|
حوار مع الشاعر عبد الكريم كاصد
كريم عباس زامل
الحوار المتمدن-العدد: 1137 - 2005 / 3 / 14 - 10:23
المحور:
الادب والفن
الشـــاعر العـراقي عبد الكريم كاصـد
محتفياً بالهامش والمنتبذ والعابر لأنه الأبقى
حاوره الكاتب والناقد العراقي كريم عـبـاس زامــل ............................................................................................................
(يزيّن البعضُ رأسَهُ بالتيجان والبعضُ بالعمائم أمّا أنا فما يعوزني فضلةٌ من قماش لأعصّب بها رأسي رأسي المكشوف أبداً للآلام) منذ "النقر على أبواب الطفولة" 1978 الذي سبقته "الحقائب" 1975 والطبعة الثانية 1976 الحقائب التي ستأخذ عبد الكريم كاصد من البصرة ثانية ولكنها هذه المرّة صرّة ثياب وزاد طريق موحشة سيسلكها الشاعر على جمل لينأى برأسه بعيداً عن حراب القتلة سنة 1978، تلتها "الشاهدة" 1981 ثم "وردة البيكاجي" 1983 ذلك النزل الذي سكنه عراقيون، منفيون في جنوب اليمن. من البصرة إذاً عبر الكويت الى اليمن ثم دمشق!، يالها من نزهة "نزهة الألام" 1990 الى "سراباد" 1997 عبر "دقات لا يبلغها الضوء" 1998 فـ "قفا نبك"ِ 2003 و"زهيريات" 2005 للشاعر أيضاً: مجموعة قصصية 2005 ، وتحت الطبع "من حديث الحيوان" قصص للأطفال، "هجاء الحجر ومديح الطريق"، مجموعة شــعرية، "أحوال ومقامات" (كتاب نثري)، "نكهة الجبل" مجموعة شعرية مترجمة. من أهم ترجماته عن الفرنسية : كلمات لجاك بريفير 1981 أناباز لسان جون بيرس 1987 قصاصات ليانيس ريتسوس 1987 @@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
في البداية لابدّ من وضع أسس لحوارنا الذي لا نريده تقليدياً فمن أين إذن سنبدأ ؟ لتكن بدايات الشاعر الأولى وبإيجاز أهم المحطات وأهم ما تأثر به الشاعر عبدالكريم كاصد.
حين تحضرني البدايات الآن تبدو وكأنها عالم سحري غائم بعيد ... عالم من الصعب الإمساك به تتداخل فيه الوجوه والأسماء ورائحة الكتب القديمة والأسواق وزحمة البشر والمكتبات والأغلفة الملونة الساحرة. أسماء تظهر وأخرى تختفي .. أحياء وموتى وعالم يأتلف فيه كل شئ : حكايات ألف ليلة وليلة التي كان يرويها خالي موزان وهو مسنلقٍ على سرير مرضه الذي نتحلق حوله مبهورين ... عبدالرزاق الديوان الذي كان يروي أحداث الحرب العالمية الثانية بتفصيل دقيق يقطع الأنفاس ... مطبوعات كتابي وسلسلة كتابي والكتاب الفضي والمجلات العربية ولبنان وشعراؤه: إلياس أبو شبكة ، سعيد عقل ، بشارة الخوري ... مجلة الآداب ، الثقافة ... إلخ . كلّ هذه المصادر كنا نلتهمها إضافة إلى كتب المغامرات والجريمة التي كان يعيرها لنا صديق يهوديّ ما زلت أذكر اسمه هو ( فيكتور منشي ) لنقرأها ولاسيما تلك الكتب التي كان أبطالها ( ملتون توب ) و ( جونسون ) ... ثم تشعبت طرق المعرفة كما تتشعب الدروب في غابة لتلتقي وتفترق هنا أو هناك ومعها تشعبت طرق الحياة . وفي الوقت الذي كانت فيه طرق المعرفة تتسع كانت طرق الحياة تضيق ... لقد أصبحت طرق الغابة نزهة ومسالك واضحة ، بينما أضحت طرق الحياة مسالك وعرة وغابة كثيفة... اختفاء بعد انقلاب 1963 ورحيل ثم عودة إلى العراق ثم رحيل وفي 1978 اختفاء جديد عبر الصحراء على جمل لمدة سبعة أيام في الصحراء ثم هروب بصحبة عشرين هارباً محشورين في تنكر ماء وتوقيف في الكويت ورحيل إلى عدن:
أكان الرحيل إلى عدنٍ دورةَ البحر؟(كالأشنات تقاذفنا الموج ...) نهبط في غرفٍ ونغادر، توقفنا زرقةٌ في الشبابيك، أغربةٌ تتنزّه وسط المدينة، رائحةٌ في زقاقٍ قديم، حوانيتُ تقطر بالزيت، شمسٌ تدحرج أحجارها وهي تنزفُ حمراءَ، لمعةُ ثوبٍ، ونافذةٌ تتوهّج في الليل يحجبها جبلٌ مظلمُ الشرفات ... ورامبو يدور ببركانه العدنيّ.. وقد ينطوي بين أشيائه دائراً في المساء.. وقد لا يرى بحرَهُ مثل ساريةٍ مائلاً للرحيل ورامبو النهارات ممزوجةٌ بالظلام، دمٌ فاترٌ، مطرٌ يتساقط أسودَ فوق المراكب.. رامبو ارتحالٌ وحيدٌ على جملٍ، خفقُ أشرعةٍ تتفتّح في زهرةٍ.. من رأى الأبديّة في الماء.. في حبّة الرمل...؟ رامبو النهايات برقٌ توهّج عبر الفصول...
( من قصيدة البركان العدنيّ المهداة إلى رامبو)
ثمّ رحيل آخر إلى دمشق وبيروت وموسكو ومرض أوشكت أن أفقد فيه بصري ، ثمّ رحيل ثالث وعاشر إلى لندن وكأنها نهاية الرحلات التي أودعتها أعزّ ما عندي لأدخل طرقاً لا عهد لي بها من قبل ... طرق الأبدية حيث الرحيل لا عودة منه ولا رحيل إليه ... فجأة أجدني مأسوراً للمكان مقيما فيه أنا العابر دوماً ... لقد صار لي في هذه الأرض بيت لا يستبدل أبداً : قبر زوجتي ؟ فهل هناك من يفارق قبره ؟
في داخل صهريجٍ تحت الأرض سأجلسُ علّكِ تأتين فيجرفنا الماء إلى البحر خفيفَيْن تقولين: "ألا تأتي!" وأقول:"ألا تأتين!" ويجرفنا الماء سعيدَيْن في الظُلمةِ حيث الضوءُ بعيدٌ والناس بعيدون - ألا تسمعُ صوتَ الرعد؟ - متى تتوقّفُ هذي الأمطار؟ البحرُ قريبٌ - هل تأتين؟ - ألا تأتي؟ وننام هنالك في الظلمة ملتصقَيْن
( مياه في أعماق المدينة ) ديوانك الأول الحقائب بطبعته الصغيرة والأخرى التي أصدرتها مطبعة الأديب ما يشكل هذا العمل بالنسبة لعبدالكريم كاصد؟ أرجو أن تعطينا انطباعاتك على هذا الديوان . لم يستقبل ديوان لي مثلما استقبل ( الحقائب ) لقد طبع أول مرة في دار العودة في لبنان عام 1977 وبذلك تهيأت له فرصة توزيع نادرة لم تتوفر لدواويني الأخرى باستثناء ديوان ( الشاهدة ) . كنت في العراق آنذاك وكنت أفاجأ بين حين وآخر بكتابات عن الديوان بالغة الحماس وأتذكر من بين عناوينها الكثيرة هذا العنوان ( صوت غريب يطلع من الحقائب ) . لقد احتوي قصائد من أفضل ما كتبت ( الحقائب ) ( الغرف ) ( ثلاثية السفر ) ولاسيما ( الغرف ) التي أثارت اهتمام نقاد وشعراء عديدين . وحين نشرت هذه القصيدة أول مرة في جريدة ( طريق الشعب ) العراقية سنة 1973 فاجأني أحد الجالسين في المقهى أنه بكى عند قراءتها ... قد يقول قارئ عن هذه القصيدة جيدة أو غير جيدة ، وقد يخطئ أو يصيب ، ولكنه لن يخطئ أبداً حين يقول إنه (بكى ) . وأقول لك الحقيقة أنه فاجأني لأنني لم أتوقع أن يبكي أحد لقصيدة كقصيدة الغرف المتميزة بتركيبها وتردد قافيتها الواحدة ( الغرف ) طوال القصيدة دون أن ترد فيها لفظة أخرى وانتقالها، في هامش القصيدة ، إلى أول السطر، وهذا ما يمكن أن يقال عن ( الحقائب ) :
غرفٌ للمياهْ غرفٌ للمنازل تهبط عاريةً غرفٌ للأسرّة تصهلُ مربوطةً في الغرف غرفٌ ترتجفْ غرفٌ للمجاذيب يبكون فوق القوارب مرسومةً في الجدار غرفٌ للصغار غرفٌ للجنود المصابين واليطقات غرفٌ للمساجين والأمهات غرفٌ للمواخير مفتوحةً للدخول غرفٌ للعصافير تسكن أعشاشها في السقوفْ غرفٌ للوقوفْ غرفٌ للهياكل مشدودةً للمراوحْ غرفٌ للمذابحْ غرفٌ للعويل غرفٌ للمهاجر يُسندُ أحزانَهُ لرصيف
مائلٌ ظهرُك المستقيم..
