|
الأم الكبرى في الديانات القديمة
جمان حلاّوي
الحوار المتمدن-العدد: 3937 - 2012 / 12 / 10 - 10:44
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن أقدم أشكال التجمعات الإنسانية والتي استمرت تمارس حياتها من خلال طقوسها البدائية السحرية في أدقّ مفاصل حياتها الاجتماعية كانت في الحقيقة تجمعات تقوم على قيم الأنوثة ومكانة الأم ( حيث أوضحت أن لا وجود لرئيس عشيرة لهذه التجمعات ) إذ أن التجمع الإنساني الأول هذا لم يؤسَّس بقيادة الرجل المحارب الصيّاد ، بل تبلور تلقائيا ً حول الأم التي حوّلت عواطفها وحددت رعايتها نحو الأبناء من حولها ( وليس بالشرط أولادها من رحمها ) ، ذلك أن عاطفة الأم نحو أولادها وعاطفة الأولاد نحو أمهم، هي العاطفة الأصيلة الوحيدة ، وما عداها يأتي بالاكتساب والتعلّم والتي تأتي بالصقل الاجتماعي ومعرفة الواجب الأخلاقي ، لذا كان المجتمع (جينيكوقراطيGynecocratie ) أي مجتمع حكم النساء .
لقد عرفت المرأة قبل الرجل كيف توسع دائرة ذاتها بالحب لتشمل ذاتا ً أخرى ومخلوقا ً آخر ، وكيف توجه ما لديها من هبات الطبيعة نحو حفظ تلك الذات الأخرى وتنميتها كنفسها ، وكيف تفتح هذه الدائرة بعد ذلك لتشمل أولاد أولادها وأولاد النساء الأخريات ، لأن كل رحم ينجب إخوة وأخوات للمولودين من رحم آخر بالولادة (مادام ليس هناك رابط اسري كأب وأم وأولاد في المجتمع البدائي والطوطمي بالذات ) . أما الرجل فالمولود الجديد يشدّ أزره ويدعم وضعه الاجتماعي ويحافظ على ممتلكه البسيط ، فكل الأبناء هم لكل الآباء ، في هذا التشكيل الطوطمي الغريب والإنساني في نفس الوقت . في المجتمع الامومي الطوطمي أسلمَ الرجل القيادة للمرأة ، لا لتفوّقها الجسدي بل لتقدير أصيل وعميق لخصائصها الإنسانية وقواها التحمّلية وقدراتها الخالقة ، وإيقاع جسدها المتوافق مع إيقاع الطبيعة . بهذه الأسلحة مضى الجنس الأضعف متبوّئا ً عرش الجماعة دينيا ً واجتماعيا ً ، بل وحتى سياسيا ً بالتعامل مع التجمعات المجاورة ، فأسلمت الجماعة قيادتها للأمهات ، فكانت ، بحق ، المنتج الأول في الجماعة الطوطمية كونها المسؤولة الأولى عن حياة الأطفال وتأمين سبل العيش لهم، إذ كانت المرأة مسؤولة عن تحضير جلود الحيوانات وتحويلها ملابس وأغطية ومفارش ، وبسبب قضائها وقتا ً طويلا ً في البحث عن الجذور والأعشاب الصالحة للأكل تعلّمت خصائص الأعشاب السحرية في شفاء الأمراض ، وكانت من يبني البيت ويصنع أثاثه ، بينما حافظ الرجل طيلة هذا العصر على دوره التقليدي في الصيد والتقاط الثمار والتنقّل بحثا ً عن الطرائد . في ذلك المجتمع القديم المتمركز حول الأم ، فاضت طبائع المرأة وصفاتها لتصبغ حياة الجماعة وقيمها وعلاقاتها ونظمها وجمالياتها . فحبّ المرأة لأطفالها هي العاطفة التي ميّزت علاقاتها بالمحيط الأوسع ، وهي النموذج الأساسي للعلاقات السائدة بين أفراد ينظرون لبعضهم على أنهم أخوة في أسرة كبيرة تتسع لتشمل المجتمع الامومي صغيرا ً كان أم كبيرا ً. ومعاملة المرأة لأطفالها دون تمييز قائم على خصائص معينة أو قدرات وقابليات ومنجزات ، هي التي أسست لروح العدالة والمساواة الاجتماعية القائمة في الجماعة الأمومية . وابتعاد سيكولوجية المرأة عن كل ميل نحو التسلط والاستبداد ، هو الذي أعطى هواء الحرية الذي تنفسته الجماعات الامومية طيلة عهدها. ونفورها من العنف الجسدي إلا عند الحاجة الحقيقية إليه ، قد أشاع السلام بين أفراد الجماعة ذاتها وبين الجماعات الامومية الأخرى . وفيضها الطبيعي على من