|
جدارية درويش والنص الاسطوري
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 3934 - 2012 / 12 / 7 - 23:53
المحور:
الادب والفن
في هذا العمل الشعري يتجسد الشاعر بأمور عديدة ، ويجعل من ذاته شيئا خارجيا عنها ومتاقنما معها حينا آخر، فيستخدم اللغة التي يذوب معها " كنت أولد منذ ألاف السنين / الشاعرية في ظلام ابيض الكتان / لم اعرف تماما من انأ فينا ومن حلمي " الجداريةص71 ثم يحلق مع الحمام فيهدلان ويحطان معا "غنيت كي ازن المدى المهدور /في وجع الحمام "،ج ص22 وينقلها إلى الأنثى فيتعانقا ويكونا جسدا واحدا " ما حاجتي لاسمي بدونك ؟ نادني / فانا خلقتك عندما سميتني / وقتلتني حين امتلكت الاسم ... " ج ص34 ثم يجعلها تحوم في الخيال وينسج ثوبا زاهيا " فك الحلم أجنحتي / انأ أيضا أطير. فكل / فكل حي طائر . " ج ص74 وهناك استخدام فذ للملحمة الهلالية ( جلجامش ) فقد استطاع الشاعر الولوج في روحها و تطويعها حسب ما يريد " فالأسطورة اتخذت مكانتها / المكيدة في سياق الواقعي " ج ص73 ومن خلال مفاتيح وضعها الشاعر في جداريته نستطيع العلم بــــان هنـــاك مفاصل واضحة في حياته ما زال متأثرا بها ولها مكانتها في نفسه ولا يمكنه التخلص منها، وأول هذه المفاصل الشعر الذي يرفع ويرتفع بالشاعر "سأصير يوما شاعرا / والماء رهن بصيرتي . لغتي مجاز للمجاز"ج ص13 وهذا الشعر بدوره له تفاصيل تترك خطوط وعناوين في شاعرية الشاعر، وما "زالت نفسه تحمل عبئ تلك القصائد / أنا الرسالة والرسول /أنا العناوين الصغيرة والبريد "ج ص11و15 فهذا المقطع يوازي الشطر من قصيدة احمد العربي "وأنت العبد والمعبود والمعبد " وكذلك المقطع التالي يصب في ذات الوعاء "وجد نفسي حاضرا ملء الغياب "ج ص47 نجد هنا التماثل مع المقطع من نفس القصيدة "وجدت نفسي ملء نفسي / فبتعدت عن المدى والمشهد البحري " وأعاد الشاعر الإشارة إلى هذا التاقنم عندما قال "وأنا الكلام ، أنا المؤبن والمؤذن / والشهيد "ج ص 47 مقطع آخر يضيف إلى ما زعمنا حول تأثر الشاعر بقصيدة احمد العربي "ضاق بي جسدي / ضاق بي ابدي " ج ص86 فهذا المقطع يكاد يكون صدى ل "جسدي هو الحصار فليأتي الحصار" وقبل الفض من قصيدة احمد العربي ومكانتها المتميزة عند الشاعر، نذكر بمقطع في الجدارية يعترف به درويش بما ذهب به زعمنا " نحن من اثر النشيد الملحمي على المكان كريشة النسر العجوز خيامنا في الريح " ج ص39 فهناك إجماع على أن قصيدة احمد العربي هي نشيد ملحمي وتؤخذ كأفضل قصيدة ملحمية كتبها درويش لما فيها من نبرة عالية وتكثيف الصور ومترعة بعاطفة جياشة أما ألتأثير الثاني فكان أكثر فاعلية ووضوحا لأنه يمس شكل القصيدة، فالجدارية مبنية على وتيرة قصيدة يطير الحمام، لما فيها من أصوات يخاطب بعضها بعض، وهذا الأمر يعترف به الشاعر "أريد الرجوع إلى لغتي في أقاصي الهديل " ج ص67 وإذا عدنا إلى الجدارية نجد أكثر من صوت يتاقنم مع الشاعر، وكأنه يرد في كل صوت على ذات الشاعر "ما حاجتي لاسمي بدونك ؟ / وأنا غريبة كل هذا الليل / أدخلني إلى غابات شهواتك ، احتضني واعصرني / واسف العسل الزفافي النفقي على قفير النحل / بعثرني بما ملكت يداك من الريح ولمني " ج ص34 و35 .نجد في هذا المقطع التجسيد والتوحد مع المرأة، وكأنها تخاطب الشاعر، وتضيف الجدارية مقطع أخر لتؤكد تأثر درويش بما كتب سابقا "ولا احد عشر كوكبا على معبدي " ج ص86 فهذا المقطع يحمل مفردات استخدمها الشاعر في قصيدة يوسف ، والفقرة التالية تحمل عين المدلول " فلي عمل على ظهر السفينة لا /لأنقذ طائرا من جوعنا أو من دوار البحر " ج ص48 إذن نستطيع القول بان درويش متأثر جدا بإنتاجه الشعري، إن كان هذا التأثير لغويا أو شكليا، وقبل الفض من هذه الزاوية نود التنويه بان هناك تأثير عند الشاعر لتلك القصائد المغناة، وكأنها ظل يتبع شعر درويش، فقصيدة احمد العربي مغناة من قبل مارسيل خليفة وكذلك غناها خالد الهبر، وقصيدة يوسف مغناة، وجاءت الفقرة التي استخدمها درويش في الجداية "رأيت بلاد تعانقي / بأيد صباحية : / كن جديرا برائحة الخبز . كن / ... فما زال تنور أمك مشتعلا "ج ص32 كرد وتأكيد لموقف درويش من قصيدة أمي التي يقول فيها " احن إلى خبز أمي " وتأكيد لما ذهبنا إليه من تأثر الشاعر بقصائده المغناة، ويعود درويش للتغني بالوحدة التي سطعت في احمد العربي "وأنا أنا، لا شيء أخر / واحد من أهل هذا الليل . احلم / بالصعود على حصاني فوق ، فوق ... /لاتبع الينبوع خلف التل / فصمد يا حصاني . لم نعد في الريح مختلفين "ج ص76 فهذا المقطع يأخذنا مباشرة إلى احمد العربي "وكنت وحدي ثم وحدي اة يا وحدي واحمد ". هذا الإطار الذي وضعت داخله الجدارية، أما تفاصيل هذه الجدارية فتكمن في الضفة الأخرى ونعني بها ملحمة جلجامش التي تناولها درويش بطريقة نادرة، فتألقت جداريته وأعاد للملحمة مكانتها الرفيعة، فقد جعل من بعض فقراتها جزءا من الجدارية، حيث تتحدث الملحمة عن مقاومة الموت والبحث عن الخلود، وهذا انسجام تام مع فكرة الجدارية، ومن ضمن الجدارية نستطيع اخذ مفتاح التناغم ما بين الجدارية والملحمة " فالأسطورة اتخذت مكانتها / المكيدة / في السياق الواقعي "ج ص73 من خلال هذا المفتاح نستطيع فتح الجدارية وفهمها ضمن الفكرة الاشمل ( الخلود ) ومن خلال هذه الإشارة سنخوض بتفاصيل التزاوج بينهما "وأنا من رأى . وأنا البعيد / أنا البعيد " ج ص44 فهذه الفقرة متماثلة مع بداية الملحمة والتي تبدأ " هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا " أما الشق الثاني من المقطع " وأنا البعيد البعيد " رؤية في ملحمة جلجامش رائد الحواري ص40 فهي مستخدمة في الملحمة أيضا ولكن ليست صفة لجلجامش وإنما لاوتنبشتم الذي استطاع جلجامش تخطي كل الصعاب والمعيقات والوصول إلى هذا البعيد، فأصبح في هذا المكان ـ تواجد اوتنبشتم ـ يحمل صفة البعيد " ها أنا جئت لأرى اوتنبشتم الذي يلقبونه بالبعيد " ر ص14 فهنا استطاع درويش أن يوصل جلجامش إلى المكانة القديسين ـ اوتنبشتيم ـ وهذا ما كان جلجامش يريده من خلال عبوره الدروب المهلكة، ونعتقد بان الانسجام جاء كاملا حينما ذكر درويش " وأنا البعيد البعيد " كصفة لجلجامش ولا يتناقض مع المسار العام لفكرة الملحمة، وكما فعل جاجامش في رحلته بالبحث عن الخلود ليهرب من الموت بدأ درويش رحلته إلى الخلود لكي يبتعد عن الموت "من أنت يا موت ؟ / في الطريق اثنان نحن / وفي القيامة واحد " ج ص44 فكما حمل جلجامش على كاهله موت انكيدو وبذلك أصبح جلجامش ـ اثنين ـ هو وانكيدو الذي مات، لذلك ذهب باحثا عن الخلود، وهنا نجد التلاحم ما بين الاثنين، وبهذا كان جلجامش يتحدث لمتحدثيه بان الدافع وراء رحلته هو موت انكيدو، فكان الموت الدافع المباشر لتلك الرحلة، وهذا هو عين الدافع الذي حاول درويش البحث عن الخلاص منه " بسبب انكيدو الذي أحببت، بسبب قدر كل البشر الذي أخذه " ر ص74 وكما ندب جلجامش انكيدو ندب درويش ذاته " خذني إلى ضوء التلاشي كي أرى / صيرورتي في صورتي الأخرى . فمن / سأكون بعدك ، يا أنا ؟ جسدي/ ورائي أم أمامك؟ من أنا يا / أنت ؟ ادهني بزيت اللوز كللني بتاج الأرز "ج ص44 و45 كما تحدثنا سابقا جلجامش تحمل مسؤولية موت انكيدو، فعل درويش ذلك وندب نفسه وأخذ يبحث عن ذاته، وإذا عدنا إلى الملحمة نجد الفقرة التالية " ابكي انكي، ابكيه بكاء الثكلى، فأي نوم هو الذي صرعك، صار يحوم حول صديقه المسجى، يقطع بيديه شعر رأسه ويرمي به، ويطرح عن جسمه ثيابه الجميلة ." ر ص69 و 70 ويعود درويش إلى التماثل مع الإحداث الملحمية حيث ينسجم مع حالة انكيدو في العالم السفلي الذي لا يوجد فيه سوى الضجر والعذاب، وهذا ما فعله درويش في الجدارية "ساعدني على ضجري الخلود ، وكن / رحيما حين تجرحني وتبزغ من / شراييني الورود " ج ص45 والنص الملحمي الذي يتحدث عن الحياة في العالم السفلي جاء على لسان انكيدو "... نظر لي وقادني إلى بيت الظلام مسكن ارجالا، إلى دار لا يرجع منها داخل إليها ، إلى مكان لا يرجع بصاحبه من حيث أتى، إلى مكان لا يرى النور، فالتراب طعام لهم والطين معاش، رأيت الملوك وقد نزعت تيجانهم " جلجامش فراس السواح ص167 الطبعة الاول نيقوسيا قبرص فهذه الحالة القاسية التي تحدث عنها انكيدو استخدمها درويش بعد أن دمج أنا مع أنا، وأيضا يستخدم حالة ما قبل الموت وما بعد ه بذات الروح التي تطرقت إليها الملحمة . "أيها الموت انتظر حتى اعد / حقيبتي : فرشاة أسناني ، وصابوني/ وماكينة الحلاقة ، ولكولونيا ، والثياب/ هل المناخ هناك معتدل ؟ وهل/ تتبدل الأحوال في الأبدية البيضاء / أم تبقى كما هي في الخريف وفي/ الشتاء ؟ وهل كتاب واحد يكفي/ لتسليتي مع اللا وقت ، أم احتاج مكتبة ؟ " ج ص 50 و51 فهنا نجد التناغم الواضح ما بين النص الملحمي والجدارية وكأن تساؤلات الجدارية جاءت كاستفهام للحالة التي وصفها انكيدو لصديقه جلجامش عن الحياة في العالم السفلي، وإذا توغلنا في الجدارية والملحة سنجد ان التماثل فيهما مستمر، فالجدارية تتحدث عن الموت واصفته بالصياد " ويا موت انتظر ... لتكون صيادا شريفا لا يصيد قرب النبع "ج ص51 فكما أخبرتنا الملحمة بان انكيدو قبل تآنسه كان يفعل الأتي " ردم حفري التي حفرت ، بعونه فرت من يدي طرائد البر وحيوانه"ز ص33 فانكيدو يبغض صيد الحيوانات، أي موتها، وكان هذا التماثل ما بين درويش وانكيدو، ويتناول درويش مفردات الملحمة ولغة المخاطبة فيها بعين الروح أللتي استخدمتها الملحمة " يا موت ، يا ظلي الذي سيقودني، يا ثالث الاثنين، يا لون التردد في الزمرد والزبرجد، يا دم الطاووس، يا قناص قلب الذئب، يا مرض الخيال، اجلس على الكرسي ضع أدوات صيدك تحت نافذتي، وعلق فوق باب البيت سلسلة المفاتيح الثقيلة "ج ص52 فالملحة استخدمت مفردات الزمرد واللازورد وأدوات الصيد والنافذة " وبعد أن قطع اثنتي عشر ساعة مضاعفة، عم الضياء وجد نفسه أمام ( حديقة ) أشجارها من ( حجر كريم ) فدنا لمرآتها، كان شجر العقيق يحمل ثمار، عنبا مدلى فتنة لناظرين، وشجر اللازورد يحمل ... " س ص138 هذا على صعيد المفردة الجميلة أما المتعلقة بالتغير فجاءت بعد ترويض انكيدو من قبل البغي " وضع على جسده عباءة، وراح يهاجم الأسود، ويريح الرعاة منها ليلا، قنص الذئب واصطاد الأسود " س ص110 أما أسلوب المخاطبة في الملحمة فجاء على لسان انكيدو الذي تناجى مع الماضي أسفا عليه " بوابة الغاب لا تعي، بوابة الغاب لا تعقل، نجدك الصانع في نيبور، فيا باب لو كنت اعلم ما ستجره علي، وان جمالك جلب علي هذا، لحملت فأسا به وحطمتك، وكوخ صنعت من أجزائك " س ص162 أما فكرة التردد الموجودة في الجدارية فقد ذكرتها الملحمة بطريقة غير مباشرة وذلك عندما قابل جلجامش الإله الطيب شمش وفتاة الحديقة العجيبة، وفي هذا الموقف كان جلجامش اضعف ما يكون في طلبه ـ الوصول إلى الخلود ـ لان الاله شمش المعين له في المصائب والشدائد التي واجهها قال له عد إلى أوراك، ولان الأنثى ذكرته بالرغد والبحبوحة والرفاهية التي كان فيها ، فتح باب الغريزة والترغيب لكي يعود ويتراجع عن مسعاه والهدف الذي وضع ـ الوصول إلى اوتنابشتم ـ فكانت الملحمة توحي بان هناك ضعفا أصاب جلجامش وأخذت مشاعر التردد تدغدغ قلبه وفكره معا . وهناك صور ملحمية تتماثل مع الجدارية، فمثلا الفقرة التالية تتحدث عن العاصفة على شجرة " كن كالحب عاصفة على شجر" ج ص53 فهذا الوصف متماثل مع الحدث الملحمي الذي يتحدث عن قطع أشجار الأرز ومن ثم الصراع مع حارسها الرهيب خمبابا الذي يزأر فتنبعث النار من فمه، وهذا المغامرة كانت اللعنة التي أطلقتها الإلهة على جلجامش وانكيدو، فبالمقدار الذي كان فيه خمبابا عنيفا ومخيفا كان الحب والتلاحم بين الصديقين جلجامش وانكيدو . وهناك صور ملحمية مقلوبة في الجدارية ولكن نستطيع أعادتها إلى وضعها القائم، ومثال على هذه الصور " يا موت انتظر / اجلس على الكرسي خذ كأس النبيذ " ج ص54 أما الملحمة فتتحدث عن انكيدو والذي بدأ حياته البشرية ب " اشرب خمرا إنها عادة أهل