كريم مرزة الاسدي
الحوار المتمدن-العدد: 3936 - 2012 / 12 / 9 - 19:09
المحور:
الادب والفن
عباقرة عمالقة أخفتهم حياتهم وبرزوا بعد مماتهم ...!!
الحلقة الأولى - أمثلة لعباقرة عرب
الموضوع بحلقتيه تعقيب حفـّزني عليه مقال للشاعر الأستاذ سامي العامري .
المقدمة تأتير البيئة والوراثة :
لستُ الآن بصدد دراسة العوامل البيئية والوراثية على تشكيل العبقرية فهذا الموضوع يستحق بحثاً مستقلاً , ولكن لابد من الإشارة إلى أنّ للبيئة بمحتوها الزماني والمكاني وما يضمان تأثيراً كبيراً جدا على غمط حق عباقرة كبار , وكبت شهرتهم إلى أضيق أفق , بل ربما تصل إلى التحقير من شأنهم , والسخرية منهم , والعبث بهم , فتسد مسارب نبوغهم وألمعيتهم بسبب الحسد والضغينة والحقد , أو قد يمر زمانهم بفتن كبرى , فيتغافلهم الناس ويتناسوهم منشغلين بشؤونهم وأحوالهم , أو قد يأتون بأفكار جديدة لا تنسجم مع ما تعوّد به أهل عصرهم , فتـُعتبر بدعاً , وكما يقول الإمام علي (ع) : " الناس أعداء ما جهلوا " , وهنالك بعض الملهمين الفنانين من شعراء وموسيقيين ورسامين يطلقون قريحتهم على سجيتها لدوافع غريزية دون تحديدها وصقلها مما يقلل منزلتهم الإجتماعية والفكرية والفنية , بل قد يتصاعد الأمر عند بعضهم مع تصاعد عبقريتهم إلى درجة يصبحون فيه غرباء الأطوار للشرخ الكبير بين سلوكهم , وبُعد رؤيتهم و تقاليد مجتمعاتهم , ومحدودية نظر أهله , فيعانون عندها من الأغتراب النفسي , ولا أنكر هنا تأثير (الهو ) لإظهار الصفات السلوكية للفرد العبقري الكبير , فيعتبر(الهو) النواة التي تنمو وتتطور حسب الظروف البيئية ربما تعيقه للإنسجام التام مع مجتمعه الذي يتعلق بالسلوك الظاهري للإنسان من سعة الحيلة والدهاء والصبر وكتم الغيظ وقوة الشخصية وحسن الكلام وما إلى ذلك - وغيرها من الصفات العضوية الأخرى - . ولا يدرون بالناس ما يخفون , وليس عليهم أن يعرفوا , فلكلِّ امرئٍ من دهره ما تعلـّما !! والله الأعلم , ولكن على النقاد أن يبينوا للعموم وللأجيال حقيقة الأمر - ولو أنّ الحقيقة نسبية - , وأن يعينوا العباقرة على إبراز نبوغهم وتفانيهم لخدمة الإنسانية وازدهار قيمها , ورفع شأن حضارتها , لاسيما أنّ العباقرة مدفوعون غريزياً بهذا الأتجاه الصعب جداً , ربما دون منافع شخصية مباشرة سوى تسجيل أسمائهم في سجل الخالدين الغامض " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " , حفـّزني للكتابة عن هذا الموضوع الشاعر والأديب ر سامي العامري في مقالته عن النقاد وانحيازهم لأسباب عديدة , ودوافع آنية , في مقالته : " طرافة النقد الشعري العراقي المعاصر ومرَحُهُ " المنشور في موقع النور بتاريخ ( 1 / 12 / 20012م ) , وفي (المثقف) (راجع) , وعلقت لا بأس , ستبرزهم عصور أخرى بعد موتهم وزوال المصالح , وانتهاء السلوك الظاهري للعبقري وبقاء ما تركوه من نتاج عقلي وفني بدافع الإرادة الخفية , وأتيت بأمثلة من عرب وأجانب وذكرت له سأكتب عن عباقرة برزوا بعد مماتهم , فكان هذا المقال .
وربما بعض النقاد يكتبون دون التعمق بالأدب وأسراره , والنقد وقواعده , ومن وجهة نظري أن الأدب ونقده فنان أكثر مما هما علمان , بمعنى ربما بعض الناس يمتلكون موهبة الأدب من شعر ونثر , أو النقد لهما بشكل شفهي وتذوق فني دون المعرفة بقواعد النحو وأساليب البلاغة , وأسس النقد , أما عند الكتابة عنهما والتدوين تعوز الموهبة فيهما عند الموهوب العلم بكيفية الكتابة ومنهجية البحث وقواعد اللغة... حسب القابلية الذهنية والقدرة العلمية والذوق الفني .