حولها كان أساس المشاعة البدائية وعدالة توزيع الثروة ضمنها . مناخ اقرب إلى مناخ فردوس فقده الإنسان بحلول مجتمع الذكر ( البطريركي ) الذي ضيّع السلام والدعّة ، ربما إلى الأبد . غير انه يجب ألا يتبادر إلى الذهن أن دور الرجل في الجماعة الامومية كان دور التابع . ذلك أن الرجل قد بوّأ المرأة مكانها احتراما ً وتقديرا ً لا خنوعا ً ، ورجال العصر الامومي كانوا أكثر عزة وأنفة وفروسية من رجال العصر ألبطريركي فقد كانت بطولاتهم وتضحياتهم في المعارك مضرب الأمثال ، حيث يؤكد أرسطو في كتابهِ ( السياسة ) هذه الحقيقة ويجعل منها ظاهرة شمولية عندما يقول أن اغلب الشعوب الميّالة للقتال هي شعوب منقادة إلى النساء ، ذلك أن المرأة رغم طبيعتها المسالمة تسلك سلوك اللبوة الكاسرة إذ يتعرّض أشبالها للخطر .
كان تجسيد الأم الكبرى متمثلاً في تماثيل عشتار كأول عمل فني تشكيلي صاغه الإنسان على شاكلته ، مجسّدة أول معبوداته ، فمنذ أن اعتدل جسد الإنسان منسلخا ً عن شكله النياندرتالي ذي القامة المنحنية ( أواخر العصر الباليوليثي ـ الحجري القديم) كانت عشتار الأم الكبرى له ، وطفق يصنع لها تماثيل انتشرت من أقاصي سيبيريا إلى شواطئ المحيط الأطلسي . لم تكن تلك الأعمال الفنية نتاج ولع فنّي جمالي بقدر ما كانت تمثل نتاجا ً للحس النفسي وما يتبعه من اندفاع فلسفي تجاه معنى الخلق ومعنى الحياة ، إضافة إلى المعنى الأكبر وهو معنى الاستقرار والبقاء . وهي بالتالي خبرته الأولى في صياغة رمزية لمعنى الإلوهة ، ذلك أن الأسلوب الذي صنعت به والمعتمد على تحوير مبالغ فيه يجعلها ابعد ما تكون عن تصوير شخصيات واقعية ، فهي وكما اتفق الدارسون من شتى الاختصاصات ، رموز لكائنات فوق طبيعية كانت محل عبادة الإنسان الأول . تظهر تماثيل الأم الكبرى وفي جميع المراكز الثقافية الباليوليثية سمات متشابهة ، فالرأس عبارة عن كتلة غير واضحة الملامح إطلاقا ً ترتكز على الجذع مباشرة أو بواسطة رقبة قصيرة ، والكتفان دقيقتان ومنحدرتان تبعد الذهن عن أي مفهوم للقوة بمعناها ألذكوري . والذراعان نحيلتان جدا ً ترتكزان على الصدر أو البطن إذ أراد الفنان الإشارة إليهما فقط دون العناية في إظهارهما كعضو تشريحي كامل ، والساقان في جزئهما الأسفل ضعيفتان وقصيرتان وتنتهيان بقدمين صغيرتين . أما المنطقة الأساسية في كل تلك التماثيل فهي الثديين والبطن والحوض وأعلى الفخذين والتي تشكّل معا ً كتلة ممتلئة ركّز فيها الفنان على تضخيمها عن بقية أجزاء الجسم ، وإبراز مثلث الأنوثة بشكل منتفخ يشكّل مع أعلى الفخذين وحدة متماسكة ، ويتدلى الثديان ليشكلا مع البطن والوركين تكوينا ً واحدا ً متراصّا ً تتجمع فيه هذه الرموز في بؤرة واحدة هي مستودع الخلق . في هذه الأشكال يثبت الفنان كل ماله علاقة بالخصب والفيض التلقائي ، ويهمل ما له علاقة بالتصميم والتدبير والفعل الإرادي المباشر ، وهو بذلك إنما يعطي خلاصة تأملاته في القوة الإلهية التي تصدر عنها الحياة كما تصدر الحياة عن المرأة الأم . ففي البدء كانت عشتار ولا أحد معها ، أمومة تنضوي على المبادئ الأولى ، ثم تحوّلت إلى كل شيء حي وجامد ، فكان ما صدر عنها جزءا ً منها غير منفصل ولا مفارق . وكما تتغذى الحياة التي أطلقتها الأنثى من رحمها وعلى جسدها وفي أحضانها ، وكما يعطي هذا الجسد حليبا ً ينبثق منه بشكل سحري ، وكما يهب هذا الجسد طفولة الإنسان دفئا ً وأمنا ً وسكينة ، كذلك هي الأم الكبرى ؛ عنها انبثقت الحياة على المستوى الشمولي ، وعليها تتغذى وتستمر .
