكم في إمارات جبل لبنان، ولكن بدون إمير يترأسه. فقد كانت المنطقة الممتدة من جبل الخليل جنوباً وحتى سهل يزراعيل[سهل مرج إبن عامر] شمالاً- ما عدا المدن الواقعة فيها- مقسمة الى نواحي، يترأس كل ناحية منها شيخ من أبنائها (1) وقد إرتبطت تلك النواحي في ما بينها بتحالفات قامت على أساس عصبية القيس واليمن. وقد تشابهت في تلك النواحي مجريات الحياة اليومية والاجتماعية. وفي أطرافها على الاقل اقيمت أنظمة حكم خاصة على اسس العادات القروية والقضاء العشائري، وفق اصول معروفة وواضحة. (2) وقد كان شيوخ بعض النواحي زعماء لقبائل بدوية. ويبدو أنهم حصلوا على مراكزهم تلك كشيوخ نواحي من خلال استيطان قبائلهم في مناطق محددة. (3) حصل شيوخ النواحي على مكانتهم بالدرجة الاولى لكونهم كانوا جباة ضرائب (ملتزمون) لمناطقهم. (4) وقد كانت تلك الوظيفة تنتقل بالوراثة داخل العائلة اومن الاب للابن أحياناً.كما حدث أن إنتقلت تلك الوظيفة من قرية لاخرى.(5) وفي كل عام كان على الشيخ أن يحصل على تصريح يدعم به مركزه من الحاكم العثماني. وقد كان ذلك التصريح يتم من خلال إرسال (خلعة) الى الشيخ. وقد كان ذلك الطقس يتم مرفقاً بتقدير كمية الضريبة السنوية التي يجب على النواحي أن تدفعها في تلك السنة. (6) كانت سلطة اولئك الشيوخ مدعومة بقوة عسكرية تجند وقت الحاجة من بين أبناء الفلاحين. (عادة لفض الاشتباكات ما بين القيس واليمن).
ومع بداية عهد الاصلاح العثماني عام 1840 بدأت السلطة العثمانية بالقضاء على مركز شيوخ النواحي، حيث أعلن بختي- شريف غولخانة عام 1839 إلغاء جباية الضرائب (الالتزام). لكن ذلك الالغاء لم يثمر الا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.(7) إذ سرعان ما أدركت السلطة العثمانية أن ليس بإستطاعتها أن تدير عملية جباية الضرائب بشكل مباشر بواسطة موظفين. لذلك أعادت الالتزام بعد إلغائه بثلاث سنوات (8) ولكن بعد أن أجرت عليه بعض التغيرات. ففي السابق كان الحاكم العثماني مسؤول عن جباية الالتزام. وبالنسبة للنواحي في بلاد اسرائيل كان معنى هذا الامر هو منح تصاريح سنوية للشيوخ من أجل قيامهم بجباية الضرائب في نواحيهم. أما في الالتزام الجديد فقد حدث تغير على هذا الامر، إذ اوكل الالتزام والرقابة على الجباية الى مجالس الادارة التابعة للواء. وكما إعتقد غاد فرومكين الذي عمل كرجل قضاء في قسم المالية في إدارة لواء القدس في اواخر العهد العثماني فقد "ضم ذلك أيضاً جباية العشور وضرائب اخرى، والتي لم تكن الدولة تجبيها بشكل مباشر. وإنما من خلال الاسعار مقابل كمية محددة مسبقاً يدفعها الجابي لصندوق المالية، وبعدها يحصل لنفسه على كل ما يستطيع جبايته. فقد كان يجبي العشور نقداً او عيناً من الفلاحين بمرافقة الجندرمة الذين كانوا يرافقون الجابي او رسوله." (9)
ويبدو أن هذه الطريقة قد ادت دورها بشكل تدريجي في المناطق المتاخمة لجبل نابلس في إضعاف مكانة شيوخ النواحي، حيث إنتقلت وظيفة جباية الضرائب الى وجهاء المدن الاكثر مالاً والذين أصبحوا يجبون الضرائب من الفلاحين مباشرة. ومما يجب ذكره أن اولئك الوجهاء هم أنفسهم الذين كانوا يتقلدون الوظائف الهامة في مجالس الادارة التي تحولت الى أداة في أيديهم يدعمون بها مكانتهم وتأثيرهم وملكياتهم. وقد كان من نتيجة ذلك أن أصبح هؤلاء الوجهاء في اواخر الحكم العثماني طبقة تتمتع بقوة كبيرة على حساب شيوخ النواحي. (10) من ناحية اخرى، فقد عملت السلطة العثمانية منذ عام 1840 جاهدة من أجل تحجيم القوة العسكرية التي تمتع بها اولئك الشيوخ وكذلك حرمانهم من صلاحيات القضاء. ورويداً رويداً تم احتوائهم ضمن الادارة العثمانية التي قامت بتعيينهم كمخاتير للقرى. وهكذا أدت هذا السياسة الى إضعاف مكانة شيوخ القرى والنواحي بحيث ما ان قربت نهاية القرن التاسع عشر، حتى كانوا قد فقدوا الكثير من صلاحياتهم الادارية.
مع ذلك حافظ شيوخ القرى بشكل جيد على مكانتهم الاجتماعية كشيوخ للنواحي التي كانت بمثابة وحدات إجتماعية. فمع نهاية عام 1920، كان ينظر الى الشيخ عبد الحميد أبو غوش ليس كمجرد زعيم لعائلته وقريته، بل كذلك كزعيم لعشرين قرية من قرى ناحية بني مالك. ومثله كان الامر بالنسبة لشيوخ اخرين. (12) بعد ذلك بثلاث سنوات فرض على قرى منطقة رام الله إقامة مراكز إضافية للشرطة على حسابهم (حسب قانون منع الجريمة) وذلك نتيجة لازدياد أعمال السطو في تلك المنطقة. لكن سكان تلك المناطق رفضوا تلك الخطوة من قبل الحكومة ممثلين بمخاتير القرى الذين قاموا بتنظيم حملة لارسال عرائض الاحتجاج بناء على التقسيمات التقليدية لتلك المناطق. (13)
ومع الفترة الممتدة ما بين نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات، كانت تلك التقسيمات ما زالت موجودة. ففي عام 1920 قامت اللجنة التنفيذية الفلسطينية بحملة تبرعات من أجل ضحايا أحداث تلك الفترة من العرب مبتدئة الجباية من المناطق القروية بواسطة شيوخ القرى، ومرة اخرى حسب التقسيمات التقليدية. (14) كذلك كانت مشاركة الفلاحين في موسم احتفالات النبي موسى في سنوات الثلاثين تتم وفق تلك التقسيمات، بحيث كانت القرى تشارك ببيارقها الخاصة. (15)
وهكذا شكل الحفاظ على التقسيم بحسب المناطق مصدراً لقوة الشيوخ السياسية الذين تزعموا تلك المناطق. بحيث اصبحت أحد العناصر الهامة في الصراع على زعامة الجماهير العربية الفلسطينية.
لم ينتج عن التراجع التدريجي في صلاحيات شيوخ القرى والمناطق فراغاً يذكر. اذ عبأ ذلك الفراغ عنصر آخر هو طبقة وجهاء المدن (الاعيان). فمنذ القرن الثامن عشر، بلورت هذه الطبقة قوة ومكانة لها داخل المجتمع العثماني. ففي تلك الفترة أصاب الوهن قوى الحكومة المركزية بسبب النزاعات الداخلية مما عمل على إضعاف صلاحيات تلك الحكومة التي كان الوالي ممثلاً لها في المقاطعات. وقد مكن هذا الامر بعض من القوى المحلية- عائلات الحكام المحليين، وقبائل البدو والاعيان المدينيين- من الوصول الى مراكز النفوذ، بل حتى الى السيطرة شبه الكاملة.(16) وفي القرن التاسع عشر بدأ يلاحظ إزدياد قوة طبقة اعيان المدن بشكل أكبر. فمع بداية عهد التنظيمات وبعد القيام بالاصلاح العثماني في سورية، اخذت السلطة العثمانية بالبحث عن طرق لتقوية تلك الطبقة ودفعها للمشاركة في جهود الحكومة من أجل تقوية السلطة. وبناء على هذا الامر اقيمت في الالوية مجالس ( مثلما عمل نظام محمد علي) كانت تعمل الى جانب السلطة بحيث شارك فيها الى جانب كبار الموظفين لادارة اللواء، الاعيان المحليين أيضاً.
مع ذلك فإن النتائج الجوهرية لهذا التجديد كانت بعكس ما توقعت السلطة، إذ تمكنت طبقة الاعيان من جعل المجالس أداة في يدها. فمن خلالها مارست سطوتها على الادارة المحلية. كذلك استخدمت تلك المجالس في كبح جماح الوالي الذي عبر عن رأيه في إحداث بعض الاصلاحات التي كانت ستمس مكانتهم. وهكذا اصبحت قوة الوالي تجاه تلك الطبقة محدودة، فقد كان تعيينه كوالي يتم لمدة عام واحد فقط، مما مكن الاعيان المحليين من التفوق عليه في معرفة شؤون اللواء. لذلك لم يكن بإستطاعته العمل بدون معرفتهم وخبرتهم تلك. وقد كان الهدف من هذه السياسة منع الوالي من أن يحوز على قوة أكثر من اللازم مما قد يؤدي الى المخاطرة بمكانة الحكومة المركزية في الاقاليم. لكن ما توقعته الحكومة قد حدث. إذ أدى إضعاف الوالي الى إضعاف السلطة المركزية بالضرورة مما ادى بالحكومة المركزية الى محاولة إصلاح الوضع عام 1852 عن طريق زيادة صلاحيات الوالي بشكل كبير. لكن يبدو أن تلك الخطوة كانت متأخرة، فقد كانت سطوة القوى المحلية في أوجها.(17) ومع أن سطوة الاعيان المحليين إنخفضت قليلاً، إلا أن تلك الطبقة رغم ذلك لعبت دوراً هاماً في إفشال جهود الاصلاح التي قام بها الوالي المصلح أحمد شفيق مدحت، والى ولاية سورية (دمشق) في سنوات 1878- 1880.
إزدادت سطوة هذه الطبقة على الادارة المحلية لكون رجالها كانوا يسيطرون على الكثير من الوظائف في السلك المحلي . فمن هذه الطبقة ظهر علماء الدين والمشرفين على المقدسات الذين كانوا قد تلقوا تعليماً حديثاً نسبياً في مدارس السلطنة حديثة العهد. ونتيجة لذلك كانت تلك الطبقة مصدراً لتجنيد المرشحين لشغل وظائف الجهاز الاداري الجديد في حقبة التنظيمات.
كان الغاء الالتزام التي كانت صلاحياته تنتقل بالوراثة في اوساط شيوخ المناطق، واستبداله بجباية الضرائب لكل من يرفع السعر قد ساهم بشكل كبير في تقوية مكانة طبقة أعيان المدن. وبسبب ثرائهم تمكن هؤلاء الاعيان من منافسة شيوخ المناطق واستحواذهم على الالتزام. ولكن والى جانب هذا العامل الاقتصادي كان هناك عامل آخر يفعل فعله وهو نفوذهم في الادارة العثمانية. فقد كانت جباية الضرائب تتم عن طريق مجالس الادارة للواء. وبلا شك فقد اهتم الاعيان بإستغلال نفوذهم في تلك المجالس من اجل الاستحواذ على الالتزام.(19)
كانت هناك علاقة متينة ما بين تلك التطورات وبين ما نجم عن ضعف تنفيذ قانون الاراضي العثماني لعام 1858. فقد ادى ايلاء تنفيذ ذلك القانون بيدالجهاز المحلي وضمن صلاحيات مجالس الادارة للواء الى ان تصبح إستقامة المشرع استقامة مزيفة. فبدلاً من الحفاظ على حقوق الدولة على الاراضي الاميرية وحقوق العمل والعاملين، نجح الاعيان في تسجيل قطع كبيرة مترامية الاطراف كانوا يجبون منها الضرائب، بإسمائهم. ومما ساعد في ذلك رزوح الفلاحين تحت طائلة الديون ثقيلة الوطئة وخوفهم من تسجيل قطعهم في سجل الاراضي. (20)
كل هذا زاد في قوة ومكانة طبقة اعيان المدن في الادارتين الدينية والمدنية للامبراطورية التي حازت على ملكيات واسعة جداً. كذلك تركزت معظم الوظائف العليا في الادارة اللوائية بأيدي أبناء النخبة المحلية. حتى ان بعضهم تمكن من الوصوال الى مراكزعليا في الادارة العثمانية خارج مناطقهم. منهم مثلاً: عبد اللطيف صلاح من نابلس الذي شغل في نهاية الحكم العثماني منصب أمين عام مجلس النواب. (21) كما شغل أحمد حلمي باشا عبد الباقي الادارة العامة للبنك الزراعي العثماني في سورية والعراق.(22) ومصطفى خالد من القدس، قائد شرطة بيروت، والمدعي العام للمدينة- وفيما بعد قاضي محكمة الاستئناف. (23) وعارف باشا الدجاني من القدس الذي تقلد عدة مناصب في الادارة العثمانية ، أهمها منصب متصرف، اي حاكم لواء. (24) وأسعد الشقيري من عكا الذي كان عضواً في لجنة الاستقصاء الشرعي الى جانب شيخ الاسلام في إسطنبول إبان الحرب العالمية الاولى، كذلك اصبح مفتياً للجيش الرابع (الذي كان تحت إمرة جمال باشا والذي حارب على الجبهة المصرية.)(25) وموسى كاظم الحسيني الذي إرتقى في الادارة حتى أصبح حاكم منطقة (قائمقام)، ثم حاكم لواء، واخيراً والياً على اليمن.(26) وقد ساعدت إقامة البرلمان العثماني كذلك في تقوية مكانة طبقة الاعيان. إذ كانت كل اقطاب البرلمان من الوية ارض اسرائيل من هذه الطبقة مما أضاف لنفوذهم نفوذ آخر على المستويين السياسي والاجتماعي. (27)
تتضح هيمنة طبقة الاعيان بشكل أكبر عند فحص الواقع الاجتماعي في مدن أرض اسرائيل في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ففي مدينة القدس برزت كل من عائلة الحسيني والخالدي. أما عائلة النشاشيبي فقد كانت تصعد رويداً رويداً في السلم الاقتصادي والاجتماعي بحيث عملت على إزاحة عائلة الخالدي التي تركز أبناؤها وبشكل تقليدي في الوظائف الدينية، كوظيفة رئيس الكتبة في المحكمة الاسلامية في القدس.(28) ومع بداية القرن العشرين كان من بين أبنائها الوجيهين، الشيخ خليل الخالدي الذي شغل منصب رئيس محكمة الاستئناف الشرعية في البلاد، والشيخ راغب الخالدي، مؤسس مكتبة الخالدية. لكن يبدو أن أبناء هذه العائلة الذين كانوا قليلي العدد لم يندمجوا في الادارة العثمانية الجديدة مما قلل من نفوذهم.
أما عائلة الحسيني فقد تمسكت بوظيفة مفتي القدس منذ منتصف القرن التاسع عشر. ففي عام 1864إقيمت في القدس بلدية حيث سيطر عليها أبناء العائلة رغم تمكن أبناء الخالدي من تقلد منصب رئيس تلك البلدية أحياناً، على حين حاز أبناء عائلة العلمي على ذلك المنصب لمرة واحدة فقط. (30) وفي ثمانينات القرن التاسع عشر كان هذا المنصب من نصيب سليم الحسيني وفي العقد الثاني من القرن العشرين تقلده كل من حسين سليم الحسيني وموسى كاظم الحسيني. وهكذا وصل أبناء هذه العائلة الى مراكز عليا اخرى في لواء القدس، أو أنهم كانوا حكام مناطق والوية حتى أنهم عملوا في الجهاز المركزي للحكومة في إسطنبول. (32)
أعطت وظيفة مفتي القدس لعائلة الحسيني أساساً لتثبيت مكانتها على مستوى كل البلاد. فقد كان مفتي القدس الشخصية المركزية في إحتفالات موسم النبي موسى.(33) وقد لاحظنا أن اهمية تلك الاحتفالات تجاوزت تخوم مدينة القدس الى كل البلاد. وعلاوة على ذلك فإن العلاقة المتينة ما بين عائلة الحسيني وموسم النبي موسى قد ترسخت كثيراً جداً لكون أبناء هذه العائلة كانوا المسؤولين التقليديين عن الطقوس المقدسة الذي اختص بها مسجد النبي موسى القريب من أريحا. (34)
لم تصعد عائلة النشاشيبي الا من خلال أجيالها الاخيرة، فقد انتخب صاحب الاملاك عثمان النشاشيبي عام 1912 عضواً في البرلمان (35) أما راغب النشاشيبي فقد كان مهندساً للواء القدس، لكنه انتخب هو أيضاً عضواً للبرلمان عام 1914 .(36). كذلك شارك أبناء هذه العائلة في المجلس الاداري للواء.