أما القصيدة الرئيسية ( الحقائب ) فإنها وليدة حدث هو على شئ من الغرابة : حين قدمت من الجزائر إلى باريس للمرة الثانية أو الثالثة، سنة 1972 أودعت حقيبتي في مخزن المحفوظات في محطة ولم أحمل إلا ما خفّ إلى الفندق : لا أدري لم ؟ مجرد غفلة أو نسيان أو لا مبالاة وأهملتها هناك إذ لم أرجع إليها إلا بعد فترة طويلة وقد غمرتني مباهج باريس اليومية ، فلم أعد أفكر بحقيبة ولا بما سأدفعه من مبلغ كبير لقاء إيداعها إذ جرت العادة في المحطات أن يودع المسافر حقيبته ليوم أو يومين، أما أن يودعها لفترة تقرب من الشهر فهذا ما لا يطرأ لذهن إنسان إلا عند الضرورة القصوى ، وقد فوجئت حين عدت لاستردادها إنها تكاد تختفي تحت طبقة كثيفة من الغبار ولم يخف الناس نظراتهم المتسائلة إليّ وهم يرون إلى حقيبتي وهي مغطاة بالغبار ، وإلى يدي وهي تسلم المبلغ الذي لا مبرر لدفعه في الأحوال الاعتيادية . ثمّ صحبتني هذه الحقيبة والحقائب الأخرى في عودتي إلى العراق وكنت أتطلع إليها وهي تتنقل معي من محطة إلى أخري ، مثلما أتطلع إلى إنسان عزيز يرافقني. هذا الديوان من أحب الدواوين إلى نفسي . إنه ديواني الأول وخلاصة عمر كامل ... انتقيته من بين عشرات القصائد التي كتبتها و أهملتها في ما بعد. وإذا أردت انطباعي في ماعدا هاتين القصيدتين فإن ذلك قد يستغرق صفحات عديدة ولكن أود أن أشير إلى قصيدة صغيرة لكي أدلل على الصنعة الخفية في هذا الديوان . هذه القصيدة هي ( آلام ) :
كوني عاقلة يا آلامي الليلة أوجس ريحْ وأحس نمالاً فوق عظامي اصغي ... أسمع وقع خطىً في الرمل تسير وئيدا
أبوابي مغلقةٌ والخيلُ تمرّ ظماء وشتاءُ العام تقضّى ثم تلاه شتاء لا لفمٍ جمّعت ولا لعيال لكن .. من أودعك الليلة هذي الأسمال ؟ من أشعل هذي النار ...؟ وكسّر في كفيك الخبز لا تقسي يا آلامي رأسي يهتزّ رأسي فوق النار صفيح من منكم ينقر يا أحبابي؟
في هذه القصيدة ثمة استعارة من بودلير ( كوني عاقلة يا آلامي ) ومن القرآن ( أوجس ريح ) و ( شتاء العام تقضّى ثم تلاه شتاء ) وأسلوب مستعار من مهيار الديلمى ( لا لفمٍ جمّعتُ ولا ولعيال ) في قصيدته التي يرثي فيها الشريف الرضيّ ( أقريش لا لفمٍ بقيت ولا يدِ فتواكلي غاض الندى وخلا الندي ) وهذا من أجمل المطالع التي قرأتها في الشعر العربي ، و قل مثل ذلك في أبياتها الأخرى من دلالات وإشارات إلى قصائد ( ما للجمال مشيها وئيدا ) وتراث وحكايات فولكلورية وضربة أخيرة تختلط فيها الأحاسيس فلا تدري أهو النقر فوق الباب أم هو النقر فوق الصفيح ؟ ولعل في اختفاء القافية في (ريح) ثم ظهورها فجاةً في البيت ماقبل الأخير وتكرار الحروف المهموسة ذاتها في البيتين ما يستحق الوقوف ربما. حين أعطيت هذي القصيدة إلى البريكان لينشرها في مجلة الفكر الحي مع قصيدة أخرى لينشر إحداهما كان رأسه يهتز مع نهاية القصيدة مهمهما كعادته التي أعرف طربه من خلالها .
النقر على أبواب الطفولة وقصائد الرثاء التي نشرتها في جريدة الفكر الجديد ترى ماذا قدم الشاعر في الثمانينات والسبعينات وبداية القرن الجديد ؟ أرجو أن تعطينا شهادتك الشعرية ولو بإيجاز .
النقر على أبواب الطفولة هو ديوان الطفل الذي ما زال مقيماً في داخلي ولا يغادرني ... الطفل الذي ما زال يقودني إلى مسالك أجهلها ولا أدري ماذا سيحل به حين أتوقف فلا أقوى على السير ثانيةً؟ في هذه المجموعة حاولت أن أمنح الكلمات ثقل الواقع والواقع خفة الكلمات فلا ماضٍ هناك ولا آتٍ بل حضور دائم ومرآة لا تعكس صورة، بل تنفتح على عالمٍ سحريّ يدخله الطفل ولايخرج منه أبداً منخطفا بتفصيلاته كما في ( انخطفات ألف ليلة وليلة) :
أنين المراكب في البحر تغريدة السندباد الشجية في قفص الطير قرعُ الطبول الخفيّة تهويمةُ الطير والخاتم الذهبيّ عصا الطفل ملتحياً يلبس الطيلسان قميصُ الصبية يرفعه النوم ارخاءة الستر محتشداً بالطواويس رقص القرود الخفيفة خضراء تحمرّ عند انطفاء القناديل وجه الصبية تبكي على شرفةٍ من ضياء
وهو حتى في تفاصيله الواقعية لا يخلو من حدثٍ سحريّ :
يغيب الأهل فيرقص في الظلال الصمت وتخرج من ظلام الحائط المشقوق .. أفعى البيت تهزّ الطفل
فإن، لم يكن هذا الحدث فثمة ما يعادله : سؤال يجعل المألوف غريباً :
أركض حين يجئ الناس محتشدين أمام الواجهة المفروشة بالقنفات أهرع مسحوراً بين السيارات أحمل كرسيّا ومصابيح ملونة للزينة ... لكني أخشى لمس مخدّات الأعراس وأخاف النسوة .. أسأل أحيانا : هل يتزوج هذي الأيام الناس
وقد تكون مفاصل الواقع ذاتها سحرية وأن بدت في مظهرها أشد واقعية ً :
من بين كلّ العباءات المنحنية على الصناديق تنهض عباءة في الليل بعيداً عن النيران الموشكة على النباح والقناطر المهتزة تحت الأقدام يتبعها جسد تنطبق عليه في الظلمة .. ويغوصان معاً في قاع النهر اليابس بين الحلفاء
وحين يلتبس الواقع بالوهم يتقدم الوهم في هيئة الواقع حتى يصبح التمييز بينهما محالاً :
عند الظهر حملوه بلا كفنٍ أو تابوت صوب التلّ تركوه وحيداً تحت تراب القبر يبكي ... يبكي ... حتى يدركه الليل فتضئ الشامة في خدّه ثمّ يموت
ومثلما للوهم انخطافاته للواقع انخطافاته أيضاً:
ضجيج الزنابير صفراء نار الكلاب المغيرة في الليل خفق العباءات بين الطوابير دقّ المسامير بكماء مدّ القناطر بين القوارب والجرف عوم الفوانيس في الماء ضوضاء نوح الجراديغ وسط الضجيج
وهكذا مجموعة لكلماتها ثقل الواقع ولواقعها خفة الكلمات فهل هي ماضٍ حقّاً ؟ أما قصائد الرثاء التي نشرتها مجلة ( الفكر الجديد) العراقية الصادرة في السبعينات وضمها ديوان الشاهدة فهي قصائد الواقع الذي يتقدم بغرائبيته دوماً دون أن يتخلى - إذا شئت – عن واقعيته أبداً :
كالخضر انطلق منتعلاً خفين مثيراً سحابات غبارٍ صغيرة وانكفأ عائداً بجنازة صديق حتّى إذا بلغ نخلةً ونساءً يبكين في الطريق حمل الجنازتين وأقبل .. ففزع الناس من السرادق ، وظنّوه ميّتاً ولم يصدّقوا
إنها قصائد النثر التي كتبتها في السبعينا ت بالضد مما ساد ويسود الآن في كتابة قصائد النثر من تداعيات، وفوضى ، وغياب للموضوع والذات معاً. هذه القصائد والقصائد الأخرى المنشورة في ( النقر على أبواب الطفولة ) تحت عنوان ( قوارب ) هي من تجاربي التي ترسخت في هذا النمط من الكتابة الذي بدأته منذ أواخر الستينات ونشرت جزءا منه في الحقائب وهذا نموذج منه :
سآتيك لا لكي أراك ، بل لكي تريني صامتاً مطرقاً تملؤني عيناك .. كما لو أنني فراغ
***
أنا الشجره تهزُّ ريحك
***
يعكس الصمت وجهك مثل الزجاج
***
أنت تجعلين أشيائي الصامتة تتحرك ولكن لماذا .. لماذا حين تنطقين أبصر الصمت بين كلماتك ؟
***
نحن لا نتلاقى بل نتقاطع مخترقين بعضنا بعضا
أما تجاربي في الثمانينات والتسعينات وبداية القرن الجديد فمن الصعب الحديث عنها ، في هذه العجالة ، لأنها تمتد ربع قرن تقريبا بعد تجاربي الأولى التي استغرقت ما يقرب من عشرين سنة.
