|
-الحقيقة العقائدية- وقلق البحث عن اليقين في الموسوعات الإسلامية(2-2)
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 3936 - 2012 / 12 / 9 - 11:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن المحك الحقيقي لمعرفة تطور الأحكام ودقة تقييمها في علم تاريخ الأديان والمقالات، يقوم أساسا في كيفية تعامله ودراسته لأسباب نشوء الفرق والمدارس وكذلك تصنيفها وتحديد هويتها المعرفية والاجتماعية السياسية. فعندما يتناول الأشعري مسألة أسباب ظهور الفرق الإسلامية، فإنه يربطها بدوافع سياسية. ومع أن ظهورها كان يتضمن أيضا بواعث عقائدية، إلا أنها كانت مستترة للدرجة التي لم يلحظها الأشعري أو لم يرغب بالحديث عنها، انطلاقا من موقفه العام عن "جمع الإسلام شملهم". لهذا نراه يربط ترتيب نشوء الخلافات الأولية وظهور الفرق بقضايا الإمامة والمبايعة والشورى، أي بقضية السلطة. وحصر هذه الخلافات في ست وهي الخلاف حول الإمامة بعد موت النبي محمد حيث حسم لصالح فكرة السيطرة القرشية. والخلاف الذي رافق الردة. وخلاف مقتل عثمان. والخلاف حول مبايعة على بن أبي طالب. والخلاف المرتبط بحروب الجمل وصفين. وأخيرا خلاف التحكيم. وفي هذه الرؤية المحايدة تنعكس كما أشرت سابقا المنهجية التي ألتزمها الأشعري في تقييمه المتساهل والمتسامح تجاه الجميع، التي استعاضت بموضوعيتها عن الجدل والاتهام المميز لخلافات الفرق الأولى. وما هو جدير بالذكر هنا هو أن مواقف الأشعري وتقييماته تفتقد افتقادا كليا لثقل العقائدية الضيقة، التي وضعها البغدادي في صدارة محاولته تفسير نشوء الفرق الإسلامية. فقد استند البغدادي إلى الفكرة العقائدية المتشددة، التي بلورها تطور الخلافة في القرون الثلاثة الأولى عبر "تقديس" محاربة التراث التاريخي للفرق. لهذا نراه يشدد على محاربة الدولة عند الخوارج والشيعة، والانتقاص من العقلانية السافرة عند المعتزلة وتطرف الغلاة الشديد في العلم والعمل. من هنا الجهد الأيديولوجي الموجه للبرهنة على صحة ما جاء في الحديث عن افتراق "اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافتراق النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وافترق أمة الإسلام على ثلاث وسبعين فرقة"، الذي أضيف له لاحقا عبارة "كلها في النار إلا ملة واحدة، أنا وأصحابي" أو عبارة "إلا واحدة وهي الجماعة". وأضاف البغدادي إلى ذلك أيضا جملة من "الأحاديث" النبوية و"آثار" السلف الصالح عن ذم المارقين (الخوارج) والمرجئة والقدرية بوصفهم مجوس هذه الأمة. مما أدى إلى تكريس هيكلية صلبة حشرت الفرق والمدارس الإسلامية اللاحقة في ثلاث وسبعين فرقة. كما لعبت المواقف الشخصية للمؤرخين ومنهجياتهم وأساليبهم والمرحلة الزمنية التي عاشوا فيها دورا حاسما في حشر هذه الفرق. وهي "تضحية" لابد منها للمنهجية العقائدية، التي أعاقت تحرير المواقف وتقييمها، لكنها ساهمت في الوقت نفسه على شحذ الذهن والخيال من أجل إيجاد المخارج المتنوعة من ثقل العقائدية نفسها، وبالتالي أثرت على التصنيف العلمي للفرق والمدارس، بحيث أدت إلى مسح الهياكل الأيديولوجية وإفراغ محتواها من قيود القدسية المزيفة. فعندما نقارن بين الاشعري والبغدادي بهذا الصدد، فإننا نلاحظ إهمال الأول للتقييم الأيديولوجي، بينما نراه بقوة عند الثاني. ومع ذلك نرى نظرة البغدادي إلى مجرى الخلافات أغنى وأدق مقارنة بالأشعري. فهو لا يحصرها بالنزاعات السياسية، بل ويتعداها إلى الصراعات الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية والفكرية. فنراه يجزئ الخلافات إلى أحد عشر خلافا، مقارنة بالستة الأشعرية. ويسلسلها