البلاد " ز ص37 فهنا نجد الأفعال متشابهة ولكن في الملحمة القائم بالفعل انكيدو، وفي الجدارية الموت وهو ليس ببشري . أما الحديث عن مشاعر الانتصار فقد ذكرت في كلا العملين، الجدارية تصف الانتصار "هزمتك يا موت الفنون جميعها / هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين / مسلة المصري مقبرة الفراعنة / النقوش على حجارة معبد / هزمتك وانتصرت / وافلت من كمائنك الخلود "ج ص54 و55 هذا المقطع من الجدارية يعطي فكرة التحدي للموت ـ القدر والتسليم به ـ فالملحمة ومنذ بدايتها تتحدث عن فعل التحدي والانتصار على القدر الذي وضعته الآلهة، فكان الانتصار الأول في الصداقة بين جلجامش وانكيدو، بدل الصراع والحرب بينهما، وتتويج هذه الصداقة برحلة التحدي إلى غابة الأرز وقطع الأشجار منها ثم قتل خمبابا، وتبعه التهجم على الربة عشتار وأهانتها من الصديقين، ثم قتلهما الثور السماوي، وتصاعد هذا التحدي عندما رفض جلجامش الموت وذهب باحثا عن الخلود، وكانت إرادته وصلابته التين قادتاه إلى أعظم انتصار عندما خاطب اوتنبشتم بطريقة لا تتناسب والمكانة العظيمة التي وضع فيها القديس المخلد من الإلهة " انظر إليك اوتنابشتم / شكلك عادي، واراك مثلي / نعم شكلك عادي واراك مثلي / قد صورك لي جناني بطلا على أهبة القتال / لكن ها أنت مضجع على جنبك أو قفاك "ر ص15 أ ما التهجم على المقدسات والمحرمات مس الأشياء مثل الآلهة والقدر والقديسين فقد كانت الملحمة تعبق بمثل هذه المواضيع، وتكاد تكون ملحمة أهم وثقة تناقض الأفكار والمعتقدات السائدة في حينه، وهنا الجدارية تتلاءم في طرحها مع روح الملحمة " كأنك المنفي بين الكائنات / ما حياتك غير موتي / لا تعيش ولا تموت / وتخطف الأطفال من عطش الحليب إلى الحليب / ولم تكن طفلا تهز له الحساسين السرير/ ولم يداعبك الملائكة الصغار/ ولا قرون الأيل الساهي / كما فعلت لنا / نحن الضيوف على الفراشة، وحدك المنفي يا مسكين / لا امرأة تضمك بين نهديها / ولا امرأة تقاسمك الحنين إلى اقتصاد الليل بألفاظ الاباحي المرادف لاختلاط الأرض فينا بالسماء/ ولم تلد ولد يجيئك ضارعا / إني احبك / يا ملك الملوك/ ولا مديح لصولجانك / لا صقور على حصانك / لا لآلئ حول تاجك / أيها العاري من الرايات والبوق المدنس / كيف تمشي هكذا من دون حراس وجوقة منشدين كمشية اللص الجبان / وأنت من أنت المعظم عاهل الموتى / القوي وقائد الجيش الأشوري العنيد / فاصنع بنفسك ما تريد "ج ص75و58 و59 هذا القول الغليظ الموجه للموت يتماثل مع ما خوطبت به الربة عشتار عندما طلبت الاقتران بجلجامش، ورد عليها ردا موجعا " وأنا ما الذي اجنيه أتزوجك / أقدم لك زيتا ، ثيابا فاخرة / خبزا طعاما / أنت كباب البيت الخارجي لا يصد ريحا / لا يمنع عاصفة / كقصر عظيم أنت /كقصر يتحطم فيه الإبطال / كالقطران أنت يلوث يد حامله / كقربة ماء أنت تبلل من يحملها / كحذاء أنت تزل به قدم منتعله "ز ص18 و19 هذا التالي على العظماء وتوجيه التأنيب والتحقير لهم وتذكريهم بمثالبهم وجرائرهم التي يتجاهلونها دوما، كانت من الوضوح بشكل لا يمكن التغاضي عنه، من هنا تأتي أهمية الملمحة التي تطرقت إلى نقض الأفكار السائدة وإعادة التفكير بها من جديد، لأنها لا تتناسب منع منطق الإنسان وهي ما دون العظمة التي يتمتع بها، ونعتقد بان المفاضلة التي تطرها الجدارية هي عين المفاضلة والخصوصيات التي طرحتها ساقية الحانة على جلجامش للتراجع عن هدفه " وفكر أن تمتع نهارك وليلك / عش في قصرك المنيف وخض حروبك بفرح / واتخذ زوجة ونم بسلام على كتفها / أنها تجد المسرة في أحضانك / وانظر إلى الصغير على يديك هكذا ستقضي على أيامك " ر ص78 فهذه الأعمال التي كان جلجامش يقوم بها قبل صداقته مع انكيدو وأثناءها وبعد موت صديقه، لم تكن لتشبع رغباته وطموحه، وهو يسعى لتجاوز الأعمال العادية التي يقوم بها الناس، ليتساوى مع العظماء الآخرين،حتى لو كان المساواة معهم من المحرمات، ومهما بلغت المشاق ولصعوبات إليها، من هنا نستطيع القول بان هذين العملين يتماثلان في استخدامها صيغ المس والتقليل من شأن العظماء، الذين يفترض أن يحترموا وتنحني الرؤؤس لهم إجلالا وإكبارا، لكن هنا يتم تذكريهم بمثالبهم وبأنهم أدنى من المكانة التي هم فيها، وعليه يجب الآن أن يتنحوا جانب ويتركوا مكانهم للأعظم منهم ألا وهو الإنسان . كما جاء استخدام درويش للفكرة الملحمية ليعزز التزاوج والتماثل ما بين العملين، ليبدي للقارئ بأنهما فكرة واحدة ولكن بأسلوبين مختلفين . إن الضعف في القصيدة يعترف به الشاعر " لكن ـ وقد أغويتني أهملت خاتمة القصيدة " فنعتقد بان هذا الضعف يقصد به الشاعر الاستخدام المباشر والواضح للنص الملحمي، ولرموزها الأسطوري ( جلجامش ) " سائرون على خطى جلجامش الخضراء " ج ص80 وكذلك انكيدو " نام انكيدو ولم ينهض "ج ص81 فبعد متابعة تتمة النص نكتشف الفكرة التي كانت خلف الستار الشفاف، وهذا الأمر اضعف من قدرة الجدارية على التورية التي بدأت في استخدام الأسطورة، ويتابع الشاعر كشف ما لم يبح به مباشرة فيقول " جناحي نام ملتفا بحفنة ريشه الطين، آلهتي جماد الريح في ارض الخيال، ذراعي اليمنى عصا خشبية، والقلب مهجور كبئر جف فيها الماء فتسع الصدى الوحشي، انكيدو خيالي لم يعد يكفي لأكمل رحلتي، لا بل لي من قوة ليكون حلمي واقعيا "ج ص81 هذا المقتبس يتماثل بشكل كامل مع رثاء انكيدو لنفسه ومع تعاطي عين المفردة الملحمية، وهذا برأينا ما اضعف تورية الجدارية، وعودة إلى النص الملحمي لتوضيح هذا التشابه ما بينها، " قام بتحويل شكلي / فغدت ذراعاي مكسوتين بالريش كما الطيور/ نظر لي وقادني إلى بيت الظلام مسكن ( اوجالا ) فالتراب طعام لهم والطين معاش / كان نواب آنو وإنليل هم من يقدم لهم الشواء " س ص166 و167 نحد هنا كلمات الطين ، الريش ، والإلهة، ومعاني الوحشة والضجر والوحدة، تجمع النصين، أما تسليم درويش بالموت وفقدان الأمل في الحصول على الخلود والخلاص من الفناء، فهي مستخدمة كذلك في النص الملحمي وبصورة صريحة وذلك بعد أن أكلت الأفعى عشبة الخلود وعودة جلجامش خالي اليدين إلى أوراك، وجاءت الفقرة التالية لتعمق هذا الوضوح في الفكرة " واحلم بالمساواة القليلة بين إلهة السماء وبيننا "ج ص48 فهذه الفقرة التي انطلق منها جلجامش باحثا عن اوتنبشتم ليتساوى معه في الخلود وليكون مثل لإلهة لا موت، وكانت طريقة مخاطبة جلجامش لكلا من عشتار واوتنبشتم تعتبر عن هذه الفكرة ـ المساواة ـ " انظر إليك اوتنبشتم شكلك عادي واراك مثلي " وأيضا حديث عشتار لجلجامش " تعال يا جلجامش وكن عريسي / هبني ثمارك هدية / كن زوجا لي وأنا زوجا لك " ر ص17 فهنا نجد التماثل الكامل مع الفكرة الملحمية ـ طلب المساواة ـ مع الإلهة، ويتابع درويش كشف القصيدة مستخدما النص الملحمي بدون ستار أو حجاب، " من ينام ألان انكيدو ؟ أنا أم أنت ؟ ... كيف مللتني يا صاحبي وخذلتني، ما نفع حكمتنا بدون فتوة ما نفع حكمتنا ؟ على باب المناة خذلتني يا صاحبي، فقتلتني وعلي وحدي أن أرى، مصائرك وحدي احمل الدنيا على كتفي ثورا هائجا، وحدي أفتش شارد الخطوات عن أبديتي، لا بد لي من حل هذا اللغز، انكيدو سأحمل عنك عمرك ما استطعت وما استطاعت قوتي وأرادني إن تحملاك ... سأسند ظلك العاري على شجرة النخيل، فأين ظللك أين ظلك ؟ بعدما انكسرت جذوعك ؟ قمة الإنسان هاوية ظلمتك حينما قاومت الوحش فيك بامرأة سقتك حليبها، فأنست واستسلمت للبشري انكيدو ترفق بي وعد من حيث مت، لعلنا نجد الجواب، فمن أنا وحدي حياة الفرد ناقصة، وينقصني السؤال، فمن سأسأل عن عبور النهر، فانهض يا شقيق الملح وحملني، وأنت تنام هل تدري بأنك نائم، فانهض ... كفى نوما، تحرك قبل أن يتكاثر الحكماء حولي كالثعالب ( كل شيء باطل فاغنم حياتك مثلما هي برهة حبلى بسائلها دم العشب المقطر عش ليومك لا لحلمك كل شيء زائل، فحذر غدا وعش الحياة في امرأة تحبك عش لجسمك لا لوهمك "ج ص81- 84 هذا السرد المكثف يقودنا إلى النص الملحمي بكل عنفوان، فكما أخبرتنا الملحمة بان موت انكيدو كان يعني موت البطولة وتحقيق الانتصارات واضمحلال العظمة عند جلجامش، فهما من صرعى الثور السماوي وخمبابا، وقد وصفتهما الملحمة " جلجامش هو المجيد بين الإبطال / انكيدو هو الظاهر فوق الرجال "س ص158 ونعتقد بان التورية الوحيدة في النص السابق هي "على باب المناة خذلتني " فكما جاءت في الملحمة بان انكيدو تراجع قليلا بعد أن سحره باب الغابة وطلب من جلجامش العودة والتراجع عن قطع أشجار الأرز، وهذه التورية ليس في الفكرة وإنما بالموضوع الذي وضعه درويش، فجاءت على أنها عتاب ولوم لانكيدو الذي مات، أما في النص الملحمي فهذا اللوم كان على باب الغابة وليس بعد وفاة انكيدو، " أصبحت ترهب الردى ونحن لم نزل هنا / فما الذي دهى النزال فيك والبطولة/ أ هكذا تحقق المنى "ر ص53 وجاء حديث الجدارية عن رهبة الموت وفناء الحياة بشكل متماثل موازي للنص الملحمي، فالرؤى والأحلام والحديث عن الدروب الوعرة والشاقة ومواجهتها منفرداً، كانت كتأكيد على المباشرة في رسم الصور والأحداث الملحمية فكل هذه المسائل تطرقت إليها الملحمة وهي جزء أساسي من إحداثها، فبدايتها تتحدث عن الحلم الذي حلمه جلجامش وثم تفاصيل تفسير هذا الحلم، وكيف سيتحرر انكيدو من الوحشية والبرية ليكون ذو حكمة ومدنية، وبعد موته يتبدل مفهوم الحكمة عند جلجامش، يكون الخلاص من الفناء ومشاركة الإلهة في الخلود والحياة الرفاهية، ومن هنا تبدأ رحلته إلى اوتنيشتم، ولم يترك درويش مفهوم الوحدة والانفرادية في مواجهة القدر المكتوب على البشر ـ الموت ـ بدون أن يذكره كما هو الحال في النص الملحمي " جلجامش أين تهيم على وجهك / ومن بعدك أنا سأطلق شعري / وأكسو جسمي بجلد الأسد / هائما في البراري " س ص173 وأيضا تحدثت الجدارية عن حمل ـ هم الموت ـ قدر المستطاع وحسب القوية والإرادة التي يتحملها الشاعر، فكما تعدى وتجاوز جلجامش الصعاب والمعيقات وحصل على مبتغاة، ثم فقدان هذا الشيء، جعله يعود إلى الحياة العادية ككل البشر، وينتظر القدر الذي كتب على البشر، فلم يكن لبشر أن يتجاوز الموت، وكأن الكلمات التي سمعها جلجامش من كل من شاهده ـ رجل العقرب، فتاة الحانة، اوشنابي الملاح، اوتبشتم وزوجته قول جلجامش بعد أن فقد العشبة، كلها تصب في الفكرة الأساسية ـ لا يمكن الخلاص من الموت ـ وحديث الجدارية عن تأنس انكيدو على يد البغي يضاف إلى التأثر والاقتباس المكشوف لدرويش وتأثره بالنص الملحمي " فتاة البهجة حررت ثديها، عدت صدرها / فقطف ثمرها / علمت الرجل الوحش وظيفة المرأة "ر ص33 و34 ونعتقد بان المسألة الوحيدة التي خرج منها الشاعر عن النص الملحمي هي اعتراف جلجلمش بذنبه عندما ساهم في ترويض انكيدو، فحسب النص الملحمي يرفض شمش لعنات انكيدو على البغي ويدعوه ليرضى عنها ويدعو لها ولا يدعو عليها، وهذا ما فعله انكيدو حين قال " ألا فلتتبوئي مكانتك الحق / ويحميك الملوك والأمراء والعظماء / وتهجر بسببك الزوجة ولو إما لسبعة "س ص165 و166 ولا نغفل بان الملحمة أخبرتنا بطريقة عرضها لحالة جلجامش الهائم في الفلاة، بأنه يحمل وزر موت انكيدو الذي أحبه . وجاء استخدام الجدارية للفظ ( شقيق الملاح ) موازيا للاستخدام الملحمي ( اورشنابي الملاح )، وبذلك تكون الجدارية وحسب اعتراف درويش فيها من المباشرة والوضوح، الشيء الكثير، وكانت الفقرات الأخيرة من الصفحة 84 وكأنها عين النصائح التي وجهت إلى جلجامش وخاصة تلك التي نطقت بها سيدوري فتاة الحانة ، وأخيرا وقبل الانتهاء من هذا التلاحم ما بين الملحمة والجدارية، نعترف بان هذا العمل من الإعمال التي تجذب القارئ إليها وتشده بقوة، ليمسي من الحالمين في هذا الزمن الرديء، وهي من الإعمال التي تقرأ أكثر من مرة ويستحب قراءتها بين فترة وأخرى . رائد الحواري
جداريه درويش والنص الأسطوري