في رحيل 78 عبر بادية السماوة هل فعلاً شعرت بالندم وهل فعلاً وقتها تذكرت رواية ( رجال تحت الشمس ) فندمت ؟ ترى ما هي ذكرياتك عن تلك المرحلة المريرة مع الشاعر مهدي محمد علي وماهو رأيك بما كتبت وكتب مهدي عن هذه الرحلة ؟
نعم ندمت حين أمرنا أن ندخل تنكر الماء لنتكدس أكثر من عشرين هارباً ، بعضنا فوق بعض ، مبقعين بالماء والرمل ، بعد رحلة دامت سبعة أيام في الصحراء ، في قافلةٍ صغيرة من ثمانية أشخاص ( سياسيان واثنان هاربان من العسكرية وأربعة مهربين ) ، وستة جمال . هربا من الهجمة البربرية التي شنها النظام السابق على من يخالفه من الناس سنة 1978. اختنق اثنان منا وكادا أن يفارقا الحياة لولا أن نسحبهما إلى السقف ليستنشقا الهواء . كنا على مقربة من أحد المخافر ، معرضين للرصد. لقد نجونا بإعجوبةٍ . أترك ما كتبته عن الرحلة وما كتبه أخي الشاعر مهدي محمد علي لتقييم القارئ ولكني أود هنا أن أورد نصاً عن الرحلة في كتاب سيصدر لي هذه السنة عنوانه ( أحوال ومقامات ) استجابة لطلبك أن أسرد شيئاً من ذكرياتي عن هذه الرحلة التي لخصت عذابي فيها بهذين البيتين :
رحل الأعراب وبقيت وحيداً في القفر أدقّ بلا أبواب
النص :
مارواه فردان عن هربه عام 1978 عبر الصحراء
قبل أن يرتدي الليل شملته سبقتنا الجمال وعبرنا القرى كان نجم القرى نائياً فعزمنا الرحيل وانحدرنا مع النجم قلتُ: إذن هكذا صرةٌ ومتاع قليل (من قصيدة الرحيل عبر بادية السماوة )
كنا ثمانية ... تقدّمتنا الجمال في ليلة لن أنسى صحوها الذي كاد يمطر – كما يقول الطائيّ أبو تمّام – ولمعان نجومها ، وظلالنا الهائلة التي امتدّت حتّى السماء، كأنّنا جزء من كونٍ ليليّ أبيض اشتدّ لمعانه مع اشتداد أملنا بالخلاص . وبعد مسيرة مرهقة على الأقدام اعتلينا جمالنا ثمّ نزلنا وأشعلنا ناراً من الغضا لم تنطفئ ، ولكنها لم تحمنا تماماً من البرد . كان البرد يهجم علينا كالذئاب ويرتدّ ، إلى أن أطلقت الشمس سهامها النارية الحادّة فأيقظتنا . كلما سألنا عن الوصول قالوا لنا " شمرة عصا " ، غير أن شمرة العصا استغرقت أياماً وليالي سبعاً في أرض خلاء لا أثر فيها لإنسان وليس فيها من الشواهد غير آثار حيوانات مرّت : خيول ، ذئاب ، أغنام ، وهذا أثر لصبيّ ... أين ترى غادر ؟ آثار تحيط بنا .. آثار فوقنا بيضاء يطبعها الليل نجوماً في سماء الصحراء. ولكن أغرب الشواهد هي الجراء التي صادفتنا في الطريق ... ثلاثة جراء لن أنساها ما حييت واقفة بانكسار وهي تتأمل موكبنا يمرّ .... من أين جاءت ؟ وأين ستذهب ؟ وماذا سيحل بها أو بنا؟ أما الشاهد الذي يسخر من كلّ ما اعتدناه من كتبٍ وأفلامٍ وخطبٍ فهو ذلك البدويّ الذي أقبل نحونا قادماً من الخلاء ليذهب إلى الخلاء وكأنه سهمٌ يخترق الأبدية .
جاءنا يعلو فرساً ليهبط منها وهو يحدّق مذهولاً في الخبز الذي أولمناه إياه ، والذي لا نملك سواه ، بعد هذه الرحلة الطويلة ، آتياً على الفتات . لم أعرف من قبل طرب الجمال إلاّ في الشعر ، أمّا سرعتها فلم أصدّق بها حتّى كادت تطير بي في الليل وهي تستروح الماء على بعد أميالٍ وأميال. يا إلهي أية غرائب في الطبيعة ! وأية مخلوقات تألفنا ونألفها ! في اليوم الثالث اجتزنا أرضاً بوراً بيضاء من الملح فكادت تنزلق بنا الجمال ... أرض اشدّ وحشة من رمل الصحراء. ولكن فجأة يمرق أرنب بريّ ذو أذنين حمراوين كأنه يحمل ناراً في هذه الصحراء . في مسائها الموحش. ويختفي فجأةً وإذ نجتاز صحراء الملح هذه ، تنفتح سماء أخرى أرض أخرى بركة ماء ونخلةٌ وحيدةٌ مكتظةٌ بالفسائل. ذهب مهديّ إلى البركة فجاء بماء في إناء تملأه الديدان ، وحين أراها لأحدنا تناول هذا الإناء وشربه دفعةً واحدةً وسط ذهول مهدي الحائر.
في اليوم الرابع لاحت لنا خيمتان فاشترينا شاةً فكانت الوليمة التي لا تعدلها وليمة من قبل ، وربّما من بعد . في تلك الليلة سمرنا ودارت بنا القصص في تلك الصحراء ولعلها ما زالت تدور بي كلّما تذكّرت أولئك الناس وأقاصيصهم عن مغامراتهم العجيبة ، وبراعتهم في القص ، وتكرار جملٍ وعبارات تتخلّلها ألفاظ عاشت قبل أكثر من ألف سنةٍ واندثرت ولكنّها لم تندثر في الصحراء . لم أصدّق أن مفردات أمرئ القيس وعنترة ولبيد وطرفة ما زالت تسري في أفواه هؤلاء المهربين الشعراء العشّاق الذين لم يشعروني أبداً بمعرفتهم بهويتي ، وكلّ ما قالوه " إذا ما داهمتنا دوريّات الصحراء فاختفيا أنتما حتّى نلحق بكما في اليوم التالي بعد أن نكون قد سوّينا أمرنا مع شرطة الصحراء " . ولم يكن توقّعهم تطيّراً فقد صادفتنا أكثر من مرّةٍ هذه الدوريات ، ولكن أخطرها كان ذلك الضوء الذي أخذ يقترب منّا شيئا فشيئا. كنّا في أرضٍ منخفضةٍ وكان الضوء يبدو وكأنّه قادمٌ من علٍ فارتعبت الجمال ، واستطعنا الهبوط منها إلاّ جملاً كان يركبه واحدٌ من المهربين فقد فرّ مذعوراً.
لحقتُ به وأوقفته , فدهشوا وظنّوا ذلك شجاعةً منّي ولم يدركوا أن جهلي بعواقب الأمور هو الذي ساقني إلى هذه المبادرة التي كادت تودي بحياتي ، فقد يقتلني الجمل في موقف كهذا . حبسنا أنفاسنا ، وصمتت الجمال بعد ذعرٍ ، وعادت رجرجةُ الماء في الرحال ، فحسبتُ الجمال وكأنها تخوض في مياه على الأرض ، وبدأ الحصى يتطاير تحت أخفاف الجمال ويرمي شجيرات الغضا التي تصادفنا في الطريق ، فيقلق نوم القطا الذي يفرّ مذعوراً في الليل .
في اليوم الخامس وصلنا غابةً من أشجار الغضا ، والتقينا هناك بقافلةٍ تضمّ مهربين وهاربين أيضاً ، بينهم عرب فلسطينيون وسوريون ، ينتظرون ما يقلّهم إلى الأرض الموعودة . كنّا نسمر في المساء ، ونشعل نيراننا التي تكاد تلامس سقف السماء .. وحين أبدينا خشيتنا من هذه النار الهائلة قيل لنا إننا في منخفض وإنّ الدوريّات لا يمكنها رؤية هذه النار.
وفي اليوم السابع تركنا وراءنا الجمال يحرسها بعض المهربين من القافلتين . سينتظر هؤلاء عودة زملائهم محمّلين بالبضائع من الكويت . تركنا وراءنا الغابة وانتشرنا خلف شجيرات منثورة هنا وهناك لئلاّ تلمحنا الدوريّات إذا باغتتنا وحين قدم ( خزّان الماء ) الذي سيحملنا جميعاً تقدّمنا منه كما تتقدّم الضحايا في الطقوس إلى الموت . تكدّسنا عشرين شخصاً ، بعضنا فوق بعض ، في رحلةٍ رهيبةٍ استغرقت خمس ساعات . توقّفنا خلالها مرّةً واحدةً حين أوشك اثنان منّا على الاختناق فاضطررنا إلى سحبهما إلى سقف الخزّان وتمديدهما فوقه ليستنشقا الهواء. كان هذا المشهد ، لسوء الحظ ، يجري على مقربةٍ من مخفر من مخافر الحدود ولكنّنا نجونا .
