مجدى زكريا
الحوار المتمدن-العدد: 3940 - 2012 / 12 / 13 - 02:47
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
سمراء, لها اسنان لؤلؤية وعينان سوداوان براقتان. مثقفة وضليعة فى اللغة. انها الملكة المحاربة التى قيل انها اشد ذكاء من كليوباترا او ربما تضاهيها جمالا. ولأنها امتلكت ما يكفى من الجرأة لتقف فى وجه الدولة العالمية المسيطرة فى ايامها, تممت دورا نبويا تحدثت عنه الاسفار المقدسة. وظل الكتاب يشيدون بها والرسامون يبالغون فى تصوير جمالها حتى بعد وقت طويل من مماتها. وصفها شاعر من القرن التاسع عشر بأنها " سيدة الصحراء السورية ذات الشعر الفاحم ". ان المرأة التى استقطبت كل هذا الاستحسان هى زنوبيا, ملكة مدينة تدمر السورية.
فكيف كسبت زنوبيا الشهرة ؟ ماذا كان الوضع السياسى الذى ساعدها على التربع على عرش السلطة ؟ ماذا يمكن القول عن شخصيتها ؟ وأى دور نبوى تممته هذه الملكة ؟ تأملوا اولا فى الموقع الجغرافى الذى كان مسرحا لهذه الاحداث.
كانت مدينة زنوبيا, تدمر, تقع على بعد 210 كيلومترات شمالى شرقى دمشق, فى الطرف الشمالى للصحراء السورية حيث تنحدر جبال لبنان الشرقية لتلامس السهل. وكانت واحة الصحراء هذه تقع بين البحر الابيض المتوسط من الغرب ونهر الفرات من الشرق. وربما كانت المدينة هى نفسها التى عرفها سليمان باسم تدمر ايضا, التى كان موقعها حيويا بالنسبة الى مملكته من ناحيتين : كموقع يشكل حصنا للدفاع عن الحدود الشمالية وكحلقة مهمة فى سلسلة المدن التى تعبرها القوافل. لذلك فان سليمان اعاد بناء تدمر فى البرية. - اخبار الايام الثانى 8 عدد 4.
لا يذكر التاريخ شيئا عن تدمر فى السنوات الالف التى تلت عهد سليمان, واذ كانت تدمر التى اعاد بناءها سليمان هى نفسها مدينة زنوبيا, فقد ارتقت سلم الشهرة بعد ان صارت سوريا مقاطعة حدودية تابعة للامبراطورية الرومانية سنة 64 ق.م, يقول ريتشارد ستونمان فى كتابه تدمر وامبراطوريتها - ثورة زنوبيا ضد روما : " كانت تدمر مهمة بالنسبة الى روما على الصعيدين الاقتصادى والعسكرى ". وبما ان مدينة النخيل هذه كانت على الطريق التجارية الرئيسية التى تصل روما ببلاد مابين النهرين والشرق, فقد كانت تمر عبرها ثروات العالم القديم التجارية : التوابل من جزر الهند الشرقية, الحرير من الصين, وبضائع اخرى من فارس, بلاد ما بين النهرين السفلى, وبلدان البحر الابيض المتوسط. وقد اعتمدت روما على استيراد هذه البضائع.
وعسكريا, كانت مقاطعة سوريا بمثابة مقاطعة فاصلة بين قوتى روما وفارس المتنافستين. وكان نهر الفرات يفصل روما عن جارتها الشرقية خلال السنوات ال250 الاولى من عصرنا الميلادى. وكانت تدمر تقع فى الجانب الغربى من الصحراء التى تفصلها عن مدينة دورا أوربوس التى تقع على نهر الفرات, وقد زارها اباطرة روما مثل هادريان وفاليريان, اذ ادركوا مركزها البالغ الاهمية, فزاد هادريان على عظمتها الهندسية وقدم الكثير من الهدايا السخية. وكافأ فاليريان احد نبلاء تدمر الذى يدعى اذينة - زوج زنوبيا - اذ رفعه, سنة 258 بعد الميلاد, الى رتبة قنصل روما لأنه قاد بنجاح حملة ضد فارس ووسع حدود الامبراطورية الرومانية لتشمل اجزاء من بلاد ما بين النهرين. وقد لعبت زنوبيا دورا مهما فى فى ارتقاء زوجها الى السلطة. كتب المؤرخ ادواردغيبون : " لقد نسب نجاح اذينة الى حد بعيد الى تعقلها (زنوبيا) وثباتها اللذين لا يضاهيان ".
فى هذه الاثناء, قرر الملك شاهبور ملك فارس ان يتحدى السيادة الرومانية ويعلن سلطانه على كامل مقاطعات فارس السابقة. فتقدم غربا بجيش جرار واستولى على موقعين للحاميات الرومانية نصيبين وحاران, وشرع فى تخريب شمالى سوريا وكيليكية, فقاد الامبراطور فاليريان شخصيا قواته لمجابهة المهاجمين لكن الفرس هزموه وأسروه.