المهم لكي لا نطيل سنختار بعض الأمثلة من العرب والأجانب أخفتهم حياتهم و أبرزتهم عصور أخرى :
1 - ابن الرومي وأبو حيان التوحيدي من العرب وغيرهما إشارة !!:
أ - ابن الرومي : هوعلي بن العباس بن جريج من مواليد بغداد سنة 221هـ / 835 م , وتوفي مسموما فيها على يد الوزير القاسم بن عبيد الله سنة 283 هـ / 896 م , لم يغادر بغداده طيلة حياته سوى ثلاثة أشهر , لم يصادف شاعر من شعراء العربية ما صادفه من إغفال كبير من قبل كتاب الأدب والتراجم والتاريخ والطبقات , وهو إغفال قد يكون مقصوداً كما يبدو مما فعله (أبو الفرج الأصفهاني) صاحب كتاب الأغاني , وهو علي بن الحسين الأموي القرشي الأصفهاني (284هـ/897م - 356 هـ/967م ) , بمعنى ولد بعد وفاة ابن الرومي بسنة واحدة , فالبرغم من أنه نقل جيمية الأخير في رثاء (يحيى بن عمر الطالبي ت 250 هـ)كاملة من بين كافة قصائد الرثاء التي قيلت بحق الطالبي قائلاً " وما بلغني أن أحداًممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب رثى بأكثر مما رثى به يحيى ...فمنه قول علي بن العباس الرومي يرثيه وهي من مختار ما رثى به,بل إن قلت أنها عين ذلك والمنظور إليه لم أكن مبعدا , لولا أنه أفسدها بأن جاوز الحد .." (1) , والقصيدة مطلعها :
أمامك فأنظر أي نهجيك تنهجُ***طريقان شتى مستقيمٌ وأعوجُ
يذكر كامل كيلاني أسباباً وجيهة لإغفاله منها هجاؤه وإقذاعه لأناس نزلوا منزلة الحب و الأستاذية لأبي الفرج كالبحتري ( ت 284 هـ) , والأخفش (2) يقصد الأصغر (ت 308 هـ / 920 م ) , كما ترى الأستاذ كيلاني لم يدقق في الأمر , لأن البحتري توفي في السنة نفسها التي ولد فيها الأصفهاني , فكيف يكون أستاذه , أما بالنسبة للأخفض الأصغر ( علي بن سليمان ) , فالخبر صحيح , ابن الرومي هجاه , لأن الأخفش كان يعبث بالشاعر لوسواسه وتطيره , فما كان من المسكين ابن الرومي إلا أن يدافع عن نفسه بالهجاء المر حتى تم الصلح بينهما بوساطة أصدقاء النحوي الأخفش , والأصفهاني تأثر وتعلق كثيراً بالأخير ,وتغافله عن غير قصد كما يبدو ابن عبد ربه الأندلسي (246 هـ - 328هـ) , في كتابه الشهير (العقد الفريد) , وهو معاصر لابن الرومي , ولو كانت معيشته بالأندلس , ولكنه اهتم بأدب المشارقة وعني به أكثر من أدب المغاربة (3) , وابن الرومي حصر حياته في بغداد مغمورا , لم يحفل به أحد ,امرأة تغتصب داره , فيلجأ للوزير عبد الله بن سليمان مستصرخاً , طبعاً لم يستطع الوصول إليه ليقابله , وإنما بقصيدة أرسلها إليه , لا نعرف قرأها السيد الوزير , أم لم تصل إليه , يقول في أحد أبياتها :
فلا تسلمنـّي للأعادي وقولهمْ*** أرى من رأى صقراً فريسة أرنبِ (4)
نعم صقر في الشعر والعبقرية , ولكنك أرنب في الحياة في مجتمع لا يفقه الأدب الرفيع , وإن فقهه لا يثمنه , ولا يثمن مبدعه , فالشاعر كان يستجدي من المحسنين ثوباً بالياً , أو كساءً فانياً !!:
جعلتُ فداك لم أسألك *** ذاك الثوب للكفن ِ!