بالطريقة التالية: الخلاف حول موت النبي محمد، وموضع دفنه، والإمامة، والتوريث (حول فدك)، ومانعي وجوب الزكاة، وقتال الردة، ومقتل عثمان، وحرب الجمل وصفين، وقضايا القدر والاستطاعة التي ربطها بمعبد الجهني (ت - 80) وغيلان الدمشقي (ت 100- ) والجعد بن درهم (ت - 124)، واختلاف الخوارج بينها، وأخيرا الاعتزال. أما ابن حزم فقد سار بخطى البغدادي، مؤثرا الجدل العقائدي على البحث في تاريخ الخلاف. لهذا نراه لا يهتم كثيرا بدراسة قضايا الخلاف، التي أفرزت تنوع الفرق الإسلامية، بل يوجه جام غضبه الفكري والعقائدي على من اسماهم بالفرق "الخارجة عن ديانة الإسلام"، أو الغلاة على قول البغدادي. حيث وجد فيها محاولة الفرس الشعوبية لاستعادة سيطرتهم من جديد عبر هدم الإسلام من الداخل. ولم يكن مقصود هذا التصنيف رسم الأبعاد العنصرية أو العرقية في ذهنيات الأمم. لقد جرى وضعها بالارتباط مع الصراع الفكري ونفسية الاتهام الأيديولوجي والعقائدي التي لم تتخل عن نزعة الشعوبية كما ظهرت تاريخيا في القرون الأولى للخلافة. لهذا نرها تشغل حيزا لا بأس به في موسوعات الأفكار والأديان عند المسلمين، لكنها كانت تخدم أساسا محاولات إبراز التنوع. وبالتالي لا مكان فيها لنفسية الاستعلاء وعقلية التفوق العنصري. لهذا نرى ابن حزم يضع كتابا خاصا بهذه القضية تحت "النصائح النجية من الفضائح المخزية والقبائح المردية من أقوال أهل البدع من الفرق الأربع المعتزلة والمرجئة والخوارج والشيعة"، لخص مضمونه في كتابه (الفصل) ضمن ما اسماه (ذكر العظائم المخرجة إلى الكفر). بينما يضعنا الشهرستاني أمام منهجية جديدة، تأخذ على عاتقها ليس فقط كشف التسلسل التاريخي للخلافات واستمرارها، بل ومصادرها وممثليها والكيفية التي أدت إلى تشعبها. بعبارة أخرى، انه حاول بناء المقدمات السياسية والعقائدية والفكرية لظهور الخلافات على أسس فكرية جديدة. فنراه يقسم الخلافات، كما هو الحال عند البغدادي إلى أحد عشر خلافا. ويستند بذلك ظاهريا إلى الخبر المأثور عن افتراق الأمة، بعد أن يقدمه بصيغة جديدة تقول:"ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة، والباقون هلكى. قيل: ومن الناجية؟ قال: أهل السنة والجماعة. قيل: وما السنة والجماعة؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي". وفيما لو تركنا مدى ثقة الشهرستاني بهذا الحديث، انطلاقا من أن الموتى لا تسأل عن ضمائرها، فان منطق تحليله لمقدمات نشوء الفرق وقواعد تقسيمه لها تجعل من استناده إلى ما "عرفه بالسمع"، كما قال عن الحديث الآنف الذكر، مجرد أسلوب تقليدي عادي، يمكن تجاهله أو الإبقاء عليه، مازال ذلك لا يعرقل فاعلية الاكتشاف الحر لأسباب ظهور الفرق، وبالتالي تقييمها الجديد. إذ ليست "الفرقة الناجية" عند الشهرستاني فرقة "السلف" أو "أهل السنة والجماعة" التقليدية. بل أنها ليست من ينتمي بالاسم لأمة الإسلام. إن مضمونها يتطابق في منهجية الشهرستاني مع المضمون المنطقي لحقيقة أفكارها. وذلك لان الحق "يمكن أن يخرج من قضيتين متقابلتين بوصفه حقا واحدا". من هنا، فان حقيقة الفرقة الناجية تتحدد بمعيار المنطق في القضايا. فمن الناحية المنطقية لا يمكن أن "يكون قضيتان متقابلتان على شرائع التقابل إلا وأن تقتسما الصدق والكذب". وهو تطبيق مباشر لقواعد المنطق الأرسطي. أي أن الحقيقة لا بد وأن تكون عند أحد الطرفين. ففي "أصول المعقولان" من غير الممكن الحكم على المتخاصمين المتضادين، بأنهما محقان صادقان، كما يقول الشهرستاني. من هنا تتحول الصيغ القرآنية والأحاديث النبوية إلى توابع للحكم المنطقي. بمعنى أنه يمنطقها. وفي واقع الأمر! ماذا يعني مضمون الحديث الذي يورده الشهرستاني، عن أنه "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة" وحديث "لا تجتمع أمتي على ضلالة" على خلفية الرؤية المنطقية السابقة، إن لم يعني بأن الصراع بين الأفكار يؤدي بالضرورة إلى أن يكون بعضها حقا والآخر باطلا؟ وان الحق والمحق فيها هو المنطقي، أي الذي لا ضلالة فيه. وذلك لان الأمم لا تجتمع فعلا على ضلالة ما زال المنطق (العقل) هو الفيصل فيها، كما أن الحكم المنطقي لا يزول ما زال هناك من يدافع عنه. بهذا يجعل الشهرستاني من الحديث الأنف صيغة دينية للتفاؤل المنطقي. ولا يتعارض هذا من حيث الجوهر مع "تشاؤم" المعرفة، التي يبدعها العقل منذ بداياته الأولية. فهو تناقض "طبيعي" بين التقليد وهياكله "المقدسة" ومنطلقاته اللاهوتية وبين المضامين الجديدة للأحكام العقلية والمنطقية. وأشار الشهرستاني لهذا التناقض في عبارته القائلة، بان "أول شبهة وقعت في الخليقة هي شبهة إبليس"، ومصدرها "استبداده بالرأي في مقابلة النص". وفي ما لو طرحنا جانبا القصة الدينية بصيغتها الإسلامية، فان عبارته هذه لم تكن من حيث الجوهر، سوى التجريد "المقهور"، الذي أخضع الشهرستاني له حصيلة الصراع الاجتماعي والسياسي والفكري للثقافة الإسلامية في الخمسمائة سنة السابقة له وكذلك حصيلة الدراسات العلمية لثقافات الأمم الأخرى. إذ لم تعد دراسة التباين الفكري محصورة بمرحلة تاريخية محددة. فقد توسع الأفق الحضاري لدرجة لم يعد بمقدور أي كان التحكم به كما يشاء. من هنا منهجية الشهرستاني، التي لم تعد تربط تاريخ الفكر الإسلامي وصراعاته بشخصية ما بما في ذلك النبي محمد ولواحق المجريات التي تلت ذلك. بل نراه يجّرد الظاهرة بحيث يجعل من صراع الأفكار والاتجاهات داخل الحضارة الإسلامية أمرا حتميا. ويتحول تاريخ الخلافة إلى استعادة حية ونموذجية للتاريخ (العالمي) نفسه، ولكن على أسس أرفع. من هنا مرور الأمة الإسلامية بنفس طرق الأمم السابقة، بحيث تحذو "حذو النعل بالنعل" كما جاء في الحديث الموضوع. لهذا يصبح ممكنا أن تنسب كلمات "القدرية مجوس هذه الأمة"، و"المشبه يهود هذه الأمة"، و"الروافض نصارى هذه الأمة" إلى النبي محمد. وهو فعل يكشف ليس فقط عن مساعي "أهل السنة والجماعة" لإدانة الاتجاهات المخالفة لها، بل ويشير إلى غلوها العقائدي تجاه بعض الظواهر الفكرية والسياسية، التي أخرجها تاريخ الخلافة إلى الوجود. ولم تكن محاولة الشهرستاني البحث عن مصدرها الأولي عند تخوم صراع "الرأي بالنص" سوى الصيغة الإسلامية لكشف الفاعلية الداخلية للصراع الفكري ـ الاجتماعي. لهذا السبب نفهم لماذا اعتبره صراعا "أزليا"، وموجودا منذ وجدت الخليقة. وقد أعطى ذلك لمحاولة الجريئة هذه إمكانية كشف النماذج المثلى في تاريخ الفكر، وبالتالي إبراز التطابق بين المنطق والتاريخ، كما نراه في فكرته عن تعدد "الشبهات" ومضمونها المتشابه عند جميع الشعوب والأمم منذ ظهور "إبليس" حتى الفترة المعاصرة له. ولم تكن هذه "الشبهات" سوى القضايا الجوهرية للفكر الفلسفي، التي أثيرت حول معنى الوجود والحكمة فيه وهل الإنسان حر أم مرتبط بالمشيئة الإلهية، وأذ كان مرتبطا بها فما معنى الحكمة في امتحانه ما زال الله يعرف كل ذلك مسبقا، أي ما معنى تكليفه وهل هناك ضرورة في ذلك، ولماذا خلق الخير والشر وهل هما مرتبطان بالله أم بالإنسان، وما معنى ارتباطهما ما زال الله عالما بكل ذلك مسبقا، وهل يستحق ذلك يا ترى ضرورة الثواب والعقاب، وما الحكمة في الثواب والعقاب والجنة والنار والموت والانتظار، بل أليس من الأفضل، في حالة وجود الله أن يهلك كل ما هو موجود، أو أن يبقي العالم على نظام الخير المطلق، دون مزجه بالشر؟ تلك الأسئلة الجوهرية التي رافقت الفكر الفلسفي والأخلاقي التي حاول الشهرستاني تتبعها ضمن تاريخ الحضارة الإسلامية. ولم يعن ذلك في منهجيته سوى أن تاريخ نشوء الأفكار والمدارس هو العملية المتكررة والمتطورة للفكر ذاته. وقد كان ذلك يعني في منهجيته التأسيس لمبدأ أعلى يحكم تطور الفكرة ذاتها، التي شكل "صراع الرأي والنص" نموذجها التاريخي والعملي. وهو مبدأ مجرد استمد أصوله الحقيقة، وبالتالي أصالته، من المبدأ الواقعي الذي تحكم في تاريخ الفكر الإسلامي نفسه. إذ لم يقصد الشهرستاني بالرأي والنص سوى صراع الأفكار المميز لتاريخ الثقافة الإسلامية في فرقها ومدارسها الفلسفية. ومع أن حدود هذه المبدأ قد تبدوا ضئيلة فيما لو حاولنا تطبيقه على الحضارات السابقة للإسلام، إلا انه يفعل من خلال قدرته التجريدية العالية. إذ نعثر فيه على نموذج مجرد لصراع التقليد والاجتهاد. وهو مبدأ فتح الطريق على مصراعه بالنسبة لقبول التعدد والخلاف بكافة درجاته ومستوياته. وذلك لان تاريخ الفكر وظهور الأفكار الجديدة لم يعد بدعة بالمعنى العقائدي، بل إبداعا للعقل في صراعه مع النص. ومن ثم فهو نتاج طبيعي، بل حتمي. فالشبهات التي "وقعت في آخر الزمان" هي "بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أول الزمان"، كما يقول الشهرستاني. بعبارة أخرى، أن الأفكار التي ظهرت في مجرى تاريخ الثقافة الإسلامية هو نفس ما سبق وان ظهر في تاريخ الفكر والأفكار عند الأمم الأخرى. ومع أن مظهر العبارة عند الشهرستاني يوحي بموقف سلبي، إلا أن مضمونها المنهجي والفلسفي التاريخي يقوم في تأسيسه لموضوعية وحتمية التطور الفكري. لأنه يبرهن على أن الفكر لا يقف عند حد. وكل جديد له نماذجه في الماضي، لأنها "سنّة الوجود"، التي لا ترتبط بأمة دون أخرى ولا بدين دون آخر، ولا بزمن ما لحاله أو نبي لوحده وما شابه ذلك. ولا يعني ذلك إن كل جديد قديم بل أن كل جديد له نماذجه في الماضي، وذلك لان الجديد هو سلسلة المنطق. وللمنطق تاريخه في البحث عن الحقيقة في صراعه من النصوص (الجامدة). وإذا كان من الصعب علينا الآن رؤية هذه الحقيقة الجلية في الثقافات السابقة بسبب قدمها، أو بسبب ضياع الكثير منها أو لجهلنا بحيثياتها، فإن تراثنا الخاص منذ ظهور الدعوة الإسلامية حتى المرحلة المعاصرة هو نموذج واقعي لها، حسب رأي الشهرستاني. ذلك يعني انه وجد في هذا التكرار قانونا يمكن تطبيقه على الجميع. وعندما اخذ بتطبيق مبدأ "صراع الرأي بالنص" على الفرق الإسلامية، فإنه ابتدأ بفرقة الخوارج، بوصفها الامتداد الطبيعي للفعل الذي قام به ذي الخويصرة في جدله مع النبي محمد بصدد مفهوم الحق والعدالة. غير أن الشهرستاني لم يضع فرقة الخوارج خارج الحقيقة، بقدر ما أشار إليها كنموذج أولي "لصراع الرأي والنص" في تاريخ الإسلام. لهذا نراه يشير إلى ما اسماه بتعايش "حسن العقل وقبحه" عندهم. كما نراه يستمد أمثلته من مواد الأحداث التاريخية، التي أوردها القرآن، باعتبارها نماذج أولية لما سيظهر لاحقا، كما هو الحال، على سبيل المثال، بالنسبة للمنافقين الذين قالوا بعد معركة أحد (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا)، بوصفها مثالا للفكرة القدرية، و(لو شاء الله ما عبدنا من دونه شيء)، بوصفها مثالا للفكرة الجبرية. والشيء نفسه يمكن قوله عن الجدل المتعلق بذات الله وصفاته وغيرها، التي شكلت أجنة الاعتراض العقلي على "النص". فقد كانت "كالبذور، وظهرت منها الشبهات كالزروع"، كما يقول الشهرستاني. وهو حكم يتضمن الإقرار بأنه لا شيء يظهر عبثا، وأن لكل ظاهرة أسسها وأسبابها الخاصة. لقد تتبع