أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جوزفين كوركيس البوتاني - الملكية















المزيد.....

الملكية


جوزفين كوركيس البوتاني

الحوار المتمدن-العدد: 3944 - 2012 / 12 / 17 - 00:46
المحور: الادب والفن
    


دقت الساعة معلنة عن منتصف الليل وأبنها مازال خارج البيت. أرتدت ردائها وخرجت إلى الحديقة والحيرة لا تكف عن الوسوسة في آذانها. فها هي تقع فريسة الخوف من المجهول والقلق يدير رأسها يمينًا ويسارًا، وخطواتها الثقيلة تزداد اضطرابًا. وبقيت عيناها معلقتان على الباب الرئيسي للبيت لعل ولدها يطل برأسه من فوق الباب هامسًا: افتحي، عدت يا أماه...ولكن عبثًا...
ومضى الوقت غير مباليًا يعبث بأعصابها، والقلق تحول إلى صخرة كبيرة على صدرها، وغار قلبها في القاع حتى لم تعد تسمع صوت خفقاته. وبقيت تتسأل: ترى أين هو؟ ليس من عادته السهر خارج البيت. لقد علمته منذ نعومة أظافره على النوم المبكر وعلى عدم التأخر خارج البيت بعد الثامنة مساءً. وابنها بدوره لم يخترق قانون العائلة هذا؛ أتراه تمرد على العائلة وقوانينها بعد أن اصبح طالبًا جامعيًا؟ أتراه يظن بأن من حقه ان يتصرف كما يحلو له من الآن فصاعدًا ليثبت بأنه لم يعد صغيرًا كما تظن هي، وبأن له عالمه الخاص به وبأن وقته ملكه ولا يحق لأحد التدخل في حياته؟
تنهدت الأم وهي تقول لنفسها: ولكن في هذا البلد لا أحد "ملك لنفسه" مهما كان عمره أو حجمه أو مركزه، هل نسيَّ بأنه مواطن من الدرجة الثانية، وبأنه مراقب على طول الخط؟ مراقب من قبل مسؤول المنطقة والمختار وحتى اصدقاءه --أو الذين يدّعون بأنهم اصدقاءه-- وهم قد يكونون من المكلفين بمراقبته لا أكثر...والسبب بسيط جدًا، لأننا من دهوك، كما كانوا يقولون لزوجها اثناء استجوابه: "أنت من دهوك، لماذا تعيش في كركوك؟ وماهو غرضك من البقاء هنا؟"...
وفجأة شعرت بغصة شديدة، فهذا الحوار بينها وبين ذاتها جعلها تزداد قلقًا، وتذكرت أوراقه الشخصية وهرعت إلى غرفته وبدأت تبحث في أغراضه لكي تتأكد بأنه كان يحمل معه هوية الطالب ودفتر الخدمة وهوية الأحوال المدنية ونسخة من هوية السكن...وهدأت قليلاً عندما تأكد لها بأنه كان قد أخذ معه جميع هذه المستمسكات من باب الأحتياط. لطالما كان أبوه ينبهه بأن يسد حلوقهم باحترامه للقانون، وبأن يبقي فمه مغلقًا ولا يتفوه بالذي لا يعنيه مع أي كان كي لا يقع في شرك الأستغلال. وهذه العبارة جعلتها تعيد النظر في قلقها وخوفها، وأخذت تفكر بتفسيرات أخرى لتأخره: لعله مسجون؟ أو لربما تشاجر مع أبن أحد "الرفاق"، فأصحاب السوء كثيرون هذه الأيام، وهو ما جعلها تفقد الثقة حتى في أقرب الناس إليها. لم تعد تملك ذلك الشعور بالأمان. تنهدت مرة أخرى وهي تفكر في قرارة نفسها: لعله مع ابن فلان أو فلان من الناس، وأجابت بينها وبين نفسها: لا هذا غير ممكن فهو لا يسهر مع اصدقائه. فخيم السكون من جديد وبدأ الخوف يشد الخناق عليها والقلق يكسوها تمامًا، وأما الساعة اللعينة، فهي أيضًا لم ترحمها ببطء دقاتها اللامبالية بها وبما يمكن قد حدث لأبنها الغائب..
