الحداثة.... العدد 2 ..........شباط 2002 م
هل يمكن للمرأة أن تكون قضية ، أو أزمة أو مشكلة تطرح على طاولة المناقشات ، ثم هل يمكن التقصي المعرفي عن حال المرأة السورية ( موضوع دراستنا ) ، باعتبارها كائناً مستقلا عن المجتمع ، وعن التاريخ ، و بمعزل عن كونها ذاتاً إنسانية عانت من مواجهة ثقافة من أهم معالمها القهر، ثقافة عمرها مئات بل آلاف السنين ، ثقافة تراكمت و ترسخت و تجذرت عبر عملية ممتدة ومعقدة ، ثم عادت و تمفصلت مع معطيات اجتماعية اقتصادية و سياسية زادتها قوة رسوخاً.
إلى درجة تجعل من قمع المرأة سمة تقبع في أعماق اللاوعي الجمعي، مما جعل دفع الإحساس بهذا القمع كمقدمة لمحاربته، إلى ساحة الوعي الخلاق بشمولية و عمق أمراً صعباً و خطراً ، إذ يزحزح ذلك في حال حدوثه ، ترسخ الثقافة و المنظومة القيمية ، و الهوية الحضارية السورية بمجملها.
فما مادة هذه الثقافة و ماذا أنتجت..؟
إن هذه الثقافة ضاربة في جذورها إلى ما قبل ظهور الأديان السماوية على أرض سورية الطبيعية ، و يعود تشكلها إلى بدايات تكوين التجمعات البشرية الحضرية، حيث بدأت تظهر أهمية العنف و القوة في استراتيجيات الهيمنة ، و في سياق تلك العمليات المعقدة ، تبلورت أيضا كل المجريات و التلاعبات و القيم و الأعراف و القوانين التي تسلب الأنثى " بحكم ضعفها البيولوجي وجودها الحر، فصارت الأنثى الجهة الأضعف و التي تتعرض للقمع بامتياز و خصوصية .
و عندما جاءت الأديان السماوية و آخرها الإسلام الذي لا زال يحتل الساحة السوسيولوجية العظمى في سورية ، و يلون بقيمه هوية السوريين . فإنه و إن وعد المرأة بمكانة روحية ( على الأقل) مساوية للرجل ، إلا أنه لم يغير من موقعها القانوني أو الشعائري تغييرا ملموسا ، وفي الحقيقة إن الإسلام لم يستطع أن يلغي أو يتجاوز وضع المرأةعما كان عليه قبله , بل لقد رسخ شأنه شأن الأديان الأخرى ، القيم العميقة السابقة عليه، و أبدها و خلع عليها قدسيته هو أيضاً .
و رغم انتشار القيم المؤسسة لحقوق الإنسان في الغرب المتقدم و الذي أسس لتحرير حقيقي للمرأة ،إلا أن ذلك لم يكن له مثيلا في البلدان المتأثرة بالظاهرة الإسلامية و منها سورية ،
فإلى اليوم لا زالت شخصية الأنثى السورية ، حريتها و كرامتها تتعرض للانتهاك اليومي المشرعن، لا يزال كل الرجل السوري يضطهد كل الأنثى السورية ، في أخطر انتهاك و تشويه للشخصية السورية ،لا تزال أدوار و مواقع الأنثى السورية تراثية الضبط و التحديد, راسخة و مجذرة في الشيفرات الأعرافية، و الأمر الأخطر ،أن الحيف الذي يحيق بها مدعوم بقوة القانون ، ذلك القانون الذي يجعل من المرأة في كثير من الأحيان ، ذاتا مستهدفة في حياتها و حريتها .
لقد جعلت هذه الانتهاكات المرأة تعاني من ضياع وجودي ، و من حالة تشبه الماسوشيزم الجماعي ، الذي يتضح جلياً في عدم مقاومة الأعداد الهائلة من الأنثى السورية ، لأي إجراء ينتهك وجودها ،بل مقاطعتها و أحيانا معاداتها لأي موقف أو سلوك يهدف تحريرها و الدفاع عن شخصيتها ، و تحولها هي نفسها إلى آلة نسخ بيداغوجية ( تربوية ) ، للقيم و الأعراف التي تنسف وجودها، و تغيب استقلاليتها ، و تؤبد تبعيتها و اضطهادها، وكأنه طاب لها أن تكون تابعا .