عندما خفتت نبضات المراكز الثقافية للعصر الباليوليثي ، أعطت تلك المراكز طاقتها لنبض واحد وقد كان قويّا ً فاعلا ً مركزه غرب وجنوب غربي آسيا حيث بدأت تماثيل عشتار الطينية الصغيرة تظهر منذ مشارف عصر الزراعة لتظهر كسيدة للدورة الزراعية ومركزا ً للديانة الزراعية الأولى . ومنذ الألف السادس قبل الميلاد يبدأ الإله الابن بالظهور معها ، وتبدأ الأعمال التشكيلية في رسمهما معا ً ، وهذا يتفق مع حقيقة أن الإله المذكر لم يظهر إلا في الفترات الأخيرة مبتدئا ً عهده كإبن للأم الكبرى ذلك حين بدأ الرجل بالسيطرة بقوته الجسدية على وسائل الإنتاج كالمحراث والمعول والمنجل ، وموارد الحياة من المنتج الزراعي وما تبعه من إنتاج صناعي من المورد الزراعي كالزيوت والحبال والخمور وخيوط الحياكة والملبس .. إلخ . وتراجع دور المرأة نحو الإنجاب ومسك أعمال البيت كوعاء وحاضن لا أكثر.
لقد أعطتنا التنقيبات الاركيولوجية في مواقع الألف الثامن والألف السابع قبل الميلاد الكثير من تماثيل الأم أو عشتار وهي ممسكة بثدييها العاريين والتي استمرت كلازمة نحتية في كل الثقافات اللاحقة، ومن هذه المواقع الأولى أريحا ومحنطة والبيضا في الأردن ، ووادي فلاح والخيام في فلسطين ، وتل اسود وتل رمد وتل المريبط في سوريا ، وشتال حيوك و هيجيلار جنوب الأناضول وغيرها ، وهذا يدل على أن عبادات الشرق القديم في تلك الفترة إنما كانت تنويعات على أرضية مشتركة ، أو ما يسمى ( الديانة المركزية ) . وبالانتقال من المنحوتات إلى الرسوم الجدارية نرى وخلال العصر النيوليتي (العصر الحجري الحديث ) نضجت ( وفي سوريا بالتحديد ) الرموز التشكيلية الخاصة بالأم الكبرى ، وهي الرموز التي انتقلت معها بانتقال الديانة النيوليثية إلى الأصقاع الأخرى ، من تلك الرموز ( الصليب) الذي يمثل تصالبه مركز الإخصاب ، والذي استمر رمزا ً مقدسا ً ملازما ً للديانة العشتارية . ومن الرموز الأولى للصليب الفأس المزدوج ، رمز الصاعقة الذي حفلت به بشكل خاص حضارة تل حلف في سامراء العراق، ومن ثم في حضارة كريت ومطلع الحضارة الإغريقية . وقد رسم الفنان النيوليثي مع مطلع عصر الفخار هذه الرموز في وحدات زخرفيه تجريدية وبأسلوب فني ما زالت جماليته وقواعده سارية لحد الآن . فإذا لم يتوصل الفنان الباليوليثي ( الحجري القديم ) إلى هذا الترميز الجديد بإبراز حيّز استاتيكي يجمع في داخله عناصر متباينة في وحدة جمالية مترابطة وإيقاع منتظم ، فإن الفنان النيوليثي ( الحجري الحديث ) وابتداء من حضارة تل حلف قد ابتكر ولأول مرة العمل الجيومتري المتكامل ذا الوحدات التجريدية المترابطة في كلٍّ موحّد . أما ما بعد ذلك ومنذ سيطرة الرجل في البدايات الأولى للثورة المدينية ( بازدهار المدن وارتفاع أسوارها ، وتنامي الصناعات والحرف من المنتج الزراعي وتراجع الريف وتحوله إلى مصدر للمادة الخام لا أكثر ) تزايدت الأعمال الفنية المخصصة لتمثيل الآلهة الذكور . لكن على رغم التفتت الذي عانته صورة الأم الكبرى على نطاق الدين الرسمي للدولة البطريركية ( الذكورية ) فقد حافظت على سماتها القديمة داخل مؤسسة الديانة المطريركية العشتارية . ففي سومر التي شهدت أول مجمع لآلهة الذكور برئاسة إله السماء ( آن ) الذي ادعى لنفسه معظم خصائص الأم الأولى الخالقة ، بقيت أساطير الأم الكبرى وأناشيدها وصلواتها تشير إلى مقامها الذي لا يعلو عليه احد ، لكنها أبعدت عن مجال العبادة في الهيكل الرسمي لمجمع الآلهة . حيث تقول الأسطورة الذكرية : في البدء كانت الإلهة (نمو) أصل الكون وأم الجيل الأول من الآلهة ، وقد تخيل السومريون امتدادها البدئي كمياه أولى تملأ حيّز المكان قبل بدء الزمان . ثم أنجبت هذه الأم الأولى أول كتلة متمايزة عن الماء وهي كتلة السماء والأرض ملتصقتين في جبل بدئي تغمره المياه من كل جانب . في هذا الجبل ولد الجيل الأول من الآلهة ، ثم انقسم الجبل إلى نصفين ، فصار الشق الأعلى سماء وارتفع ، وصار الشق الأسفل أرضا ً واستقر . إن ما فعله النظام الميثولوجي للمجتمع ألمديني الأول هو فصل الخصائص الكونية للأم الكبرى عن خصائصها المتعلقة بالخصب وحركة الطبيعة الأرضية ، فترك الأولى لأسمها ( نمو ) وجعلها إلهة مرحلة تعيش في عالم المجردات بلا ظل ولا معبد ولا ديانة منظمة ، وترك الثانية ( إنانا ) التي ادمجها في مجمع الآلهة الجديد برئاسة ( آن ) وجعل لها نسبا ً وأما ً وأبا ً في شجرة عائلة الآلهة الذكرية . وفي بابل نجد الشيء نفسه ، ففي مقابل الإلهة الكونية ( نمو ) نجد الإلهة الكونية (تعامة ) المياه الأولى وأصل الكون وأم الجيل الأول من الآلهة ، غير أن العزل السلمي الذي رأيناه في الأسطورة السومرية والقريب زمنيا ً من العصر النيوليثي وأساطيره ، يتحول في الأسطورة البابلية إلى انقسام بالأكراه والقتل يمارسه الإله (مردوخ) ، الذكر الأسمى ، على الأم الكبرى ، كما قرأنا سابقا ً حيث قتلها و قسم جسمها نصفين ، رفع احدهما فكان سماء وثبت الأخرى تحت قدميه فكانت الأرض . إن الأسطورة البابلية هذه لتعترف بدور ألام الكبرى في إخراج الكون من حيّز الهيولي إلى حيز الوجود ، لكنها تجعل من دورها سلبيا ً لأن الأم الكبرى لا تغدو مصدرا ً تلقائيا ً للإشعاع بل مادة لفعل الإله الذكر، ومرحلة ًيتجاوزها ( مردوخ ) ليبني مجمع آلهته الجديد على أشلاء جسدها الذي كان أصلا ً مادة الخلق ؛ الخلق الممزوج بحب المرأة ، لا الخلق القسري بقسوة الرجل . وهو انعكاس واضح لواقع المجتمع آنذاك في سيطرة الرجل على زمام الأمور بكل مفاصلها وانتهاء دور الأمومة ، فإن قتل الأم يعكس رغبة الرجل ليكون سيد الحضارة الجديدة والخروج من حضن الطبيعة ، والتحول إلى ند ٍّ يتحكم فيها ويوجهها لمصلحته بعد تاريخ طويل من الاستسلام والعيش في كنفها . أما في سوريا ( كنعان وآرام ) لم توضح الأساطير المعروفة صورة الأم الأولى الخالقة ، رغم أننا نجد بعض ملامحها في شخصية الإلهة ( عشيرة) زوجة ( إيل ) كبير الآلهة ورب السماء السابعة . ويبدو هنا أن زواج إله السماء المبكّر من الأم الكبرى قد ساعد على طمس وجهها القديم ونقل خصائص الخلق كاملة إلى الإله المذكّر . إلا أن الخصائص المتعلقة بالخصب والتكاثر ودورة الزراعة بقيت في يد وريثات الام النيوليثية . ففي ( أوغاريت ) نجد الإلهة ( عناة ) ، وفي ( بيبلوس ) والمدن