الشهرستاني الارتباط العضوي الدقيق بين التاريخ والفكرة من أبسط تجلياتها حتى اعقدها في ما بدا له نموذجيا وجوهريا. فعندما يورد "الخلافات الأولية" التي وقعت قبل موت النبي محمد، وبالأخص منها المتعلق بحادثة طلب النبي للدواة والقرطاس من أجل "كتابة وصية لكي لا يضلوا بعده" والمنسوبة لعبد الله ابن عباس، التي جعلت عمر ابن الخطاب، كما تورد بعض الروايات، يقول أن "محمدا غلبه الوجع، وبالتالي حسبنا كتاب الله"، مما أدى بالنبي إلى إبعادهم عنه، لكرهه النزاع. والخلاف الثاني حول تجهيز جيش أسامة ومرض النبي محمد المتزامن معه. وما يثير اهتمام الشهرستاني في هذا الخلاف ليس مسألة صدق أو زيف هذه الخلافات والأسباب القائمة وراءها، بل نزع العصبية العقائدية من خلال النظر إليها بوصفها خلافات اجتهادية ذات صلة بإقامة مراسيم الشرع. أما الخلافات الأخرى فإنها تتطابق تقريبا مع ما وضعه البغدادي، وهي الخلاف بصدد موت النبي محمد ودفنه وقضية الإمامة، التي يعتبرها الشهرستاني احد أهم الخلافات، كما وضعها في عبارته الشهيرة القائلة، بأنه "ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية، مثل ما سل على الإمامة في كل زمان". ثم الخلاف حول أمر فدك، وفي قتال مانعي الزكاة وقت الردة، وفي تخليف أبي بكر ثم قضية الشورى وأعمال عثمان ثم الخلافات المرتبطة بصعود علي بن أبي طالب للسلطة ومعارك الجمل وصفين والنهروان وأخيرا الخلافات المتعلقة بقضايا الإمامة والأصول. يشير التقييم النظري للاتجاهات والمدارس الفكرية في الخلافة إلى التحولات الجوهرية التي رافقت تحور وتطور المفاهيم المميزة لنشوء العلوم الإسلامية بشكل عام وعلم الملل والنحل بشكل خاص. كما تشير إلى تجاوز بحثها عن أسباب الخلاف والأفكار المترتبة عليها في العلاقات الاجتماعية والسياسية فقط، إلى ميدان الاستقلال النسبي للصراع الفكري نفسه وحتميته. ولا يمكن عزل هذه الظاهرة عن الصراع الفكري نفسه. فقد بلغ درجة عالية من الشدة والحّدة في وقت مبكر نسبيا من تاريخ الخلافة. ولم يفقد توهجه حتى بعد سقوط بغداد. إذ بقت بعض جمراته تلتهب تحت الرماد. ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-الحقيقة العقائدية- وقلق البحث عن اليقين في الموسوعات الإسلا
...
-
الشهرستاني ومنهج تأسيس أهمية العلم الفلسفي (2-2)
-
الشهرستاني ومنهج تأسيس أهمية العلم الفلسفي (1-2)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي- (20) (المقال الأخير)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي- (19)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (18)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (17)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي(16)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (15)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي(14)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (13)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (12)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (11)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (10)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (9)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي(8)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (7)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (6)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (5)
-
المصير التاريخي لثورة الربيع العربي (4)
المزيد.....
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|