قذفنا خزّان الماء كما يقذف حوت ضحاياه ، في أرضٍ قصيّةٍ ليس فيها غير بيوت لم يكتمل بناؤها بعد . قفزنا كالخراف في اتجاهات شتّى مبقّعين بالرمل والماء ، نقف على الطريق الإسفلتيّ العام بانتظار الباصات العابرة لتوصلنا ...أين ؟
ترى هل تشكل سلطة النقد سلطة قاهرة تى أن تلوي سلفاً عنق النص لتدخله في متاهات يختارها الناقد سلفاً أم إنه خطاب إبداعي يضاف إلى النص ليجعله أكثر بهاءاً ويضئ مداخل النص للمتلقي أم إنه يقوده عبر مستويات وآلية القراءات المتعددة إلى تأويل قد يلغي النص ؟ ماذا أنت المتابع الجاد منذ السبعينات لمدارس النقد الأدبي الغربي الجديدة ومن خلال معايشتك الطويلة له؟
لا يمكن لأي نقد أو سلطة مهما كانت منزلتهما أن يلويا عنق النص الإبداعي، لأنّ للنص حياته وحركته التي لا تتوقف أبداً ، رغم ارتباطه اللصيق بمكانه وزمنه المحددين . ثمة علاقات تتجدّد فتضئ النص مثلما يضيئها النص ... علاقات هي أعقد وأوسع من أيّ نقدٍ أو سلطةٍ محددتين . أما النقد الذي يتعامل مع النص باعتباره بنية أو نظاماً مغلقاً فهو بنفيه للذات والموضوع معاً ينفي النص ذاته ... أي يفرغه من محتواه بتعليقه الذات والواقع خارج النص . وعندما يصبح الانشغال باللغة بديلاً للاثنين تكشف الحداثة عن لعبتها ووجهها التقليديّ الآخر الذي لم يكن شاغله سوى اللغة ... أليست اللغة وحدها هي شاغل التقليديين من الأدباء والنقاد في تراثنا على الأقل ؟ أليس نفي الذات نفي لجوهر الحداثة المتمثل بالفرد ... وتجريده أليس نفياً لانسانيته أيضاً ؟ وأين المعرفة إذن من بنية النص ؟ وبعد هذا وذاك أين هم نقاد الحداثة وما بعد الحداثة في نقدنا العربي لنتحدث عن هن هذا النقد بملموسية لا بتجريد لن يقودنا إلى حقيقة ما ؟ أين هي نصوصهم البنيوية لنتحدث عنها ؟ ثمة دراسات تستعير بعض المقولات لدراسة نص ما ولكنها تساوي بين النص الإبداعي وغير الإبداعيّ لذلك ترى نصاً ميتا ومقولات مرتبكة ليس فيها وهج إبداعٍ أبداً ، وبدلاً أن يكتفي الناقد العربي بتحليل بنية هذا النص نراه سرعان ما يسقط في التقييم وبذلك يفارق منهجه نفسه الذي ينبغي أن يكتفي بتحليل البنية وحدودها. وبعد هذا وذاك ما فائدة نص نقديّ يخلو، رغم ادعائه بالعلمية ، من (لذة النص ) التي يتحدث عنها ( رولان بارت ) ؟
الفلسفة الماركسية إلى أي حد قرأتها ؟ هل قرأت رأس المال والأيديولوجيا الألمانية أم كيف قرأتها ؟ سعدي يوسف قرأها في الفانوس يهتز ضئيلا وفي قصيدته ( الأول من أيار ) وفي نجمة سبارتكوس ونحن لم نحتكم وقصائد إلى لينين ترى هل أن الشاعر عبدالكريم كاصد له رؤية خاصة في قراءته المتعددة للخطاب الماركسي وماهو رأيك بإعادة قراءة الماركسية وفق متغيرات عصر العولمة ؟
قرأت المجلد الأول من رأس المال قبل أكثر من ثلاثين سنة في طبعة دار اليقظة وما أدهشني فيه هو قدرة ماركس على تجريد الوقائع الملموسة، دون أن يغادر هذه الوقائع إلى بناء نظام فلسفيّ مفارق بمقولاته وتجريداته. وهو في هذا الجانب شبيه ربّما بأفلاطون الذي جاء نظامه الفلسفيّ عبر الحوارات والتمثيل ، والقديس أوغسطين الذي لم يترك نظاما فلسفيا مجرداً بل اعترافات ونصوصاً احتوت على نظامه الفلسفيّ . وأعتقد أن أن من يريد أن يكتشف ماركس وديالكتيكه لن يجدهما من خلال المقولات المجردة التي خلّفها وراءه بل عبر المادة الهائلة التي تركها والتي احتوت خلف ملموسيتها وصلابتها فكره المرن ذا القدرة التجريدية الهائلة ، دون أن يكون مجرّداً أبداً . لقد اشترع ماركس طرقاً للتفكير لا مقولاتٍ مجردة ميتة سرعان ما ابتذلتها الأدبيات الماركسية المبسطة لبعض الأحزاب والفكر الشيوعي الرسميّ . وأعتقد أنه من الصعب فهم ماركس ومنطقه دون فهم فلسفة هيجل ومنطقه بالذات ... مثلما يصعب فهم دفاتر فلسفية لـ ( لنين) لأنه يحيل دوماً إلى منطق هيجل ، ومن حسن الحظ أنه أتيح لي الاطلاع على منطق هيجل ملخصاً ومشروحاً في آن واحد، من قبل بعض الكتاب الفرنسيين مترجما إلى العربية ، في ملازم دراسية ، من قبل الدكتور بديع الكسم في جامعة دمشق عندما كنت طالباً فيها ... وقد ساعدني ذلك في فهم المجلد الأول من رأس المال ودفاتر فلسفية أيضاً . أما كتاب ( الأيديولوجيا الألمانية ) فهو أيضا من الكتب الأساسية لماركس حول مراحل التطور التاريخي وتقسيم العمل الاجتماعي المتطابقة مع أشكال الملكية المختلفة . لكن من الصعب أن نقول بإعادة قراءة الماركسية لأن قراءة الماركسية لم تتوقف يوماً . لقد أشار مفكرون ماركسيون كثيرون إلى فقر معلومات ماركس حول المراحل التاريخية الأولى ولاسيما المشاعية البدائية كما تمت مناقشة المراحل التاريخية وتعاقبها باستفاضة في الفكر الماركسي ، كذلك تمت الإشارة إلى إنّ التطور عند ماركس لم يكن خطاً صاعداً باتجاه يوتوبيا متخيلة بل تطوراً معقّداً شائكاً منذ كتاباته الأولى ومنها ( الأيديولوجيا الألمانية) . أما فكر ماركس الإنساني لا التخطيطي التي ادعته الأحزاب فقد تم التأكيد عليه في كتابات العديد من المفكرين الماركسيين الذي رفضوا أن يكون الفكر الماركسي تخطيطات مبسطة أو نزعة إنسانية تجسدت في كتاباته الأولى واختفت في كتبه الأخيرة، وهم بذلك وقفوا في وجه الأحزاب التخطيطية والمدارس التحديثية المفارقة لفكر ماركس في آن واحد ، وليست كتابات التوسر إلاً محاولة مبدعة لوضع ماركس في تطوره التاريخي الطبيعي كوريث للفكر الإنساني ، وإنني لأتذكرإشارته في كتابه (قراءة رأس المال) إلى إن ماركس لم يفعل سوى ملْ الفراغات التي وجدها في الفكر الاقتصادي الرأسمالي الذي قرأه واستوعبه جيداً ، ومن خلال فعله هذا استطاع أن يمد هذا الفكر بمحتوىً جديد. غير أنّ الفكر التبسيطيّ ينظر إلى قوانين الماركسية باعتبارها قوانين عامة ثابتة لا تتغير وكأنها قوانين للطبيعة لا للمجتمع الانساني المتحرك والذي قد يرتد في تطوره إلى الوراء في ظروفٍ تاريخية معينة باعتباره فعلاً إنسانياً لا قانوناً طبيعياً مجرداً وحتى قوانين الطبيعة هل تمّ اكتشافها جميعاً ؟ وتعقيباً على سؤالك، فأن الفكر الماركسي بصفته فكرا معنياً بالأساس بتحليل المجتمع الرأسمالي في مراحله العديدة ، يفترض به أن يكون أقدرمن غيره على رصد متغيرات العولمة، وتسليط الضوء على فكرة الديمقراطية التي حلت في الصدارة ، بديلا لفكرة الثورة في الفكر السياسيّ . وفي هذا الصدد ليس لي سوى تعليق بسيط على ما يمكن أن يجرنا إليه هذا السؤال الذي قد تخرج إجابته عن إطار حوارنا هذا هو أن التقدم لا يعني دائما احتواءه على قيم إنسانية وهذا ما يمكن قوله حتى في الفن أو نظريات الحداثة النقدية أو ما بعد الحداثة.
بمن تأثرت من الشعراء : امرئ القيس أم طرفة بن العبد . المتنبي أم أبو تمام ، الرصافي أم الزهاوي ، الجواهري أم السياب ؟ وما هو رأيك ببلند الحيدري والبياتي والبريكان وسعدي يوسف ؟
سؤال محتشد . أستطيع أن أقول إنني تأثرت بهؤلاء جمبعاً فأنا مازلت أقرأ أمرأ القيس وأخاطبه وأستعيد قوله ثانيةً وأردد مسحوراً كلامه بلغتي : كان من بين محاولاتي الأخيرة كتابة معلقة أمرئ القيس بلغة معاصرة وكنت في ذلك أقتفي آثار خطى الشعراء الإنجليز الذين أعادو كتابة قصائد شعراء الإغريق والرومان سأورد بعض أبياتها وهي من ديوان ( قفا نبك ):
قفا نبك من منزلٍ لحبيبٍ عفته الرياح وطافت بأرجائه الموحشات الظباء كأنيَ يومَ الرحيل لدى شجرِ الحيّ ناقفُ حنظلْ يقول صحابي: " تجملْ " وأنىّ ودمعي شفائي وهذي الديار أنيسي ** .... إن قلتُ هاتي امنحيني تمايلتِ بيضاء .. ضامرة الخصر هفهافةً ( يصمت الحجل حين تميلين ) مصقولة أنتِ عند الترائب كالدرّ أبيض أصفر غذّاك ماءٌ نميرٌ بلا كدرٍ وتصدّين عن عارضْ واضحٍ وتردّين عن ناظرٍ من نواظر وحشٍ بوجرةَ جيدك ، جيد المهاة ، هو الحَلْي دون حُلِيٍّ إذا ما برزتِ وشعرك عذقٌ تدلّى أثيث غدائره السود تتلعُ مثنىَ ومرسلْ وخصرك يا للطيف الجديل وساقك يا للنخيل المذلّل
أما المتنبي وأبو تمام فمن من الشعراء من تخلص من سحرهما ؟ وإذا استثنيت السياب والجواهري اللذين قرأتهما بإمعان وكتبتُ عنهما فإنّ ثمة محبة خاصة أحملها للرصافي زادتها قراءتي لكتابه ( السيرة المحمدية ) عمقاً واتساعاً . وأرى أنه من الشعراء الكبار الذين لم يدرسوا بعد وبقي النقد السائد عند حدود شعره المعروف بأغراضه المألوفة يجهل التماعاته النادرة :
فأنا اليوم كالسفينة تجري لا شراع لها ولا ملاّحُ
رجل قد تنكّب الحقّ قوساً ومن البطل ظلّ يرمي السهاما
ندموا فسمّيت الندامة عندهم عفوا وذلك منهم استكبار
لا يخدعنك هتاف القوم بالوطنِ فالقوم في السرّ غير القوم في العلن
وهذا البيت العميق في رثاء الزهاوي :
سوف أبكي عليك شجواً وإني كنت أبكيك في الحياة شجيّا
وغيرها من الأبيات والمقطوعات النادرة التي يحتويها ديوانه. أما رأيي بالشعراء الذين ذكرتهم فإنني كتبت عن البياتي دراسة لم تنشر بعد، كما كتبت عن البريكان إثر وفاته ولعلني سأكتب يوماً عن بلند الذي أحب من شعره مجموعتين هما ( أغاني المدينة الميتة ) و( خطوات في الغربة ) ، أما سعدي فهو الصوت العذب في شعرنا العراقيّ .
