|
الجواهري العظيم أستعادة لثلاثة مشاهد
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 1139 - 2005 / 3 / 16 - 09:36
المحور:
الادب والفن
1 الزمان : 1975ـ 14 تموز الحدث : سفرة لأربعة طلاب من الناصرية ، عبروا هذا العام المتوسطة الى الأعدادية < سيظل الشمال والى الأبد يضخ للعالم القادة والحكماء ، وسيبقى الجنوب والى الأبد يعطي العالم المقاتلين والقديسين > ديورانت في كتابه قصة الحضارة < على أطول يوم في سنة عارية ، يمدح الأرض تحت النباتات المخضرة > سان جون بيرس / آناباز < كبرة القديس الجواهري > هذه ورقة من صباي ، أعيد كتابتها لفطرية خواطر الأمس وكثرة أخطاءها النحوية والأملائية والبلاغية ، ولكنها أي هذه الورقة تملك روحاً مشتعلة بالحماس والفجائية المبهورة من أن واحداً من الرموز سيأتي هذا المساء يشرب < الشاي والقهوة واللبن > ويظل لساعة يتأمل الوادي الممتد بأزلية العشب والصخر وخيوط الماء النحيلة التي تبدو للناظر مثل حيات صغيرة تلتوي على بعضها من فرط الجوع . المكان يدعى< سره رشت > والقادم الذي ستقدم له كل تلك المشروبات ويمارس طقس التأمل المسائي هو الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري . للبلاد الموسومة كردستان ، سحر مختلط بخضرة القلب ، وآريتها موشومة بقهر تأريخي عجيب ، وهنا في هذا المكان يداعبني ميل لتفقد أزلية الصمت التي تنتمي الى حداثة النايات وشرود نظرة المساء الذي يمتلك هاجس الجمال من تناوب الفصول ، هنا في سره رشت تحس أن ذاكرة المكان هي كون هائل من الأشياء الواقفة ، الجبل ، الشجر ، الصخر ، الغيوم ، والقرى التي تسعى الى تدبير يومها دون ان تلتفت الى شجن حضارة ما او الألتحاق بها ، فالروح التي رأيتها في الذات الريفية لقرى < سره رشت > انها تحب النأي بأحلامها البسيطة دون أن تلتفت لتأثير المحيط . قال كاكا عمران ونحن نمد أقدامنا في البطن الهاوية لوادي يخيفك أن تنظر الى عمقه : ـ الحياة هنا أن تذكر الله وتشرب حليب الماعز، وتتدفئ في الليل ، غيرها بطر . وقتها أيقنت الى ان الطبيعة في صيرورتها البدائية الساحرة يمكنها ان تخلق قناعة بالحياة السرمدية دون الحاجة الى تعلم القراءة والكتابة والعلوم الأخرى . لهذا أخذت قناعة كاكه عمران بجدية وركنت الى زاوية أنتظار من يحب كل عراقي ان يراه بطاقيته المبتهجة بعرس القصائد وهي تحمل تأريخاً من الحسن والعناد والبلاغة والموسيقى . وقبل وصول الجواهري كان المساء يسير بنسائم صيف شمالي ، ولأننا في الجبل تذكرت كلمات الشاعر < بدوي الجبل > في مهرجان الشعر العربي في سورية كان قد انعقد في ستينيات القرن الماضي ودار فيه الجدل : من أشعر العرب اليوم ؟ وكان العظام من شعراء العروبة لازالوا أحياء . ميخائيل نعيمة ، الياس أبو شبكة ، صلاح عبد الصبور ، نازك الملائكة ، سليمان العيسى ، عبد الوهاب البياتي ..نزار قباني ، والكثير ..