|
لغة البهائم والبشر
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 3948 - 2012 / 12 / 21 - 01:21
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
قضيت قرابة الربع قرن من الزمن في العيش وسط البهائم من أبقار وجاموس وماعز وخراف وحمير وكلاب وقطط وأرانب...الخ أطعمها وأنظم لها سد وإشباع احتياجاتها البيولوجية المختلفة وأتولى رعايتها والإشراف عليها إلى أن يحين أوان البيع وجني الربح. الحيوانات دائماً تصدر أصواتاً، وكنت أستطيع بسهولة تمييز أصواتها. كنت لا أخطئ أبداً أن أعرف ماذا يريد أي منها. هذا عطشان. هذه جائعة. هذه صارف تطلب العشر. هذه في مخاض الولادة. هذا صوت عراك بين الذكور. هذا أنين مكتوم أو عويل استغاثة. كنت عقب كل صفقة بيع عجل رضيع للجزارين كعادة الفلاحين المصريين أقضى الأيام والليالي أكتوي بعذاب الضمير، إلى أن تهدأ بالنسيان أخيراً آهات الجاموسة الأم ويتوقف صراخها الناحب على وليدها الفقيد. كانت الحظيرة تحتل مكاناً وسط البيت تماماً. وفي أي وقت من الليل مهما كان متأخراً، كان عمي محمد، رحمه الله، يستيقظ من منامه مسرعاً وهو يعلم من نغمة ودرجة أصوات البهائم ذاتها ما هي المشكلة بالضبط حتى قبل أن ينهض من فراشه. كان يفهم لغة البهائم.
في مرحلة أخرى، في الجامعة، تعلمت أن معجزة الصوت هذه، واللغة البشرية في نهاية المطاف، ليست سوى تيار هوائي متدفق من الرئتين عبر الحنجرة تعترضه عوائق عدة في الطريق حتى مخارجه المختلفة، لتشكل منه أصواتاً متميزة ومختلفة بعضها عن بعض، منها الجوفية والحلقية واللسانية والشفتية والأنفية، نسبة إلى مخرج التيار الهوائي لكل منها. هذه هي نفس آلية إخراج الأصوات لدى الحيوانات. تيار هوائي قوي منبعث من الرئتين يصادف عوائق معينة باستخدام اللسان والأنف والشفتين...الخ، لينتج أصواتاً متميزة ومختلفة بعضها عن بعض. ثم أخذ الإنسان هذه الأصوات المختلفة وترجمها إلى علامات ورموز وحروف وشفرات صوتية متميزة ومختلفة أيضاً، كل منها تقف لمعنى متميز ومختلف. هكذا كنت أستطيع أن أعرف ماذا تريد البهائم أن تقول إذا كانت، مثل الإنسان، استطاعت أن تصقل وتطور هذه المقاطع الصوتية البدائية إلى رموز اتصال لغوي متقدمة؛ كان كل صوت معين مرتبط بشكل دائم ومتكرر بحاجة مادية أو حالة نفسية معينة، بحيث لا ينطلق هذا الصوت إلا إذا وجدت هذه الحاجة المادية أو الحالة النفسية مسبقاً، ومسبقاً فقط. لا يمكن أبداً أن يصدر صوت دون وجود حاجته المادية أو حالته النفسية التي يريد أن يوصل التعبير عنها أولاً. اللغة هي صورة ليس لها وجود في ذاتها، إنما وجودها الحقيقي فيما تقف له.
كما يشترك الإنسان مع البهائم في أساسيات الأكل والشرب والهضم والتنفس والتزاوج والتكاثر وأغلب الخصائص الحيوانية الأخرى، هو يشترك معها أيضاً في نفس الأساس اللغوي. الإنسان يصدر أصوتاً متميزة ومختلفة بعضها عن بعض مثل البهائم تماماً، لكن بعدد وتعقيد وتطور وابتكار أكبر بكثير. قد تفنن الإنسان في تنظيم الأصوات المختلفة وتسكينها في إشارات ورموز وحروف مختلفة، وابتكر المقاطع الصوتية والكلمات والجمل، وأقام قواعد الصرف والنحو، وأنشد الأغاني والشعر، وكتب التاريخ والفلسفة...الخ. باختصار، استطاع الإنسان أن يشيد صرحاً لغوياً عملاقاً من أساس صوتي بدائي وبسيط جداً لا يزال ماثلاً بكامل بدائيته وبساطته في البهائم في كل مكان. لكن على الرغم من كل هذا التقدم والتفنن في اللغة الإنسانية، يظل نفس الأساس المشترك بينها وبين لغة البهائم صلباً وجلياً: هي مجرد رموز صوتية مختلفة، تقف لمعاني ومضامين مختلفة في المقابل. في قول آخر، بدون وجود ما ترمز له، هذه الرموز الصوتية لا تعني أي شيء على الإطلاق. هراء، كلام فارغ دون مضمون حقيقي. هل يستطيع أحد أن يلتقط صورة للاشيء، العدم؟
لإيضاح الصورة أكثر، كلمة "الطائرة" تقف لأنثى الطائر قبل اختراع "الطائرة" التي تحمل ركاباً وبضائع في عنان السماء. لكن الآن فور أن تنطق كلمة "طائرة"، هي تبعث في الخيال فوراً صورة لطائرة الركاب والبضائع هذه. هذه الكلمة كان مستحيل أن تحمل هذا المعنى والمضمون الحديث قبل ظهور هذا الاختراع الحديث. في قول آخر، دائماً وجود الصورة يأتي لاحقاً على وجود الشيء المصور ذاته كما هو في الحقيقة الفعلية أو المتخيلة وليس أبداً سابقاً عليه. كذلك وجود اللغة يأتي دائماً لاحقاً وتالياً على وجود المعنى والمضمون المراد إيصال التعبير والصورة عنه. كما يولد المولود أولاً ثم يبحث له عن اسم مناسب، كذلك لابد أن يوجد الجديد أو الاختراع أولاً ثم يطلق عليه اسماً. لا اسم للاشيء.
هذا لتأكيد أن اللغة، أي وكل لغة، سواء منسوبة للبهائم أو البشر، السماء أو الأرض، ليست سوى صورة رمزية لاحتياجات وحالات ووقائع محددة موجودة مسبقاً، مجرد وسيلة اتصال وتعبير حول وجود مسبق. في قول آخر، اللغة لا تساوي أي شيء، الواقع هو كل شيء.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لأن الله معهم
-
الشعب والنخبة والحاكم بين الديكتاتورية والديمقراطية
-
الإخوان لا يهزمون أبداً بالوسائل الديمقراطية
-
الدستور أو الشريعة
-
حتى لو خلعت ملابسها في ميدان عام
-
اصرفوا رئيس اليمين الباطل
-
رئيس في الهواء
-
عندما يعتلي الإله سدة الحكم
-
كذلك الكلاب تتزوج أفضل من البشر
-
في وحدانية وسماوية الجسد والمرأة
-
سيدنا الشيخ بديع مع سيدنا الولي مرسي
-
في فلسفة الدستور (عبثية المادة الثانية)
-
الدين والديمقراطية والديكتاتورية الإسلامية
-
في فلسفة الدستور
-
العلماء الكهنوت
-
وكذب القرآنيون-3
-
وكذب القرآنيون-2
-
وكذب القرآنيون
-
الحكمة الإلهية داء العقل العربي
-
بالدستور، المصريون المسيحيون يدفعون الجزية للمصريين المسلمين
...
المزيد.....
-
وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
-
مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي
...
-
ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
-
-تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3
...
-
ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
-
السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|