ما هو رأيك بالمعركة الدائرة الآن على إثر تصريح سعدي يوسف وأدعائه بأنه الشيوعي الأخير وهل إن سعدي يبدو هنا وقد دخل مرحلة خريف العمر وهل إنّ الردود التي انتقدته وخصوصاً إبراهيم أحمد تبدو قريبة من الواقع فالشيوعييون لا يحتاجون إلى نصائح سعدي التي حتما ستقودهم إلى المهالك ؟ ليس ثمة شيوعي أول ليكون ثمة شيوعي أخير وماهذا إلاّ سجال صحافيّ لا يعنيني كثيراً ، وما يعنيني هو الشعر والموقف الإنساني في هذه القضية أو تلك لا التجريد ولا المقولات الشائعة... كلنا ضد الاحتلال ولكننا نختلف في أساليب رفضنا لهذا الاحتلال . كلنا نتفق على ما يسمية أبو العلاء المعري ( المحال ) ونسميه نحن ( المجرد) أما ( التعيين ) أو ما يسميه أبو العلاء ( اليقين ) فهو الموقف الملموس مما يجري من جرائم باسم مقاومة المحتل : قطع رؤوس ، قتل أطفال ، خطف رهائن وتخريب متعمد لبنية البلد التحتية حيث تقدر الخسائر بالمليارات ... لمصلحة من يجري ذلك ولا سيما أن هناك مواثيق دولية تلزم المحتل بمغادرة العراق في نهاية 2005 بعد إقامة السلطة الشرعية والدستورالدائم ... إن عدم التنديد بهذا الجرائم لا يعني سوى الوقوف إلى جانب القاتل أي إلى جانب بعثيي النظام السابق والقوى الظلامية، وإمداد المحتل بالذرائع لتمديد فترة احتلاله وتثبيت وجوده العسكريّ بالاستزادة من قواته لاستتباب الأمن . ثمة أحزاب قاطعت الانتخابات وأعلنت رفضها لأي دستور دائم دون مغادرة المحتل ولكنها من جهة أخرى لاتزال مشاركة في السلطة .. لم يعد الأمر بهذه البساطة: أبيض أو أسود . لقد غدا الواقع معقدا شائكا ولا يكفي للشاعر اقناع الآخرين بشعره بل بحقيقته ... في إدراكه اللحظة التاريخية ليكون ضميراً لنفسه والناس إذا كان شيوعياً حقاً ، أما أن يكون متفرجاً ومباركا لقتلة رفاقه فهذا ما لا أتمناه لأحد ولاسيما لمبدع مثل سعدي يوسف . اليوم وأنا أجيبك عن أسئلتك تناهى إليّ خبر قتل صديقي عامل المطبعة الشيوعي هادي صالح الذي كان جاري في عدن . لم يكتف القتلة مقاومو الاحتلال ، كما يدعي شعراء الحداثة بنيس وأمثاله من الشعراء الرديئين شعراً ومواقف ، بقتله بل مثلوا بجثته وأحرقوها ، .فإذا كان الشيوعي الأخير يرى قتل رفاقه بعينيه ولا يدين القاتل فإنني لن أقول له سوى أنك الشيوعي الأخير حقا إذا كان الشيوعيّ يعني الصمت عن جرائم القتلة في ( زمن القتلة ) .
الشاعر عبدالكريم كاصد هل ظلمك النقد كما ظلم الكثيرين من الشعراء أم أنت راضٍ بما كتبه النقد عنك ؟
لم أكن في يوم من الأيام مرهوناً بنقد أو اتجاه شعريّ أو أدبيّ ولا بمؤسسة ما وما أكتبه لا ينتظر مكافأة .. ولاسيما أنني لست في سرب ولا في جوقةٍ . إنني قادم من الطرف الآخر للثقافة العربية السائدة منقباً لا ممجداً ... محتفيا بالهامش والمنتبذ والعابر لأنه الأبقى ، وما يراه غيرى راسخاً لا أراه إلا في موته كمن يرى موت الشجرة في البذرة ... شعراء كثيرون يُحتفى بهم كلّ يوم لا أراهم كذلك ليس لأنني على صواب ولا غيرى على خطأ بل لأنني أرى الأمور هكذا بمنظاري الخاص الذي تشكل عبر تجاربي وقراءاتي لكنني لا أعمم موقفي هذا ولن أقول رأيي على الورق إلا بعد تدقيق وتمحيص نائيا بنفسي عن التقييم المباشر ، تاركاً للقارئ استنتاجه الخاص وهذا ما فعلته في كتاباتي عن الشعراء : الجواهري ، السياب ، البياتي ، صلاح عبدالصبور ، أدونيس ، وغيرهم . ولا أعتقد أن مجتمات مضطربة تعمها الفوضى كمجتمعاتنا قادرة على إنصاف شعرائها وكتابها وعلمائها بعد أن أذلت إنسانها البسيط وأجاعته وجعلته يقيم في أدنى السلم الحضاريّ مسكوناً بالهواجس . لقد أصبح النقد في معظمه كالإعلام مشغولا بترتيب نفسه ... بالظاهر لا بالجوهر ... بالأسماء لا بالنتاج الثقافي ، وإلاّ فكيف تفسر كثرة الشعراء والكتاب ( الكبار ) في أدبنا . إنها ظاهرة كالظواهر الأخرى في مجتمعنا لا تعني شيئا ... إنها مجرد ألفاظ ... ألفاظ
لماذا أشهر المغنين أسوأهم جميعاً
***
الشعراء الكبار يأكلون الصغار ويتضورون جوعاً
هل يفكر الشاعر عبدالكريم كاصد بالعودة الآن إلى العراق ومن ثمّ إلى البصرة أم إنه اتخذ قراره النهائي بالاستقرار في لندن ؟
* كاصد : ليس ثمة قرار نهائي ولكن ذلك مرهون بظروف العراق المتغيرة ، وبظرفي الخاص الذي أصبح أكثر تعقيداً بعد رحيل زوجتي ، ومسؤوليتي عن طفلين لا أعتقد أن ظروف العراق الحالية تسمح لهما بالتنشئة الصحيحة وتوفر لهما ما يطمحان إليه .
ماذا تعني لك أيها الشاعر هذه العواصم : لندن ، باريس ، موسكو ، وهل زرتها زيارات طويلة ؟ إنني أعيش في لندن منذ أكثر من عشر سنوات وهي مدينة يمكن أن تسميها كوسموبوليتية بحق تحتوي أجناساً شتى وتتجاور فيها ثقافات مختلفة وتسمع فيها لغات غريبة . إنها بابل الحديثة بلا برج . إنها المكان الذي يبتعد بك عن وطنك ويقرّبه منك في وجه عابر أوحديث في مقهى أو شارع ... هنا الغرابة تمسي ألفة ، والأديان أرضية ، والمفاهيم ضوءاً ، ومنْ يريد أن يكون ظلاماً لا موقع له في أضواء حضارتها ... كلّ شئ تجده في مكانه وخارج مكانه أيضاً ، في طبيعته وشذوذه ، في غرابته وألفته ... أقوام تتقارب وتتباعد إلا إنها لا تتقابل أبداً وكأنها في نزاع أو هدنة . يمكنك أن تقترب من جارك حدّ الجسد ولكن يمكنك ألا تحيية دون أن يربكك هذا أو يربكه ... هنا القوانين لا تقال ولا تكتب . إنها تعاش كأنها طبع . في لندن يمكن للوقت أن يكون ساحة عريضة أو رأس دبوس : متاحف ومكتبات ومعاهد وسينمات ومسرح من كلّ لون .... وأشياء لا تخطر في بال أحدٍ . من أين لك العمر لتعيش كلّ ذلك . وحده الشعر له مكتباته الخاصة به المتوفرة للجميع مجانا والتي تحتوي على آلاف المجموعات الشعرية والدراسات عن الشعر هنا أقل الشعراء منزلة يحظى بعشرات الدراسات على نقيض ما يشاع عندنا عن موت الشعر في الغرب . مجلات لا عد لها مخصصة للشعر، دور نشر . وشعراء يجوبون المدارس الابتدائية لقراءة أشعارهم والحديث مع طلابها الصغار . وفي الوقت الذي تمتلئ مكتباتهم بكتب الشعر المخصصة للأطفال يفتقر أدبنا ، نحن أمة الشعر ، وأمة الشعراء الكبار الذين أصبحوا بعدد الحصى ، إلى ديوان شعر حقيقي مكتوب للأطفال ...( دلني على شعراء يكتبون للأطفال غير سليمان العيسى بأدواته الشعرية البسيطة وتفكيره القومي القاصر) ولكن هناك من جهة أخرى إعلام لا يستوقفه جوهر أو روح وحياة أخرى ومهرجون فالحياة هنا تتسع لكل شئ وتضيق بكل شئ . أما باريس فإنني لم أعد لها منذ ثلاثين عاماً ولا أدري لم لم أزرها كل هذه السنين رغم قربها ؟ هل لأنّ الحياة تستغرقني في لندن ؟ هل لأنني لم أعد ذلك الفتى المولع بالأسفار ؟ هل لأنني لا أريد أن أوقظ ما غفا سنينا مني في شوارعها ومقاهيها وحاناتها ... لا أدري حقا ... أما موسكو فقد ارتبطت بذاكرتي بالمرض والعزلة التي عشتهما أثناء مرضي ، حيث كدتُ أفقد بصري، قبل أن تلتحق بي زوجتي وطفلتي أيام كنت مقيماً في دمشق ولكن موسكو التي عانيت فيها العزلة والمرض هي موسكو الحبيبة ، موسكو الناس البسطاء الطيبين رغم مافياتها المخيفة ، وشرطتها الفظين ... كتبت عنها أجمل قصائدي التي سأورد منها هذه القصيدة (الصلب) وهي من مجموعة (نزهة الآلام) استوحيتُ فيها رواية (المعلم ومرغريتا) لبولغاكوف التي اتخذت من شارع أربات في موسكو مسرحاً لها، وشغلت قصة صلب المسيح جزءاً كبيراً منها، ولم يكن هذا الاستيحاء وليد رغبة معرفية، بل كان وليد ظرف خاص وجدتني فيه، مرة، سائراً في شارع (أربات)، أثناء استشفائي، وقد استحضرت عالم الرواية وكأنني أشهد صلب المسيح ثانيةً في عالم تتداعى أشياؤه حوالي وفي داخلي، فلم أعد أرى في حاضر أربات إلا طريق الجلجلة وهو يوصلني إلى هذا المشهد: عند اربات رأيت الله يدعوني فأقبلتُ عليه ثم لم أبصرهُ كان الورق اليابس يسّاقط والريح تمرّ وعلى الشارع بحرٌ هائجٌ من سَقَطِ الناس ومحكومون يمضون الى الصلب وجندٌ خائفون قلتُ لو كلمني الله لو انّ الشجر الصامت لم ينعق وهذي الشمس لم تدنُ من الارض وأربات بأحجاره لم يهرع إلى الصلب لو انّ الربّ أطرقت قليلا ثم ناديتُ على السائر خلف الموكب اللاهث في القيظ على السفح: “يهوذا أيها الخائن” فأرتجّ الصدى الغابر في الافق: “يهوذا..ا..ا..ا..ا..” كان رأسي حاسراً والناس يمضون بـ”أربات” وكان الشجر اليابس يسّاقط والريح تمرّ