وكان الهمس يجري الى بدوي الجبل والجواهري ، ومن طبع أبي فرات أن لايتنازل عن قيمة يستحقها ، فمعيار الدب والتأريخ يقول هو ، إلا أن الجدل أخذ من وقت الهرجان الكثير ، ليحسمها بدوي الجبل ليقول : أنا روح الشعر في سحر الجبال ، ولكن الجواهري روحه في كل التضاريس . أذن كان الجواهري يحسم بمجده وأيقونة خياله الساحر كل مفاضلة ، وهاهو البرد الصيفي يخلق نشوة انتظار ظله المصبوغ بتنهدات حكمة الزمن المتسع الجهات ، وقد طلب من كاكه عمران ان لانكلمه ، ونكون بعدين عنه وهو يستظل < بكبرة صنع سقفها من ورق العنب الأخضر خصيصاً لهذه الجلسة الأسطوري التي يتحد فيها رائي الشعر برائي الخلق فيتيه الزمن ، بين دخان سيكارة وأرتشاف كأس وذهول يرتدي تيه الحلم في رأس هرمت عليها الأقدار وتداولتها أشجان الفصول لتتخيل في المكان قدرية أن يولد الأنسان ليرى في الطبيعة مسكنه الأبدي ، فكما المسيح :< نحن ولدنا في أحضان الطبيعة ، فليعمرها خيالنا بالسلام والكلمة الطيبة .> دار قرص الشمس على الربى الخضر والجبال التي كان لونها الداكن يتآلف مع خضرة أكثر عتمة من السواد ، وفجأة حملت الأرض أقدام الشاعر وهو يسير الهوينة بدفء عاطفة الماشي الى قدره ، كان طويلاً ، نحيفاً كشجرة سرو ، طاقيته حملت ألوان بهيجة عكست ضوءها المشع على جبهته التي كثرت فيها طيات الجلد لترى أن الزمن أفترض أحلامه الشاعرية على هذه الجبهة وجعلها أوراقاً تدون عليها أساطير البلاد وقدرها العابر الى المجهول وهي تحمل أنين السياسة ومزاياداتها . لا أدري لماذا وأنا أملئ روحي وعيناي بجسد الشاعر العظيم وهو ينقل خطوته مثلما ينقل العازف أصابعه على ألة البيانو تذكرت شاعراً يدعى < سان جون بيرس > وقصيدته التي حملتها معي الى <سره رشت > والمسماة < آناباز > بترجمة الأديب أحمد الباقري في العدد الخامس ـ حزيران من مجلة الأقلام عام 1971. الربط بين آناباز ومشهد الجواهري وهو يمشي لتأمل الأفق الكوني لشمال الله ، بكل موجوداته الأبدية ذات الدالة المؤطرة بصمت أزمنة الخيارات المهادنة ، لهذا الشمال بالنسبة للجنوب هو أستعادة هدوء النفس ، فيما قد لايعني الجنوب بالنسبة للشمالي هذا الهاجس ، والعجيب اننا بفضل الحروب والربايا ، صرنا نحن ـ الجنوبيين ـ نفهم الشمال أكثر مما يفهم الشمال الجنوب ، ورغم هذا سعى الكثير من أبناء الوطن الى جعل الشمال والجنوب جهة واحدة . آناباز هي قصيدة ملحمية للشاعر سان جون بيرس ، كتبها عندما عمل دوبلماسياً في الخارجية الفرنسية وقد زار الصين ، ومعناها < الرحلة الى الداخل > . التي أخذت القصيدة مادتها من أنسحابه الشهير الى داخل الصحراء في الحرب الأسطورية التي كانت أثينا تعلنها كلما رغب زيوس بذلك ، والرحلة الى الداخل في آناباز تعني أستعادة القيم بطرائق روحية غاية في الجمال والتفلسف وأعادة الذاكرة الى روحها الأولى في زمن تحول فيه التقاربات الملتبسة الجمع بين جلسة الجواهري بجسده الذي أحدودب عليه الشعر والزمن وآناباز القصيدة الملحمية لبيرس تستدعي مني أن اداخل رؤى المعنى بين شخص الجواهري ، والقائد