الكنعانية نجد الإلهة ( عستارت ) التي يرد ذكرها في التوراة تحت اسم ( عشتروت ) . ولدى الأنباط وبعدهم التدمريون نجد الأم الكبرى تحت اسم ( اللاّت ). وقد نقل الجنود السوريون في الفيالق الرومانية إلى الأرض الايطالية عبادة هذه الإلهة تحت أسماء متعددة ، لكن تحت اسم موحد هو ( ديا ـ سوريا ) أي الإلهة السورية . وهي التي حاول إمبراطور روما السوري ( اليجاـ بالوس) إحلال ديانتها كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية بأجمعها . وفي مصر وبسبب من الانتقال المستمر لمراكز القوة السياسية عبر تاريخ مصر الطويل ، كان يُعطى الأم الكبرى في كل مرة اسما ً جديدا ً . لكن الدارس للميثولوجيا المصرية يدرك بسهولة الوحدة الحقيقية لهذه الأسماء . وان أول ما يلفت انتباهنا في مجموعة تجليات الأم الكبرى في الميثولوجيا المصرية هو الإلهة ( نيت ) ، فهذه الإلهة إن لم تكن بذاتها واسمها ، الإلهة النيوليثية المصرية ، فإنها وريثتها المباشرة . والى جانبها نجد الإلهة (نوت) و( إيزيس ) و ( هاتور ) و ( سيخمت ) . ان شارة الإلهة ( نيت ) المؤلفة من سهمين متصالبين المرسومين على جلد او درع ، هي ذاتها شارة قبائل الدلتا النيوليثية . ونجد أن اسمها قد تسمّت به أميرتان من الاسرة الأولى عند بداية التاريخ المصري ، إذ كانت ( نيت) أم الآلهة ، وبالذات أمّ كبيرهم ( رع ) الذي انجبته قبل أن يكون للولادة وجود . وهي البقرة السماوية التي أنجبت السماء كأول مظهر من مظاهر الكون . وهي التي نسجت فيما بعد مادة العالم بمغزلها . وهي صاحبة القول : أنا ما كان وما هو كائن وما سوف يكون . وما من احد بقادر أن يرفع عني برقعي .
وتختلط هذه الإلهة بالإلهة ( إيزيس ) في الطقوس الأوزريسية . أما الإلهة ( نوت ) فلم تلعب دورا ً في الدين والطقس بل بقيت إلهة مرحلة ، فهي قبّة السماء المحدّبة التي يتقوّس ظهرها فوق الأرض ( جيب ) المستلقي تحتها ، وهي البقرة السماوية التي أنجبت الشمس التي تشرق من حضنها ، والى حضنها تعود عند المغيب ، أما بطنها فسقف الكون الذي تزينه النجوم والكواكب . وبينما تأخذ ( نوت ) و ( نيت ) خصائص الأم الكونية البدئية ، تأخذ (إيزيس ) و ( هاتور ) و ( سيخمت ) خصائصها الطبيعية الدينامية . وحين ننتقل من الشرق القديم نحو الغرب نعثر في جزيرة كريت على ظاهرة فريدة في تاريخ الديانات القديمة ، فجزيرة كريت قد عرفت أول ثورة نيوليثية في أوروبا ، وتمت فيها أيضا ً أول ثورة مدينية هناك ، وذلك بتأثير الهجرات النيوليثية الأولى من البر السوري والاناضولي ، إلا أن هذه الحضارة لم تعرف طيلة تاريخها سوى عبادة الأم الكبرى وابنها ، وذلك حتى نهايتها على يد البرابرة الإغريق الذين دمّروا حضارتها عام 1400 ق.