وليس من المستغرب أن مكانة هذه العائلات كانت قوية بحيث اضطر حاكم اللواء للتقرب منهم وادارة شؤون اللواء حسب رغبتهم.(37) وفي خمسينات القرن التاسع عشر وصف القنصل البريطاني جيمس بين تلك العائلات بالقول: " من الجدير ذكره، أن أواصر القربى للعائلات العربية، تلك التي لا يعترف بها القانون هي المتفذة بحكم المكانة، وهي التي عملت على إغتصابهم لكل الوظائف البلدية." (38) لم يتغير الوضع حتى بعد مرور خمسون عاماً، ففي عام 1906- 1908، إنتفض حاكم لواء القدس محاولاً التغيير. وقد وصف مكانة العائلة كالتالي:" يوجد هنا أصحاب نفوذ ووجهاء حصلوا على الثراء والشهرة من خلال التسبب بالاذى لابناء الشعب... فبعد تفوق السكان العرب (البدو) البدائيين في معظمهم، يرتفع إسم وجهاء القدس من خلال تمردهم ضد الحكومة...ومنذ تعيين رؤوف باشا حاكماً للقدس، بدأ بحملة للقضاء على سطوة اولئك الطفيليين على حساب الجماهير وليري اصحاب النفوذ في اللواء، المدعويين حسيني وخالدي ونشاشيبي وداودي (دجاني) حدودهم..."(39)
وفي نابلس ايضا التي كانت عاصمة لواء، برز أبناء العائلات المحلية. فمنهم من شغل مناصب هامة ولمدة طويلة في صفوف الجيش وادارة اللواء والامبراطورية ولكن مع تجديد وجه الامبراطورية انخفض كما يبدو نشاطهم. إذ يبدو أن هذه المدينة المحافظة لم تستجب للمستلزمات الجديدة بنفس السرعة كمدينة القدس. فمن بين أبنائها كان أمين عبد الهادي فقط حاكم منطقة خارج اللواء الاصلي. (40) مع ذلك لم نجد شواهد لهذا الامر تشير الى ان مدى تأثير هذه العائلات النابلسية على ادارة شؤون لوائها شابه ما قد تطور في القدس.
كانت العائلات الهامة في نابلس منقسمة الى قسمين. فمع أن مصدر ذلك الانقسام كان التعصب للقيس ولليمن، إلا ان الاحتلال المصري[حملة ابراهيم باشا إبن محمد علي على سوريا] في ثلاثينات القرن التاسع عشر أضفى طابعاً سياسياً جديداً على هذا الانقسام. كان القسم اليماني برأسة عائلتي عبد الهادي وعائلة النمر اللتان أيدتا السلطة المصرية فاصبح منهم الحكام. وأما القسم القيسي، فقد ترأسته عائلة طوقان، التي قادت التمرد ضد المصريين.(41) وفيما بعد أصبح الموالون للمصريين يسمون دار المصري، والمعارضين سموا دار البيه، بناء على ما يبدو للقب البيه الذي تميز به أبناء عائلة طوقان. وقد دام هذا الانقسام وهذان اللقبان على الاقل حتى العقد الثاني من القرن العشرين.(42)
أما مدن منطقة غزة ويافا فقد كان الامر فيها شبيهاً بسابقه. فقد تغيرت الصورة هناك أيضاً،إذ سيطر أبناء العائلات القوية على الوظائف المحلية الهامة (رئيس البلدية والمفتي المحلي). وقد برزت هذه الظاهرة بشكل كبير حتى ان تلك العائلات نجحت في الاستيلاء على أراض واسعة.(43) فكما نذكر كان السهل الساحلي قليل السكان في القرن التاسع عشر. واذا فحصنا طريقة تسجيل الاراضي في المناطق المقفرة حيث لم يكن لتلك الاراضي من يطالب بها، نفهم كيف حدثت تلك التطورات.
وكما يبدو فإن المكانة القوية جداً للعائلات المقدسية قد نتجت عن مكانة المدينة الخاص أي سنجق القدس التي حازت على هذه المكانة بالدرجة الاولى لاهميتها الدينية كمدينة مقدسة، ومن وضعها العام. ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت لقاضي القدس صلاحيات قضائية واسعة من ناحية جغرافية. وقد كان يحدث أحياناً أن يتم رفع مكانة سنجق القدس الى درجة إيالة (مقاطعة)، أو على الاقل سنجق لكنها غير مرتبطة بحاكم المقاطعة. وقد كان ذلك يمثل بتعيين حاكم لواء للمدينة بدرجة عالية (متصرف).(44)
في سنوات الخمسين من القرن التاسع عشرتحولت مكانتها الادارية هذه الى وضع ثابت، إذ تقرر ألا يخضع حاكم سنجق القدس مرة اخرى لصلاحيات حاكم مقاطعة صيدا أو دمشق، بل يخضع مباشرة لإسطنبول. كذلك تكون مكانة ذلك السنجق كمكانة الايالة.(45) وقد تقرر أن تكون لحاكم هذا اللواء درجة أعلى من درجة حاكم لواء عادي. (46) وعندما اقيمت بناء على قانون الولايات العثماني لعام 1864 مجالس عمومية في المقاطعات الجديدة، فوق مجالس الادارة، اقيم في القدس كذلك مجلساً عمومياً.
من خلال هذه الاجراءات أصبحت طبقة أعيان المدن قوة ساحقة في أوساط الجماهير العربية في ارض اسرائيل. وقد أصبح رجال القدس عنصراً مركزياً فيها. وقد ازدادت قوة الاعيان على حساب أسلافهم شيوخ المنطق القروية. وهكذا- وبدرجة أقل- على حساب مكانة أعيان لوائي نابلس وعكا. ومن الواضح انهم كانوا عناصراً قل نفوذهم فبحثوا عن فرص للتعبير عما يعانونه من مرارة. وقد تمثلت تلك الفرصة في قدوم سلطة الانتداب البريطاني عندما انتظمت المعارضة السياسية لعرب ارض اسرائيل ضد الصهيونية.
التطورات التنظيمية
لا يعالج هذا المقال قيام الحركة الوطنية العربية الفلسطينية. وليس القصد منه الا ابراز بعض من مظاهرها وتركيبتها الاجتماعية وبنيتها التنظيمية.
منذ بداية النشاط المنظم ضد الصهيونية في نوفمبر 1918، ظهر لاول مرة تنظيم يحمل اسم الجمعية الاسلامية المسيحية في يافا وفي القدس حيث تقدم زعماؤها بعريضة احتجاج للحكام العسكريين لتلك المدينتين بمناسبة مرور السنة الاولى على وعد بلفور. وقد كان زعماء تلك الجمعية هم زعماء العائلات المدينية الهامة وكذلك زعماء لطوائفهم الدينيية.
وفي القدس اقيمت كذلك جمعيتان اكثر تطرفاً، كانت تؤيد وحدة الشعب السوري تحت زعامة الملك فيصل بن الحسين، وهما النادي العربي بزعامة عائلة الحسيني، والمنتدى الادبي بزعامة عائلة النشاشيبي. (49) وقد نجحت هاتان الجمعيتان في ان تقيم لها فروعاً اخرى في مدن اخرى في البلاد. لكنها وبعد عام 1920 اخذت في التراجع على إثر تراجع المطالبة بالوحدة مع سورية. وقد كانت الجمعية الاسلامية المسيحية (هي التنظيم المركزي للحركة الوطنية العربية الفلسطينيية) حيث اخذت بالانتشار في المدن الاخرى بالتدريج.
كان في مركز تنظيم الجمعية الاسلامية المسيحية لمدينة القدس، حتى صيف 1922 معظم اقطاب الجماهير المقدسية. فتسريح عارف باشا الدجاني من وظيفته كرئيس للجنة التنفيذية ادى الى إبعاده عن الجمعية المقدسية، وبدلاً منه أدار سكرتير اللجنة التنفيذية جمال الحسيني الجمعية بشكل فعلي. ومن خلال هيمنة الجمعية الاسلامية المسيحية على باقي الاطر في البلاد كان رؤساؤها زعماء لتلك الاطر. فقد كانت اللجنة المركزية متواجدة في القدس ومن هناك يتم الاشراف على الادارة اليومية للسكرتارية من قبل المقدسيين. كان السكرتير الاول إسحق درويش، والثاني جمال الحسيني ومساعد اخوه إسحق الحسيني. وعندما سافر جمال الحسيني في خريف عام 1923 الى الهند ضمن وفد المجلس الاسلامي الاعلى، حل مكانه مقدسي آخر هو صفوت يونس الحسيني.
هناك تعبير آخر لهيمنة المقدسيين، وتمثل في تمثيل المقدسيين في اللجان القطرية وفي مناطق اخرى، التي كانت بعيدة جغرافياً وسياسياً. مع ذلك فقد أخذ بعض من أبناء المدن الاخرى بعض مما تبقى. ومن غير المعروف ان كان رجال طبريا وصفد واماكن اخرى قد اعطوا تمثيلهم لاسحق درويش وجمال الحسيني وحسن ابو سعود واخرين، او ان هؤلاء استغلوا فرصة عدم قدوم اولئك الممثلين المحليين. فكون تمثيل القدس القوي قد ارتفع في اللجان القطرية، لا يقلل من اهميتهم. اما المركز الهام الثاني للجمعية الاسلامية المسيحية فهو في يافا. وقد برز في الفترة ما بين 1918- 1923 حيث انه تأثر بالانقسام الداخلي الذي حدث بين رجال اللجنة التنفيذية والمعارضة. وفي تلك الفترة نجحت الجمعية الاسلامية المسيحية في يافا في أن تكتل في داخلها معظم زعماء الجمهور ووجهاء يافا بحيث اصبحت قوتها ونفوذها الجماهيري أمر لا يمكن انكاره. ولكن مع نهاية عام 1923 بدأت هذه الجبهة الموحدة بالتحلل. وفي نفس الفترة وافقت بلدية يافا على الحصول على التيار الكهربائي من مصلحة البروفيسور روتنبرغ مما أثار غضب العناصر المتطرفة. كان رئيس البلدية عاصم بيه السعيد من أقارب حليفه عمر البيطار رئيس الجمعية الاسلامية المسيحية في يافا. لذلك أصاب عمر البيطار بعض من ذلك الغضب. وقد استغلت عائلة الدجاني القوية هذا الوضع للهجوم عليه والكيد له. ونتيجة لهذا الصراع تفككت الجمعية الاسلامية المسيحية في يافا رويداً رويداً الى معسكرين متخاصمين ولم تعد مكانتها كالسابق.(50) وقد تفاقم هذا الوضع بشكل اكبر منذ 1926 وما بعدها عندما انتقل عمر البيطار وعاصم بيه السعيد الى صفوف المعارضة. كذلك انتقل الولاء السياسي للجريدة اليافاوية "فلسطين" من اللجنة التنفيذية الى معارضيها. أما القوى الغاضبة المؤيدة للجنة التنفيذية فقد ثارت ابان انتخابات بلدية يافا في حزيران 1927، حيث فاز عاصم بيه السعيد ورجاله وتم تعيينه مجدداً رئيساً للبلدية. (51)
ادت جهود اعادة توحيد الصفوف عام 1928 وأحداث شهر آب 1929 الى انبعاث الجمعية الاسلامية المسيحية في يافا. ففي النصف الثاني من عام 1929 كثفت هذه الجمعية من نشاطها، ومن مواقفها المتطرفة، وممارستها للضغط على اللجنة التنفيذية بغية زيادة نشاطها. في نفس الوقت وليس بالصدفة كان عبد القادر المظفر هو سكرتير الجمعية. وقد تميزت هذه النشاطات الجديدة بالتعبير عن الروح الجديدة للحركة الوطنية الفلسطينية التي ستظهر فيما بعد بعدة سنوات.(52)
كانت حيفا كذلك مركزاً هاماً للعمل الوطني، الا انه لم تقم فيها جمعية اسلامية مسيحية موحدة. ففي الفترة الاخيرة من الحكم العثماني توترت العلاقات كثيراً ما بين المسلمين والمسيحيين. فقد ادى تحسن اوضاع المسيحين اقتصادياً الى تردي احوال المسلمين مما أثار حفيظتهم.(53) ويبدو من خلال ذلك ان النشطاء الوطنيين في حيفا لم يكونوا على استعداد لاقامة إطار لاكثر من طائفة، ومقابل ذلك اقيمت في العام 1337 هجرية جمعية اسلامية نشطت في مجال النضال الوطني وليس بالضرورة كمنظمة تهتم بالشؤون الدينة المستقبلية.(54) أما المسيحيين الذين بعثوا من قبلهم من مثلهم في المؤتمر الاول في كانون الثاني 1919، فقد أقاموا جمعية مسيحية بعد إقامة الجمعية الاسلامية بسنة. وقد عمات الجمعيتان بشكل متوازي.(55) وبشكل عام عملت الجمعيتان بشكل تعاوني: فقد ارسلتا برقيات احتجاج الى الحكومة، وقدمتا عرائض احتجاجية من قبل الجمهور للحاكم المحلي، ونظمتا مظاهرات مشتركة، اما تمثيل السكان في الجنة فقد قامتا به بشكل منفرد. وقد استمر هذا الحال طيلة حياة الجمعية الاسلامية المسيحية واللجنة التنفيذية.(56) ويبدو انه لم تقم اطر وطنية غير طائفية في حيفا الا في النصف الثاني من سنوات الثلاثين.
كانت هناك جمعية اسلامية مسيحية اخرى قائمة في نابلس منذ عام 1919. وقد ترأسها الحاج توفيق حماد وبإدارة حافظ آغا طوقان ( الذي كان معتمد الجمعية، أي مدير شؤون الجمعية). والتي كانت نشيطة جداً سواء في نابلس او في اللواء او على مستوى البلاد. (57) وقد ظهرت قوتها في المؤتمر الاول، فأصبحت بديلاً واضحاً للمركز القطري المقدسي، بسبب رفض القيادة المقدسية الاندماج في جهود الوحدة مع سورية. وفي النصف الاول من سنوات العشرين نجحت في تجميع معظم وجهاء نابلس في داخلها فكانت كما ذكرنا عنصراً هاماً جداً في إفشال انتخابات المجلس التشريعي. وانضمام الجمعية الاسلامية المسيحية النابلسية الى المعارضة عام 1926 في نضالها ضد استفراد الحسينيين في المجلس الاسلامي الاعلى كانت ربما ذروة تحصيلها وقوتها. ويبدو ان هذا الامر هو الذي ادى في نهاية سنوات العشرين الى بداية نشوء إطار وطني بديل في نابلس الا وهي لجنة المؤتمر العربي. مع ذلك ظلتالجمعية الاسلامية المسيحية قائمة حتى عام 1931. (58)
في تموز 1938 قررت الجمعية الاسلامية المسيحية في نابلس ان تغير اسمها لتصبح الجمعية العربية الوطنية (59) وقد كان لهذا التغيير اهمية كبرى، فقبل ذلك في المؤتمر الخامس اعرب عزة دروزة لسان حال التيار الشاب والكفاحي عن عدم رضاه من اسم الجمعية الاسلامية المسيحية. وحسب رأيه لم يعبر ذلك الاسم عن الروح الوطنية الجديدة إذ كان مكبلاً بالاطار الطائفي.(60) وهكذا جاء تغيير اسم الجمعية الاسلامية المسيحية النابلسية ليؤكد على الاتجاه الكفاحي بشكل أكبر الذي بدأ بالانتشار منذ اذار عام 1931، بعد خيبة الامل التي سببتها رسالة مكدونالد ("الكتاب الاسود" كما يسميها العرب) في شهر شباط من تلك السنة.
وبمقابل الجمعية الاسلامية المسيحية في نابلس واصل النادي العربي نشاطه ولكن بوتيرة اقل حتى انه وعلى ما يبدو انضم الى الجمعية الاسلامية المسيحية (61). ومما يدعو الى الاهتمام هو أن هذا الاطار خرجت منه في نهاية عام 1927 مبادرة هامة كان من المأمول منها ان تؤثر على مسيرة الحركة الوطنية في الثلاثينات. ففي كانون الاول 1927 توجه النادي العربي في نابلس الى جمعية الشبان المسلمين في البلاد واقترح عليها اقامة إطار لجمعية الشبان المسلمين على مستوى البلاد. وفي البداية لم ينو هذا الاطار العمل في السياسة. لكن إرتفاع شأنه وتنامي النشاط السياسي الذي بدأ به بعد ذلك بعدة سنوات كانا من المميزات الهامة لتلك الحقبة. ومن المهم التأكيد على أن المبادرة الى هذا النشاط جائت أيضاً من قبل محمد عزة دروزة.(62)
أما الدلائل الاولى التي لدينا في ما يتعلق بإقامة الجمعية الاسلامية المسيحية في غزة في كانون الاول 1920، فهي أن غزة كانت قد بعثت بممثليها الى المؤتمر الاول. ومن الان فصاعداً ستتكاثر الدلائل حول وجود الجمعية النشط.(63) فالذي ذكرناه هو أن الجمعية الاسلامية المسيحية في غزة نجحت بشكل كبير في نشاطها من اجل افشال انتخابات المجلس التشريعي. وقد كان وجود المعارضة هنا ضعيفاً، ففي انتخابات البلديات لعام 1927 فاز مؤيدو المجلس الاسلامي الاعلى واللجنة التنفيذية بنجاح كبير ووحيد.
تعتبر كل من القدس ويافا وحيفا ونابلس وغزة منطقة انتشار الجمعية الاسلامية المسيحية ( مع ذلك كانت هناك في حيفا اطر طائفية منفردة) في المرحلة الاولى من تنظيمها، أي حتى المؤتمر الفلسطيني الثالث في كانون الاول 1920.