الشعر / الفلسفة / السياسة / الغربة / صبخة العرب / السياب /البصرة ماذا تعني كلّ هذه الكلمات للشاعر كريم كاصد؟ كتبت مرة في ديوان لم ينشر بعد بعنوان ( هجاء الحجر ومديح الطريق ) :
شيئان كدّرا حياتي أصدقائي والشعر
ولكنّ الشعر بقدر ما كدّر حياتي منحها بهجةً واتساعاً في كشفه الدائم عما هو مجهول لا بالمعنى الفلسفيّ لهذه الكلمة وأنما أعني حضور ما كان غائبا في ما يحيط بي من أشياء وأفكار وأحاسيس لا أدري هل بأمكاني إدراكها أو تحسسها من غير الشعر . ثمة أدغال كثيفة في دواخلنا وعلاقتنا بالعالم أنّى لنا أن نكتشفها من دون ضوء الشعر؟ غير أنّ مباهج الشعر لا تقتصر على الأعماق وحدها ، وإنما لها امتداداتها على السطح أيضاً في تعاملها مع ماهو مألوف وعاديّ لم يُلتفت إليه، بسبب ألفته التي قد تحتوي غرابة وفتنة لا تقلان عن تلك الغرابة وتلك الفتنة التي نحصل عليهما في الكشف عن أعماق النفس . لقد كان الشعر بالنسبة إلي عزاء في المأساة وبهجة أمام أعراس الحياة وملهاتها . إنّه اختراق الزمن العاديّ والعودة إلى طفولة الإنسان ... وفي محنتي في المنفى كان مصباحاً سحريّاً يستحضر الوطن والناس ، والكهف الذي أرسم فوق جدرانه وجوه أعداء الحياة لأسرهم لا في الوهم وحده وإنما في الواقع حين يكون التصور حقيقة قادمة لابدّ من تحققها . هذه القوة السحرية التي أدركها الإنسان منذ بداياته لا تزال حاضرة في الشعر. ومن يحاول أن يتجاهل ذلك فما عليه إلاّ أن يحصي الكتب التي تصدر بالآلاف في أوربا عن شعرائها، وانشغال المئات من الجامعات بدراسة الشعر وتحليله ونشره واستخدام أحدث المذاهب النقدية وأقدمها في فهمه وتذوقه . أما الرأي القائل إنّ الرواية ستحل محل الشعر فما هو إلاّ وهم وجهل بما يجري في ثقافة الأمم المتحضرة ، كأن أصحاب هذا الزعم يريدون أن يقولوا أن الشعر وسيلة بدائية تليق بالأمم المتخلفة .. ماذا سيكون تطور شعرنا العربيّ من دون اطلاعنا على شعر الأمم الأخرى ؟ ألم يكتب بدر شاكر السياب أجمل نصوصه وقصائده المشبعة بالروح المحلية بتأثير من شعر أديث ستويل وعزرا باوند وإليوت ... رغم ما يقال عن محدودية معرفة بدر باللغة الإنجليزية ولكن هؤلاء ينسون أيضاً أن حساسية بدر شاكر السياب الهائلة كان لها القدرة على تجاوز هذه المحدودية إلى استيعاب ما لم يستطع استيعابه الكثير من النقاد والشعراء العارفين باللغة الإنجليزية ممن تنقصهم هذه الحساسية التي تكاد أن تكون لعمقها فكراً. أمّا بالنسبة للسياسة فثمة هوّة بين الممارسة والفكر غير أن هذه الهوة تضيق كلما تطور المجتمع لتصبح السياسة اختيارا وتحديا وصراع أفكار وخطاباً لا كلاماً رفيعاً عن واقعٍ منحط ، وشعارات فارغة مجردة لا تحمل معنىً . في الأمم المتحضرة السياسة مسؤولية ، لا مغامرة أبطال، ومعرفة لا هتافات شوارع ، ورقابة محكومين لا حاكمين .. رقابة تمتد من الشارع إلى البرلمان إلى الصحافة حيث المناورة لا فسحة لها والبلاغة لا موضع لها إلاّ بما تحتويه من حقائق ملموسة ولكن ثمة هوامش واستثناءات وصراعات كما في الحياة غير أن الصراع لا يصل إلى قطع رؤوسٍ وتشبثٍ بكراسٍ وتوريثها . وتوظيفٍ للماضي لتمرير حاضر . في عالمنا الثالث أو العاشر ليس لدينا خطاب سياسي .. لدينا كلام هو ألفاظ ألفاظ وصراعات دينية وعشائرية انتهت منها اوربا منذ زمنٍ . l ولعلّ الغائب الوحيد هم الناس الذي لا يحضرون إلا في الإعلان غير أنّ التغيير، تغيير مجتمعاتنا لا بد أن يحصل إن لم يكن بعامل داخلي فبالعامل الخارجي وهذه مصيبة ستكلف مجتمعاتنا كثيراً. أما الفلسفة فقد قرأت مرة أن من يدرس الفلسفة على كبر لن يقدر على استيعابها مهما بذل من جهد. قد يكون هذا القول صحيحاً أو خاطئاً لكنه لا يخلو من حقيقة إذا ما عكسنا هذا القول وقلنا برسوخ الفلسفة في ذهن من يدرسها مبكراً، وأنا ، حمداً للحظ ، درستها وأنا صغير وهذا ساعدني ليس على اتخاذ المواقف والقناعات الخاصة بي ، فحسب ، وإنما ساعدني على الفهم ورغبتي في الفهم .لقد حصنتني الفلسفة من الانجرار وراء الأفكار المبتذلة والمشوشة والجدية التي تخفي وراءها عبثا وجعلتني حذراً في تقبل أفكار الآخرين من الكتاب والنقاد ولاسيما الشعراء ذوي الدعاوى العريضة ، والتهويمات الميتافيزقية الكاذبة ، لذلك نادراً ما أجد نفسي مأخوذاً بهذا الكاتب أو ذاك من يجيدون قراءة اتجاهات الواقع الآنية لأداء دورهم التهريجيّ . مرةً قرأت في كتاب لبرغسون قبل أكثر من ثلاثين سنة أن في كلّ فلسفةعظيمة تصوراً شعرياً انطولوجيا كذلك أعتقد أن ثمة موقفاً فلسفياً يختفي غائراً في أبسط مشاهد الشعر ، والتقاطاته . أما ما تعنيه الكلمات الأخرى بالنسبة إلى فـ ( بدر) هو أبي الذي يصغرني سناً ، والبصرة بيتي وإن غبت عنه سنينا ولم أعد إليه، والصبخة هي ( النقر على أبواب الطفولة ) وما الغربة إلا غياب هذه الأشياء مجتمعةً .
بماذا تنصح الشعراء الجدد وخصوصاً منهم الذين يعشقون الغموض من أجل الغموض فقط؟
هل أنا مهيأ حقّاً لإسداء النصائح ؟ وأية نصيحة أقدّم أنا الذي أجد نفسي دوماً وكأني أخطو خطوتي الأولى في الشعر متوجساً في كلّ قصيدة أكتبها . أما بالنسبة إلى الغموض فإنني أعتقد أنّ الوضوح قد يكون بذاته غامضاً عند من لم يألفه .. أتذكر قولاً لأراغون أن القصيدة الواضحة أحياناً تعمي العينين بوهجها ... وهنا تحضرني صورة السجناء وهم يخرجون من ظلمة الكهف إلى الشمس ، في مثال الكهف الشهير لأفلاطون، فيتحسسون طريقهم في الضوء كالعميان . ثمة قصائد غامضة تدّعي العمق يتسابق النقاد على تبيان مستوياتها وعوالمها الغامضة لا تبدو لي غير لعب أطفال ، وسطح لا تستشف وراءه جوهراً ولا عمقاً. ولكن يمكن القول إن القصيدة وضوح والشعر العظيم واضح في أغلبه ولا أعني بالوضوح سهولة فهمه وأنهما سطوع عالمه ومستوياته التي تضئ خالقةً البهجة حتى وهي في أشدّ عتمتها عاطفةً أو تفكيراً. لا أرى في شعر المتنبي غموضا ولافي شعر ريتسوس أو إليوت ، ولا سيما في قصائده الشهيرة، وإنما أرى عمقاً يحفر في الجوهر الإنساني وظلمة الواقع ، ومايبدو غامضاً ما هو إلاّ جدة الدلالات التي تشير إلى ما لم يألفه القارئ في واقع لم يكتشف بعد . لم يضرّ شعرنا العربيّ القصائد البسيطة الموحية بل أضرته القصائد المركبة المنتصبة كالجدار في وجه القارئ ... أغنية الصفصافة لشكسبير في عطيل ، رباعيات صلاح جاهين، شعر الخيام قصائد أيوب لبدر شاكر السياب ، قصائد المتنبي ( يقول بشعب بوان حصاني ) ، قصائد لوركا وبليك الساذجة كما تبدو ، قصائد طاغور في جنتجالي ، وغيرها هي من الشعر الخالد أبداً .
الشـــاعر العـراقي عبد الكريم كاصـد
محتفياً بالهامش والمنتبذ والعابر لأنه الأبقى
حاوره الكاتب والناقد العراقي كريم عـبـاس زامــل ............................................................................................................
(يزيّن البعضُ رأسَهُ بالتيجان والبعضُ بالعمائم أمّا أنا فما يعوزني فضلةٌ من قماش لأعصّب بها رأسي رأسي المكشوف أبداً للآلام) منذ "النقر على أبواب الطفولة" 1978 الذي سبقته "الحقائب" 1975 والطبعة الثانية 1976 الحقائب التي ستأخذ عبد الكريم كاصد من البصرة ثانية ولكنها هذه المرّة صرّة ثياب وزاد طريق موحشة سيسلكها الشاعر على جمل لينأى برأسه بعيداً عن حراب القتلة سنة 1978، تلتها "الشاهدة" 1981 ثم "وردة البيكاجي" 1983 ذلك النزل الذي سكنه عراقيون، منفيون في جنوب اليمن. من البصرة إذاً عبر الكويت الى اليمن ثم دمشق!، يالها من نزهة "نزهة الألام" 1990 الى "سراباد" 1997 عبر "دقات لا يبلغها الضوء" 1998 فـ "قفا نبك"ِ 2003 و"زهيريات" 2005 للشاعر أيضاً: مجموعة قصصية 2005 ، وتحت الطبع "من حديث الحيوان" قصص للأطفال، "هجاء الحجر ومديح الطريق"، مجموعة شــعرية، "أحوال ومقامات" (كتاب نثري)، "نكهة الجبل" مجموعة شعرية مترجمة. من أهم ترجماته عن الفرنسية : كلمات لجاك بريفير 1981 أناباز لسان جون بيرس 1987 قصاصات ليانيس ريتسوس 1987
في البداية لابدّ من وضع أسس لحوارنا الذي لا نريده تقليدياً فمن أين إذن سنبدأ ؟ لتكن بدايات الشاعر الأولى وبإيجاز أهم المحطات وأهم ما تأثر به الشاعر عبدالكريم كاصد.