م ، ويبدو أن نهاية كريت المفاجئة قد تمت قبل ان يتمكن المجتمع الذكري فيها من تحقيق انتصاره الكامل . لهذا حفظت الأم الكريتية خصائص الإلهة الكبرى للعصر النيوليثي كاملة ، سواء منها الخصائص البدئية الخالقة ، او الخصائص الطبيعية الدينامية . إن الاسم الحقيقي للأم الكريتية الكبرى مازال غير مؤكد ، إلا أن النصوص اليونانية تشير إليها بأسم ( رحيا ) وكانت الأم الكونية التي تجتمع عندها كل خصائص الالوهة في تركيب واحد . ويمتد سلطانها فوق كل مظاهر الوجود ، فبالإضافة إلى كونها والدة الكون المتحكّمة بأفلاكه ومدارات كواكبه ، فإنها سيدة خصب الطبيعة وتكاثر الحيوان والإنسان ، وربّة الفصول المتعاقبة . كما أنها تحكم مملكة الأموات والعالم الأسفل . والى جنبها يظهر فيما بعد ابنها الذي أطلق عليه اليونانيون اسم ( زيوس ) والذي يبدو أحيانا ً في هيئة بشرية ، وأحيانا ً اخرى في هيئة ثور ، والذي كان كذلك منذ العصور النيوليثية في الشرق القديم كإبن للبقرة السماوية . في الثقافة الإغريقية بقيت الأم الأولى لما قبل العصر الهيليني قائمة في شخصية الإلهة ( جيا ) الأم ـ الأرض ، الا أن هذه الإلهة كمثيلاتها في الثقافات الذكرية الأخرى قد استمرت شخصية اسطورية بلا ظل ولا عبادة، بينما تقاسمت ( ديمتر ) و ( آرتميس ) و ( افروديت ) الخصائص الطبيعية للأم القديمة ، فكانت ( آرتميس ) إلهة الغاب والبراري والارض البكر ، و(ديمتر ) إله الأرض المزروعة ودورة الطبيعة ، و( أفروديت ) إلهة التكاثر والحب. كانت ( جيا ) الأرض هي أول من انبثق من الهيولي والعماء الأول . أول مواليدها كان ( كرونوس ) السماء الذي غطاها من جميع جهاتها . بعد ذلك تفرغت لخلق العالم ، فصنعت الجبال والأنهار والبحار ، وبقية المظاهر الأخرى ، ومنها تناسل بقية الآلهة . ومن ترتيلة هوميرية نستنتج أن هذه الإلهة كانت أول معبودات الإغريق. يقول مقطع الترتيلة : غنوا لجيا ، أم الكون ، وأقدم الآلهة .
ويذكر الأستاذ فراس السواح في كتابه ( لغز عشتار ) : إن الديانات الذكرية المتطرفة قد حاولت أن تجتث تماما ً صورة الأم الكبرى من نظامها الأسطوري ، كما هو الحال في ديانة العبرانيين بشكلها التوراتي المتأخر . فهنا لا نكاد نجد ما يذكر بالأم الكبرى سوى اثر باهت باق في شخصية حواء التي حولّتها الأسطورة التوراتية من مبدأ للكون إلى مجرّد أم للجنس البشري ، وحتى أمومتها هذه ليست أمومة أصلية، لأنها هي نفسها مولودة من الذكر آدم مأخوذة من ضلعه . وبذلك يبلغ تحوير أسطورة الأم الكبرى أبعد غاياته بتجريدها حتى من أمومة البشر ، وإعطاء آدم فضل الأبوة والأمومة ؛ الأبوة لإنجابه الجنس البشري بواسطة حوّاء ، والأمومة لإنجابه حوّاء نفسها .
#جمان_حلاّوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ردا ًعلى كتاب إحسان وفيق السامرائي ، وما جاء فيه
-
مهرجان الفلم الوثائقي اللقطة الشجاعة
-
كتاب التربية المسيحية
-
لماذا الحوار المتمدن ؟
-
ألطقسيّون
-
قراءة جديدة لقصائد مليكة مزان
-
مفهوم الدولة والنقابة ( عرض تاريخي )
-
كراسي ( مشهد كوميدي )
-
صناديق
-
ماهيّة الايديولوجيا الدينية
-
حدث ذات صباح في البصرة ( سيناريو فلم قصير )
-
أغتصاب ( مسرحية )
-
المجنون( مسرحية)
-
صراع الأضداد والفن
-
التحليل المادي للآيديولوجيا الدينية
-
المفهوم الماركسي للدولة
-
انتماءات لامنطقية
-
الملامح الحقيقية للفكر الديني
-
ثنيوية الذهنية والسلوك البشري
-
ممارسة الطقوس .. عبادة , أم تراكم مازوخي ؟
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|