وخلال عام 1921 وفي النصف الاول من 1922 حدث توقف في انتشار تلك الجمعيات في البلاد، الى ان بذلت جهود تنظيمية جديدة في صيف 1922. ففي حزيران 1922 جرت محاولة لاقامة الجمعية الاسلامية المسيحية في البيرة (64) لكن الامر لم يتحقق بتاتاً. لكنه نجح في نفس الفترة في الناصرة. فهذه المدينة لم تشارك في العمل الوطني في مراحله الاولى. لكن وفداً من الناصرة شارك في المؤتمر الاول، مع ذلك لم يكن لها ممثلين في المؤتمر الثالث والرابع. كذلك لم تف الناصرة بالالتزامات المالية التي القيت على عاتقها من قبل اللجنة التنفيذية من أجل تمويل نشاطاتها ونشاطات بعثاتها.(65) وخلال سنوات العشرين تواجدت فيها عناصر ذات تأثير مثل (عائلة الفاهوم بالدرجة الاولى) الي نشطت جنباً الى جنب مع اللجنة التنفيذية. لكن رغم ذلك اقيمت في الناصرة الجمعية الاسلامية المسيحية بمساعدة خصوم عائلة الفاهوم من العائلات الاخرى كعائلة الزعبي. وقد ارسلت الجمعية في حزيران 1923 ممثلين عنها الى المؤتمر السادس.(66) هناك دلائل اولية على قيام جمعية وطنية في طبريا أيضاً تعود الى تلك الايام ففي تموز 1922 اقيمت هناك جمعية اسلامية فقط دون ان يقيم المسيحيين جمعية موازية لهم كما حدث في حيفا. كذلك كان تمثيل طبريا في المؤتمرات القطرية ضعيف بشكل ملحوظ. مع ذلك تم إرسال ممثلين الى المؤتمر الاول. لكن في المؤتمرات التالية تنازل اهل المدينة عن تمثيلهم( ما عدا ارسال ممثل واحد الى المؤتمر الرابع) سامحين لغيرهم من أبناء المناطق الاخرى بالادعاء بأنهم يتحدثون بإسمهم.
كانت جمعية طبريا كاختها في الناصرة، غير متميزة في الكثير من النشاطات في لوائها، بل انها بشكل عام وقفت ضد العمل الوطني وقللت من التزاماتها المالية. وبعد 1923- وهي سنة الذروة بالنسبة للعمل الوطني الاول- لم يعد لها ذكر.(67)
هناك منطقة اخرى تحفظت كثيراً على الحركة الوطنية وزعمائها المقدسيين وهي منطقة الخليل وقراها. فممثل هذه المنطقة لم يشارك في المؤتمرات الثلاث الاولى (الاول والثالث والرابع) كما انهم قللوا من التزاماتهم المالية التي كانت ترصد لتغطية نفقات اللجنة التنفيذية. بل يمكن القول انهم لم يشاركوا في الحركة الوطنية في سنواتها الاولى.(68) ففي صيف 1922 شارك وفد الخليل لاول مرة في المؤتمر القطري (الخامس) ومن تلك الفترة تقريباً ظهرت دلائل اولية تفيد بإقامة الجمعية الاسلامية المسيحية هناك الا انها لم تتميز بنشاطاتها ولم يكن لها تأثير على المدينة.(69)
وفي سنوات العشرين بل وحتى الثلاثين الاولى كانت الخليل وقراها مركزاً هاماً للمعارضة. فقد كانت هناك صراعات ما بين مدراء المقدسات المحلية وبين المجلس الاسلامي الاعلى حول استخدام املاك الوقف وهي كما رأينا بين العناصر الهامة لتلك الصراعات. لكن مع نهاية سنوات العشرين تغير هذا الوضع. فقد عين رئيس المجلس الاسلامي الاعلى أحد زعماء المعارضة في الخليل وهو الشيخ عبد الحي الخطيب التميمي مفتياً للمنطقة. وبناء على ذلك اصبحت عائلته مؤيدة للمجلس الاسلامي الاعلى وللجنة التنفيذية. لكن هذا التعيين لم يلغ تماماً عناصر معارضة المجلس الاسلامي الاعلى واللجنة التنفيذية.
وفي منطقة بئر السبع انضم بعض شيوخ القبائل عام 1922(في المؤتمر الخامس) الى اطارات المؤتمرات القطرية واللجنة التنفيذية، لكن طبيعة السكان البدوية في تلك المنطقة منع منذ البدء كل امكانية لاقامة نشاطات وطنية منظمة ذات بعد قطري، او تحملها لوطئة المصروفات المالية لنشاطات كهذه.
وفي صفد كان الوضع مختلفاً. فمع انتهاء مرحلة التنظيم الاولى للحركة الوطنية- خريف 1920 وشتاء1921 نشط في المدينة النادي العربي.(70) لكن يبدو أن جسماً كهذا لم يكن شاملاً ونشطاً جدا في نشاطه. وعملياً ًتمت ادارة العمل الوطني في صفد( المشاركة في المؤتمرات القطرية وفي المظاهرات، إرسال عرائض احتجاج، مقاطعة انتخابات المجلس التشريعي) حتى اذار 1923من قبل الزعامات الدينية والاجتماعية وعلى رأسها الشيخ اسعد محمد الحاج يوسف قدورة، مفتي صفد. والحقيقة ان إطاراً ضعيفاً كهذا كان من الصعب عليه جمع الاموال، لذلك تميزت صفد كذلك بمشاركة ضئيلة في ميزانية اللجنة التنفيذية كانت تقل كثيراً عما طلب منها. وفي شتاء 1923 تأسست الجمعية الاسلامية المسيحية في صفد حيث ظلت حتى نهاية العشرينات، رغم عدم ملاحظة وجودها خلال فترة الهبوط 1925- 1928 كما حدث مع باقي مناطق البلاد.(71)
في بيسان كان هناك تطوراً مماثلاً نوعاً ما. ففي سنوات العشرين الاولى لم يكن في المدينة اي تنظيم وطني جدير بإسمه. وحتى المؤتمر الخامس لم تكن بيسان ممثلة في المؤتمر القطري. ولكن رغم إنعدام وجود بيسان على خارطة العمل الوطني الا ان هناك بعض الشخصيات وعلى رأسها جبران إسكندر كزمة (من الارثوذكس اليونان، درس الهندسة الزراعية في مونبوليه في فرنسا وهو ابن خريج المدارس الروسية الذي ساعد في نضال أبناء الطائفة الارثوذكسية ضد تسلط اليونان على بطريركيتهم) الذين اخذوا على عاتقهم العمل حتى بدون وجود جمعية منظمة. وقد نجحوا في تجنيد معظم شيوخ المنطقة للنضال حول حقوق أراضي الجفتلك في منطقتهم. لم تكن امكانياتهم غير محدودة. وكان هناك شيوخاً فضلوا الحفاظ على علاقة مع العناصر الفعالة الاخرى ( الجمعية الاسلامية الوطنية المعارضة ومبعوثي الادارة الصهيونية) هناك دلائل تعود الى نهاية 1924، حول إقامة الجمعية الاسلامية المسيحية هناك ولكن نشاطاتها كانت قليلة، حتى نهاية سنوات العشرين.(72)
بعد أحداث عام 1929 انتشر العمل الوطني في البلاد، بحيث ادى هذا الى صحوة لدى الجمعيات التي كانت سابقاً في حالة من السبات.. كذلك تمت بعض المحاولات لتوسيع الاطر التنظيمية في كل من رام الله والرملة- وهما مدينتان كان فيهما نفوذ ملحوظ لزعماء من المعارضة (بولس شحادة والشيخ سليمان التاجي الفاروقي)- وقد اقيمت انذاك جمعيات إسلامية- مسيحية. وفي الرملة بدأت بوادر للقيام بنشاطات. كذلك حدثت محاولة لاقامة جمعية اسلامية- مسيحيية في اللد (73) وقد كانت الرملة ممثلة في كل المؤتمرات القطرية. أما ممثلوا رام الله فلم يحضروا المؤتمرين الاول والخامس، على حين لم يحضر ممثلوا اللد المؤتمرات الثالث والخامس والسادس.
هناك ثلاث مدن كبرى لم تقم فيها جمعيات اسلامية- مسيحية بتاتاً، وهي طولكرم وجنين وعكا. وبالنسبة لطولكرم وجنين فإن هذا الامر لا يشير الى معارضة للعمل الوطني. ففي نهاية عام 1918 اقيم فيي طولكرم تنظيم محلي يحمل إسم النادي الوطني. وفي أيام "سورية الجنوبية" عمل ذلك النادي بالتنسيق مع فروع كل من النادي العربي، والمنتدى الادبي.(74) وبعد ذلك أيضاً كان هذا التنظيم الاطار الوطني الوحيد في طولكرم وقد اسمى نفسه بالنادي العربي الوطني. وقد اقام هذا التنظيم علاقات مع اللجنة التنفيذية وعمل على تنظيم النشاطات المحلية. وفي النصف الثاني من عام 1921انخفضت الروح الوطنية في طولكرم بعد فرض غرامات جماعية على المدينة. ولكن في عام 1922 عاد النشاط الوطني وبعث الى الحياة النادي العربي الوطني الذي شكل اطاراً لذلك النشاط.(75) وكانت مشاركة منطقة طولكرم في المؤتمرات القطرية متواصلة منذ المؤتمر الاول.
وفي أيار- حزيران 1922 جرت محاولة لاقامة جمعية اسلامية- مسيحية في طولكرم بحيث تكون بعثة للجمعية في نابلس. ولكن لا يجدر النظر الى هذه المحاولة على ان القصد منها بالضرورة تقوية العلاقات الوطنية ما بين طولكرم والاطار القطري. وقد قام بتلك المحاولة محمد كمال الجيوسي نكاية بالنادي العربي الوطني الذي كانت زعامته بيد أبناء عائلات اخرى، منهم سليم عبد الرحمن الحاج ابراهيم، إبن رئيس البلدية، وعبد الله سمارة إبن احد ملاك الاراضي الكبار.(76) وقد فشلت المحاولة، لكن واصل التنظيم الاصلي نشاطه من خلال تقوية الحركة الوطنية في طولكرم. وفي النصف الثاني لعام 1923 بدأ التنظيم كما يبدو بالاضمحلال بحيث اختفى بشكل تدريجي.(77) ومما يجدر ذكره انه في نهاية سنوات العشرين وبداية سنوات الثلاثين، عندما تصاعد عمل الحركة الوطنية الفلسطينية، لم يتم بعث هذا التنظيم. فقد أظهر القياديان الشابان الذين ذكرناهما براعة عندما طلب اليهم اقرانهما من نابلس ومن اماكن اخرى ان يضفوا طابعاً راديكالياً على الحركة الوطنية. كان سليم عبد الرحمن أحد القياديين الهامين في التيار الكفاحي. ويبدو ان تحفظ رجال هذا التيار من الجمعيات القديمة ردعهم من تجديد تنظيمهم المحلي.
وفي جنين أيضاً لم يقيموا بتاتاً فرعاً للجمعية الاسلامية المسيحية ، بل لم تبذل أية جهود لذلك. رغم ذلك لم تكن هذه المنطقة غريبة عن العمل الوطني. فقد شارك الوجهاء في نشاطات مختلفة على المستويين المحلي والقطري. ويبدو ان عدم وجود إطار تنظيمي لديهم لم يشكل عقبة امامهم.(78) مع ذلك فمن المحتمل أن عدم وجود مثل ذلك الاطار هو السبب في عدم تمثيل جنين في المؤتمرات الرابع والسادس.(79) ومن المعقول القول ان السبب في عدم اقامة الجمعية الاسلامية المسيحية هناك يعود الى تنامي قوة المعارضة في جنين والقرى المحيطة، الامر الذي يعود الى إنضمام عائلة جرار الى صفوفها. فلو اقيمت الجمعية الاسلامية المسيحية هناك لكان من الواضح ان تقف عائلة جرار ضد الاوساط الوطنية ويحتمل ان نشطاء جنين طالبوا بمنع السماح لامكانية كهذه.
في عكا كذلك لم يكن هناك تواجد للجمعية الاسلامية المسيحية، لذا كانت دائماً مركزاً هاماً لمعارضي اللجنة التنفيذية في شمال البلاد. وقد تم التعبير عن التحفظ من الاطار الوطني القطري بالمشاركة الضعيفة جداً في المؤتمرات القطرية. ففي المؤتمرين الاول والرابع لم يشارك ممثلوا المدينة بتاتاً. وفي المؤتمر الثالث شارك أحد رجال عكا بشكل شخصي، مؤكداً عدم حيازته على توكيل يتعلق بتمثيل أي اطار في عكا. وفي المؤتمرين الخامس والسادس، شارك أحد الاقطاب فقط. ولكن في المؤتمر السابع فقط الذي عقد بالاتفاق مع المعارضة، شارك وفد كبير له صفة التمثيل.
إن النظر الى خارطة انتشار الحركة الوطنية الفلسطينية يثبت بشكل واضح كم كان إطار الجمعية الاسلامية المسيحية مركزياً في هذه الحركة. ففي الاماكن التي تواجدت فيها فروع للجمعية الاسلامية المسيحية، كانت النشاطات السياسية- الوطنية منظمة بشكل أكبر. إذ كان هناك من الاسهل جمع الاموال لتمويل النشاطات القطرية. كذلك كانت مشاركة تلك المناطق في بلورة الاطار السياسي القطري أقل إشكالية.
لم تبن الجمعيات الاسلامية المسيحية منذ البداية كمنظمات قائمة على علاقات شخصية للسكان العرب. وعملياً كانت تلك الجمعيات، في كل أماكن تواجدها مجمعاً لممثلي عناصر النخبة المحلية. وبشكل عام كان في كل واحدة منها ممثلين عن العائلات القوية وعن المؤسسة الدينية، لذا كان شيوخ القرى المجاورة للمدينة يمكن لهم ان يشاركوا في العمل الوطني. وبالنسبة للطوائف المسيحية كان هناك مكان خاص محجوز لممثليها دائماً في اللجان المحلية. ذلك التمثيل الذي إزداد عن نسبة المسيحيين بين السكان. مع ذلك كانت الجمعية الاسلامية المسيحية بمثابة الهيكل العظمي والاطار الذي يمكن من خلاله للزعماء والنشطاء أن يعملوا في وقت الحاجة في اوساط الجماهير المتأثرة بهم.
ارتفع هذا الطابع التنظيمي مرة واحدة مع التركيبة التقليدية للمجتمع ومع وضع النخبة المحلية. فقد حصلت هذه النخبة على صلاحياتها من قبل عناصر تقليدية ذات اهمية كالوضع الديني (أصحاب الوظائف الدينية، أبناء الاشراف) وتملك الاراضي والسطوة العائلية قديمة العهد التي تستند الى وظائف الادارة العثمانية (شيوخ القرى والنواحي). وبناء على ذلك لم تكن هذه النخبة بحاجة الى تفويض شعبي- ديمقراطيي لمركزها. وعلاوة على ذلك، فعندما أصبحت الجمعية الاسلامية المسيحية التنظيم الوطني الاساس، تعاظمت هذه النزعة التنظيمية على حساب مفاهيم انتماء اكثر شخصية كتلك التي سادت في الجمعيات الكفاحية لفترة "سورية الجنوبية"- النادي العربي، المنتدى الادبي، الاخاء والعفاف، الفدائية.
ويظهر من خلال خلاصة التقارير اليهودية الكثيرة حول الانتماء في تلك الجمعيات في عام 1919، أنه كان هناك 3000 عضو تقريباً. ويورد تقرير للشرطة البريطانية أيضاً في كانون الاول 1920، رقماً مشابهاً.(80) ويشمل هذا كل الجمعيات العربية، معظمها منظمات خيرية، وثقافية وطائفية. ومن كل ناحية يبدو لنا وجوب قبول هذه التقديرات الواردة في التقارير. إذ لاحظنا ان هذه الجمعيات ايضاً كانت قد شاركت في نشاطات سياسية بل انها شاركت كممثلة لاعضائها في مجال السياسة. وعلينا الا نستبعد إمكانية وجود تعتيم على ارقام العضوية لدى جمعيات مختلفة، وبالتالي يجب النظر الى الارقام المعطاة كأرقام لعضوية فعالة في الجمعيات الوطنية التي من هذا النوع. وخلال سنوات العشرين كبر حجم الشريحة التي أخذت على عاتقها وطئة العمل الوطني ، كما اضيف اليها بعض المثقفين من ابناء العائلات التقليدية القوية. ولكن من ناحية جوهرية لم يتغير طابع العضوية في الجمعية الاسلامية المسيحية. وهذا ما سيلاحظ في نقاشات المؤتمرات القطرية، وفي انتخاباتها وتركيبتها.
وكمثال على تركيبة الجمعية الاسلامية المسيحية، نورد هذا الحدث: ففي شباط من العام 1919 عندما انعقدت الجمعية المقدسية لتناقش موضوع التوجه السوري، كان هناك سبعة من بين زعماء العائلات الاسلامية، وخمسة من بين وجهاء اللاتين، وخمسة من بين وجهاء الارثوذكس، وتسعة من بين شيوخ القرى المحيطة بالقدس. هنا علينا الا ننظر الى هذا اللقاء وكأنه كان يضم كل ذوي العلاقة بالجمعية، بل يجب عدم الاعتقاد بأن هناك ثبات في العلاقة الرقمية بين ممثلي الطوائف، لكن الحقيقة هي ان هذا اللقاء كان ينظر له على انه يتحدث "بإسم كل السكان".(81)
في عام 1922 عندما جرت محاولة فاشلة لاقامة فرع للجمعية الاسلامية المسيحية في طولكرم، شارك في الاجتماع حوالي مئة من وجهاء المدينة. وفي الجمعية الاسلامية في حيفا، شارك 114 رجل في انتخابات اللجنة في نيسان 1928 من بين 160 من وجهاء الطائفة الاسلامية الذين تمت دعوتهم. (82)
اما بالنسبة لمشاركة شيوخ القرى ضمن اطر الجمعية الاسلامية المسيحية، يجدر القول ان هذه كانت ظاهرة ذات خصوصية في منطقة يهودا والسامرة [ الضفة الغربية حالياً] فقط، إذ اقيمت هناك اطر قروية ذات جذور تاريخية وزعامات مستقلة ومقبولة.