اعتبر اذينة انه حان الوقت ليرسل هدايا ثمينة ورسالة سلام الى الملك الفارسى. فأمر الملك شاهبور بتعجرف ان ترمى الهدايا فى نهر الفرات وطلب ان يحضر اذينة امامه كأسير متضرع. وردا على ذلك جمع التدمريون جيشا من رحل الصحراء وماتبقى من القوات الرومانية وابتدأوا يهاجمون الفرس المتراجعين. وامام تكتيك اضرب واهرب الذى اتبعه محاربو الصحراء, لم تتمكن قوات شاهبور - المرهقة من الحملة والمثقلة بالغنائم - من الدفاع واجبرت على الهرب.
وعرفانا بهذا الانتصار على شاهبور, منح غاليينوس, ابن فاليريان وخليفته, اذينة لقب حاكم كل الشرق, ولاحقا اطلق اذينة على نفسه لقب " ملك الملوك ".
سنة 267 بعد الميلاد, وعندما كان اذينة فى اوج مجده, اغتيل هو ووريثه, ويقال ان ذلك كان على يد نسيب حقود. وخلفت زنوبيا زوجها, اذ ان ابنها كان اصغر من ان يخلفه. واذ كانت جميلة, طموحة, قديرة فى مجال الادارة, معتادة القيام بحملات مع زوجها الراحل, وطلقة اللسان تجيد عدة لغات, استطاعت ان تكسب احترام ودعم رعاياها - انجاز بارز بين البدو. كانت زنوبيا تحب العلم وأحاطت نفسها برجال الفكر. وكان احد مستشاريها الفيلسوف والبلاغى كاسيوس لونجينوس - الذى قيل عنه انه " مكتبة حية ومتحف متنقل ". يوضح الكاتب ستونمان : " اثناء السنوات الخمس التى تلت موت اذينة . . . تمكنت زنوبيا من جعل نفسها سيدة الشرق فى نظر شعبها ".
فى احد جوانب منطقة نفوذ زنوبيا كانت تقع فارس التى شلت قواها هى وزوجها وفى الجانب الاخر تقع روما المنهارة. يقول المؤرخ ج. م. روبرتس فى ما يتعلق بالاوضاع فى الامبراطورية الرومانية فى ذلك الوقت : " كان القرن الثالث . . . وقتا مريعا بالنسبة الى روما على حدودها الشرقية والغربية على السواء, اما فى روما نفسها فقد ابتدأت حقبة جديدة من الحرب الاهلية والخلافة المتنازع فيها, فقد قام وولى اثنا وعشرون امبراطورا عدا المطالبين بالعرش ". ومن ناحية اخرى, كانت السيدة السورية ملكة ثابتة وتتمتع بسلطة مطلقة فى مملكتها. ولاحظ ستونمان : " اذ ضبطت توازن امبراطوريتين (فارس وروما) طمحت الى انشاء امبراطورية ثالثة تسود عليهما كليهما.
اتيحت الفرصة لزنوبيا ان توسع نطاق سيطرتها الملكية سنة 269 بعد الميلاد, عندما ظهر فى مصر شخص يطالب بالعرش ويعارض حكم روما. فزحف جيش زنوبيا الى مصر, سحق الثورة, واستولى على البلد. ثم نادت بنفسها ملكة على مصر, وسكت نقودا باسمها. وهكذا تنامت اطراف مملكتها ممتدة من نهر النيل الى نهر الفرات. وفى هذه المرحلة من حياتها, صارت تشغل مركز " ملكة الجنوب " الذى تتحدث عنه نبوة دانيال فى الكتاب المقدس, اذ ان مملكتها انذاك كانت تسود المنطقة التى تقع جنوب موطن دانيال. (دانيال 11 عدد 25 , 26) وقد استولت ايضا على معظم مناطق اسيا الصغرى.