حين تحضرني البدايات الآن تبدو وكأنها عالم سحري غائم بعيد ... عالم من الصعب الإمساك به تتداخل فيه الوجوه والأسماء ورائحة الكتب القديمة والأسواق وزحمة البشر والمكتبات والأغلفة الملونة الساحرة. أسماء تظهر وأخرى تختفي .. أحياء وموتى وعالم يأتلف فيه كل شئ : حكايات ألف ليلة وليلة التي كان يرويها خالي موزان وهو مسنلقٍ على سرير مرضه الذي نتحلق حوله مبهورين ... عبدالرزاق الديوان الذي كان يروي أحداث الحرب العالمية الثانية بتفصيل دقيق يقطع الأنفاس ... مطبوعات كتابي وسلسلة كتابي والكتاب الفضي والمجلات العربية ولبنان وشعراؤه: إلياس أبو شبكة ، سعيد عقل ، بشارة الخوري ... مجلة الآداب ، الثقافة ... إلخ . كلّ هذه المصادر كنا نلتهمها إضافة إلى كتب المغامرات والجريمة التي كان يعيرها لنا صديق يهوديّ ما زلت أذكر اسمه هو ( فيكتور منشي ) لنقرأها ولاسيما تلك الكتب التي كان أبطالها ( ملتون توب ) و ( جونسون ) ... ثم تشعبت طرق المعرفة كما تتشعب الدروب في غابة لتلتقي وتفترق هنا أو هناك ومعها تشعبت طرق الحياة . وفي الوقت الذي كانت فيه طرق المعرفة تتسع كانت طرق الحياة تضيق ... لقد أصبحت طرق الغابة نزهة ومسالك واضحة ، بينما أضحت طرق الحياة مسالك وعرة وغابة كثيفة... اختفاء بعد انقلاب 1963 ورحيل ثم عودة إلى العراق ثم رحيل وفي 1978 اختفاء جديد عبر الصحراء على جمل لمدة سبعة أيام في الصحراء ثم هروب بصحبة عشرين هارباً محشورين في تنكر ماء وتوقيف في الكويت ورحيل إلى عدن:
أكان الرحيل إلى عدنٍ دورةَ البحر؟(كالأشنات تقاذفنا الموج ...) نهبط في غرفٍ ونغادر، توقفنا زرقةٌ في الشبابيك، أغربةٌ تتنزّه وسط المدينة، رائحةٌ في زقاقٍ قديم، حوانيتُ تقطر بالزيت، شمسٌ تدحرج أحجارها وهي تنزفُ حمراءَ، لمعةُ ثوبٍ، ونافذةٌ تتوهّج في الليل يحجبها جبلٌ مظلمُ الشرفات ... ورامبو يدور ببركانه العدنيّ.. وقد ينطوي بين أشيائه دائراً في المساء.. وقد لا يرى بحرَهُ مثل ساريةٍ مائلاً للرحيل ورامبو النهارات ممزوجةٌ بالظلام، دمٌ فاترٌ، مطرٌ يتساقط أسودَ فوق المراكب.. رامبو ارتحالٌ وحيدٌ على جملٍ، خفقُ أشرعةٍ تتفتّح في زهرةٍ.. من رأى الأبديّة في الماء.. في حبّة الرمل...؟ رامبو النهايات برقٌ توهّج عبر الفصول...
( من قصيدة البركان العدنيّ المهداة إلى رامبو)
ثمّ رحيل آخر إلى دمشق وبيروت وموسكو ومرض أوشكت أن أفقد فيه بصري ، ثمّ رحيل ثالث وعاشر إلى لندن وكأنها نهاية الرحلات التي أودعتها أعزّ ما عندي لأدخل طرقاً لا عهد لي بها من قبل ... طرق الأبدية حيث الرحيل لا عودة منه ولا رحيل إليه ... فجأة أجدني مأسوراً للمكان مقيما فيه أنا العابر دوماً ... لقد صار لي في هذه الأرض بيت لا يستبدل أبداً : قبر زوجتي ؟ فهل هناك من يفارق قبره ؟
في داخل صهريجٍ تحت الأرض سأجلسُ علّكِ تأتين فيجرفنا الماء إلى البحر خفيفَيْن تقولين: "ألا تأتي!" وأقول:"ألا تأتين!" ويجرفنا الماء سعيدَيْن في الظُلمةِ حيث الضوءُ بعيدٌ والناس بعيدون - ألا تسمعُ صوتَ الرعد؟ - متى تتوقّفُ هذي الأمطار؟ البحرُ قريبٌ - هل تأتين؟ - ألا تأتي؟ وننام هنالك في الظلمة ملتصقَيْن
( مياه في أعماق المدينة )
ديوانك الأول الحقائب بطبعته الصغيرة والأخرى التي أصدرتها مطبعة الأديب ما يشكل هذا العمل بالنسبة لعبدالكريم كاصد؟ أرجو أن تعطينا انطباعاتك على هذا الديوان .
لم يستقبل ديوان لي مثلما استقبل ( الحقائب ) لقد طبع أول مرة في دار العودة في لبنان عام 1977 وبذلك تهيأت له فرصة توزيع نادرة لم تتوفر لدواويني الأخرى باستثناء ديوان ( الشاهدة ) . كنت في العراق آنذاك وكنت أفاجأ بين حين وآخر بكتابات عن الديوان بالغة الحماس وأتذكر من بين عناوينها الكثيرة هذا العنوان ( صوت غريب يطلع من الحقائب ) . لقد احتوي قصائد من أفضل ما كتبت ( الحقائب ) ( الغرف ) ( ثلاثية السفر ) ولاسيما ( الغرف ) التي أثارت اهتمام نقاد وشعراء عديدين . وحين نشرت هذه القصيدة أول مرة في جريدة ( طريق الشعب ) العراقية سنة 1973 فاجأني أحد الجالسين في المقهى أنه بكى عند قراءتها ... قد يقول قارئ عن هذه القصيدة جيدة أو غير جيدة ، وقد يخطئ أو يصيب ، ولكنه لن يخطئ أبداً حين يقول إنه (بكى ) . وأقول لك الحقيقة أنه فاجأني لأنني لم أتوقع أن يبكي أحد لقصيدة كقصيدة الغرف المتميزة بتركيبها وتردد قافيتها الواحدة ( الغرف ) طوال القصيدة دون أن ترد فيها لفظة أخرى وانتقالها، في هامش القصيدة ، إلى أول السطر، وهذا ما يمكن أن يقال عن ( الحقائب ) :
غرفٌ للمياهْ غرفٌ للمنازل تهبط عاريةً غرفٌ للأسرّة تصهلُ مربوطةً في الغرف غرفٌ ترتجفْ غرفٌ للمجاذيب يبكون فوق القوارب مرسومةً في الجدار غرفٌ للصغار غرفٌ للجنود المصابين واليطقات غرفٌ للمساجين والأمهات غرفٌ للمواخير مفتوحةً للدخول غرفٌ للعصافير تسكن أعشاشها في السقوفْ غرفٌ للوقوفْ غرفٌ للهياكل مشدودةً للمراوحْ غرفٌ للمذابحْ غرفٌ للعويل غرفٌ للمهاجر يُسندُ أحزانَهُ لرصيف
مائلٌ ظهرُك المستقيم..
أما القصيدة الرئيسية ( الحقائب ) فإنها وليدة حدث هو على شئ من الغرابة : حين قدمت من الجزائر إلى باريس للمرة الثانية أو الثالثة، سنة 1972 أودعت حقيبتي في مخزن المحفوظات في محطة ولم أحمل إلا ما خفّ إلى الفندق : لا أدري لم ؟ مجرد غفلة أو نسيان أو لا مبالاة وأهملتها هناك إذ لم أرجع إليها إلا بعد فترة طويلة وقد غمرتني مباهج باريس اليومية ، فلم أعد أفكر بحقيبة ولا بما سأدفعه من مبلغ كبير لقاء إيداعها إذ جرت العادة في المحطات أن يودع المسافر حقيبته ليوم أو يومين، أما أن يودعها لفترة تقرب من الشهر فهذا ما لا يطرأ لذهن إنسان إلا عند الضرورة القصوى ، وقد فوجئت حين عدت لاستردادها إنها تكاد تختفي تحت طبقة كثيفة من الغبار ولم يخف الناس نظراتهم المتسائلة إليّ وهم يرون إلى حقيبتي وهي مغطاة بالغبار ، وإلى يدي وهي تسلم المبلغ الذي لا مبرر لدفعه في الأحوال الاعتيادية . ثمّ صحبتني هذه الحقيبة والحقائب الأخرى في عودتي إلى العراق وكنت أتطلع إليها وهي تتنقل معي من محطة إلى أخري ، مثلما أتطلع إلى إنسان عزيز يرافقني. هذا الديوان من أحب الدواوين إلى نفسي . إنه ديواني الأول وخلاصة عمر كامل ... انتقيته من بين عشرات القصائد التي كتبتها و أهملتها في ما بعد. وإذا أردت انطباعي في ماعدا هاتين القصيدتين فإن ذلك قد يستغرق صفحات عديدة ولكن أود أن أشير إلى قصيدة صغيرة لكي أدلل على الصنعة الخفية في هذا الديوان . هذه القصيدة هي ( آلام ) :
كوني عاقلة يا آلامي الليلة أوجس ريحْ وأحس نمالاً فوق عظامي اصغي ... أسمع وقع خطىً في الرمل تسير وئيدا
أبوابي مغلقةٌ والخيلُ تمرّ ظماء وشتاءُ العام تقضّى ثم تلاه شتاء لا لفمٍ جمّعت ولا لعيال لكن .. من أودعك الليلة هذي الأسمال ؟ من أشعل هذي النار ...؟ وكسّر في كفيك الخبز لا تقسي يا آلامي رأسي يهتزّ رأسي فوق النار صفيح من منكم ينقر يا أحبابي؟
في هذه القصيدة ثمة استعارة من بودلير ( كوني عاقلة يا آلامي ) ومن القرآن ( أوجس ريح ) و ( شتاء العام تقضّى ثم تلاه شتاء ) وأسلوب مستعار من مهيار الديلمى ( لا لفمٍ جمّعتُ ولا ولعيال ) في قصيدته التي يرثي فيها الشريف الرضيّ ( أقريش لا لفمٍ بقيت ولا يدِ فتواكلي غاض الندى وخلا الندي ) وهذا من أجمل المطالع التي قرأتها في الشعر العربي ، و قل مثل ذلك في أبياتها الأخرى من دلالات وإشارات إلى قصائد ( ما للجمال مشيها وئيدا ) وتراث وحكايات فولكلورية وضربة أخيرة تختلط فيها الأحاسيس فلا تدري أهو النقر فوق الباب أم هو النقر فوق الصفيح ؟ ولعل في اختفاء القافية في (ريح) ثم ظهورها فجاةً في البيت ماقبل الأخير وتكرار الحروف المهموسة ذاتها في البيتين ما يستحق الوقوف ربما. حين أعطيت هذي القصيدة إلى البريكان لينشرها في مجلة الفكر الحي مع قصيدة أخرى لينشر إحداهما كان رأسه يهتز مع نهاية القصيدة مهمهما كعادته التي أعرف طربه من خلالها .