أو قوله في توب آخر:
قد طوى قرناً فقرنا ***وأناساً فأناسا (5)
أقول تغافله الأندلسي في (عقده) , بالرغم من معاصرته له , وبقى بعده بأكثر من أربعين عاماً ,لأنه لم يسمع به , أو لم يعرف مدى حجمه , وسعة عبقريته ,وكثرة شعره ,الذي وصلنا سليما معافيا أقرب الى التمام , فسبق الأولين ولآخرين في كثرة النظم , فبلغ قمة القمم (30515بيتا) , وهو غزير ممتع أي امتاع , بل تجاهله معاصره وليد الكوفة , وربيب بغداد ابن قتيبة الدينوري (213 - 276 هـ / 828 - 889م ) , فلم يذكره في واحد من كتابيه ( الشعر والشعراء) و (عيون الأخبار ) , وقد لحقه النسيان حتى بعد مماته , فلا ندري لماذا لم يترجم له ياقوت الحموي (ت 622هـ / 1225م ) في كتابه الشهير (معجم الأدباء) ؟ و لا أبو البركات الأنباري (ت 577 هـ / 1181م) في كتابه (نزهة الألباء في طبقات الأدباء ) مع أنه ترجم لكثير ممن هم دونه مكانة وجدارة (6).
لعل أطول ترجمة لابن الرومي هي ما جاءت في (وفيات الأعيان ) لابن خلكان ( ت 681 هـ / 1282م ) , أي بعد أربعة قرون من وفاته , وتواردت أخبار متفرقة عنه في (مروج الذهب ) للمسعودي , و(الموشح) للمرزباني , و (الفهرست) لابن النديم .
وأخيراً من عبث الناس وذل الاستجداء واحتقار الكبار وإغفال الكتاب ومؤرخي الأدب وتجرعه السم بأمر من الوزير الصغير في حياته , تمر العصور , وإذا بنا نرى الإشادة به وبعبقريته إلى حد الإكبار والتبجيل وردت في كتاب (العمدة ) لابن رشيق القيرواني (456 هـ / 1063 م) فيقول غنه " وأما ابن الرومي فأولى الناس منهم باسم شاعر لكترة اختراعاته , وحسن انتقائه " , والعميدي (ت 433 هـ / 1042م) في (إبانته عن سرقات المتنبي) , يفضله على المتنبي ,ففي معرض كلامه عن الأخير يقول : " ولا أقيسه في امتداد النفس وعلم اللغة والاقتدار على ضروب الكلام وتصوير المعاني العجيبة والتشبيهات الغريبة و الحكم البارعة والآداب الواسعة بابن الرومي ", وأما ابن خلكان في (وفياته) فيذكر : " صاحب النظم العجيب , والتوليد الغريب , يغوص على المعاني النادرة , فيستخرجها من مكامنها, ويبرزها في أحسن صورة ...", ونكتفي أخيراً بالأستاذ العقاد , ففي كتابه (ابن الرومي حياته وشعره) يشيد به قائلاً : " العبقري النادر ...كان شاعراًفي جميع حياته , حيّاَ في جميع شعره , إنّ الشعر كان لأناس غيره كساء عيد , أو حلية موسم , لكنه كان له كساء كل يوم وكل ساعة ..." (7)
ب - والعبقري الآخر ( أبو حيان التوحيدي )( 310 هـ - 414 هـ / 923 – 1023 م)
هو علي بن محمد بن العباس التوحيدي ، كنيته (أبو حيان) غلبت على اسمه فاشتهر بها , ونسب إلى (التوحيد) , إما هذا (التوحيد) هو نوع من التمر العراقي , كان أبوه يبيع منه , وتطرق المتنبي إلى هذا التمر بقوله :
يترشفن من فمي رشفاتٍ *** هنَّ فيه أحلى من التوحيدِ
ويقال نسبة إلى التوحيد الذي لقب به المعتزلة (أهل العدل والتوحيد) , وهو فيلسوف معتزلي متصوف وأديب بارع،اتسم بسعة الثقافة وروعة الكتابة بإسلوبه الممتع المؤنس, إذ وظف الحكايات الشعبية في كتاباته , وعلى أغلب الظن أنّ قصص ألف ليلة وليلة كـُتبت في ذلك العصر , وأميل جداً كانت له اليد الطولى في تدوين ورواية بعض قصصها , وربما فلتت من كتبه التي حرقها في أواخر حياته بعد الكآبة و اليأس , وهو من أعلام القرن الرابع الهجري، عاش أكثر أيامه في بغداد , لم تصلنا من أخباره إلا ما ذكره هو نفسه في كتبه ورسائله, لأن مؤرخي عصره وعلية قومه تجاهلوه لفقره المقذع ,فامتهن حرفة الوراقة متوسلاً بأمثال ابن العميد والصاحب بن عباد والوزير المهلبي الذين يغدقون عشرات الآلآف من الدراهم بل مئات الآلآف على الجواري والعبيد والغلمان بأن يكتب لهم على أن يجروا عليه درهمين في اليوم وهو العبقري , فأستكثروا عليه المبلغ , مما أدى إلى إصابته بالكآبة واليأس , وخصوصاً بعد إتهامه بالزندقة والإلحاد , فأحرق كتبه , ويزيد الدكتور زكي مبارك , وفرّ فقهرته الظروف , فسار بين الأشواك , وأكل الحشيش (8) ولجأ إلى التصوف لتستقر نفسه , ويتخلص من الربط بين العبقرية والجاه والمال !!