كانت اللجان التي تدير تلك الجمعيات تنتخب عن طريق لقاءات ما بين الاعضاء النشطاء. ولم تكن لتلك الانتخابات مواعيد ثابتة. واحيانا كانت بعض المجموعات المعارضة لزعامة ما، تحاول ادخال بعض الوجهاء المؤيدين لها، بغية انتخاب زعامة بديلة. وهكذا كان يتم التجديد في تركيبة اللجان.(83)
أما الجهاز التنظيمي لتلك الجمعيات فقد كان مقلصاً جداً. وبشكل عام كانت هناك لجنة من الاعضاء تجتمع من فترة لاخرى لاتخاذ القرارات. اما النشاطات اليومية فكانت تقرر من قبل السكرتير. وكانت تلك الاطر تنتظم على اساس التطوع، ولم يكن سوى اصحاب المراكزالاقتصادية القوية بإستطاعتهم ان يتفرغوا للعمل المتواصل. والحقيقة ان اعضاء هذه المؤسسات كانوا ينتمون الى طبقة ملاك الاراضي، والتجار الكبار، واصحاب المهن الحرة (معظمهم محامون وصحفيون). وفقط في القدس فازت الجمعية الاسلامية المسيحية بجهاز مقلص ثابت. كذلك كان سكرتير اللجنة التنفيذية سكرتيراً للجمعية الاسلامية المسيحية المقدسية. وهو الذي اقال عارف باشا الدجاني، الرئيس الاول للجمعية في القدس من رئاسة اللجنة التنفيذية في حزيران 1922.
ورغم كل المعيقات كانت الجمعية الاسلامية المسيحية هي الهيكل العظمي التنظيمي المحلي والقطري للحركة الوطنية الفلسطينية. وقد كانت الجمعيات المحلية بمثابة سلك توصيل ما بين اللجنة التنفيذية في القدس وبقية المناطق في البلاد ومن خلال هذا كانت الجمعيات تتلقى تقاريرها حول نشاطات اللجنة التنفيذية وكذلك الاوامر المتعلقة بالعمل ( التظاهرات، إرسال برقيات احتجاج، تقديم عرائض وغير ذلك) وارسال التقارير الخاصة بنشاطاتها هي.(84) ومع ذلك فمن الصعب النظر الى الجمعيات الاسلامية المسيحية كإطار قطري واحد ومبلور. فقد وقف النشطاء الوطنيون فعلاً على هذه الظاهرة. ففي المؤتمرات الرابع والخامس، طرحت اقتراحات مختلفة بغية بلورة اطار هيكلي- قطري للجمعيات بحيث تعالج من خلاله الجمعيات في المدن الكبرى موضوع اقامة فروع لها في البلدات والقرى المتاخمة لها. (85) لكن لم يحدث هذا الامر الا في نابلس. فقد نظر زعماء الجمعية الاسلامية المسيحية في نابلس الى انفسهم كقيادات للواء ككل لذلك حاولوا دعم النشاط الوطني في جنين وطولكرم وباقي قرى اللواء. في الوقت نفسه تعكس جمعية نابلس بالذات النقص في بلورة الاطار القطري. واكثر من مرة كانت هذه الجمعية تطرح مبادرات من ذاتها. إذ كانت ترسل وفوداً الى عناصر اسلامية متواجدة خارج ارض اسرائيل على عاتقها الخاص، دون استشارة اللجنة التنفيذية، وذلك للضغط على اللجنة التنفيذية في القدس من اجل اتخاذ خطوات متطرفة.(86)
ومرة اخرى ورغم كل هذه المعيقات، كانت الجمعية الاسلامية المسيحية ترى نفسها جسماً ممثلاً لكل السكان العرب. ففي الفترة الواقعة ما بين 1918- 1920 لم تكن هذه الجمعية بعد الممثل الوحيد للسكان، فقد كانت هناك عناصر فعالة اخرى تتميز بتطرف يفوق تطرف هذه الجمعية. مع ذلك، فعندما تراجعت تلك التنظيمات المتطرفة فيما بعد، لم تظل الجمعية الاسلامية المسيحية وحيدة في الساحة السياسية لامد طويل، فقد بدأت المعارضة في الظهور والصعود. رغم ذلك فمن الواضح ان هذه الجمعية، وكذلك اللجنة التنفيذية حازتا على تأييد اكبر من المعارضة، ونجاحهما في افشال انتخابات المجلس التشريعي يثبت ذلك. مع هذا جدير بالذكر، ان الحديث هنا يدور حول نفس الجزء من سكان المدن الذي تميزبوعي سياسي والذي كان يطرح رأيه حول المستقبل السياسي والوطني للبلاد. هذا الجزء ومنذ البداية جاء من اوساط النخبة المدينية المثقفة، لكن تأثيره مورس على شرائح اخرى، وكان بإمكانه تحريك جمهور اوسع بكثير. وهكذا كان بإستطاعة الجمعية الاسلامية المسيحية القول بأنها تمثل كل السكان.
وجدير بالذكر ايضاً بأن المعارضة في النصف الثاني من سنوات العشرين ازدادت قوة وشاركت الجمعيات الاسلامية المسيحية في تمثيل السكان. ففي حزيران1928 انعقد المؤتمر السابع بالاتفاق ما بين رؤساء اللجنة التنفيذية ورؤساء المعارضة، وقد نتج عن ذلك انتخاب لجنة تنفيذية غير مؤيدة للجمعية. لكن حتى ذلك الحين كانت اللجنة التنفيذية بمثابة قمة الهرم بحيث كانت الجمعيات الاسلامية والمسيحية تشكل اساسا لها وكذلك اللجان القطرية، التي كانت حجر الزاوية لها. وقد كانت تلك المؤسسات ادوات التمثيل القطري للجمعية. كما كانت الاساس التنظيمي في محاولاتها الظهور كتنظيم يمثل كل السكان.
وبالنسبة للمؤتمرات، كانوا يدخلون اعضاء ادارة الجمعية المحليين، او اعضاء جمعية اخرى عملت في المكان كإطار للعمل الوطني. وكانوا ينتخبون اشخاصاً من نشطاء تلك المنطقة. وهكذا لم تكن تجرى انتخابات عامة بتاتاً. وعلاوة على ذلك، لم يحدث بتاتاً ان اجتمع حتى كل الاعضاء ذوي العلاقة بالجمعية المحلية من اجل الانتخابات.(88) فقد جرت محاولة في القدس لاجتماع الوجهاء المحليين وذلك بهدف انتخاب ممثلين للمؤتمر السادس. وفي حزيران 1923 حيث كانت الجمعية الاسلامية المسيحية المحلية مشلولة منذ إنضمام رئيسها عارف باشا الدجاني الى المعارضة، تمت دعوة حوالي مئة وخمسين وجيهاً، فلم يحضر الا حوالي ستين منهم. فتم انتخاب ثلاثين ممثلاً منهم للمؤتمر. وتبرز حقيقة ان اجراء هذه الانتخابات كانت منظمة من قبل جمال الحسيني سكرتير اللجنة التنفيذية بتجاهل تام للجمعية الاسلامية المسيحية المحلية.(89) وقد تكررت نفس طريقة الانتخابات هذه في المؤتمر السابع والذي كان من كثير من النواحي الاكثر تمثيلاً من بين كل المؤتمرات. ولكن في هذا الحدث وبناء على تنسيق مسبق من قبل مؤيدي اللجنة التنفيذية والمجلس الاسلامي الاعلى مع المعارضة، كان من المفروض الانتباه للمساواة في العدد ما بين الطرفين. لذلك تم تحديد الممثلين بشكل مسبق من خلال مفاوضات بين وجهاء المعسكرين في كل مكان.(90)
ليس من المستغرب بعد ذلك، انه ومنذ البداية، ساورت الشكوك السلطات البريطانية بمدى تمثيل هذا الاطار. وهكذا كان الامر حتى بعد ذلك. فقد كان معروفاً، بعد ان انعقد المؤتمر الثالث ان لدى الحكومة شكوكاً تتعلق بإن كان المؤتمر جديرا في ان ينظر اليه كممثل حقيقي للسكان الفلسطينيين. وقد اجاب على هذا الامر موسى كاظم الحسيني قائلاً:" ان ممثلي المؤتمر (الثالث، كانون اول 1920) المنعقد في حيفا قد انتخب بعض منهم في الجمعيات الاسلامية- المسيحية وفي نوادي اخرى، والتي تمت بشكل منظم بحيث مثلوا كل السكان امام اللجنة الاميركية (لجنة كنغ- كراين) وامام الحكومة المركزية في كل الشؤون. والباقي انتخبوا من اوساط وجهاء البلاد واعيانها وشيوخ الاحياء والقرى وممثلي الطوائف المختلفة... على هذا الاساس يتضح لصاحب الفخامة المندوب السامي ان المؤتمر منتخب من الشعب، وهو ممثل للغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، مسلمين ومسيحيين، موحد في داخله وجهاء البلاد واعيانها الممثلين لها في كل وقت وحين."(91)
من خلال هذه الاقوال، كشف موسى كاظم الحسيني بصراحة تامة المفهوم الاجتماعي للارستقراطية الفلسطينية. فقد كان مصدر صلاحيات هذه الارستقراطية تقليدي وغير ديمقراطي، إذ لم تكن هي بحاجة كما يبدو ، الى تفويض من قبل الطبقات الاخرى. رغم ذلك، كانت تنظر الى نفسها كممثلة لكل السكان. إذ حسب مفهومها لم تكن هناك امكانية لنشوء ممثل اخر. فلو سؤل الشعب البسيط عن رأيه في ممثليه لكان بدون شك سيضع كل ثقته في ممثلي النخبة الاجتماعية. فقياداتها كانت مقبولة لديه بدون ادنى شك. ولو عدنا الى عام 1876 لرأينا خلال انتخاب البرلمان العثماني، انها لم تختلف بشكل جوهري عما اوضحه موسى كاظم الحسيني ، وسبب ذلك هو قانون الانتخابات العثماني الذي حصر حق الانتخاب بالملكية العقارية.
انعكس هذا الفهم الاجتماعي بالطبع في تركيبة الممثلين للمؤتمر. فقد جاءوا بشكل عام من نفس النخبة التي كانت تنظر الى نفسها كممثلة حقيقية للسكان: عائلات المدن النبيلة التي انجبت رجال الدين وموظفي الادارة والتجار وملاك الاراضي وعائلات شيوخ القرى. وفي المؤتمر الرابع ارتفع وزن اصحاب المهن الحرة (خصوصاً المحامون). لكنهم هم ايضاً جاءوا من نفس تلك العائلات النبيلة.
يجب التأكيد على ان ابناء عائلات الشيوخ القرويين لم يأتوا من كل أصقاع البلاد. فالمناطق القروية الوحيدة التي جاء منها الممثلون للمؤتمرات وللنشاطات السياسية الاخرى كانت، جبال يهودا والسامرة والكرمل. كذلك كانت بينهم عناصر كثيرة كانت تعارض المشاركة في العمل الوطني.. مقابل ذلك كانت قرى السهل الساحلي والجليل سلبية جداً، إذ لم تشارك في النشاطات السياسية. ويعود ذلك لكون القرويين كانوا حديثي عهد نسبياً بالسياسة ولن تكن لهم تقاليد تتعلق بالتنظيم الذاتي.
لم يكن لرجال الدين في المؤتمرات وزن يذكر، فبعضهم مثل الشيخ محمد مراد (مفتي حيفا)، والشيخ سعيد الخطيب (الخطيب الرئيس للمسجد الاقصى) قد شاركوا في معظم المؤتمرات، لكن هذه الظاهرة لا تدل على قلة مشاركتهم في العمل الوطني. والعكس هو ان رجال الدين كانوا يظهرون كممثلين للسكان عند تقديم عرائض الطلبات والاحتجاج لدى السلطات، كذلك في المظاهرات، وفي الاجتماعات الشعبية المختلفة. التي كانت كثيراً ما تعقد في المساجد والكنائس، او منها تبدأ المظاهرات وفيها تنتهي. لذا كانت مشاركة رجال الدين امر واقع.
كانت المؤتمرات تنتخب لجنة تنفيذية لادارة النشاطات وبلورة القرارات الى حين انعقاد المؤتمر التالي. وقد كان هذا الجسم يضم نخبة القيادات القطرية. كذلك كانت هناك ظاهرة اساسية تظهر في انتخاب هذه الاجسام في المؤتمرات، وهي الرغبة في تقديم تمثيل لمناطق البلاد ولنفس الجزء من السكان المسيحيين الذي واصل المشاركة في العمل الوطني حتى بعد 1920 (خصوصاً الطائفة الارثوذكسية). في اللجنة التنفيذية التي انتخبت في المؤتمرين السادس والسابع، منح تمثيل خاص للمسيحيين على اساس طائفي قطري. وفي المؤتمر السادس انتخب ممثلين عن المسيحيين في اللجنة التنفيذية على اساس طائفي، هذا بالاضافة للمسيحيين الذين تم انتخابهم كممثلين لمناطقهم. ولكن في المؤتمر السابع، تم انتخاب الممثلين المسيحيين على اساس طائفي فقط. وفي اغلب المؤتمرات (حتى المؤتمر الخامس وما بعده) تم انتخاب اعضاء اللجنة التنفيذية كممثلين عن مدنهم. لكن اجماع المؤتمر هو الذي صنع حرفة الانتخابات. ولكن في المؤتمر السادس برز بشكل كبير الشكل المناطقي في تركيبة اللجنة التنفيذية (مقابل الشكل الطائفي). فقد كان اقطاب كل منطقة يختارون ممثلي مناطقهم.(92) من هنا كانت هذه تركيبة ضبابية اضافت الصعاب الى عمل اللجنة التنفيذية. فقد كان من الصعب جمع اعضاءها من كل اصقاع البلاد من اجل عقد جلسة في القدس مما ادى الى الغاء العديد من الجلسات، او انها عقدت بعدد قليل جداً، بسبب عدم تمكن الاعضاء من القدوم الى الجلسات.
الخلفية الاجتماعية للانقسام الداخلي
لم تتم عملية بلورة إطار قطري بدون صعاب. ففي المؤتمر الفلسطيني الاول في اواخر كانون الثاني وبداية شباط 1919، هدد رجال نابلس هيمنة المقدسيين ساعين للحصول على باكورة القيادة لانفسهم. (93) ومع ان تلك المحاولة بائت بالفشل، الا انه بعد ذلك لم تكن وجهة نظر نشطاء الحركة الوطنية في نابلس مريحة لمحتكري قيادة الجمهور الفلسطيني من المقدسيين.
واما ما كان اكثر خطراً من هذين الامرين فهو الانقسام الدائم الذي واكب مسيرة الحركة الفلسطينية. ذلك الانقسام الذي عبر عن تناقض المصالح العائلية والمناطقية في اوساط النخبة المدينيية ( بين العائلات المقدسية بعضها بعضاً، وعناصر غير مقدسية ضد مقدسيين) وتمرد وجهاء القرى ضد الهيمنة المدينية.
كان لصعود عائلة النشاشيبي المقدسية في بداية القرن العشرين، وتحديها للعائلات العريقة في المدينة (الحسيني والخالدي)، اثار حادة بالنسبة للصراع ما بين عائلات المدينة. فقد اصبحت عائلة النشاشيبي قوية جداً، مستمدة ذلك الوضع الذي تفوقت به على العائلات الاخرى، من جهاز الادارة العثماني، لذا فقد سبب زوال الحكم العثماني لها اضطراب اكبر من غيرها من العائلات.
اما بالنسبة لعائلتي الحسيني والخالدي، التي كانتا تتبادلان الادوار وعلى مدى اجيال في مختلف وظائف الجهاز المديني والديني المحليين، فلم تتأثرا سلباً بقدوم البريطانيين. والواقع ان وضع عائلة النشاشيبي نتج بالدرجة الاولى من وضع راغب النشاشيبي بصفته احد اقطاب البرلمان العثماني، ومهندس رئيس للواء القدس.(94) لذلك كان زوال الحكم العثماني من شأنه ان يضع حداً لمكانة العائلة في اوساط الجمهور. وليس مستغرباً أن تقيم زعامات عائلة الحسيني بحكم وظائفها الجماهيرية علاقات مع السلطة الجديدة. كذلك فإن شباب العائلة الذين برزوا من خلال النادي العربي، كانت لهم علاقات جيدة مع الحكم العسكري البريطاني الذي شجع انذاك الحركة الوطنية العربية التي كانت مرتبطة بفيصل بن الحسين. مقابل ذلك كان الفرنسيون الذين كانوا يمثلون خصماً سياسياً، حليفاً ومصدر ارتكاز في نظر عائلة النشاشيبي. ولا غرابة في ان الجمعية التي اقاموها وقادوها في بداية الحكم العسكري البريطاني، اي المنتدى الادبي، كانت مرتبطة بالفرنسيين. وقد تعاون هذان التنظيمان وفق اهداف متشابهة. لكن هذا الوئام انتهى كما رأينا في ربيع عام 1920 عند اقالة موسى كاظم الحسيني من رئاسة بلدية القدس، ومع بداية زوال حلم سورية الموحدة تحت تاج فيصل.