الأغريقي < أكزينون >على أيجاد فهم مشترك بين المبدع وعالمه الذي طغى عليه الصراع والشكوى والمقاومة ، ولأن الجواهري في تأريخيته مثل طرفاً لتلك الجدلية المشتعلة برغبة الحلول التي يضعها الشعر بالنسبة لتأريخ بلاده كان مقاربته مع الروح الملحمية للقصيدة وبطلها مقارنة منطقية بالنسبة لي وأنا اعيش الأيام الثلاث في سره رشت وكنت قد جلبت معي آناباز ولشدة أعجابي بها بدأت حفظها عن قلب ، ويوم تمتعت بجلسة المساء التي يصنعها الشاعر لصمته المهيب كنت قد اكملت للتو حفظ القصيدة رغم أنها واحدة من أصعب قصائد النثر بناءاً ومعنى ورغم هذا قدت وعي الذاكرة ومهابة التمتع بتأمل شيخ الطاقية تراودت في الذهن أشتباكات المعنى وقدرته الحسية على المقاربة بين وعي آناباز والهيمنة القدرية والروحية لرجل عظيم مثل الجواهري ، وقد أستذكرت في النظرات الشائخة للمهيب المبدع الكثير من مقاطع القصيدة التي مثلت في لغتها وموسيقاها وسرها الكبير واحدة من مؤثرات صباي الذي أستذكر اليوم معه قدرة جيل على فهم المدلول الحضاري لوجوده وهو في السن الرابعة عشر ، فيما طالب الكلية الذي يتخرج هذا العام لايقدر ان يكتب أنشاءا متماسكاً بصفحة واحدة ، ولا يعلم بتاتاً أن شاعر العراق العظيم الجواهري مدفون حد هذه اللحظة في مقبرة الغرباء في السيدة زينب ع في التابعة لمحافظة < ريف دمشق >. << هل يستطيع هذا القدر من العذوبة في قلب الرجل أن يفشل في العثور على مقياس ؟ أنني أتحدث معك ياروحي روحي كلها مظللة بروائح الخيول ! وببعض طيور الأرض العظيمة >> تلك كلمات من آناباز ، أمزجها بتأمل هذا الشاعر وأحاول أن أدرك مدخلاً لها ماملكت حياته من أيثار اتجاه موهبته وقدرتها على الصمود في وجه المتغيرات ، ملكية وجمهوريات ، محافل ، ومعارك ثقافة وتنصيب ريادات ، سجون ، ليالي ملاح ، رؤى لتشيع روح المدينة ،سفر وسياحة ، منادمة ، قصائد تؤرخ لتأريخ الطبيعة وكلام الماء عن حركة الموج في سفرها الهيرقلاطيسي كما في قصيدة < دجلة الخير > . سيرة مشبعة بتكهنات الذاكرة وموهبتها ، ولكنها كما أحسها في جلسة المساء الشمالية ،< سيرة تذهب الى الداخل كما آناباز > عندها أحسست بأحقية أن أمد خيوط من ضوء الحلم بين الجواهري وهذه القصيدة الساحرة والصعبة معاً ، ولكي لاأتيه في مفارقة الربط بين الأثنين ، تركت القصيدة الى مبحث آخر يخصها وحدها ، وأنشغلت بالشرود المسائي لذاكرة الشيخ وقد بدت تشع بتوهج حسرتها على أزمنتها القادمة إذ بدا قلق ما يسور النظرات الممهورة بلون الزرقة المتشحة بغروب برتقالي لكن النشوة في النظرات المتسعة< كيد الله > وهي تبسط قدرتها على تشكيل هذه التضاريس بأشكال مختلفة ، حتى أنني بدأت أحس بأن النظرات بدأت تدمع جراء هاجسها الشفاف لما قد يحصل لها وبدا لي أن العظيم الجواهري تمنى في هذه اللحظة أن يكون قبره معتلي ببهاء القصيدة رابية من هذه الروابي المنشرة في المكان مثل أبتسامات الورد لحظة دخول الربيع بقدميه الحافيتين بوابة الحديقة .