ومن الذين اتهمه بالزندقة والإلحاد الحافظ الذهبي في ( أعلام نبلائه) إذ يقول : " الضال الملحد أبو حيان...صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية... كان أبو حيان هذا كذابا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان.." (9) وصب في المصب نفسه ابن حجر العسقلاني في (لسان ميزانه ) , وأبو الفرج ابن الجوزي في (منتظمه) جعله أشد الزنادقة الثلاثة في الإسلام وأخف منه المعري وابن الروندي . أمّا المعتدلون فتاج الدين السبكي فند رأي الذهبي في (طبقات الشافعية..) , لأن التوحيدي محسوب على من مذهب الشافعية قائلاً عنه : " شيخ الصوفية وصاحب كتاب البصائر وغيره من المصنفات في علم التصوف... وكان فقيراً صابراً متديناً .." (10), وأثنى عليه من القدماء ياقوت الحموي - الذي غفل ابن الرومي - في (معجمه) قائلاً عنه : " أبو حيان التوحيدي... صوفي السمت والهيئة، وكان يتأله والناس على ثقة من دينه... شيخ اصوفية وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام, ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء... " (11)
وبعد أن غطـّى الزمن قول الحموي وإشادته , يذكر الدكتور علي الوردي في (إسطورة أدبه) , إن أول من أشاد متعمقاً في العصر الحديث بأبي حيان , ولفت الأنظار إلى عظمته , الأدبية المستشرق السويسري( آدم متز) في كتابه ( الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ), وعجيب أن ينسى العرب أبا حيان قروناًعديدة , ثم يأتي مستشرق غربي , فيكشف عنه الغطاء أخيراً (12) على حد تعبير الدكتور , ونزيد بل اعتبره أعظم كتاب الأدب العربي على الإطلاق , ولم يقصر الدكتور مبارك في كتابه (النثر الفني في القرن الرابع ..) , إذ جعله على رأس كتاب الآراء اوالمذاهب في القرن الرابع الهجري.(13).
جـ - السهروردي وابن حزم الأندلسي :
الحقيقة تعرض عباقرة كبار من العرب والأجانب في حياتهم إلى مآسي هائلة تصل إلى حد التعذيب و القتل ناهيك عن الإهمال والتغافل والفقر والاستجداء , فهذه مأساة شهاب الدين السهروردي (549 - 587 هـ ), الفيلسوف الكبير الذي قتل في قلعة حلب بتهمة الخروج عن الدين , ومن كتبه (حكمة الإشراق ) و (هياكل النور), وكتب على قبره :
قد كان صاحب هذا القبر جوهرة***مكنونة قد براها الله من شرفِ
فلم تكن تعرف الأيـــــام قيمتها*** فردها غيرة منـــه إلى الصدفِ (14)
وإنَّ بيتي شعر (ابن حزم)التي قالها بعد إحراق كتبه في الأندلس تأكيد على إصرار المفكر والعبقري والمبدع في بسط آرائه :
فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي ***تضمنه القرطاس إذ هو في صدري
يسير معي حيث اســــتقلت ركائبي******وينزل إذ أنزل ويدفن فــــــي قبري (15)
هذا ما أوردناه من أمثلة عن عباقرة العرب , ونترك ما نوجز من عباقرة الغرب إلى الحلقة الثانية , ولله في خلقه شؤون , دمتم وإلى اللقاء , إن سنح البقاء!!
#كريم_مرزة_الاسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