أدت اقالة موسى كاظم الحسيني من رئاسة بلدية القدس في اعقاب احداث نيسان 1920 (95) وكيفية الاقالة وشخصية خليفته الى ازدياد الاحتقان بين عائلتي الحسيني والنشاشيبي. وقد رافق التعيين الجديد تحولاً في النظر لدى عائلة النشاشيبي تجاه العناصر الخارجية. وحتى الان كانوا يؤيدون الفرنسيين، لكنهم اخذوا بالتحول نحو البريطانيين. وقد خرج من اوساط أبناء النشاشيبي ومؤيديهم من دعا الى التعاون مع البريطانيين حتى بعد اقامة الحكم المدني والمصادقة على الانتداب.
وكما راينا فقد كان موسى كاظم الحسيني، شخصية بارزة في الحركة الوطنية الفلسطينية ورئيساً للجنتها التنفيذية. من ناحية اخرى برز لعائلة النشاشيبي خصماً اخر هو الحاج أمين الحسيني رئيس النادي العربي سابقاً، فقد انتخب في كانون الثاني عام 1922 رئيساً للمجلس الاسلامي الاعلى. وقد كان من الصعب الافتراض ان الخصومة الشخصية تجاه تلك الشخصيات لا تتحول الى معارضة للأطر التي كانوا يرأسونها. والحقيقة انه كان من الصعب الاعتقاد ان لا تتحول هذه الاطر الى ادوات في ايدي رؤسائها ضد خصومهم الشخصيين. وهكذا تطور الانقسام الداخلي في اوساط الجمهور الفلسطيني، كذلك ظهر العنصر الاخر الذي عارض القيادة ومن يؤيدها.
لم تكن الحسابات الشخصية والعائلية مع رؤساء اللجنة التنفيذية والمجلس الاسلامي الاعلى ميراثاً لعائلة النشاشيبي فقط. فمع بداية نشاط اللجنة التنفيذية ، اخذت بالبروز شخصيات مختلفة كانت تشعر بالضيم والتجاهل، مادة يدها الى معارضي اللجنة التنفيذية. وهذه ظاهرة هامة جداً، إذ ادت بالمعارضة الى الخروج من الاطار العائلي الضيق. ولم يتوقف هؤلاء الرجال ولا مؤيديهم عن الادعاء من ان معارضتهم للجنة التنفيذية هي بسبب تجاهلهم من قبل قيادة الحركة الوطنية التي كانت تستغل الحركة لاهدافها الشخصية.(96) وعلى الاقل ففي بداية طريقهم لم يطرحوا مبررات سياسية لمعارضتهم، لكنهم مع الوقت اخذوا يبلورون لهم مواقف سياسية خاصة. رغم ذلك سارع رؤساء اللجنة التنفيذية في توجيه اتهامات بالخيانة ضد كل من لم يؤيدهم مما زاد بالشعور بالمرارة الشخصية ودفع بظهور المعارضة.
وبهذا الخصوص تجدر الاشارة الى بعض الحوادث من بين الكثير. فرجل الرملة الشيخ سليمان التاجي الفاروقي الذي بادر الى عقد المؤتمر الفلسطسني في كانون الاول 1920، والذي انتخب للجنة التنفيذية الاولى وجد نفسه بعد ذلك بدون اي دور تمثيلي اي كان. وعند انتخاب الوفد الاول الى المؤتمر التالي لم يكن من بين المنتخبين. وقد كان الهدف من هذا إبقاء منصب رئيس الوفد شاغراً لموسى كاظم الحسيني.(97) لم يتم انتخاب عالم متعلم كهذا مجدداً للجنة التنفيذية التي كان من مهامها معالجة شؤون الحركة عندما كان الوفد في بريطانيا. ورداً منه على ذلك استقال من المؤتمر.(98) ومع بداية 1922 ظل خارج الخدمة في المجلس الاسلامي الاعلى والجهاز التابع له. وفي المؤتمر الخامس، في اب 1922 لم يشارك في المؤتمر. كذلك لم تفلح محاولة عمر البيطار من يافا في انتخابه للجنة التنفيذية.(99) لكن الفاروقي لم يشارك ايضاً في النشاطات. وليس مستغرباً بعد ذلك عندما اقيم حزب المعارضة ان يكون الفاروقي من رؤسائه واحد اعمدة الارتكاز فيه لسنوات طويلة.
وتشبه هذه الحالة حالة عارف باشا الدجاني. فقد كان الرئيس الاول للجمعية الاسلامية- المسيحية في القدس. لكن وضعه كزعيم للمنظمات الوطنية بدأ بالاهتزاز مع ازياد اهمية التنظيم الكفاحي النادي العربي. كما ان انتخاب موسى كاظم الحسيني رئيساً للجنة التنفيذية حرمه مما تبقى له من اهمية كرئيس للجمعية الاسلامية- المسيحية في القدس. وعندما سافر الوفد الاول، تم انتخابه رئيساً للجنة التنفيذية بدل موسى كاظم الحسيني الذي ترأس الوفد. لكن هذا الامر لم يكن ليعوضه عن عدم اشراكه في الوفد. فرد على ذلك من خلال قيامه بدعاية مفادها ان لا فائدة ترتجى من ارسال الوفد كما عمل على عرقلة جمع الاموال لتمويله. وبعد ذلك بعام، عندما تقرر ارسال وفد للحجاز، طالب بحقه في ترأسه. ولما لم يتم انتخابه هذه المرة أيضاً رد بمعارضته لقرار اللجنة التنفيذية ولسياستها. فردت اللجنة التنفيذية بإقالته من رئاستها مما دفع به الى صفوف المعارضة.(100)
لم يكن من الصدفة ان ينضم كذلك اخوه شكري الدجاني في نفس الفترة الى المنظمة المعارضة الاولى، الجمعية الاسلامية الوطنية حيث كان رئيساً لها وهذا بدون شك ما ادى الى إهتزاز وضع عارف باشا نفسه.(101)
وفي نابلس سهلت عملية انقسام عائلات المدينة الى معسكرين متناحرين انتشار المعارضة هناك. فقد ترأس احد المعسكرين الحاج توفيق حماد، بينما ترأس الاخر حيدر بيه طوقان. كان حيدر طوقان ولمدة طويلة رئيساً للبلدية. وقد تم انتخابه للبرلمان العثماني عام 1912. ولكن في عام 1914حدث تحول ادى الى انتخاب الحاج توفيق حماد بدلاً منه في البرلمان.(102) لم يتضح سبب ذلك، لكن الحقيقة هي ان توفيق حماد برز واصبح شخصية مركزية في نابلس ومنطقتها. وعندما تم التحضير للمنظمات الوطنية في بداية سنوات العشرين (اللجنة التنفيذية والوفد الفلسطيني) تم انتخاب توفيق حماد. وليس من المستغرب ان يصبح حيدر طوقان رئيساً اول لمعارضي اللجنة التنفيذية في منطقة نابلس وعمود الارتكاز في منظمات المعارضة هناك، هو واقاربه ومؤيديه. (103)
هناك شخصيات كثيرة كان لها في الماضي وظائف مختلفة في الادارة المدنية او الدينية العثمانية، ولما اصبحوا بعد ذلك بدون اية وظيفة وطنية او دينية، انضموا الى صفوف المعارضة. وهنا نذكر ما حدث مع الشيخ اسعد الشقيري او الشقيري من عكا الذي كان لموقفه المعارض للجنة التنفيذية وللمجلس الاسلامي الاعلى أهمية كبرى. كانت للشقيري وظائف هامة في العهد العثماني فقد كان احد اقطاب مجلس النواب، ورئيساً للجنة الاستقصاء الشرعي في مكتب شيخ الاسلام. وخلال الحرب العالمية الاولى كان مفتياً للجيش الرابع (جيش منطقة سورية). وقد كان انذاك من مناهضي الاتجاه القومي العربي الجديد بشدة. كما أيد دون اي تحفظ وحدة كامل اقاليم الامبراطورية العثمانية- المسلمة.(104). وبهذا لم يكن استثناءً. وبالطبع كان هذا رأياً مميزاً لمعظم كبار زعماء الجمهور، الذين اصبحوا فيما بعد وطنيين، مثل موسى كاظم الحسيني، والحاج توفيق حماد. ومع ذلك وبصفته مفتي الجيش الرابع الذي كان تحت قيادة جمال باشا في الفترة التي اعدم فيها زعماء اليقظة العربية (105)، كانت لمواقفه المناصرة للعثمانية اهمية خاصة. وما ميزه عن الكثيرين غيره، هو انه وبعد تفكك الامبراطورية ووقوع ارض اسرائيل تحت الاحتلال لم يهمل وجهات نظره. فمنذ بداية عهد التنظيم الفلسطيني الجديد في خريف 1920 كان من المعارضين بشكل فعلي.(106) وقد كانت له علاقات قوية جداً مع الصهاينة. وربما الشيء الاكثر اهمية هو انه نشر على الملأ عدداً من المقالات ضد اليقظة القومية العربية وضد تفكك الامبراطورية العثمانية التي تمتع العرب تحت حكمها بالمساواة والحرية الكاملتين.(107)
كان أسعد الشقيري احد اعمدة الارتكاز للمعارضة في الشمال. وقد اعطاه توجهه الاسلامي ومركزه الكبير في الماضي دعماً لموقفه المعارض لرئيس المجلس الاسلامي الاعلى ولاساليب عمله. لهذا يطرح هذاالسؤال نفسه: هل هناك اية علاقة بين مواقفه الاسلامية التقليدية غير القومية، وبين إنضمامه لمعسكر اقل تطرفاً في اوساط عرب ارض اسرائيل، او أن هذا ما هو الا حدث شخصي؟ والواقع ان الاجابة على هذا السؤال المركب ليس قاطعاً، ولكن يبدو ان موقف اسعد الشقيري هذا كان مألوفاً في اوساط المعارضة اكثر منه في اوساط اللجنة التنفيذية والمجلس الاسلامي الاعلى. فهناك شخصيات عديدة غير الشقيري متواجدة في معسكر المعارضة، وقد حافظت على توجهاتها العثمانية الاسلامية التقليدية، حتى بعد تعرض ارض اسرائيل للاحتلال، مثل حيدر بيه طوقان وعبد الله مخلص.(108) وقد رأينا فعلا ان موقفاً كهذا له الكثير من الاتباع في البلاد بل انه بلغ اوجه عام 1922. ولكن الحقيقة هي ان مطالبتهم انذاك بالعمل على اعادة الحكم التركي على ارض اسرائيل جائت من اوساط المعارضين للجنة التنفيذية. وليس من المستغرب بناء على هذا، انه عندما بدأت جريدة الكرمل في نهاية 1923 تقريباً تأييدها للمعارضة، تراجع عن وجهة نظره المناهضة للعثمانية، وبدأ بمدح أيام الخلافة واعترف بخطئه في الماضي عندما ايد " أصحاب الوظائف والمصالح بإسم العنصرية"(109) اي بالقوميين العرب.
اما الشخصيات الذين كانوا بعد ذلك رؤساء ولسان حال المعارضة (راغب النشاشيبي، ويعقوب فراج، وعارف باشا الدجاني وغيرهم) فقد وقفوا- ليس صدفة- على الهامش ايام اليقظة القومية و"سورية الجنوبية" متخذين في بداية العشرينات مواقف عدائية ضد الهاشمين وافعالهم في سورية في سنوات 1918- 1920.(110)
هناك ظاهرة اخرى ذات علاقة بكل هذه الصورة، وهي شبكة العلاقات التي تكونت في بداية العشرينات ما بين شخصيات بارزة من المعارضة، وبين مؤسسات الحركة الصهيونية في ارض اسرائيل. والحقيقة اننا نرى ان موسى كاظم الحسيني كانت له ايضاً "علاقات خاصة" من خلال ح. مرغليت- كلافوريسكي ( رجل الادارة الصهيونية). و لا يوجد ادنى شك ، بل ان هناك اثباتات كثيرة موجودة في ملفات الادارة الصهيونية، تفيد بأن معظم رجال المعارضة كانوا يتمتعون بدعم مالي من جانب المنظمات الصهيونية، إذ كانوا يطلبون منها العون لحاجات شخصية مختلفة، كذلك عندما اقاموا اطارهم السياسي الاول، فازوا بتأييدها الفعال.(111)
ويبدو بناء على هذا، انه الى جانب العنصر العائلي الشخصي، الذي تواجد في اسس مناهضة المعارضة للجنة التنفيذية والمجلس الاسلامي الاعلى، كان هناك عنصر اخر اكثر انتشاراً، وهو ان الشخصيات البارزة في المعارضة لم تستجب بشكل عام في بداية العشرينات، ولا قبل ذلك بالتأكيد للروح القومية الجديدة، سواء على المستوى العربي ككل او على المستوى الفلسطيني، تلك الروح التي بدأت بالانتشار في اوساط الجمهور الفلسطيني. وقد اعطت كل من اللجنة التنفيذية والمجلس الاسلامي الاعلى لهذه الروح تعبيراً اكثر وضوحاً مما اعطته المعارضة. ومما يؤكد هذا القول هو ان معظم اغنياء البلاد الكبار بالذات مالوا بإتجاه المعارضة، على حين اتجه معظم مثقفوها وهم قلة الى اللجنة التنفيذية.
في سنوات 1929- 1922 بدأت تظهر بالتدريج علائم صريحة مظهرة صدعاً في المعسكر الفلسطيني. فقد اخذت شخصيات مختلفة بالامتناع عن المشاركة في المؤتمرات الفلسطينية. كما برزت المنظمات الاولى التي عارضت اللجنة التنفيذية العربية واساليب عملها. وبالطبع لم يحدث الصدع بين المعسكرين في ليلة وضحاها، الى ان اصبحت اللجنة التنفيذية والمؤتمرات الفلسطينية تؤيد بشكل كامل أحد المعسكرين. وفقط عند إقامة حزب المعارضة، الحزب الوطني العربي الفلسطنيي، في تشرين الثاني 1923، اتضح الصدع بشكل كامل في خروج رجال المعارضة من اطار اللجنة التنفيذية والجمعيات المؤيدة لها. مع ذلك لم يكن هذا الحزب هوالتنظيم المعارض الاول، بل اقيمت قبله الجمعية الاسلامية الوطنية. ولم تفز الا بتأييد جزئي فقط من جانب اولئك الذين سوف يقيمون الحزب الوطني. ويشير هذا الامر الى تخبط رجال المعارضة، الا ان دفع معظمهم بإتجاه اقامة تنظيم سياسي يجمعهم.
هناك وسيلة اخرى هامة تتعلق بإقامة هذه الجمعية وهي استغلال المرارة التي يشعر بها المسلمون تجاه المسيحيين. فكثير من المسلمين كانوا يتذمرون من ان نصيب المسيحيين في الادارة الحكومية يزيد عن نسبتهم بين السكان. مقابل ذلك بذلت الجمعية الاسلامية المسيحية واللجنة التنفيذية مجهوداً كبيراً من اجل اقامة جبهة موحدة للمسلمين والمسيحيين العرب ضد الصهيونية. وقد حاول الصهاينة بالطبع منع إقامة هذه الجبهة، فطلبوا العون من القائمين على الجمعية الاسلامية الوطنية، في نضالهم ضد الجمعية الاسلامية- المسيحية لحقيقة وجود مسيحيين في هذا التنظيم، مدعين انه مجرد اداة لخدمة مصالحهم.(112) وفي اماكن مثل بيسان حيث كان المسيحيون يتزعمون الفرع المحلي للجمعية الاسلامية- المسيحية بالاضافة الى رجل دين مسلم، فقد مدوا اياديهم لحملة كهذه والتي اعطت ثمارها بكثرة.(113) ومن الواضح ان هذا التوجه كان له هدف اخر وهو ان رغبة وجهاء المسلمين كانت بالحلول مكان المسيحيين الذين ملؤوا الادارة. ومن الدوافع الهامة على هذا الامر والذي حرك الكثير من المسلمين للانضمام الى الجمعية الاسلامية الوطنية، هو املهم ان يؤدي هذا الامر الى حصولهم على تأييد الادارة الصهيونية في مساعيهم الرامية الى الحصول على وظائف في الحكومة. (114)
إن فحص المناطق التي تواجدت فيها الجمعية يعطينا الكثير حول دوافع اقامتها وعلى ما لديها من طاقات مناهضة للجنة التنفيذية في اوساط عرب ارض اسرائيل. لقد اقيمت الفروع الاولى في شمال البلاد، في عكا وحيفا والناصرة وطبريا وبيسان، حيث تركزت هناك معظم قواها.(115) ولم يكن لواء الشمال بالصدفة مركزاً هاماً لمناهضة اللجنة التنفيذية. إذ يبدو ان هيمنة النخبة المقدسية لم تلق اذاناَ صاغية في هذا اللواء، بغض النظر عن العلاقات السابقة مع القدس بشكل عام. كذلك لم يكن شعور التضامن الفلسطيني العام قد اشتد كفاية بحيث يكون كافياً لازالة الشعور بالمرارة تجاه هيمنة النخبة المقدسية. فبعد عدة سنوات عبرت تلك المرارة عن نفسها عن طريق انضمام عناصر اخرى الى صفوف المعارضة. ففي عكا كانت هناك شخصية هامة هو أسعد الشقيري وقد أضاف انضمامه الى المعارضة قوة لها في تلك المنطقة. فنحن نعلم انه لم تتبق له اية وظيفة، بل ان رجال اللجنة التنفيذية والجمعية الاسلامية- المسيحية كانوا يتحفظون منه، بل ويناصبونه العداء. لذلك فليس من المستغرب أن يقيم هو ومؤيدوه تنظيماً معارضاً في عكا مشكلين بذلك عنصراً هاماً جداً ساهم بشكل كبير في تحويل عكا وكل لواء الشمال الى مركز قوي للمعارضة.