**
ولكي تبعد عنها وسوسة الشيطان وتنتصر على القلق، عادت إلى الحديقة وبدأت بالسير ذهابًا وأيابًا. وهنا رجعت بها الذاكرة إلى عشرون سنة خلت حيث كانت في ليلة كهذه، وبشعور مماثل، بانتظار زوجها الذي كان يسهر يومها مع مجموعة من اصدقاءه. كانت تنتظر وقت عودته وفي رأسها مئة سؤال وسؤال: ترى هل كان برفقة امرأة أخرى؟ هل كان حقًا مع اصدقاءه، أم تراه قبض عليه بتهمة الإساءة للحكومة؟ أم لعله سيق الى "الجيش الشعبي" من قبل قوات الإنضباط؟ هل تعرض لحادث في عمله وتم نقله للمستشفى؟ هل أجبر على حراسة إحدى المقرات الحزبية، رغم انه لم يكن ينتمي لأي حزب؟ وكانت كلها اسئلة بلا أجوبة...أجل، لازالت تتذكر تلك الليلة القاسية وهي بانتظاره؛ الثلوج كانت تهطل بشدة والبرد كان قارصًا ويشّل الأوصال..وزوجها كان يعرف جيدًا بأنه لن يغلق لها جفنًا طالما هو في الخارج..فمنذ زواجهما لم تكن لتضع رأسها على المخدة دون أن تسمع سعاله المعهود من خلف الباب معلنًا قدومه بالسلامة. كأن سعاله كان رسالة مبطنة تعلن عن وصوله بخير لتستطيع هي الخلود الى النوم. في أحيان أخرى كان يسهر مع رفاقه ويعود مخمورًا وغاضبًا يشتمها وينهرها لانتظاره قائلاً: ألم اقل لكِ ان تكّفي عن عادة الأنتظار هذه؟ حتى متى ستبقين بانتظاري؟ أم أنك أدمنتي الأنتظار وتنوين على قضاء عمرك كله على هذا النحو؟ أتعرفين بأني كثيرًا ما أضطر لترك رفاقي وهم في قمة أنسهم كي لا أقلقك؟ فأنا لا استطيع التمتع معهم لأني أعرف بأن هناك امرأة حمقاء تنتظر قدومي! ورغم تلك الإهانات، كانت تظل صامتة وشاكرة لله في قرارة نفسها لأنه عاد للبيت بسلام. كانت ممتنة لكل يوم يعود إليها دون ان يكون قد سيق للجيش الشعبي و. و. وعلى هذا المنوال أمضت حياتها معه.. واليوم بات زوجها لا يخرج من البيت كي يراعي هذه المخلوقة المجنونة المصنوعة من عجينة القلق والخوف..وها هو ينقل "الملكية" إلى ولده الذي بات وريثه في العادات السيئة. وهاهي تحول قلقها وانتظارها وسهرها وتوترها من الأب إلى الابن..
تنهدت وأعادها صوت المذياع إلى الواقع، وعادت إلى خوفها على تأخر ابنها فعادت ومدت رأسها من خلف الباب باحثة عن أي شيء ينبأ عن قدومه، ولكن دون جدوى. وأما زوجها، فهو الآخر كان قلقًا يستمع إلى راديو "بي بي سي" متابعًا الأخبار بدقة ومنتظرًا الفرج القريب. كان مثلها ينتظر إبنه الغائب، ولكنه كان يخفي قلقه، رغم معرفته بأن التأخير هذه الأيام هو نذير للشؤم، ولكن، كما يقول المثل، "الغائب حجته معاه". وفيما كان المذيع يتحدث عن حكومتها القمعية وشعبها المغلوب على أمره، كانت هي تتأفف متذمرة وتفكر في قرارة نفسها: ياله من ملعون! كيف لك ان تورث ذلك عن أبيك؟ كيف تعطيني كل هذا القلق الذي طالما ذقته والدك؟ لماذا نصيبي ان أنال منك مانلته من أبوك؟ يبدو بأنك ورثت كل عاداته وخصاله. وحالما دعاها الأب للدخول إلى البيت لئلا تصاب بالبرد، طل ولدها مزيلاً عنها القلق كله. هرعت إليه وضمته قائلة: أين كنت؟ لماذا تأخرت؟ التأخر ليس من عادتك!