ــ 2 ــ المكان < جيكسلوفاكيا ـ مدينة كلودي بوفاري > المقهى الذي أعتاد الجواهري الجلوس فيه ـ يوم اختار منفاه ـ 4 تموز 1980 < أمرأة أوربية تلتقط صورة لجلسة الشاعر دون أن يعلم . معي لحظتها الأستاذ حكمت جابر المقيم في منفاه المغربي منذ 24 عام > << مرات تداهمني القصيدة في المقهى وأكتبها على علبة السكائر ، أنه ملاك من نور يهبط عليك ويعطيك أوامره القاسية ، وتلك القسوة يسمونها الشعر >> الشاعر الجواهري من لقاء تلفزيوني مطلع السبعينيات بمناسبة مهرجان المربد < مقهى الجواهري > أوربا الشرقية < هي أوربا المحكومة بحلم البطاطا السوفيتية > . في براغ المدينة التي تحلم بجرمانية وتمد نظراته الدامعة صوب < فرانكفورت > تكتشف أن الناس هنا يخبئون الحلم بصرامة النظرة فيما تنحت العاصمة العريقة وجودها وتأريخها من خلال المعمار الجميل لكنائسها ومتاحفها وبيوتها القديمة التي ترتدي كل صباح دغدغت مكانسعاملات البلدية وهن يحركن على بلاط الشارع القديم آمال أبنائهن في السفر الى الغرب . براغ مدينة متعالية ورغم دمجها مع سلافيا ، لكن الجيك يعتبرون السلاف درجة أقل من التحضر وقالت لنا صاحبة النزل الذي نقيم فيه < نحن ألمان بالفطرة > لكن مؤتمر يالطا باعنا للسوفيت . نزلنا هذا المساء في تجوال حر . وفجأة أجد نفسي أكرر مشهد مر عليه سنوات ، ذاته الجواهري العظيم يرتمي بذات الصمت على كرسي عريض ويتأمل الوجوه بصمت وأبتسامة ساحرة لاينفرج من خلالها أي ملمح من ملامح الوجه لكنك تحس بشعاعها كنجم يرتدي القصيدة من أجل حبيبته < نجمة > . كدت أصرخ ، وقلت بصوت عال : ها أنت مرة أخرى أيها العظيم . وكانت جلسته الجيكية لاتختلف عن جلسة سره رشت ، ذاته الصمت الرائي يخيم على صيف براغ الذي يشبه خريفنا وقد بدأ المطر ينزل أحلام الليل على بلد تريد البرولتاريا أن تأخذه الى مطابخ البطاطا وهو يحلم بمطابخ الكافيار ، كان جمع من العراقين المنفيين ، من رواد الرفض الأول والساخطين على قبول فخ < الجبهة الوطنية > يجلسون حول الشاعر وبدا لي أنه تحول بالنسبة لهم الى معطف يقيهم البرد والشمس وحزن الغربة ، وكانت عاطفته تتوزع بكلمات بطيئة مبتسمة وسمعته يتحدث عن محلات مدينة النجف ومكتباتها ، ولا أدري من بدأ الحديث معه بهذا ، وقال أنه في انتفاضة < برتسمورث > حيث فقد أخيه جعفر ورثاه برائعته < أخي جعفر > أنه كتب تلك القصيدة في واحدة من بيوتات النجف العريقة وأنه نسى بسبب أعوامه الثمانين هذا البيت ، . قال محدثه : أبا فرات .وهل تنسى الوجوه ؟. قال الجواهري : أبداً ، أبداً .لن أنسى أي وجه . بعد سبعة عشر عام من هذا المشهد ، حدثني الناقد العراقي الكبير < محمد مبارك > في صالة فندق المنصور في مهرجان المربد ، وكان يتحدث عن قوة بصيرة وذهنية الجواهري رغم أعوامه التسعين ، أنه قابل الجواهري في التسعينيات في عمان ، ويقول محمد مبارك :لقد تصورت انه لن يعرفني ، لكنه ما أن رآني عن بعد حتى قال : محمد كيف حالك ؟ أذن الجواهري رغم شيخوخته ذهن متقد كشهاب أخترق الفضاء الأرضي للتو . يملك حلاوة الحديث ويرتشف مع القهوة السوداء أحلام أمس ضاع في روزنامة المحطات وأكثرها تلك القطارات التي كان الشاعر يرى في سيرها دورة حياته كلها : هي الغربة أيها المتوسد مساء العاصمة الجيكية غربة مكحلة برماد آسى ماكان وما سيكون { سأفترض انك الآن وطناً ولكن وطناً من دون جنوب لايسمى وطن وكل أنهار الدانوب والسين والراين دون موجة من دجلة لاتسمى أنهار حزنت لجلوس مثل هذا كنت أقرأ مقدار ماتحمل من فجيعة لكنها أهون من شتيمة الظالمين غداً ستأتي أليك مقبرة السلام ستأخذك أليها متى همست الى القصيدة < حان وقت الراحة ياحبيبتي > } هذه المقطوعة ، وربما الخاطرة المتألمة ، دونتها ليلة عدت الى النزل ، أغرقت دموعي بكأس ثمالة وحبات زيتون ، وأخذت صاحب الطاقية المطرزة بسحر مساء سره رشت ، وتحاورت معه شعراً ونثراً وبكاءاً حتى الصباح وكانت صاحبة النزل تثرثر : لقد ملننا البطاطا ، ونريد لحماً وعلكاً وفساتيناً وجنسية ألمانية .