كذلك كانت هناك بعض العناصر المحلية التي ساهمت بشكل كبير ايضاً في نجاح المعارضة في المنطقة. ففي حيفا كان كما يبدو كان شعور التضامن الاسلامي- المسيحي ضعيفاً جداَ، حتى ان نشطاء اللجنة التنفيذية هناك كانوا موزعين على جمعيتين منفصلتين احداهما اسلامية والثانية مسيحية. وقد كانت هناك جمعية اسلامية لا تتردد في معارضة التعاون مع المسيحيين في اللجنة التنفيذية، حيث كانت تلك الجمعية تضم شخصية دينية هامة هي الشيخ يونس الخطيب ( قاضي مكة سابقاً) والتي كانت ناجحة في تلك المنطقة.(116)
في بيسان توحدت الجهود ضد فرع الجمعية الاسلامية- المسيحية في المدينة والتي كان يرأسها شخص مسيحي. وقد قاد المعارضة هناك شيوخ من البدو الذين كانوا لكونهم تقليديون بعيدين جداً عن روح التضامن الوطني مع بقية مركبات المجتمع العربي- الفلسطيني.(117) وفي الناصرة كانت عائلة الفاهوم قوية وخصماً لعائلة الزعبي في المدينة التي مالت بإتجاه اللجنة التنفيذية ومؤيديها.(118) كل هذا جعل من الشمال مركزاً تقليدياً لمعارضي اللجنة التنفيذية.
وقد نجح هذا التنظيم في الانتشار أيضاً في مركز البلاد، في منطقتي نابلس وجنين. ففي هاتين المنطقتين كان هذا التنظيم يستند الى بعض من ابناء عائلة طوقان وعائلة عبد الهادي والذين كانوا منافسين للحاج توفيق حماد رئيس التنظيم، على الهيمنة على منطقته.(119) ولكن ظهر في هذه المنطقة عنصر هام جداً والذي سوف يشكل بعد عدة سنوات قوة كبيرة جداً، الا وهو العائلات القروية القوية. وعندما بدأت الحركة الوطنية الفلسطينية بتنظيم نفسها حيث تشكلت قياداتها بشكل اساس من النخبة المدينية، مد الكثيرون من أبناء النخبة القروية أياديهم الى خصوم تلك القيادة. وهكذا كانت في منطقتي جنين وطولكرم عائلات قروية هامة كعائلة جرار ( من قرى منطقة جنين) وعائلة أبو نتش (قاقون) وهي التي كانت على رأس منظمي الجمعية المعارضة.(120) وفي منطقة الخليل كانت الصورة متشابهة، فقد كان أبناء عائلة الهديب من قرية الدوايمة الروح الحية لكل التنظيمات التي قامت هناك. ونفس الامر كان بالنسبة لعائلة الخواجا من قرية نعلين القريبة من الرملة.
وفي القدس مكان تواجد عائلة النشاشيبي كان نجاح الجمعية الاسلامية الوطنية محدوداً جداً. ففي بداية سنوات العشرين لم يكن بمقدور أبناء هذه العائلة ان يعارضوا سياسة اللجنة التنفيذية بشكل صريح. وعلى ما يبدو كانوا يفضلون القيام بذلك من خلال مبعوثين من قبلهم. فمن كل مكان، في صيف 1921 بدأ كل من بولس شحادة صاحب مرآة الشرق والمقرب من راغب النشاشيبي وعمر صالح البرغوثي وهو من قرية دير غسانة وشيخ ناحية بني زيد التقليدية بالعمل على اقامة تنظيم معارضة، لكنهم فشلوا في ذلك. وبعد مدة من الزمن عاد بولس شحادة ولمدة قصيرة الى تأييد اللجنة التنفيذية. (122) وبناء عليه، أخذ ح. مرغليت- كلفورينسكي (الذي ساعد في اقامة التنظيم) على عاتقه إقامة الجمعية. أما عمود الارتكاز الاكثر أهمية لمهمته هذه فقد كانوا أبناء عائلة الدجاني، وعلى رأسهم عارف باشا الدجاني، الذي كان انذاك رئيساً للجنة التنفيذية، الا انه أخذ منذ ذلك الوقت بمعارضة سياسة الوفد الاول الذي ارسل الى بريطانيا. وعندما قامت الجمعية في القدس في شتاء عام 1922، كان على رأسها كل من شكري الدجاني ، وهو أخ لعارف، وفايق الدجاني. ولقد فشل منظم الجمعية في تجنيد شخصيات بارزة من عائلات اخرى.(123)
وخلال عام 1923،تبين ان محاولة التنظيم تلك قد بائت بالفشل وذلك لاسباب سياسية لا مجال لبحثها في هذه المقالة.
في تشرين الثاني 1923،جرت محاولة لاقامة تنظيم للمعارضة، هو الحزب الوطني العربي الفلسطيني، الذي كان ممثلاً لمعارضي اللجنة التنفيذية في اوساط وجهاء المدن الذين سبق ان ذكرنا دوافعهم الاجتماعية لمواقفهم تلك. والان سوف نعالج محاولة تنظيمية اخرى التي قام بها شيوخ القرى، والتي وجدت ضالتها في اقامة أحزاب المزارعين في عام 1924. كان الاستناد الى الكثير من عائلات الشيوخ القروية التي كانت تطالب بإقامة إطار سياسي لطبقة المزارعين، هو ما اعطى افضلية لذلك التنظيم عمن سبقه. ففي المحاولات السابقة لاقامة تنظيمات معارضة كان لهذا العامل الاجتماعي مكانة هامة. فعائلات شيوخ القرى التي انخفض مستواها الاجتماعي خلال النصف الثاني للقرن التاسع عشر، كان لديها كما يبدو شعوراً بالمرارة تجاه النخبة المدينية التي حلت مكانها. وعندما وجدت تلك النخبة المدينية وبالتدريج إنتماءاً وطنياً عربياً- فلسطينياً معبرة عن ذلك بمناهضتها للصهيونية، اتجه خصوم تلك النخبة الى الجانب الاخر. إذ كانوا ولاكثر من مرة واحدة يبدون إستعدادهم لمعارضة النخبة المدينية من خلال تأييدهم للصهيونية أو على الاقل من خلال تحفظهم من الحركة المناهضة للصهيونية التي تزعمتها تلك النخبة. ففي آذار- نيسان 1920 مثلاً، عبر الكثيرون جداً من شيوخ القرى في جنوب البلاد، وفي منطقة الرملة- يافا، ويهودا والجليل عن تحفظهم للموجة القوية المناهضة للصهيونية التي عمت مدن البلاد. وقد وقعوا على عرائض تؤيد الهجرة الصهيونية الى البلاد.(124) وقد برز من بينهم عدة عائلات منها مثلاً عائلة أبو غوش من قرية العنب وقرية عمواس، حيث حصلوا على تأييد وتشجيع من قبل الهستدروت الصهيونية.(125) ولكن جوهر التقبل الكبيرة لهذه المبادرة يعود الى الشعور بالمرارة في اوساط القرى تجاه النخبة المدينية. كانت احدى عرائض شيوخ القرى من مناطق كل من يهودا والجنوب والرملة- يافا تنتهي- وليس بالصدفة- بالتأكيد على أن الجمعيات السياسية المدينية ليس لها أية علاقة بالجمهور خارج المدن. " وبإسم القرى نعارض نشاطاتها المفسدة والتي تخاطر بأمن الجمهور. إننا نوافق على كل قرار تم إتخاذه في مؤتمر السلام، كما نعلن بأن كل المظاهرات التي نظمت انما تعبر عن نفسها فقط. مقابل ذلك فإن كل عريضة نقدمها تكون من قبل قاعدة البلاد ووجهائها ورؤسائها."(126)
إن المواقف المميزة لعائلات شيوخ القرى التي سعت للحفاظ على مكانتها الاجتماعية، تم الحفاظ عليها أيضاً في السنوات القادمة، وقد حصلت بالطبع على تأييد الصهيونية.(127) لكن محاولات التنظيم الذاتي المنفردة ، لم تحدث الا مع بداية عام 1924، وذلك بعد إنحسار الموجة المناهضة للصهيونية، وبعد أن بدأت بعض عناصر المعارضة بالصعود بشكل واضح على المنصة السياسية. لم تفتقد محاولة التنظيم هذه الى دوافع اخرى، كالدوافع القائمة على المنطقة والعائلة. وانضمامهم فقط اعطى هذه التنظيمات وزناً معيناً. ومن الجدير بالذكرهنا ان نضيف أن رسائل هذه العناصر كانت تخلو من أي حديث حول الوضع المهين للفلاحين الفقراء، الذين كانت تثقلهم الديون الكثيرة المصحوبة بالفوائد التي كان يجنها رجال المال المدينييين. ومع ان زعماء الحركة الوطنية المدينية كانوا عادة دائنين بأنفسهم بفوائد، الا ان هذا ليس موضوع بحثنا الذي يدور حول تنظيم المزارعين الذي إستند الى وجهاء القرى وليس الى فقرائها. لقد كان هناك تركيز على تنظيم احد مركبات النخبة الاجتماعية الفلسطينية، ضد المركبات الاخرى، أكثر من التركيز على احتجاج الفلاحين المعدمين ضد ملاك الاراضي الكبار والدائنين بفوائد.(128)
من الجدير هنا ذكر جمعية تعاون القرى، في منطقة إجزم- حيفا، حيث برزت بشكل خاص عناصر تقوم على العائلية واخرى على المناطقية. لقد كانت هذه المنطقة سابقاً، إقطاعة لابناء عائلة الماضي من إجزم، حيث نجحوا وبالتدريج في تحويل أجزاء هامة منها الى ملكيات خاصة بهم. وحتى بعد إنتقال قسم من العائلة للسكن في حيفا، كانت قرى تلك المنطقة ما زالت تخضع لهيمنتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
كان معين الماضي وقت مشاركته في الوفد الاول الى بريطانيا، صاحب مواقف اكثر اعتدالاً من الخط الرسمي. حتى أنه بعد ذلك أيد المشاركة في إنتخابات المجلس التشريعي. وعندما اقيم الحزب الوطني لم ينضم الى صفوفه، لكنه في عام 1924 ، أخذ يضفي على زعامته التقليدية في منطقته طابعاً سياسياً- حزبياً. كانت عائلة الماضي قوية بشكل كاف بحيث لم تكن بحاجة الى تأييد صهيوني من أجل إقامة تنظيمها. لذلك تقبلت الروح المناهضة للصهيونية التي كانت سائدة.(129) مع ذلك إتخذت عملية اقامة التنظيمات الزراعية الاخرى طابعاً مختلفاً.
في بداية عام 1924 بدأت في كل من مناطق الناصرة، ونابلس- جنين، والخليل، تنظيمات اتخذت لنفسها إسم حزب الزراع حيث كانت قيادته بشكل عام مستمدة من شيوخ القرى الذين كان لهم نفوذ في مناطقهم. منهم فارس المسعود من برقة، وعبد اللطيف أبو النتش من قاقون ( في منطقة جنين وطولكرم) وموسى الهديب ( من الدوايمة قرب الخليل). وقد كانت لهم علاقات مع عناصر معارضة في المدن، مثل عائلة الفاهوم في الناصرة وعائلة طوقان في نابلس.(130) وقد ساعدت الادارة الصهيونية اولئك النشطاء في إقامة ذلك التنظيم بواسطة ح. مرغليت- كلفوريسكي. وفي البداية لم يتشجع الكولونيل ف. كيش من تجديد هذه الطريقة في اقامة أحزاب عربية معارضة بمبادرات ومساعدات يهودية.(131) لقد عارضت هذه الجمعيات اللجنة المركزية وسياستها، متجهة نحو التعاون مع الحكومة، وحتى مع الصهاينة.
وحسب تقدير المنظمات الصهيونية، كان هذا الحزب بمثابة قوة جدية كبيرة، بحيث حاز على تأييد يفوق ما حاز عليه الحزب الوطني. وعلى الرغم من بروز الحزب في منطقة الخليل بمساعدة الانتداب البريطاني، الا ان حزب المعارضة المدينية قلص من نفوذ ذلك الحزب وحصره ضمن مؤيدي عائلة الهديب في الدوايمة فقط.(132) فيما بعد وعند إنقطاع الدعم الصهيوني للحزب عام 1927 أدى ارتباطه الكامل بالادارة الصهيونية، بسبب حدة الازمة التي احدقت بالمشروع الصهيوني في بلاد اسرائيل، الى ضعف الحزب الى درجة تفككه الكامل.(133) وتزداد اهمية هذا الفشل بشكل خاص في وقت بلغت فيه قوة المعارضة ذروتها.
لم تعكس ازدياد قوة المعارضين للجنة التنفيذية ذاتها من خلال اقامة احزاب معارضة صريحة فقط . ففي فترة 1924- 1925 وقع انشقاق في فرعين هامين للجمعية الاسلامية- المسيحية في كل من نابلس ويافا.(134) وللوهلة الاولى لم يكن معسكر المعارضة منسجماً، فقد تميز بصراعات حول مدى التأييد المعلن للانتداب. فأحياناً كان بعض عناصر المعارضة يشجبون رجال حزب الزراع بسبب تأييدهم للانتداب ولعلاقاتهم مع الادارة الصهيونية. (135) مع ذلك تبلورت جبهة موحدة تضم كل اجزاء هذا المعسكر. وفي نهاية 1924 في فترة التفاوض ما بين اللجنة التنفيذية وخصومها، ظهرت المعارضة بكل اجزائها موحدة يمثلهم وفد واحد.(136) وقد تم ذلك التوحد من خلال صراع جميع اجزاء المعارضة مع المجلس الاسلامي الاعلى. وهذا الصراع هو الذي امدهم بتأييد عناصركانت في السابق تؤيد اللجنة التنفيذية. وهو الذي زاد من نفوذهم الذي استمر لسنين بعد ذلك.
إنعكس نجاح المعارضة خلال فترة 1925- 1927 من خلال ما اكتسبته خلال انتخابات المجلس الاسلامي الاعلى في كانون الاول 1925 وحتى كانون الثاني 1926 وأيضاً خلال فوزها الساحق في الانتخابات البلدية في ربيع 1927. والواقع ان فوزها هذا جاء نتيجة إنضمام بعض الاوساط التي كانت في السابق مؤيدة للجنة التنفيذية الى صفوف المعارضة. فالتعيينات التي قام بها الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الاسلامي الاعلى، وآخرين، على أساس عائلي، واستغلال اموال الوقف لاهداف غير اهدافها، وتحول المجلس الاسلامي الاعلى كله الى اداة في يد الرئيس وأبناء عائلته ومقربيه السياسيين رجال اللجنة التنفيذية العربية. كل هذا ادى الى انضمام تلك الاوساط الى المعارضة التي كانت في السابق من أعضاء اللجنة التنفيذية و المجلس الاسلامي الاعلى. وهكذا مثلاً فمن خلال اضمحلال الجمعية الاسلامية- المسيحية في يافا والذي بدأ في نهاية 1923، ومع موافقة البلدية في جذب مصلحة كهرباء روتنبرغ اليها انتقل عمر البيطار، رئيس الجمعية في المدينة، الى معسكر المعارضة التي تمكنت من الانتشار في يافا، التي كانت سابقاً حصناً لمؤيدي اللجنة التنفيذية.(137)
ساد التقزز الكثيرين من رجال الجمعية الاسلامية- المسيحية في نابلس التي كانت تعتبر عمود الارتكاز للحركة الوطنية الفلسطينية، من أساليب الحاج أمين الحسيني وعبد اللطيف صالح رئيس المجلس الاسلامي الاعلى في لواء نابلس. لذلك في نيسان 1924 أسرع هؤلاء للاحتفال بشكل منفصل في احتفالات موسم النبي موسى، إذ كان يدركون ان عائلة الحسيني المقدسية تستغل مشاركتهم في الاحتفالات من اجل تقوية مكانتها واعلاء شأنها. وبعد ذلك بسنة أخذوا بمعارضة اللجنة التنفيذية ، وامتنعوا عن إرسال بيارقهم واعلامهم لمسيرات النبي موسى، حتى انهم لم يشاركوا تقريباً في الاحتفالات.(138)
كان عبد اللطيف صالح يدرك أن تأييد الاوساط الوطنية في نابلس يفلت من بين يديه. لذلك أقام جمعية جديدة أسماها حزب الاهالي الذي عمل على منافسة الجمعية الاسلامية- المسيحية في نابلس وعلى الاهتمام اولا واخيراً بمكانة مؤسسه. وقد ساعدت هذه التطورات على دفع الجمعية الاسلامية- المسيحية في نابلس بزعامة الحاج توفيق حماد، وامين التميميي، وحافظ طوقان الى صفوف المعارضة.(139)
ويبدو ان انتقال فرع الجمعية الاسلامية- المسيحية في نابلس الى صفوف المعارضة ليس بالامر السهل لتنظيم ضارب عميقاً في جذوره. وفي نهاية 1922 لوحظ إبتعاد الرئيس الحاج توفيق حماد عن صفوف القيادة. إذ لم يتم انتخابه ضمن الوفد الثاني الذي سافر الى جنيف. كما يمكن ان يكون قد منع أيضاً من المشاركة في المؤتمر الفلسطيني السادس في تموز 1928. وبعد فترة زمنية معينة اعلن عن توقفه عن العمل السياسي، مبرراً ذلك بعدم قدرة الامة على تقدير من يعمل ويضحي من اجلها. وحسب رأي مرآة الشرق فقد اخذ بالتقرب والعمل سراً في صفوف حزب الاهالي الجديد الذي كان يتصارع مع الجمعية الاسلامية- المسيحية في نابلس.(140)
وفي الخليل ايضاً بدأت المعارضة للمجلس الاسلامي الاعلى تشتد. ويعود هذا الى غضب الوجهاء المحليين بسبب هيمنة المجلس الاسلامي الاعلى على شؤون المقدسات في الخليل واستخدامها بما يتعارض واهدافها الاصلية.(144)
وجدير بالذكرأن هذا الصراع قد شاركت فيه اياد بعض الشخصيات الذين كانوا يؤيدون اللجنة التنفيذية سابقاً ولم يعودوا كذلك مثل عزت دروزة من نابلس، وحمدي الحسيني من غزة، الذي بدأ يمارس العمل السياسي بروح وطنية- يسارية، وكذلك صحيفة فلسطين.(142)
بلغت قوة المعارضة اوجها في تموز 1928، عند إنعقاد المؤتمر الفلسطيني السابع. فقد تعاونت كل من اللجنة المركزية ومنظمات المعارضة من أجل عقد المؤتمر. وفي اعقاب ذلك اصبح وزن المعارضة في المؤتمر وفي اللجنة التنفيذية التي تمخضت عنه مساوية لوزن رجال اللجنة التنفيذية الذين كانوا يؤيدون المجلس الاسلامي الاعلى وعائلة الحسيني المقدسية.(143)
الخلفية الاجتماعية للروح الراديكالية
في فترة 1925- 1928 أصبح هناك توازن في القوى ما بين مؤيدي اللجنة التنفيذية ورجال المعارضة،إلا أنه بدأ بالتغير مع نهاية سنوات العشرين. فقد كانت النتائج الهامة لازدياد قوة المعارضة ما بين 1925- 1928نتيجة ان الوزن النسبي للمقدسيين في المؤتمر السابع في تموز 1928كان اقل مما كان عليه في المؤتمر الذي سبقه.(144) وبهذا ارتفع عدد ابناء المناطق الاخرى من البلاد في الحركة الفلسطينية وفي منظمات القيادة (اللجنة التنفيذية العربية). كما بدأ في هذا المؤتمر سماع صوت أبناء الجيل الجديد، الذي سوف يترك بصماته بعد ذلك على الحركة الفلسطينية.(145) فقد كانوا أكثر تعلماً. كما ان بعضهم لم يأت من العائلات الارستقراطية التقليديية. لكنهم مع ذلك لم يشكلوا وحدة واحدة. كما ان بعضهم كانوا ميالون الى أيدييولوجية عربية قومية راديكالية، ذات رموز علمانية، والبعض الاخر استند في وطنيته على الدين الاسلامي. كان من أبناء المجموعة الاولى (عوني عبد الهادي وحمدي الحسيني وغيرهما) على حين كان من ابناء المجموعة الثانية ( عزت دروزة وعبد القادر الحسيني) الذين كانوا من المبشرين بالتيار الكفاحي ذو الطابع الاسلامي، الذي مهد في النهاية لتمرد 1936- 1939.