قاطعها الأب قائلاً له: من الآن فصاعدًا ستكون انت وريثي يا بني، ولذا فعليك الإجابة على كل هذه الأسئلة! فها أنا أمنحك هذه الملكية وهنيئًا لك!
فصرخت الأم بعد ان ضاقت ذرعًا: لقد مللت الانتظار! مللت من الخوف! متى سأنعم بالراحة؟ أرجو منك يا بني بألا تحذو حذو أبيك!
فأجابها الأبن مطمئنًا: لاتقلقي يا أماه. لن أكون مثله. لقد كنت عند جارنا لأساعده في البحث عن ابنه الذي خرج من المنزل دون ان يحمل دفتر الخدمة العسكرية معه، ولم نترك مركزًا للشرطة إلا ودخلنا إليه حتى عثرنا عليه أخيرًا واظهرنا دفتر خدمته للشرطي، ودفع جارنا مبلغ خمسون ألف دينارًا مقابل اطلاق سراحه. وهكذا عدنا جميعًا وهذه القصة وما فيها. ارجو ان لا تقلقي عليّ من الآن فصاعدًا؛ فأنا لم أعد صغيرًا. والآن، تصبحين على خير. أعدك بالتنازل عن ملكية أبي بالكامل!
وغمز الأب لأبنه قائلاً: كيف تتخلى عن حقوقك؟
وابتسم الابن ابتسامة رضا وقال: كما تعرف فأن امي لن تتغير.
وحسد الأبن نفسه لأنه يعيش بين أم قلقة وأب مدرك للأمور، وأما هي فلم تتدخل بعدها في شؤون ابنها لأنها اعتادت على بلوغه وتأكد لها بأنه لم يرث هذه العادة السيئة من اباه رغم انه كان "صاحب الملكية". وأما هو، فتعلم من حادثة ابن الجيران بألا يقّلق أمه بتأخره، خصوصًا وأنه يعيش في بلد قد يعني التأخر عن العودة فيه عدم العودة إطلاقًا!

كركوك، 5-4-2002



#جوزفين_كوركيس_البوتاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرأة في بلدي
- بصحة لا أحد!
- الداهية والأدهى منه
- عرس في أطراف المدينة
- نعيق غراب ونافذة انتظار
- طرق بابي ومضى
- اللقاء الأخير
- نظرة ود عابرة


المزيد.....




- صور| بيت المدى ومعهد غوتا يقيمان جلسة فن المصغرات للفنان طلا ...
- -القلم أقوى من المدافع-.. رسالة ناشرين لبنانيين من معرض كتاب ...
- ما الذي كشف عنه التشريح الأولي لجثة ليام باين؟
- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- مصر.. عرض قطع أثرية تعود لـ700 ألف سنة بالمتحف الكبير (صور) ...
- إعلان الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشر ...
- روسيا.. العثور على آثار كنائس كاثوليكية في القرم تعود إلى ال ...
- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- -الأخ-.. يدخل الممثل المغربي يونس بواب عالم الإخراج السينمائ ...
- عودة كاميرون دياز إلى السينما بعد 11 عاما من الاعتزال -لاستع ...


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جوزفين كوركيس البوتاني - الملكية