في هذا العمل الشعري يتجسد الشاعر بأمور عديدة ، ويجعل من ذاته شيئا خارجيا عنها ومتاقنما معها حينا آخر، فيستخدم اللغة التي يذوب معها " كنت أولد منذ ألاف السنين / الشاعرية في ظلام ابيض الكتان / لم اعرف تماما من انأ فينا ومن حلمي " الجداريةص71 ثم يحلق مع الحمام فيهدلان ويحطان معا "غنيت كي ازن المدى المهدور /في وجع الحمام "،ج ص22 وينقلها إلى الأنثى فيتعانقا ويكونا جسدا واحدا " ما حاجتي لاسمي بدونك ؟ نادني / فانا خلقتك عندما سميتني / وقتلتني حين امتلكت الاسم ... " ج ص34 ثم يجعلها تحوم في الخيال وينسج ثوبا زاهيا " فك الحلم أجنحتي / انأ أيضا أطير. فكل / فكل حي طائر . " ج ص74 وهناك استخدام فذ للملحمة الهلالية ( جلجامش ) فقد استطاع الشاعر الولوج في روحها و تطويعها حسب ما يريد " فالأسطورة اتخذت مكانتها / المكيدة في سياق الواقعي " ج ص73 ومن خلال مفاتيح وضعها الشاعر في جداريته نستطيع العلم بــــان هنـــاك مفاصل واضحة في حياته ما زال متأثرا بها ولها مكانتها في نفسه ولا يمكنه التخلص منها، وأول هذه المفاصل الشعر الذي يرفع ويرتفع بالشاعر "سأصير يوما شاعرا / والماء رهن بصيرتي . لغتي مجاز للمجاز"ج ص13 وهذا الشعر بدوره له تفاصيل تترك خطوط وعناوين في شاعرية الشاعر، وما "زالت نفسه تحمل عبئ تلك القصائد / أنا الرسالة والرسول /أنا العناوين الصغيرة والبريد "ج ص11و15 فهذا المقطع يوازي الشطر من قصيدة احمد العربي "وأنت العبد والمعبود والمعبد " وكذلك المقطع التالي يصب في ذات الوعاء "وجد نفسي حاضرا ملء الغياب "ج ص47 نجد هنا التماثل مع المقطع من نفس القصيدة "وجدت نفسي ملء نفسي / فبتعدت عن المدى والمشهد البحري " وأعاد الشاعر الإشارة إلى هذا التاقنم عندما قال "وأنا الكلام ، أنا المؤبن والمؤذن / والشهيد "ج ص 47 مقطع آخر يضيف إلى ما زعمنا حول تأثر الشاعر بقصيدة احمد العربي "ضاق بي جسدي / ضاق بي ابدي " ج ص86 فهذا المقطع يكاد يكون صدى ل "جسدي هو الحصار فليأتي الحصار" وقبل الفض من قصيدة احمد العربي ومكانتها المتميزة عند الشاعر، نذكر بمقطع في الجدارية يعترف به درويش بما ذهب به زعمنا " نحن من اثر النشيد الملحمي على المكان كريشة النسر العجوز خيامنا في الريح " ج ص39 فهناك إجماع على أن قصيدة احمد العربي هي نشيد ملحمي وتؤخذ كأفضل قصيدة ملحمية كتبها درويش لما فيها من نبرة عالية وتكثيف الصور ومترعة بعاطفة جياشة أما ألتأثير الثاني فكان أكثر فاعلية ووضوحا لأنه يمس شكل القصيدة، فالجدارية مبنية على وتيرة قصيدة يطير الحمام، لما فيها من أصوات يخاطب بعضها بعض، وهذا الأمر يعترف به الشاعر "أريد الرجوع إلى لغتي في أقاصي الهديل " ج ص67 وإذا عدنا إلى الجدارية نجد أكثر من صوت يتاقنم مع الشاعر، وكأنه يرد في كل صوت على ذات الشاعر "ما حاجتي لاسمي بدونك ؟ / وأنا غريبة كل هذا الليل / أدخلني إلى غابات شهواتك ، احتضني واعصرني / واسف العسل الزفافي النفقي على قفير النحل / بعثرني بما ملكت يداك من الريح ولمني " ج ص34 و35 .نجد في هذا المقطع التجسيد والتوحد مع المرأة، وكأنها تخاطب الشاعر، وتضيف الجدارية مقطع أخر لتؤكد تأثر درويش بما كتب سابقا "ولا احد عشر كوكبا على معبدي " ج ص86 فهذا المقطع يحمل مفردات استخدمها الشاعر في قصيدة يوسف ، والفقرة التالية تحمل عين المدلول " فلي عمل على ظهر السفينة لا /لأنقذ طائرا من جوعنا أو من دوار البحر " ج ص48 إذن نستطيع القول بان درويش متأثر جدا بإنتاجه الشعري، إن كان هذا التأثير لغويا أو شكليا، وقبل الفض من هذه الزاوية نود التنويه بان هناك تأثير عند الشاعر لتلك القصائد المغناة، وكأنها ظل يتبع شعر درويش، فقصيدة احمد العربي مغناة من قبل مارسيل خليفة وكذلك غناها خالد الهبر، وقصيدة يوسف مغناة، وجاءت الفقرة التي استخدمها درويش في الجداية "رأيت بلاد تعانقي / بأيد صباحية : / كن جديرا برائحة الخبز . كن / ... فما زال تنور أمك مشتعلا "ج ص32 كرد وتأكيد لموقف درويش من قصيدة أمي التي يقول فيها " احن إلى خبز أمي " وتأكيد لما ذهبنا إليه من تأثر الشاعر بقصائده المغناة، ويعود درويش للتغني بالوحدة التي سطعت في احمد العربي "وأنا أنا، لا شيء أخر / واحد من أهل هذا الليل . احلم / بالصعود على حصاني فوق ، فوق ... /لاتبع الينبوع خلف التل / فصمد يا حصاني . لم نعد في الريح مختلفين "ج ص76 فهذا المقطع يأخذنا مباشرة إلى احمد العربي "وكنت وحدي ثم وحدي اة يا وحدي واحمد ". هذا الإطار الذي وضعت داخله الجدارية، أما تفاصيل هذه الجدارية فتكمن في الضفة الأخرى ونعني بها ملحمة جلجامش التي تناولها درويش بطريقة نادرة، فتألقت جداريته وأعاد للملحمة مكانتها الرفيعة، فقد جعل من بعض فقراتها جزءا من الجدارية، حيث تتحدث الملحمة عن مقاومة الموت والبحث عن الخلود، وهذا انسجام تام مع فكرة الجدارية، ومن ضمن الجدارية نستطيع اخذ مفتاح التناغم ما بين الجدارية والملحمة " فالأسطورة اتخذت مكانتها / المكيدة / في السياق الواقعي "ج ص73 من خلال هذا المفتاح نستطيع فتح الجدارية وفهمها ضمن الفكرة الاشمل ( الخلود ) ومن خلال هذه الإشارة سنخوض بتفاصيل التزاوج بينهما "وأنا من رأى . وأنا البعيد / أنا البعيد " ج ص44 فهذه الفقرة متماثلة مع بداية الملحمة والتي تبدأ " هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا " أما الشق الثاني من المقطع " وأنا البعيد البعيد " رؤية في ملحمة جلجامش رائد الحواري ص40 فهي مستخدمة في الملحمة أيضا ولكن ليست صفة لجلجامش وإنما لاوتنبشتم الذي استطاع جلجامش تخطي كل الصعاب والمعيقات والوصول إلى هذا البعيد، فأصبح في هذا المكان ـ تواجد اوتنبشتم ـ يحمل صفة البعيد " ها أنا جئت لأرى اوتنبشتم الذي يلقبونه بالبعيد " ر ص14 فهنا استطاع درويش أن يوصل جلجامش إلى المكانة القديسين ـ اوتنبشتيم ـ وهذا ما كان جلجامش يريده من خلال عبوره الدروب المهلكة، ونعتقد بان الانسجام جاء كاملا حينما ذكر درويش " وأنا البعيد البعيد " كصفة لجلجامش ولا يتناقض مع المسار العام لفكرة الملحمة، وكما فعل جاجامش في رحلته بالبحث عن الخلود ليهرب من الموت بدأ درويش رحلته إلى الخلود لكي يبتعد عن الموت "من أنت يا موت ؟ / في الطريق اثنان نحن / وفي القيامة واحد " ج ص44 فكما حمل جلجامش على كاهله موت انكيدو وبذلك أصبح جلجامش ـ اثنين ـ هو وانكيدو الذي مات، لذلك ذهب باحثا عن الخلود، وهنا نجد التلاحم ما بين الاثنين، وبهذا كان جلجامش يتحدث لمتحدثيه بان الدافع وراء رحلته هو موت انكيدو، فكان الموت الدافع المباشر لتلك الرحلة، وهذا هو عين الدافع الذي حاول درويش البحث عن الخلاص منه " بسبب انكيدو الذي أحببت، بسبب قدر كل البشر الذي أخذه " ر ص74 وكما ندب جلجامش انكيدو ندب درويش ذاته " خذني إلى ضوء التلاشي كي أرى / صيرورتي في صورتي الأخرى . فمن / سأكون بعدك ، يا أنا ؟ جسدي/ ورائي أم أمامك؟ من أنا يا / أنت ؟ ادهني بزيت اللوز كللني بتاج الأرز "ج ص44 و45 كما تحدثنا سابقا جلجامش تحمل مسؤولية موت انكيدو، فعل درويش ذلك وندب نفسه وأخذ يبحث عن ذاته، وإذا عدنا إلى الملحمة نجد الفقرة التالية " ابكي انكي، ابكيه بكاء الثكلى، فأي نوم هو الذي صرعك، صار يحوم حول صديقه المسجى، يقطع بيديه شعر رأسه ويرمي به، ويطرح عن جسمه ثيابه الجميلة ." ر ص69 و 70 ويعود درويش إلى التماثل مع الإحداث الملحمية حيث ينسجم مع حالة انكيدو في العالم السفلي الذي لا يوجد فيه سوى الضجر والعذاب، وهذا ما فعله درويش في الجدارية "ساعدني على ضجري الخلود ، وكن / رحيما حين تجرحني وتبزغ من / شراييني الورود " ج ص45 والنص الملحمي الذي يتحدث عن الحياة في العالم السفلي جاء على لسان انكيدو "... نظر لي وقادني إلى بيت الظلام مسكن ارجالا، إلى دار لا يرجع منها داخل إليها ، إلى مكان لا يرجع بصاحبه من حيث أتى، إلى مكان لا يرى النور، فالتراب طعام لهم والطين معاش، رأيت الملوك وقد نزعت تيجانهم " جلجامش فراس السواح ص167 الطبعة الاول نيقوسيا قبرص فهذه الحالة القاسية التي تحدث عنها انكيدو استخدمها درويش بعد أن دمج أنا مع أنا، وأيضا يستخدم حالة ما قبل الموت وما بعد ه بذات الروح التي تطرقت إليها الملحمة . "أيها الموت انتظر حتى اعد / حقيبتي : فرشاة أسناني ، وصابوني/ وماكينة الحلاقة ، ولكولونيا ، والثياب/ هل المناخ هناك معتدل ؟ وهل/ تتبدل الأحوال في الأبدية البيضاء / أم تبقى كما هي في الخريف وفي/ الشتاء ؟ وهل كتاب واحد يكفي/ لتسليتي مع اللا وقت ، أم احتاج مكتبة ؟ " ج ص 50 و51 فهنا نجد التناغم الواضح ما بين النص الملحمي والجدارية وكأن تساؤلات الجدارية جاءت كاستفهام للحالة التي وصفها انكيدو لصديقه جلجامش عن الحياة في العالم السفلي، وإذا توغلنا في الجدارية والملحة سنجد ان التماثل فيهما مستمر، فالجدارية تتحدث عن الموت واصفته بالصياد " ويا موت انتظر ... لتكون صيادا شريفا لا يصيد قرب النبع "ج ص51 فكما أخبرتنا الملحمة بان انكيدو قبل تآنسه كان يفعل الأتي " ردم حفري التي حفرت ، بعونه فرت من يدي طرائد البر وحيوانه"ز ص33 فانكيدو يبغض صيد الحيوانات، أي موتها، وكان هذا التماثل ما بين درويش وانكيدو، ويتناول درويش مفردات الملحمة ولغة المخاطبة فيها بعين الروح أللتي استخدمتها الملحمة " يا موت ، يا ظلي الذي سيقودني، يا ثالث الاثنين، يا لون التردد في الزمرد والزبرجد، يا دم الطاووس، يا قناص قلب الذئب، يا مرض الخيال، اجلس على الكرسي ضع أدوات صيدك تحت نافذتي، وعلق فوق باب البيت سلسلة المفاتيح الثقيلة "ج ص52 فالملحة استخدمت مفردات الزمرد واللازورد وأدوات الصيد والنافذة " وبعد أن قطع اثنتي عشر ساعة مضاعفة، عم الضياء وجد نفسه أمام ( حديقة ) أشجارها من ( حجر كريم ) فدنا لمرآتها، كان شجر العقيق يحمل ثمار، عنبا مدلى فتنة لناظرين، وشجر اللازورد يحمل ... " س ص138 هذا على صعيد المفردة الجميلة أما المتعلقة بالتغير فجاءت بعد ترويض انكيدو من قبل البغي " وضع على جسده عباءة، وراح يهاجم الأسود، ويريح الرعاة منها ليلا، قنص الذئب واصطاد الأسود " س ص110 أما أسلوب المخاطبة في الملحمة فجاء على لسان انكيدو الذي تناجى مع الماضي أسفا عليه " بوابة الغاب لا تعي، بوابة الغاب لا تعقل، نجدك الصانع في نيبور، فيا باب لو كنت اعلم ما ستجره علي، وان جمالك جلب علي هذا، لحملت فأسا به وحطمتك، وكوخ صنعت من أجزائك " س ص162 أما فكرة التردد الموجودة في الجدارية فقد ذكرتها الملحمة بطريقة غير مباشرة وذلك عندما قابل جلجامش الإله الطيب شمش وفتاة الحديقة العجيبة، وفي هذا الموقف كان جلجامش اضعف ما يكون في طلبه ـ الوصول إلى الخلود ـ لان الاله شمش المعين له في المصائب والشدائد التي واجهها قال له عد إلى أوراك، ولان الأنثى ذكرته بالرغد والبحبوحة والرفاهية التي كان فيها ، فتح باب الغريزة والترغيب لكي يعود ويتراجع عن مسعاه والهدف الذي وضع ـ الوصول إلى اوتنابشتم ـ فكانت الملحمة توحي بان هناك ضعفا أصاب جلجامش وأخذت مشاعر التردد تدغدغ قلبه وفكره معا . وهناك صور ملحمية تتماثل مع الجدارية، فمثلا الفقرة التالية تتحدث عن العاصفة على شجرة " كن كالحب عاصفة على شجر" ج ص53 فهذا الوصف متماثل مع الحدث الملحمي الذي يتحدث عن قطع أشجار الأرز ومن ثم الصراع مع حارسها الرهيب خمبابا الذي يزأر فتنبعث النار من فمه، وهذا المغامرة كانت اللعنة التي أطلقتها الإلهة على جلجامش وانكيدو، فبالمقدار الذي كان فيه خمبابا عنيفا ومخيفا كان الحب والتلاحم بين الصديقين جلجامش وانكيدو . وهناك صور ملحمية مقلوبة في الجدارية ولكن نستطيع أعادتها إلى وضعها القائم، ومثال على هذه الصور " يا موت انتظر / اجلس على الكرسي خذ كأس النبيذ " ج ص54 أما الملحمة فتتحدث عن انكيدو والذي بدأ حياته البشرية ب " اشرب خمرا إنها عادة أهل البلاد " ز ص37 فهنا نجد الأفعال متشابهة ولكن في الملحمة القائم بالفعل انكيدو، وفي الجدارية الموت وهو ليس ببشري . أما الحديث عن مشاعر الانتصار فقد ذكرت في كلا العملين، الجدارية تصف الانتصار "هزمتك يا موت الفنون جميعها / هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين / مسلة المصري مقبرة الفراعنة / النقوش على حجارة معبد / هزمتك وانتصرت / وافلت من كمائنك الخلود "ج ص54 و55 هذا المقطع من الجدارية يعطي فكرة التحدي للموت ـ القدر والتسليم به ـ فالملحمة ومنذ بدايتها تتحدث عن فعل التحدي والانتصار على القدر الذي وضعته الآلهة، فكان الانتصار الأول في الصداقة بين جلجامش وانكيدو، بدل الصراع والحرب بينهما، وتتويج هذه الصداقة برحلة التحدي إلى غابة الأرز وقطع الأشجار منها ثم قتل خمبابا، وتبعه التهجم على الربة عشتار وأهانتها من الصديقين، ثم قتلهما الثور السماوي، وتصاعد هذا التحدي عندما رفض جلجامش الموت وذهب باحثا عن الخلود، وكانت إرادته وصلابته التين قادتاه إلى أعظم انتصار عندما خاطب اوتنبشتم بطريقة لا تتناسب والمكانة العظيمة التي وضع فيها القديس المخلد من الإلهة " انظر إليك اوتنابشتم / شكلك عادي، واراك مثلي / نعم شكلك عادي واراك مثلي / قد صورك لي جناني بطلا على أهبة القتال / لكن ها أنت مضجع على جنبك أو قفاك "ر ص15 أ ما التهجم على المقدسات والمحرمات مس الأشياء مثل الآلهة والقدر والقديسين فقد كانت الملحمة تعبق بمثل هذه المواضيع، وتكاد تكون ملحمة أهم وثقة تناقض الأفكار والمعتقدات السائدة في حينه، وهنا الجدارية تتلاءم في طرحها مع روح الملحمة " كأنك المنفي بين الكائنات / ما حياتك غير موتي / لا تعيش ولا تموت / وتخطف الأطفال من عطش الحليب إلى الحليب / ولم تكن طفلا تهز له الحساسين السرير/ ولم يداعبك الملائكة الصغار/ ولا قرون الأيل الساهي / كما فعلت لنا / نحن الضيوف على الفراشة، وحدك المنفي يا مسكين / لا امرأة تضمك بين نهديها / ولا امرأة تقاسمك الحنين إلى اقتصاد الليل بألفاظ الاباحي المرادف لاختلاط الأرض فينا بالسماء/ ولم تلد ولد يجيئك ضارعا / إني احبك / يا ملك الملوك/ ولا مديح لصولجانك / لا صقور على حصانك / لا لآلئ حول تاجك / أيها العاري من الرايات والبوق المدنس / كيف تمشي هكذا من دون حراس وجوقة منشدين كمشية اللص الجبان / وأنت من أنت المعظم عاهل الموتى / القوي وقائد الجيش الأشوري العنيد / فاصنع بنفسك ما تريد "ج ص75و58 و59 هذا القول الغليظ الموجه للموت يتماثل مع ما خوطبت به الربة عشتار عندما طلبت الاقتران بجلجامش، ورد عليها ردا موجعا " وأنا ما الذي اجنيه أتزوجك / أقدم لك زيتا ، ثيابا فاخرة / خبزا طعاما / أنت كباب البيت الخارجي لا يصد ريحا / لا يمنع عاصفة / كقصر عظيم أنت /كقصر يتحطم فيه الإبطال / كالقطران أنت يلوث يد حامله / كقربة ماء أنت تبلل من يحملها / كحذاء أنت تزل به قدم منتعله "ز ص18 و19 هذا التالي على العظماء وتوجيه التأنيب والتحقير لهم وتذكريهم بمثالبهم وجرائرهم التي يتجاهلونها دوما، كانت من الوضوح بشكل لا يمكن التغاضي عنه، من هنا تأتي أهمية الملمحة التي تطرقت إلى نقض الأفكار السائدة وإعادة التفكير بها من جديد، لأنها لا تتناسب منع منطق الإنسان وهي ما دون العظمة التي يتمتع بها، ونعتقد بان المفاضلة التي تطرها الجدارية هي عين المفاضلة والخصوصيات التي طرحتها ساقية الحانة على جلجامش للتراجع عن هدفه " وفكر أن تمتع نهارك وليلك / عش في قصرك المنيف وخض حروبك بفرح / واتخذ زوجة ونم بسلام على كتفها / أنها تجد المسرة في أحضانك / وانظر إلى الصغير على يديك هكذا ستقضي على أيامك " ر ص78 فهذه الأعمال التي كان جلجامش يقوم بها قبل صداقته مع انكيدو وأثناءها وبعد موت صديقه، لم تكن لتشبع رغباته وطموحه، وهو يسعى لتجاوز الأعمال العادية التي يقوم بها الناس، ليتساوى مع العظماء الآخرين،حتى لو كان المساواة معهم من المحرمات، ومهما بلغت المشاق ولصعوبات إليها، من هنا نستطيع القول بان هذين العملين يتماثلان في استخدامها صيغ المس والتقليل من شأن العظماء، الذين يفترض أن يحترموا وتنحني الرؤؤس لهم إجلالا وإكبارا، لكن هنا يتم تذكريهم بمثالبهم وبأنهم أدنى من المكانة التي هم فيها، وعليه يجب الآن أن يتنحوا جانب ويتركوا مكانهم للأعظم منهم ألا وهو الإنسان . كما جاء استخدام درويش للفكرة الملحمية ليعزز التزاوج والتماثل ما بين العملين، ليبدي للقارئ بأنهما فكرة واحدة ولكن بأسلوبين مختلفين . إن الضعف في القصيدة يعترف به الشاعر " لكن ـ وقد أغويتني أهملت خاتمة القصيدة " فنعتقد بان هذا الضعف يقصد به الشاعر الاستخدام المباشر والواضح للنص الملحمي، ولرموزها الأسطوري ( جلجامش ) " سائرون على خطى جلجامش الخضراء " ج ص80 وكذلك انكيدو " نام انكيدو ولم ينهض "ج ص81 فبعد متابعة تتمة النص نكتشف الفكرة التي كانت خلف الستار الشفاف، وهذا الأمر اضعف من قدرة الجدارية على التورية التي بدأت في استخدام الأسطورة، ويتابع الشاعر كشف ما لم يبح به مباشرة فيقول " جناحي نام ملتفا بحفنة ريشه الطين، آلهتي جماد الريح في ارض الخيال، ذراعي اليمنى عصا خشبية، والقلب مهجور كبئر جف فيها الماء فتسع الصدى الوحشي، انكيدو خيالي لم يعد يكفي لأكمل رحلتي، لا بل لي من قوة ليكون حلمي واقعيا "ج ص81 هذا المقتبس يتماثل بشكل كامل مع رثاء انكيدو لنفسه ومع تعاطي عين المفردة الملحمية، وهذا برأينا ما اضعف تورية الجدارية، وعودة إلى النص الملحمي لتوضيح هذا التشابه ما بينها، " قام بتحويل شكلي / فغدت ذراعاي مكسوتين بالريش كما الطيور/ نظر لي وقادني إلى بيت الظلام مسكن ( اوجالا ) فالتراب طعام لهم والطين معاش / كان نواب آنو وإنليل هم من يقدم لهم الشواء " س ص166 و167 نحد هنا كلمات الطين ، الريش ، والإلهة، ومعاني الوحشة والضجر والوحدة، تجمع النصين، أما تسليم درويش بالموت وفقدان الأمل في الحصول على الخلود والخلاص من الفناء، فهي مستخدمة كذلك في النص الملحمي وبصورة صريحة وذلك بعد أن أكلت الأفعى عشبة الخلود وعودة جلجامش خالي اليدين إلى أوراك، وجاءت الفقرة التالية لتعمق هذا الوضوح في الفكرة " واحلم بالمساواة القليلة بين إلهة السماء وبيننا "ج ص48 فهذه الفقرة التي انطلق منها جلجامش باحثا عن اوتنبشتم ليتساوى معه في الخلود وليكون مثل لإلهة لا موت، وكانت طريقة مخاطبة جلجامش لكلا من عشتار واوتنبشتم تعتبر عن هذه الفكرة ـ المساواة ـ " انظر إليك اوتنبشتم شكلك عادي واراك مثلي " وأيضا حديث عشتار لجلجامش " تعال يا جلجامش وكن عريسي / هبني ثمارك هدية / كن زوجا لي وأنا زوجا لك " ر ص17 فهنا نجد التماثل الكامل مع الفكرة الملحمية ـ طلب المساواة ـ مع الإلهة، ويتابع درويش كشف القصيدة مستخدما النص الملحمي بدون ستار أو حجاب، " من ينام ألان انكيدو ؟ أنا أم أنت ؟ ... كيف مللتني يا صاحبي وخذلتني، ما نفع حكمتنا بدون فتوة ما نفع حكمتنا ؟ على باب المناة خذلتني يا صاحبي، فقتلتني وعلي وحدي أن أرى، مصائرك وحدي احمل الدنيا على كتفي ثورا هائجا، وحدي أفتش شارد الخطوات عن أبديتي، لا بد لي من حل هذا اللغز، انكيدو سأحمل عنك عمرك ما استطعت وما استطاعت قوتي وأرادني إن تحملاك ... سأسند ظلك العاري على شجرة النخيل، فأين ظللك أين ظلك ؟ بعدما انكسرت جذوعك ؟ قمة الإنسان هاوية ظلمتك حينما قاومت الوحش فيك بامرأة سقتك حليبها، فأنست واستسلمت للبشري انكيدو ترفق بي وعد من حيث مت، لعلنا نجد الجواب، فمن أنا وحدي حياة الفرد ناقصة، وينقصني السؤال، فمن سأسأل عن عبور النهر، فانهض يا شقيق الملح وحملني، وأنت تنام هل تدري بأنك نائم، فانهض ... كفى نوما، تحرك قبل أن يتكاثر الحكماء حولي كالثعالب ( كل شيء باطل فاغنم حياتك مثلما هي برهة حبلى بسائلها دم العشب المقطر عش ليومك لا لحلمك كل شيء زائل، فحذر غدا وعش الحياة في امرأة تحبك عش لجسمك لا لوهمك "ج ص81- 84 هذا السرد المكثف يقودنا إلى النص الملحمي بكل عنفوان، فكما أخبرتنا الملحمة بان موت انكيدو كان يعني موت البطولة وتحقيق الانتصارات واضمحلال العظمة عند جلجامش، فهما من صرعى الثور السماوي وخمبابا، وقد وصفتهما الملحمة " جلجامش هو المجيد بين الإبطال / انكيدو هو الظاهر فوق الرجال "س ص158 ونعتقد بان التورية الوحيدة في النص السابق هي "على باب المناة خذلتني " فكما جاءت في الملحمة بان انكيدو تراجع قليلا بعد أن سحره باب الغابة وطلب من جلجامش العودة والتراجع عن قطع أشجار الأرز، وهذه التورية ليس في الفكرة وإنما بالموضوع الذي وضعه درويش، فجاءت على أنها عتاب ولوم لانكيدو الذي مات، أما في النص الملحمي فهذا اللوم كان على باب الغابة وليس بعد وفاة انكيدو، " أصبحت ترهب الردى ونحن لم نزل هنا / فما الذي دهى النزال فيك والبطولة/ أ هكذا تحقق المنى "ر ص53 وجاء حديث الجدارية عن رهبة الموت وفناء الحياة بشكل متماثل موازي للنص الملحمي، فالرؤى والأحلام والحديث عن الدروب الوعرة والشاقة ومواجهتها منفرداً، كانت كتأكيد على المباشرة في رسم الصور والأحداث الملحمية فكل هذه المسائل تطرقت إليها الملحمة وهي جزء أساسي من إحداثها، فبدايتها تتحدث عن الحلم الذي حلمه جلجامش وثم تفاصيل تفسير هذا الحلم، وكيف سيتحرر انكيدو من الوحشية والبرية ليكون ذو حكمة ومدنية، وبعد موته يتبدل مفهوم الحكمة عند جلجامش، يكون الخلاص من الفناء ومشاركة الإلهة في الخلود والحياة الرفاهية، ومن هنا تبدأ رحلته إلى اوتنيشتم، ولم يترك درويش مفهوم الوحدة والانفرادية في مواجهة القدر المكتوب على البشر ـ الموت ـ بدون أن يذكره كما هو الحال في النص الملحمي " جلجامش أين تهيم على وجهك / ومن بعدك أنا سأطلق شعري / وأكسو جسمي بجلد الأسد / هائما في البراري " س ص173 وأيضا تحدثت الجدارية عن حمل ـ هم الموت ـ قدر المستطاع وحسب القوية والإرادة التي يتحملها الشاعر، فكما تعدى وتجاوز جلجامش الصعاب والمعيقات وحصل على مبتغاة، ثم فقدان هذا الشيء، جعله يعود إلى الحياة العادية ككل البشر، وينتظر القدر الذي كتب على البشر، فلم يكن لبشر أن يتجاوز الموت، وكأن الكلمات التي سمعها جلجامش من كل من شاهده ـ رجل العقرب، فتاة الحانة، اوشنابي الملاح، اوتبشتم وزوجته قول جلجامش بعد أن فقد العشبة، كلها تصب في الفكرة الأساسية ـ لا يمكن الخلاص من الموت ـ وحديث الجدارية عن تأنس انكيدو على يد البغي يضاف إلى التأثر والاقتباس المكشوف لدرويش وتأثره بالنص الملحمي " فتاة البهجة حررت ثديها، عدت صدرها / فقطف ثمرها / علمت الرجل الوحش وظيفة المرأة "ر ص33 و34 ونعتقد بان المسألة الوحيدة التي خرج منها الشاعر عن النص الملحمي هي اعتراف جلجلمش بذنبه عندما ساهم في ترويض انكيدو، فحسب النص الملحمي يرفض شمش لعنات انكيدو على البغي ويدعوه ليرضى عنها ويدعو لها ولا يدعو عليها، وهذا ما فعله انكيدو حين قال " ألا فلتتبوئي مكانتك الحق / ويحميك الملوك والأمراء والعظماء / وتهجر بسببك الزوجة ولو إما لسبعة "س ص165 و166 ولا نغفل بان الملحمة أخبرتنا بطريقة عرضها لحالة جلجامش الهائم في الفلاة، بأنه يحمل وزر موت انكيدو الذي أحبه . وجاء استخدام الجدارية للفظ ( شقيق الملاح ) موازيا للاستخدام الملحمي ( اورشنابي الملاح )، وبذلك تكون الجدارية وحسب اعتراف درويش فيها من المباشرة والوضوح، الشيء الكثير، وكانت الفقرات الأخيرة من الصفحة 84 وكأنها عين النصائح التي وجهت إلى جلجامش وخاصة تلك التي نطقت بها سيدوري فتاة الحانة ، وأخيرا وقبل الانتهاء من هذا التلاحم ما بين الملحمة والجدارية، نعترف بان هذا العمل من الإعمال التي تجذب القارئ إليها وتشده بقوة، ليمسي من الحالمين في هذا الزمن الرديء، وهي من الإعمال التي تقرأ أكثر من مرة ويستحب قراءتها بين فترة وأخرى . رائد الحواري
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسائل لم تصل بعد
-
أتذكر السياب
-
رواية الخواص
-
أدب القذارة
-
لينين القائد
-
حكايات العم اوهان
-
اتشيخوف ونقد المجتمع
-
الراوي وأحداث قصة الأم
-
سلام على الغائبين
-
غوركى بين الفرد والمجتمع
-
ماذا يحدث في سوريا
-
قصر رغدان والقمع الادبي
-
مريم الحكايا
-
شوقي البغدادي
-
قارب الزمن الثقيل
-
أخطاء الماضي والحاضر
-
الذاكرة الخصبة
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|