كان حزب الاستقلال محاولة اولى لاقامة تنظيم سياسي حديث يقوم على ايديولوجيا قومية واضحة (دولة عربية مستقلة وموحدة للامة العربية) وعلى عضوية شخصية. وقد كان مؤسسوه شباب ذوو ثقافة اوروبية واصحاب مهن حرة كالمحاماة والصحافة والطب وغير ذلك. أما نشطائه فلم يأتوا من العائلات النبيلة. حتى ان ابناء الوجهاء الذين كانوا يعملون معهم قد سبق لهم ان قطعوا كل علاقة لهم مع الاساس العائلي.(حمدي الحسيني، وعوني عبد الهادي كمثال جيد). ولكن ورغم اهمية هذا الحزب الا انه لم يصمد طويلاً.(146) فقد كان الطابع العائلي والمناطقي المستقبلي للسياسة الفلسطينية قوي جداً. لذا اختفى هذا الحزب عملياً بعد عدة سنوات من العمل. لكن بعض من زعمائه برزوا في اوساط الجمهور الفلسطيني بسبب قوة شخصياتهم وملكاتهم. كذلك حدث استقطاب ما بين مؤيد للهاشميين ومؤيد للسعوديين والذي شق معسكر الحركة القومية، قبل اضمحلالها.
كان التيار الثاني، الاسلامي من حيث تأثيره ونتائج عمله أكثر أهمية. ففي السنوات الاولى من نشاطه نجحت الحركة القومية العربية الفلسطينية أن تعطي لنفسها صورة حركة اسلامية- مسيحية مشتركة. في نفس الوقت كان هناك من المسلمين من نظر الى هذا الامر كمسألة تكتيكية ليس الا.(147) الا انه ومع الوقت ظهرت في هذه الجبهة تشققات، ودلائل اولى لامر كان قد ساد في بداية العشرينات. فقد مال المسيحيون بشكل اكبر للتعاون مع الحكومة إثر انتصار الاتراك الكماليين على اليونان مما ابهج قلوب المسلمين، بينما تنامت مشاعر التضامن لدى المسيحيين مع أبناء ديانتهم. كذلك فإن مهاجمة المسيحيين في سورية خلال تمرد 1925 أثار مخاوف المسيحيين مما قد ينتظرهم اذا ما تم الاستقلال. وفي البلاد اشتد نفوذ المجلس الاسلامي الاعلى واللجنة التنفيذية الفلسطينيية التي اصبحت متأئرة به. لذلك بدأ المسيحيون بالتوجه نحو تأييد المعارضة.
في الفترة ما بين 1926- 1928 ضعفت الحركة الصهيونية، كما بدأ الاستيطان اليهودي في البلاد يحتضر. في نفس الفترة بدأ المسلمون يعبرون عما يجول في خاطرهم تجاه المسيحيين والعمل ضمن منظمات منفردة.
وفي ربيع 1928 إنعقد في القدس مؤتمر عالمي للمبشرين المسيحيين. فخشي الجمهور الاسلامي ان يتحول هذا المؤتمر الى بداية عمل تبشيري مكثف في اوساطه. لذلك اخذ المسلمون باطلاق الصيحات ضد عقد المؤتمر بل ان البعض منهم لم يميز ما بين اولئك المبشرين الاجانب، والمسيحيين المحليين أبناء البلاد والمتحدثين بالعربية.(149)
في نفس الفترة وفي بداية عام 1928 اقيم الاطار القطري لجمعيات الشبان المسلمين.(150) تلك الجمعيات التي بدأت بالظهور في عام 1927 في كل اصقاع البلاد بحيث اصبحت اطر تنظيمية قطرية موحدة لكنها قليلة الاهمية. ويبدو ان اقامة هذا الجسم يدل على ارتفاع وتيرة الانتماء الديني. كانت تلك الفترة بالنسبة للصهيونية ايام ازمة. كما ضعف كثيراً مستوى الوحدة الاسلامية- المسيحية. وهنا نستطيع القول بأن المسلمين انذاك كانت لديهم رغبة في مواجهة الاطر المسيحية الموازية، وكذلك النشاطات التبشيرية. لذلك اتخذت عمليات التنظيم تلك طابعاً مناهضاً للمسيحيين مندمجة في مسألة اخرى كانت تشغل بال المسلمين انذاك.
منذ بداية الحكم البريطاني كان للمسيحيين مكانة هامة في الادارة الحكومية. فلكونهم متعلمين بشكل اكبر من المسلمين ومتقنون للغات الاجنبية فاقت نسبة المقبولين منهم لوظائف الدولة نسبة المسلمين من بين السكان.(151) لذلك ومنذ البداية شعر المسلمون بالمرارة غير المعلنة حول هذا الموضوع بسبب عدم قدرة المسلمين على الاحتجاج على ذلك في ذلك الوقت. في نفس تلك الفترة بذلت جهود كبيرة للتعبير عن التضامن الاسلامي- المسيحيي. لذلك كان التطرق الى مثل هذا الموضوع يمكن تفسيره على انه اعتراف باهمية الانتماءالطائفي وهو أمر مناقض لمصالح الطائفتين. وفي منتصف العشرينات اصيب ذلك التضامن بالوهن. فبدأ الكثير من المسلمين بالسماح لانفسهم بالتصريح عما تكتمه قلوبهم حول هذا الامر. وكنتيجة لنشاطات شبكة التعليم الحكومي، إرتفع كما يبدو عدد الشبان المسلمين المتعلمين، مما زاد من الضغط على الوظائف الحكومية. فصارت الصحف تنشر شكاوى حول صغر حجم نصيب المسلمين من الوظائف الحكومية، وتفضيل المسيحيين عليهم. (152) وتدريجياً اصبح هذا الموضوع حديث الساعة في اوساط الجمهور. وهو ما أثار النفوس وعكر صفو العلاقات ما بين الطوائف.(153) فبدأت بعض الاوساط بتنظيم أنفسها، وتقديم عرائض، وارسال وفود الى الحكومة مطالبة بتحقيق العدل للمسلمين في هذا المجال. وقد طلب الى اللجنة التنفيذية القيام بعمل على مستوى البلاد.(154)
في تلك الفترة اندلعت أحداث آب 1929 والتي دفعت بشكل كبير نحو تقوية المشاعر الاسلامية والتشديد على الطابع الاسلامي للحركة الفلسطينية. وقد اندلعت الاحداث على خلفية نزاع ديني لم يكن المسيحيين لهم اية علاقة به. وفي اعقاب ذلك اصبح الزعيم الديني للمسلمين في البلاد الحاج أمين الحسيني الزعيم الاكثر بروزاً لعرب ارض اسرائيل، وبالتالي تعمق الطابع الاسلامي لحركتهم.
أما تنظيم جمعية الشبان المسلمين فقد اخذ على عاتقه النضال على مسألة الظلم الواقع على المسلمين فأصبح بالتدريج قوة هامة في العمل من اجل زيادة نسبة المسلمين في الوظائف الحكومية. وفي المؤتمر الرابع لهذا التنظيم في صيف 1932 كان لهذه المسألة مكاناً هاماً في المداولات بحيث حازت على اهمية قصوى في قراراته.(155) وفي لقاءات اقل علانية لم يتردد رؤساء التنظيم في القول وبصراحة أن "المسيحيين يسلبون حقوق المسلمين في الوظائف (الحكومية)" (156) أما صحيفة الجامعة الاسلامية التابعة للشيخ سليمان التاجي الفاروقي التي اتخذت موقفاً إسلامياً متطرفاً، فقد عالجت هذا الموضوع بحدة شديدة ادت الى تحريض صريح ضد المسيحيين.
من ناحية اخرى، قام بعض الشبان المسلمين بتنظيم انفسهم في إطار خاص يدعى المؤتمر التحضيري للشبان المسلمين المثقفين للنضال من اجل حقوقهم. وفي تشرين الثاني 1932 عقدوا مؤتمراً قطرياً في يافا مؤسسين بذلك مؤتمر الشبان المسلمين المثقفين. وقد توجهوا في مؤتمرهم بكل حدية ضد المسيحيين. لكن عبد القادر الحسيني إبن موسى كاظم الحسيني طالب بتهدئة النفوس الغاضبة بتأثير من ابيه كما يبدو.(157)
وفي اعقاب هذه التطورات بدأ المسيحيون من جانبهم بتنظيم انفسهم كرد فعل على ذلك. وقد كانت هناك خشية من حدوث انشقاق علني وحاد بين الطائفتيين.(158) وقبل ذلك في 9/9/1932 ناقشت اللجنة التنفيذية مبادرتها بخصوص الخلاف الحاد بين الطائفتين. وقررت الطلب الى الحكومة الامتناع عن تشغيل أجانب وذلك من اجل اتاحة الفرصة لابناء البلاد " والحفاظ على تقسيم الوظائف بناء على العلاقة النسبية بين السكان" (159) ومن الجدير ذكره أن صاحب اقتراح هذا القرار هو عيسى العيسى، وهو مسيحي من يافا. وبالتالي لا يمكن فهمه الا اساس متطلب فوري بسبب الضغط الاسلامي الشديد. مع ذلك يبدو ان هذا القرار لم يهدأ النفوس المثارة. ففي 28/10/1932عادت اللجنة التنفيذية وناقشت الروح الطائفية المنتشرة في البلاد والتقت مع عبد القادر الحسيني ممثل المؤتمر التحضيري للشبان المسلمين المثقفين، حيث تم التأكيد على الضرورة المستعجلة لوضع حد للخطر الطائفي والعدائية، والامتناع عن التعرض للمسيحيين. ولكن عندما طالب الاعضاء المسيحيين معالجة المشكلة وشجب كل ما من شأنه ان يؤدي الى التعرض بالاذى " للمناخ الجيد بين أبناء الوطن الواحد" (كلام عيسى البندك وهو اورثوذكسي من بيت لحم) ولجم جمعية الشبان المسلمين اليافاوية التي هى "اصل الشر" (كلام الفريد روك وهو يوناني كاثوليكي من يافا) أعرب اعضاء مسلمين عن تأييدهم للمؤتمر التحضيري وادعوا ان القضية ليست عملية انتقامية من المسيحيين، وانما هي من أجل نيل حقوق المسلمين فقط.(كلام هاشم الجيوسي وعزت دروزة) (160)
وبسبب الخلافات في الرأي لم تتوصل اللجنة المركزية الى إتفاق بهذا الشأن. فكان على مكتب اللجنة ان ينشر توضيحاً بهذا الخصوص.(161) ولكن في تلك الايام قلت وتيرة النشاط لدى اللجنة ومكتبها. فلم تعد تنعقد الا بعد عام من ذلك. كذلك لم تجتمع هيئة مكتبها حتى تشرين الاول 1933 الا مرة واحدة فقط في 19/5/1933.(162) وبناء على هذا لم تتمكن هذه المؤسسة التي كانت بمثابة التنظيم القيادي للحركة الوطنية الفلسطينية من أن تعالج هذه القضية الخطيرة للغاية.
وفي مجال الحياة اليومية لم تكن المشاكل المطروحة أقل خطورة. فقد انتشرت الدعاية المضادة للمسيحيين. وإزداد اقامة الجمعيات الاسلامية الوطنية منذ عام 1921. وفي كثير من أصقاع البلاد انتشر العداء للمسيحيين والذي كان يعبر عن نفسه مراراً بحدة شديدة.(163). كانت النزاعات الشخصية على خلفية بيع الاراضي، او اعمال الخطف والقتل التي تورط فيها أبناء الطوائف المختلفة تأخذ لها أبعاداً طائفية. وكان هذا- بالنسبة للمسيحيين- كشف حقيقي من قبل المسلمين عن نواياهم تجاههم.(164) وفي عام 1924 وإثر وفاة رئيس بلدية الناصرة، إحتدم الصراع على خليفته بين مسلمي ومسيحيي المدينة.(165)
وفي صيف 1930، قتل في حيفا صحفي مسيحي واسمه جمال البحري، حيث كان رئيس جمعية الشبان المسيحية في المدينة. وقد ارتبط ذلك الحدث بشكل مباشر بنزاع بين مسيحيي حيفا ومسلميها حول ملكية منطقة تابعة لاحدى المقابر القديمة.(166) وقد أثار حادث القتل ذاك النفوس وعكر صفو العلاقات بين الطوائف، فقامت اللجنة التنفيذية ببذل كل مجهود من اجل حصر حادث القتل ضمن دائرة شخصية. فتم إرسال وفد رفيع المستوى الى حيفا.(167) ومع هذا لم يتخلص المسيحيون من الشعور بالمرارة. وكان من بينهم من قدموا احتجاجات لدى حكومة بريطانيا، كما واخذوا يتحفظون من كل علاقة مع الحركة الوطنية ومع المسلمين.(168)
نتيجة ذلك فخلال السنوات الاولى من عقد الثلاثينات، ازداد التوتر بين الطوائف.(169) وقد جاء في تقرير المندوب السامي:"اعترف بعض من القياديين المسيحيين العرب أمامي، بأنهم رغم إقامتهم علاقات سياسية شجاعة مع المسلمين،الا ان الخوف كان يساورهم من نوايا الاكثرية المسلمة خصوصاً في ظروف معينة." (170)
في صيف 1931 عقد في نابلس اجتماعان لمناقشة مستقبل البلاد. وقد كان هذا تعبيراً عن الشعور بأن القيادة التقليدية واللجنة التنفيذية ليس بمقدورهما تغيير سياسة بريطانيا. فرسالة مكدونالد الى ح. وايزمن في شباط 1931 ("الكتاب الاسود" كما يسميها العرب) وبيع الاراضي لليهود، الذي قام به أعضاء من اللجنة التنفيذية، هما اثبات على ضرورة التخلي عن الاساليب القديمة. وقد كان من بين الاوساط المجتمعة من كان يرفض زعامة اللجنة التنفيذية، وكان العنصر القومي ( جماعة الاستقلال) واوساط الشباب الاسلامي الواقعين تحت تأثير الحاج امين الحسيني، وبعض من رجال الدين وغيرهم يطرحون ولاول مرة في تلك الاجتماعات، وعلى الملأ فكرة الحصول على السلاح للنضال ضد الصهيونية.(171)
كانت المحاولة الاولى لتنفيذ هذه الفكرة قد خرجت من تلك الاوساط. وهي فكرة ارتبطت بشخصية عز الدين القسام من حيفا. فقد كان هذا رجل دين مسلم، تعود اصوله الى مدينة اللاذقية السورية، حيث كان قد فر بعد الهزيمة التي لحقت بفيصل فأصبح إماماً لاحد مساجد حيفا. وقد برز بسبب افكاره حول إصلاح الدين الاسلامي، والعيش بتواضع، والتمسك بوجهة النظر الحنبلية، والحفاظ على عروبة البلاد. وفي نهاية سنوات العشرين، أقام جمعية الشبان المسلمين في حيفا وترأسها. وفي الفترة ما بين 1931- 1935، شكل مجموعة إرهابية في شمال البلاد، حيث نشطت ضد المستوطنات اليهودية. استندت تلك المجموعة على أعضاء جمعية الشبان المسلمين في حيفا وصفورية. وفي تشرين الثاني 1935 نجحت احدى الوحدات العسكرية البريطانية في تطويق تلك المجموعة قرب قرية يعبد حيث قتل هو وبعض من كانوا معه. أما الناجون فقد فروا واعادوا تنظيم صفوفهم في جبال نابلس، وهم الذين دشنوا العمليات الاولى لتمرد 1936- 1936 في نيسان 1936.