ــ 3 ــ المكان : السيدة زينب ـ ريف دمشق ـ مقبرة الغرباء . < أربعة قبور : الشاعر مصطفى جمال الدين ، المفكر والعلامة هادي العلوي ، حيدر سعدي يوسف ، الشاعر محمد الجواهري > < من يقف معي على شواهد حلم الغربة والمنفى ، الشاعر العراقي كريم الزيدي > التأريخ : 23 شباط 2003 < مساء ماطر وبارد وكئيب > < قبور الغرباء ، زهور في غير حدائقها > [ شاهد قبرجندي ياباني في مقبرة كورية ] أنا في دمشق منذ أسبوع ، لم يدر في ذهني أني سأذهب لأزور موتى مقبرة الغرباء ، لكن حديث الشاعر < محمد جاسم مظلوم > وهو يستضيفني وكريم الزيدي في مقهى الروضة عن زيارته الأخيرة الى كردستان ، ورغبته بكتابة تحقيق لملحق السفير عن جسور بغداد وأرتباطاتها الرقمية بالحدث التأريخي لوجود المدينة ، أعاد ألي مشهد < كبرة الجواهري في سره رشت > ، وبدا محمد مظلوم يتحدث عن الشعر كمن يتحدث عن عاطفة كبوته ، فقد رفض هذا الشاعر أغراءات مدن المنفى وتعلق في دمشق مثلما يتعلق قيس في رقبة ليلاه ، لهذا كانت روح دمشق الممزوجة بسني القهر الوطني تضئ في ثنايا المشهد الشعري لمحمد جاسم مظلوم ، وحين ودعته وأنا أمتلك الرغبة المستعجلة لزيارة مقبرة الغرباء رغم نهار المطر الثقيل ، كان مظلوم يضع رؤى لتخطيط أولي للشروع بكتابة قصيدة ، فكان أن تركناه مع قهوته المره يملي حدس الحلم على الفنجان فيرى جواب مايريد في قعره ، أما نحن < فتاكسي ب 200 ليرة الى المقبرة >. لم تكن مدينة السيدة زينب ع ، بالمدينة التي تناسب قدر من دفنت فيها ، ولولا سني النفي وزيارات أبناء أصفهان وشيراز ، لم تعمر المدينة ، ورغم هذا لازالت المدينة قصية عن جمال أماكن مقدسة أخرى لأصحاب ذات الفجيعة < وأقصد النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء > . فمدينة السيدة زينب تنضغط من الداخل ، وفي أيام المطر وهي كثيرة يصبح السير في الشوارع صعب ، فيما أحاطت الحوانيت والبسطيات الضريح من كل جانب ، وبدا الصحن ضيقاً لايسع رغبة الزائرين بالأكثار من طلب الشفاعة من أخت أبا عبد الله التي تحملت ذل السبي ومهانة التجول مع رؤوس أهلها بين البلدان ، مصر ، بلاد الشام ثم المدينة . وبعيداً عن الطروحات المفترضة لساكنة هذا الضريح البهيج بقبة الذهب والأبواب المهداة من أثرياء البازار والبهرة وتجار البحرين من الشيعة ، فالمكان أفق لتخيل النفس وهي تستعيد صفاء دوارها الحياتي وراء الخبزة والوظيفة والمتعة والمرأة الجميلة . وبعد طواف وتقبيل حميمي للضريح المقدس لحوراء الشيعة ، أنطلقنا الى المقبرة القريبة لنقف بجلال وهيبة الحزن والحسرة على قبور رافدينية ونخيل شامخ زرع في غير ضفافه ، وكما ينطقها صاحب البلية قلت : إنا للله وإنا أليه راجعون وقرأت الفاتحة على القبور الأربعة المجتمعة في مساحة العشب وهي تحمل شواهد المرمر لتذكر تأريخاً مختزلاً لرجال مافاتهم من حسن الروح شئ إلا وتناولوه كما تتناول الفراشة رحيق الزهرة . كان المطر يغسل كلمات كل شاهدة وكانت دجلة تضئ المكان بسحر غربتها وتواريخها العجيبة التي نادمت فكاهة أبي نؤاس وتجرعت خناجر تيمورلنك ثم دمعت عيناها لما يحدث الآن من فكرة قول أهل بغداد اليوم : بسبب عدم وجود أمانة العاصمة ، صارت دجلة حاوية لنفاياتنا . كانت القبور تضئ بصمت مذهب بلمعان سير أصحابها ، فقط قصيدة سعدي يوسف < ولدي حيدر > تذهب بعيداً عن سرب القطا