إن أبرز هذه الانتهاكات يتبدى في وضع الأنثى العام المغيبة عن اتخاذ القرار حتى فيما يتعلق بمصيرها الشخصي ... فقدان الثقة العامة بها ... حرمان أعداد هائلة من التعليم الثانوي و العالي و أحيانا الابتدائي( بحجة صيانة الشرف) ... الحال المزري للمرأة المطلقة ... والمرأة التي لم تستطع الزواج ....أو تلك التي تقبع عاجزة بانتظار أن تنقذها الذكورة و تختارها... تعدد الزوجات .. منع المرأة من العمل و الخروج إلى الحياة العامة ..... قتلها بدافع الشرف ، (إذ يلاقي ترحيبا و شرعية و مباركة جماعية مشينة).. و الذي يجد ما يبرره قانونا ،لدرجة أن العقوبة المرتبطة بهذه الجريمة تكاد توازي عقوبة مخالفة قد لا تتعدى أي جنحة بسيطة، ثم القسر الذي يفرضه المنطق الطائفي و الديني على الأنثى ، الأمر الذي يزيد من وعورة أزماتها ، و يوسع مساحات قهرها( ذلك المنطق الذي يفصل السوريين عن بعضهم في غيتوات نفسية عميقة لها قوة التاريخ الساكن الطويل).
ولكن ماذا إن كانت غير قادرة على التجاوب مع كل تلك الضغوط؟ .... ماذا إن خانتها ذاتها في القدرة على كبت كل إرادتها ؟
هل ستتمتع بروح التمرد ..؟ و كيف ..؟ ، هل ستتمرد متقنعة بخطاب وفعل وسلوك يحظى بالمباركة الجماعية، وهي وفي الحالة هذه قد تعيش ازدواجية خطيرة ،أ وفصام في الشخصية، يهددان وحدتها النفسية وكيانها الذاتي، ناهيك عن الرعب الذي سيظل ساكنا فيها ، تحسبا لأي اختراق لقناع أمنها ،الذي يهدد حياتها ووجودها ،
أو تتمرد بوعي و علنية ، حتى لو كان هذا النوع من التمرد مطلوبا ، إلا أنه سيظل يمثل حالة نادرة ،لأن الأنثى باعتبارها ذاتا إنسانية لا تستطيع إلا أن تدافع عن وجودها الطبيعي ، إذ إن أقل ما يصيبها في هذه الحالة ، إن لم تنسف حياتها ، هو تعرضها للاستبعاد و الذل و الإرهاب و العنف و تحت غطاء من الشرعية ،
.........
أما ما يقال عن احتلال المرأة السورية لمواقع في القضاء و الحكومة، وشغلها لبعض المناصب القيادية في السلطة فلا يشكل إلا محاولات تجميلية، تقدم على أنها دلالات تحديثية ،وتتم على الأغلب بشكل أوتوماتيكي ومعد له سلفا.
إن القسر والإكراهات و القيود التي تعاني منها الأنثى السورية ، جعلت منها مستلبة في العمق ، مقموعة أبشع أنواع القمع، لقد عجزت عن أن تملك نفسها جسدا و مصيرا و إرادة ، إنها تعاني من حالة أشبه بالرق، بل إنه فعلا شكل مسكوت عنه من الرق .
هل يمكننا بعد ذلك أن ندعي أن معركة تحرير المرأة السورية سهلة ، و أنها بدأت منذ أن رفعت بعض الأحزاب شعار تحرير المرأة ، أو من خلال بعض التنظيمات الكاريكاتورية النسائية ، هل يمكننا إلا أن نفهم أن التحرير الحقيقي لكل الأنثى السورية لن يتم أبدا بمعزل عن تجديد الثقافة ، و تغيير التصورات و البنى الذهنية، و استبدال النظام المعرفي القديم بآخر جديد يفرز تشكلا جديدا للشخص البشري .
إن إعادة النظر بوضع الانثى السورية ، و دراسة المآسي و الحالات الكثيرة التي تتعرض فيها حقوقها للانتهاك ، و ترقية وضعها و احترام إرادتها ، و التراجع عن محاولات استرقاقها ، ورد الاعتبار إلى ثقلها الشخصي و الاجتماعي، هي من صميم عملية بناء الحداثة السورية و الديمقراطية ، فالحداثة السورية التي نناضل من اجلها، هي في جوهرها تحرير للإنسان من كل القيود ، من كل القيم و المحرمات و المقدسات التي تفرض نفسها بمعزل عن الدراسة و النقد، تحرير الإنسان و ليس الرجل فقط .
إن نظم التربية المتخلفة و الموروثة ، و النظم التعليمية التي تورث الاجترار و المطابقة النمطية ، وكذلك القوانين الجائرة بحق الأنثى السورية ، يجب أن تستبدل في إطار عملية التفكيك و التركيب التي يجب أن تطبق على التراثات الدينية في سورية ، إن قيم الحداثة هي التي تشكل البديل المناسب و التحريري ، نظاما معرفيا وبناء قيميا منسجما و متماسكا ، لا يمكن الإخلال بأي من قيمه ، و إلا تعرض البناء كله للبناء و التشويه و الهدم المحقق .
على الأنثى السورية أن تعي واقعها ، و تدرك موقفها و تأخذ قرارها للانخراط في المواجهة الكبرى التي ستحررها ، إن حزب الحداثة و الديمقراطية لسورية يقف في جهة التحديث و التحرير الحقيقي للمرأة و للإنسان السوري .. لذلك فإن الحزب ينتظر مساهمة الانثى السورية