هناك وجهة نظر اخرى لهذه القضية. فالمعلومات التي بين ايدينا حول من التفوا حول عز الدين القسام تفيد بأنهم ينتمون لشريحة اجتماعية لم تشارك انذاك في العمل السياسي والوطني. وهم على الغالب من أبناء القرى الذين هجروا قراهم لاسباب مختلفة وانتقلوا الى المدينة. فالاحوال الاقتصادية خلال فترة 1933- 1935 دفعت بالكثيرين من ابناء القرى للانتقال الى المدينة حيث كان بإمكانهم هناك ان يعملوا ويكسبوا أكثر من كسبهم في قراهم. وهكذا تم اجتثاثهم من مجتمعهم الاصلي دون استيعابهم في اطر مدينية جديدة. فكان ان منحهم تنظيم عز الدين القسام الاطار الذين كانوا بحاجة له نوعاً ما، هذا بالاضافة الى الرموز الاسلامية التي كانت مألوفة لديهم. ويجدر بنا ذكر ظاهرة مماثلة ولكن اقل اهمية كانت قد ظهرت في الخليل. (172)
أصبح لهذا الامر، أي انضمام ابناء الطبقات المنخفضة الى الحركة الوطنية نظرة جديدة بعد تمرد 1936- 1939. ففي مراحله الاولى كانت قيادة التمرد في ايدي ابناء المدن، بل ان النشاطات الجوهرية كانت تتم هناك اي في المدينة (الاضراب العام). وقد انضم الفلاحون الى الاضراب بالتدريج حتى اصبحوا عنصراً مقرراً.إذ كانت المجموعات المقاتلة مكونة بشكل اساس من الفلاحين. وفي ذروة التمرد في خريف 1938 انتشرت هذه المجموعات في المدن العربية وسيطرت عليها لفترة قصيرة من الوقت. لم تكن القيادات المدينية موجودة انذاك في البلاد.( بعضها كان في المنفى، والبعض الاخر كان قد فر او اختفى بسبب الصراع الداخلي الدامي) ولو كانت مجموعات الفلاحين تلك منظمة تحت قيادة موحدة، لكان بإمكانها إحداث تغيير كبير في البنية السياسية لعرب ارض اسرائيل. لكن هذا لم يحدث. فقد كانت مجموعات الفلاحين تلك غير موحدة. وحتى في ذروة قوتهم لم يسعوا لبلورة اطار موحد.
بالاضافة لذلك، أثر ازدياد قوة تلك العصابات الفلاحية سلباً على مستقبل التنظيمات الفلاحية للعمل الذاتي. فقد نجحت تلك العصابات رغم صراع داخلي حاد بين بعضها بعضاً. فالنزاعات القديمة داخل القرية اصبح لها تعبيراً جديداً اتخذ شكل الصراع بين العصابات.من جانب آخر اخذت العناصر التي تعبت من استمرار التمرد بتشكيل عصابات مناهضة (عصابات السلام) التي اخذت تناضل ضد سيطرة العصابات المقاتلة على قراها. وقد اصبحت عصابات السلام قوة حقيقية من خلال تأييد الحكومة لها. وسرعان ما اندلع صراع حاد ووحشي بينها وبين العصابات المقاتلة. وفي قرى كثيرة كانت هناك حسابات دامية مصحوبة بالكراهية تجاه العصابات التي كانت تمارس الابتزاز، وتجنيد عناصر بالقوة وقتل المتعاونين. وعلى هذه الصورة كان نجاح العصابات الفلاحية. وفي خريف 1938، بدأت الخلافات والانشقاقات. (173)
على ضوء هذه التطورات بدأت السلطات البريطانية بالتحرك. ففي خريف 1938 قرر البريطانيون كما يبدو القضاء على التمرد العربي الفلسطيني بكل ثمن وبسرعة. فتم تجميع جيش كبير لهذه الغاية. ثم بدأوا بحملة منظمة لتطهير اوكار المتمردين في المناطق الجبلية. كذلك فرضت عقوبات جماعية قاسية على القرى التي كانت تقدم العون للمتمردين او التي وقعت قربها اعمال تخريبية، وتم نسف بيوت، والقي البعض في السجن. كما حكم على الكثيرين بالاعدام وتم شنقهم. (174)
وعلى اثر هذا- النزاعات الداخلية واستخدام السلطة للقوى العسكرية- انتهى التمرد العربي مع بداية 1939. لكن من ناحية سياسية كان للتمرد نتائج مثمرة. ففي أيار 1939 تم نشر الكتاب الابيض لملكولم مكدونالد الذي كان الى حد كبير ثمرة ذلك التمرد.(176)
من ناحية اخرى، وعلى المستوى الداخلي، يبدو ان التمرد كانت له نتائج خطيرة. فلم يعد الفلاحون يعملون كقوة منظمة ضمن اطار خاص بهم. كما ان هناك شك كبير في انهم مالوا بإتجاه المشاركة في اطر اكثر سعة تحت قيادات اخرى. كذلك اشتدت حدة الخلافات الداخلية. فمع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كان واضحاً ان المستقبل السياسي لارض اسرائيل قد بت بأمره حاولت بعض العناصر في اوساط عرب ارض اسرائيل اعادة احياء اللجنة العربية العليا كإطار سياسي وتمثيلي. لكن الخلافات الداخلية ازدادت ففشلت تلك المحاولة. عندها توجه الجميع الى الجامعة العربية من اجل فض الخلافات. وبعد عدة محاولات فاشلة عينت الجامعة العربية في حزيران 1946 لجنة عربية عليا تتحدث بإسم عرب البلاد. وبشكل طبيعي تقريباً القت الجامعة العبئ على القيادة السياسية القديمة، اي رؤساء العائلات الكبيرة والوجهاء.(176) أما القوى الجديدة وهم جماعة الاستقلال مثل موسى العلمي ومن على شاكلته الذين حاولوا الانطلاق على اساس ايديولوجي قومي وصلاحيات شخصية فقد تم الدفع بهم الى الهامش بشكل كبير. اما بالنسبة لعائلة الحسيني فقد عادت المياه الى مجاريها بفعل تدخل الجامعة العربية، فعادت الى الهيمنة مجدداً دون وجود اية امكانية تهديد لها من اي قوة داخلية قوية. لكن مع ذلك بدأت هناك قوة سياسية جديدة بالظهور لم تكن لترضى بهذا الوضع، وهي عصبة التحرر الوطني. فقد طالب هذا التنظيم بإنتخابات ديمقراطية للجنة العربية العليا واشراك الجماهير في النضال الوطني. لكن ولكون هذا التنظيم كان تنظيماً شيوعياً لم يكن بمقدوره التأثير الكبير على الجمهور. لكنه نجح في ان يضم الى صفوفه قسماً لا بأس به من الطبقة العاملة الشابة ومن الانتلجنسيا الجديدة.(177)
لم تنجح اللجنة العربية العليا في الخروج من إطارها الاصلي، اي نادي وجهاء العائلات الهامة. كذلك لم تحقق محاولاتها في تنظيم شباب المدن والفلاحين في تنظيمات عسكرية لمحاربة الاستيطان اليهودي، اية نتائج حقيقية. إذ لم تكن القوة المنظمة كبيرة ولم تكن ذات فعالية كافية.(178)
وإذ لم تستطع جيوش الدول العربية ان تأتي بالخلاص، انتهت حرب 1948 بالهزيمة وتحولت اعداد غفيرة من العرب الفلسطينيين الى لاجئين.
عمل الوضع الجديد على تغير طابع العمل السياسي لدى عرب ارض اسرائيل بشكل كبير. فقلة منهم اصبحوا مواطنين في دولة اسرائيل. واما الغالبية (معظمهم لاجئين) فقد حصلوا على الجنسية الاردنية. وفي قطاع غزة تركزت اعداد كبيرة من اللاجئين في معسكر واحد للاجئين مشكلة دفيئة للشعور الوطني الكفاحي. ومن سوريا انتقل الكثيرون من اللاجئين وبشكل تدريجي الى لبنان، حيث وجدوا هناك مصادر رزق بسهولة اكبر.
ادى هذا الوضع الى تغييرات جذرية هامة. فقد عملت السلطات الاردنية على اضعاف قوة عائلة الحسيني ومؤيديها، الذين كانوا أعداء للنظام. لذلك لم يحصل ابناء هذه العائلة على وظائف عامة. ولم يخدموا في البرلمان ولم يشاركوا في الحكومات الاردنية. ويبدو انهم قد ابعدوا تماماً عن الحياة السياسية. مقابل هذا ارتفعت اسهم خصومها من عائلة النشاشيبي الذين ساعدوا الملك عبد الله في ضم الضفة الغربية الى مملكته مما عاد عليهم بمكافئات سخية. فقد حصل راغب النشاشيبي وابناء عائلته وكذلك أبناء عائلة الخالدي على وظائف محترمة في النظام الاردني. اما في الخليل ونابلس حيث تركزت هناك عائلات كثيرة وذات شأن مناهضة للحسيني، فقد حصلت على دعم اقتصادي من اجل تطوير قدراتها. وقد اصبح ينظر الى القدس "الحسينية" نظرة سوء.
مقابل ذلك، ومنذ بداية ايام الحكم الاردني، برز عنصر جديد والذي كان من شأنه ان يؤثر مستقبلاً بشكل غير قليل على مواصلة تطور القوى الفلسطينية. فمنذ بداية الحكم الاردني في الضفة الغربية، اتجه بعض الشباب المثقف الى تنظيم انفسهم في اطار معارض اتخذ شكل نوادي ثقافية او من خلال حزب البعث. لم يكن اولئك المثقفون قد انحدروا من عائلات ذات شأن، بالذات (عبد الله الريماوي، كمال ناصر وغيرهما) لذلك تبنوا ايديولوجيا قومية كفاحية وعارضوا بكل قوة النظام الهاشمي المؤيد للغرب والمتهم بإعتداله النسبي تجاه اسرائيل.
كذلك كان هناك شباب اخرون مثقفون هم ايضاَ ولا علاقة لهم بالارستقراطية القديمة، وقفوا خلف محاولة تنظيم سياسي آخرليمسحوا عار 1948 الا وهم القوميون العرب. فقد اقيم هذا التنظيم في سنوات الخمسين الاولى على يد بعض الطلاب الفلسطينيين حيث كانوا يتعلمون في الجامعة الاميركية في بيروت. وقد كانوا يطالبون بوحدة عربية تؤدي للقضاء على إسرائيل. وكان شعارهم "وحدة، حرية، إنتقام"(179) وفي نهاية سنوات الخمسين أصبح هذا التنظيم يثق بنظام عبد الناصر بشكل كبير حتى انه تحول الى اداة بيد ذلك النظام. لكن في ستينات القرن بدأ هذا التنظيم بالتحرر اكثر فأكثر من الايمان بأن الوحدة العربية هي التي ستأتي بالخلاص الفلسطيني. كما اتخذ له موقفاً على يسار النظام الناصري متبنياً وجهة نظر (1966) مفادها ان على الفلسطينيين أن يحرروا بلادهم بقواهم الذاتية عن طريق حرب تحرير شعبية.(180)
وبشكل مشابه ظهر تنظيم فتح. فقد برز في اوساط الطلاب والمثقفين الفلسطينيين في مصر والكويت. فمع انه بدأ في حملات التنظيم منذ 1956، الا انه لم يكن مبلوراً بشكل تام الا في الستينات.(181) وليس بالصدفة ان تبدأ عملياته العسكرية في كانون الثاني 1965. فآنذاك بدأ العالم العربي بالتحرر من الايمان بأن مسيرة الوحدة العربية تزداد قوة. فالوحدة ما بين مصر وسوريا قد اخفقت، واتضح ان التدخل المصري في اليمن اظهر عجزه. كذلك لم تنجح الجهود العربية المشتركة (دول مؤتمرات القمة) من منع إسرائيل من تحويل مجرى نهر الاردن. فجاءت اولى عمليات فتح لتعلن كما يبدو ما يعنيه شعار "ان لم اكن انا لي فمن لي".
بهذا اصبح هناك فرق واضح. فمن ناحية تركيبة الشريحة القيادية في اوساط الجمهور الفلسطيني سواء من ظل على تراب ارضه او من اصبح لاجئاً في الضفة الغربية ( واقل من ذلك في اسرائيل) ظل تاج القيادة على رؤوس أبناء العائلات النبيلة حيث كانت لهم اقدمية في القيادة واملاك كبيرة. على حين لم يعد اللاجئين المهاجرين يتأثرون بالغنى الموروث والاملاك التي فقدت على تركيبة قيادتهم الذاتية. بل حل مكان ذلك ثقافة حديثة، واستعداد للنضال السياسي، وقدرة على التنظيم والتضحية.
-انتهى- ملاحظات المترجم:
* المراجع محفوظة في النص الاصلي باللغة العبرية المأخوذ من كتاب بعنوان חברה ומשטר בעולם הערבי/ المجتمع ونظام الحكم في العالم العربي، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات لباحثين يهود تم تجميعها وتحريرها على يد الدكتور مناحيم ميلسون، الذي أسس خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي " روابط القرى" مستنداً بذلك كما يبدو على ما في هذا المقال من معلومات. وجدير بالذكر أن محاولته تلك يمكن إعتبارها كمحاولة إسرائيلية لسحب البساط من تحت منظمة التحرير الفلسطينية أنذاك.
** لم تترجم أسماء الاماكن والمناطق بل ظلت كما هي واردة في النص ربما بإستثناء كلمتي اورشليم وبيت شآن حيث استبدلتا بما يقابلها بالعربية، أي القدس وبيسان. أما لفظتي "أرض إسرائيل" ويهودا والسامرة وغيرها من التسميات اليهودية فقد ظلت كما هي دون اي تغيير.
*** كان المترجم أحياناً يضع الاسم العربي المقابل للاسم اليهودي لبعض المناطق بين هذين القوسين [ ] **** إن إبراز بعض الاسماء او الجمل والتشديد عليها بوضع خطوط تحتها او بكتابتها بحروف سوداء هي من فعل المترجم. معلومات عن المرجع חברה ומשטר בעולם הערבי المجتمع ونظام الحكم في العالم العربي עורך: מנחם מילסון تحرير: مناحيم ميلسون פרסומי מוסד ון ליר בירושלים منشورات مؤسسة فان لير في القدس 1977 1977
نبذة عن الكاتب: يعتبر يوشع فورات יהושע פורת من أهم البحاثة اليهود في مجال تاريخ فلسطين السياسي والاجتماعي منذ بداية القرن العشرين، وله عدة مؤلفات في هذا الحقل منها: 1) الوحدة العربية وسياسة بريطانيا 1930- 1945 במבחן המעשה הפוליטי - ארץ-ישראל, אחדות ערבית ומדיניות בריטניה 1930-1945
2) الانتداب والوطن القومي (1917- 1947) تاريخ أرض إسرائيل המאנדאט והבית הלאומי (1917-1947) - ההיסטוריה של ארץ-ישראל
3) من الشغب الى التمرد: الحركة الوطنية العربية- الفلسطينية 1929- 1939 ממהומות למרידה : התנועה הלאומית הערבית - הפלסטינית 1939-1929
4) ظهور الحركة الوطنية العربية- الفلسطينية 1918- 1929 צמיחת התנועה הלאומית הערבית הפלסטינאית 1918 1929
نبذة عن المترجم
محمدخليل حسين (داود)، من مواليد مدينة القدس عام 1954 * يحمل درجة الماجستير في الدراسات اليهودية من Hebrew College في الولايات المتحدة. * يحمل درجة البكالوريوس في علم النفس وعلم الاجتماع من جامعة بيت لحم. * يحضر لنيل درجة الدكتوراه في تاريخ المحرقة والابادة من جامعة كلارك في الولايات المتحدة.
ينصب اهتمامه على تدريس اللغة العبرية وعلى الترجمة من العبرية والانكليزية الى اللغة العربية خصوصاً في مجال الفكر الديني اليهودي، وله عدة ترجمات أهمها كتاب مشنيه توراة/ موسى بن ميمون، و كتاب الشريعة اليهودية/ لويس جاكوبس، وكتاب الحسيدية والإنسان المعاصر/ مارتن بوبر. وغير ذلك العديد من المقالات. يمكن الاتصال بالمترجم على البريد الالكتروني: [email protected]
#محمد_خليل_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أثر الفلسفة العربية والاسلامية على الفكر اليهودي
المزيد.....
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|