المحلق في سماء المقبرة ، فجميع الشواهد هي من ذاكرة الشاعر أو الفقيد ، إلا حيدر فشاهدته كانت تحمل ذاكرة أبيه ، وفي ذلك عزاء لسعدي وأبنه ، عدا ذلك كانت قصيدة الجواهري تشد الغربة الى خاصرة الوطن مثلما تشد أبنة الهور محزمها الى خصرها عندما تدلف الى الماء وهي تجمع دايات الرز ، وكان هذا البيت السحري من قصيدة دجلة يؤطر في سحر الصورة التي أكتشفتها عند سان جون بيرس ونامت على خيال الحلم القدري لتكوين الموجود الكوني عبر هاجس قصيدة: حييت سفحك ظمآناً ألوذ به لوذ الحمائم بين الماء والطين هذه صورة مجنونة من حسن جمالها ، تصورت أن تلك الحمائم ، هم جميع من ذبحوا بسبب عنف الدكتاتوريات وساديتها ، وربما لازال ثمة دكتاتور صغير في دور النمو < أي في البيضة > ينتظر دوره ليذبح مزيداً من تلك الحمائم البيض التي رأها الجواهري تلوذ بين الماء والطين ، وأراها أنا الآن تلوذ في زوايا القبر من المطر وهي تستغيث بعيون دامعة بحنو الشاعر كي يعيدها الى أعشاشها في النخيل الباسقات على ضفاف دجلة . الغريب أن < بول بريمر > رفع عن أجفان الشاعر النائم حزن : أن لايلب أمنية الحمائم . وأعاد الطيور الى أعشاشها بفضل ما رأته أمريكا تخليصاً للعراق من دكتاتور ، ولكن ثمة فصول جديدة لم نكن نحسها حين كنا نتحدث عن حدس< مابعد صدام >. الوقوف أمام قبر الجواهري ، يعني في موازاة التمني والهيبة الوقوف أمام تاج محل ، أو زقورة أور ، أو نصب الحرية لجواد سليم ، أو رأس أبي الهول في اهرامات الجيزة . أن الرمز الذي أرتداه الجواهري أعطى للعراق روح أن يكون الشعر مثل النفط ثروة نقتات منها كي نبقي على أرواحنا طرية . وأذا كان النفط سينضب غداً ، فالشعر خالد مادامت الساعة ، هذا الخلود الذي يحتضن الغربة بكآبة قاسية في مساء ممطر بمقبرة الغرباء في السيدة زينب ، أعاد ألي شيئاً من الأحساس بضرورة أن يكون الوجود أفتراضاً نكسب منه مرضاة من نزوره ، ربما لأننا مقصرين أتجاه أولئك الذين منحونا الأبجدية التي نصحح بها مسارات حياتنا ثم غادروا دون أن نسير وراء نعوشهم المذهبة . هم رائعون ، كما الملاحم القديمة التي لازالت مركونة بتراب الحلم على رفوف مكتبة بانيبال ، تأريخهم عبق لبطولة لم يسيرها صولجان ملكي أو مرسوم رئاسي . < لهم التحية دائماً لأنه يسيرون في يمين المرج > هذا ماقاله عنهم نص أغريقي قديم .
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليلة تحت سقف النجوم في قرية بعاذرا الكردية
-
الفرق بين جرنيكا والأباتشي
-
البحث عن الارصدة المالية لنوري السعيد والزعيم عبد الكريم قاس
...
-
.. بالسحر تبرق عيناك ياأخمانوتوفا وبالحب تضئ عيون أمي ليل وط
...
-
بغداد في انتظار النيون ولقاء ليلى بقيس المجنون
-
منهاتن وطن لحلاج القرن الحادي والعشرين
-
أنا داخل لوحة العشاء الرباني الأخير
-
دمعة الله
-
اليابانيون يرتدون اليشماغ والدنماركيون يأكلون الجبنة في حي د
...
-
بابل وانياب الارهاب
-
غرفةحسين الحسيني
-
الوردة الأيرلندية
-
الليلة على وسادة واحدة ..المسيح والحلاج وسارتر
-
جورج حبش يسأل
-
العصافير تنشد في الأهوار لثقافة الحب والرب
-
رسالة أنتريت الى نابليون وبابليون وكيس النايلون
-
رسالة انترنيت الى البابا
-
امريكا ورؤى سبتمبر
-
نهار في دهوك
-
العودة الى حاج عمران
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|