قوت زنوبيا عاصمتها تدمر, وجملتها الى حد انها اعتبرت من بين اكبر مدن العالم الرومانى. ويقدر ان عدد سكانها بلغ اكثر من 150,000 نسمة. وملأت المدينة ابنية عامة, معابد, حدائق, اعمدة, وأنصاب رائعة, داخل اسوار قيل ان محيطها بلغ 21 كيلومترا. وقد اصطفت على طول الطريق الرئيسى صفوف من الاعمدة الكورنثية وكان معبد الشمس اجود ما شيد فى تدمر, ولا شك انه كان مهما على الصعيد الدينى فى المدينة. ومن المحتمل ان تكون زنوبيا ايضا عبدت معبودا يرتبط باله الشمس. وقد كانت سوريا فى القرن الثالث ارض ديانات عديدة. وفى منطقة نفوذ زنوبيا كان هنالك اشخاص يدعون المسيحية, يهود, منجمون, وعبدة للشمس والقمر. وماذا كان موقفها من الطرائق المتعددة للعبادة فى مملكتها ؟ يلاحظ الكاتب ستونمان :" لن تتجاهل الحاكمة الحكيمة اية عادات تبدو ملائمة لشعبها . . . والالهة, كما كان يتوقع . . . كانت الى جانب تدمر ". فعلى ما يبدو كانت زنوبيا متسامحة دينيا. ولكن, هل كانت الالهة حقا الى جانب تدمر ؟ وماذا كان فى انتظار تدمر وحاكمتها الحكيمة ؟
خلال سنة 270 بعد الميلاد, صار اورليان امبراطور روما. وقد صدت فيالقه وأخضعت برابرة الشمال. وفى سنة 271, واذ صار اورليان يمثل ملك الشمال فى نبوة دانيال, ارسل اورليان بعضا من قواته مباشرة الى مصر وقاد جيشه الرئيسى شرقا عبر اسيا الصغرى.
تهيج ملك الجنوب - الكيان الحاكم الذى تترأسه زنوبيا - الى الحرب ضد اورليان بجيش عظيم وقوى جدا تحت اشراف قائدين, زبدة وزباى. لكن اورليان استولى على مصر ثم شن هجوما على اسيا الصغرى وسوريا, وهزمت زنوبيا فى ايميزا (الان حمص). وتراجعت الى تدمر.
عندما حاصر اورليان تدمر, هربت زنوبيا مع ابنها الى فارس, املا بالحصول على المساعدة, لكن الرومان القوا القبض عليها عند نهر الفرات. وسلم التدمريون مدينتهم سنة 272 بعد الميلاد. تعامل اورليان مع شعبها بشهامة, وجمع كمية كبيرة من الغنائم, بما فيها الصنم من هيكل الشمس, وانصرف الى روما. ولم يقتل الامبراطور الرومانى زنوبيا, بل جعل منها برهانا على ما احرزه من النصر والمجد, وذلك فى استعراض النصر العظيم الذى اقامه فى روما سنة 274 قبل الميلاد. وقد تقضت ما تبقى من حياتها كسيدة رومانية.
بعد بضعة اشهر من استيلاء اورليان على تدمر, ذبح التدمريون افراد الحامية الرومانية التى تركها خلفه, وعندما بلغت اورليان اخبار هذه الثورة, امر فورا جنوده ان يرجعوا الى هناك, وهذه المرة ثأروا من السكان ثأرا مروعا. والذين نجوا من المجزرة العديمة الرحمة اقتيدوا الى العبودية. وسلبت المدينة المتشامخة ودمرت بحيث لم يكن ترميمها ممكنا. وهكذا اعيدت العاصمة الناشطة الى حالتها السابقة - " تدمر فى البرية ".
عندما واجهت زنوبيا روما, مثلت دون قصد هى والامبراطور اورليان دوريهما كملك الجنوب وملك الشمال. متممين جزءا من النبوة التى سجلها بالتفصيل نبى الله قبل نحو 800 سنة. (دانيال الاصحاح 11) لقد فازت زنوبيا بشخصيتها المميزة بتقدير كثيرين. لكن دورها فى تمثيل كيان سياسى سبق ان اخبر به فى نبوة دانيال كان ذا اهمية عظمى. لم يدم حكمها اكثر من خمس سنوات. اما تدمر, عاصمة مملكة زنوبيا, فهى اليوم مجرد قرية ليس الا, حتى الامبراطورية الرومانية الرومانية الرومانية الجبارة تلاشت منذ وقت طويل وحلت محلها ممالك حديثة. فماذا سيكون عليه مستقبل هذه القوى ؟ سيحدد مصيرها بالتأكيد الاتمام الاكيد لنبوة الكتاب المقدس. - دانيال 2 عدد 44.
تركة زنوبيا
ابان عودة الامبراطور اورليان الى روما بعد التغلب علىى زنوبيا, ملكة تدمر, بنى معبدا للشمس. ووضع فيه تماثيل اله الشمس التى جلبها من مدينتها. وتقول مجلة التاريخ اليوم معلقة على التطورات اللاحقة : " ربما اكثر ما اثر فى التاريخ من كل اعمال اورليان هو تأسيسه سنة 274 بعد الميلاد, الاحتفال السنوى بالشمس عند الانقلاب الشتوى, فى 25 كانون الاول (ديسمبر).
وعندما صارت الامبراطورية مسيحية, نقل ميلاد المسيح الى هذا التاريخ لجعل الدين الجديد مقبولا اكثر لدى الذين كانوا يتمتعون باحتفالات الدين القديم. انه لأمر غريب ان يعود الفضل فى نهاية المطاف الى زنوبيا فى ان . . . الناس يحتفلون اليوم بعيد الميلاد ".
#مجدى_زكريا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