النقر على أبواب الطفولة وقصائد الرثاء التي نشرتها في جريدة الفكر الجديد ترى ماذا قدم الشاعر في الثمانينات والسبعينات وبداية القرن الجديد ؟ أرجو أن تعطينا شهادتك الشعرية ولو بإيجاز .
النقر على أبواب الطفولة هو ديوان الطفل الذي ما زال مقيماً في داخلي ولا يغادرني ... الطفل الذي ما زال يقودني إلى مسالك أجهلها ولا أدري ماذا سيحل به حين أتوقف فلا أقوى على السير ثانيةً؟ في هذه المجموعة حاولت أن أمنح الكلمات ثقل الواقع والواقع خفة الكلمات فلا ماضٍ هناك ولا آتٍ بل حضور دائم ومرآة لا تعكس صورة، بل تنفتح على عالمٍ سحريّ يدخله الطفل ولايخرج منه أبداً منخطفا بتفصيلاته كما في ( انخطفات ألف ليلة وليلة) :
أنين المراكب في البحر تغريدة السندباد الشجية في قفص الطير قرعُ الطبول الخفيّة تهويمةُ الطير والخاتم الذهبيّ عصا الطفل ملتحياً يلبس الطيلسان قميصُ الصبية يرفعه النوم ارخاءة الستر محتشداً بالطواويس رقص القرود الخفيفة خضراء تحمرّ عند انطفاء القناديل وجه الصبية تبكي على شرفةٍ من ضياء
وهو حتى في تفاصيله الواقعية لا يخلو من حدثٍ سحريّ :
يغيب الأهل فيرقص في الظلال الصمت وتخرج من ظلام الحائط المشقوق .. أفعى البيت تهزّ الطفل
فإن، لم يكن هذا الحدث فثمة ما يعادله : سؤال يجعل المألوف غريباً :
أركض حين يجئ الناس محتشدين أمام الواجهة المفروشة بالقنفات أهرع مسحوراً بين السيارات أحمل كرسيّا ومصابيح ملونة للزينة ... لكني أخشى لمس مخدّات الأعراس وأخاف النسوة .. أسأل أحيانا : هل يتزوج هذي الأيام الناس
وقد تكون مفاصل الواقع ذاتها سحرية وأن بدت في مظهرها أشد واقعية ً :
من بين كلّ العباءات المنحنية على الصناديق تنهض عباءة في الليل بعيداً عن النيران الموشكة على النباح والقناطر المهتزة تحت الأقدام يتبعها جسد تنطبق عليه في الظلمة .. ويغوصان معاً في قاع النهر اليابس بين الحلفاء
وحين يلتبس الواقع بالوهم يتقدم الوهم في هيئة الواقع حتى يصبح التمييز بينهما محالاً :
عند الظهر حملوه بلا كفنٍ أو تابوت صوب التلّ تركوه وحيداً تحت تراب القبر يبكي ... يبكي ... حتى يدركه الليل فتضئ الشامة في خدّه ثمّ يموت
ومثلما للوهم انخطافاته للواقع انخطافاته أيضاً:
ضجيج الزنابير صفراء نار الكلاب المغيرة في الليل خفق العباءات بين الطوابير دقّ المسامير بكماء مدّ القناطر بين القوارب والجرف عوم الفوانيس في الماء ضوضاء نوح الجراديغ وسط الضجيج
وهكذا مجموعة لكلماتها ثقل الواقع ولواقعها خفة الكلمات فهل هي ماضٍ حقّاً ؟ أما قصائد الرثاء التي نشرتها مجلة ( الفكر الجديد) العراقية الصادرة في السبعينات وضمها ديوان الشاهدة فهي قصائد الواقع الذي يتقدم بغرائبيته دوماً دون أن يتخلى - إذا شئت – عن واقعيته أبداً :
كالخضر انطلق منتعلاً خفين مثيراً سحابات غبارٍ صغيرة وانكفأ عائداً بجنازة صديق حتّى إذا بلغ نخلةً ونساءً يبكين في الطريق حمل الجنازتين وأقبل .. ففزع الناس من السرادق ، وظنّوه ميّتاً ولم يصدّقوا
إنها قصائد النثر التي كتبتها في السبعينا ت بالضد مما ساد ويسود الآن في كتابة قصائد النثر من تداعيات، وفوضى ، وغياب للموضوع والذات معاً. هذه القصائد والقصائد الأخرى المنشورة في ( النقر على أبواب الطفولة ) تحت عنوان ( قوارب ) هي من تجاربي التي ترسخت في هذا النمط من الكتابة الذي بدأته منذ أواخر الستينات ونشرت جزءا منه في الحقائب وهذا نموذج منه :
سآتيك لا لكي أراك ، بل لكي تريني صامتاً مطرقاً تملؤني عيناك .. كما لو أنني فراغ
***
أنا الشجره تهزُّ ريحك
***
يعكس الصمت وجهك مثل الزجاج
***
أنت تجعلين أشيائي الصامتة تتحرك ولكن لماذا .. لماذا حين تنطقين أبصر الصمت بين كلماتك ؟
***
نحن لا نتلاقى بل نتقاطع مخترقين بعضنا بعضا
أما تجاربي في الثمانينات والتسعينات وبداية القرن الجديد فمن الصعب الحديث عنها ، في هذه العجالة ، لأنها تمتد ربع قرن تقريبا بعد تجاربي الأولى التي استغرقت ما يقرب من عشرين سنة.
في رحيل 78 عبر بادية السماوة هل فعلاً شعرت بالندم وهل فعلاً وقتها تذكرت رواية ( رجال تحت الشمس ) فندمت ؟ ترى ما هي ذكرياتك عن تلك المرحلة المريرة مع الشاعر مهدي محمد علي وماهو رأيك بما كتبت وكتب مهدي عن هذه الرحلة ؟
نعم ندمت حين أمرنا أن ندخل تنكر الماء لنتكدس أكثر من عشرين هارباً ، بعضنا فوق بعض ، مبقعين بالماء والرمل ، بعد رحلة دامت سبعة أيام في الصحراء ، في قافلةٍ صغيرة من ثمانية أشخاص ( سياسيان واثنان هاربان من العسكرية وأربعة مهربين ) ، وستة جمال . هربا من الهجمة البربرية التي شنها النظام السابق على من يخالفه من الناس سنة 1978. اختنق اثنان منا وكادا أن يفارقا الحياة لولا أن نسحبهما إلى السقف ليستنشقا الهواء . كنا على مقربة من أحد المخافر ، معرضين للرصد. لقد نجونا بإعجوبةٍ . أترك ما كتبته عن الرحلة وما كتبه أخي الشاعر مهدي محمد علي لتقييم القارئ ولكني أود هنا أن أورد نصاً عن الرحلة في كتاب سيصدر لي هذه السنة عنوانه ( أحوال ومقامات ) استجابة لطلبك أن أسرد شيئاً من ذكرياتي عن هذه الرحلة التي لخصت عذابي فيها بهذين البيتين :
رحل الأعراب وبقيت وحيداً في القفر أدقّ بلا أبواب
النص :
مارواه فردان عن هربه عام 1978 عبر الصحراء
قبل أن يرتدي الليل شملته سبقتنا الجمال وعبرنا القرى كان نجم القرى نائياً فعزمنا الرحيل وانحدرنا مع النجم قلتُ: إذن هكذا صرةٌ ومتاع قليل (من قصيدة الرحيل عبر بادية السماوة )
كنا ثمانية ... تقدّمتنا الجمال في ليلة لن أنسى صحوها الذي كاد يمطر – كما يقول الطائيّ أبو تمّام – ولمعان نجومها ، وظلالنا الهائلة التي امتدّت حتّى السماء، كأنّنا جزء من كونٍ ليليّ أبيض اشتدّ لمعانه مع اشتداد أملنا بالخلاص . وبعد مسيرة مرهقة على الأقدام اعتلينا جمالنا ثمّ نزلنا وأشعلنا ناراً من الغضا لم تنطفئ ، ولكنها لم تحمنا تماماً من البرد . كان البرد يهجم علينا كالذئاب ويرتدّ ، إلى أن أطلقت الشمس سهامها النارية الحادّة فأيقظتنا . كلما سألنا عن الوصول قالوا لنا " شمرة عصا " ، غير أن شمرة العصا استغرقت أياماً وليالي سبعاً في أرض خلاء لا أثر فيها لإنسان وليس فيها من الشواهد غير آثار حيوانات مرّت : خيول ، ذئاب ، أغنام ، وهذا أثر لصبيّ ... أين ترى غادر ؟ آثار تحيط بنا .. آثار فوقنا بيضاء يطبعها الليل نجوماً في سماء الصحراء. ولكن أغرب الشواهد هي الجراء التي صادفتنا في الطريق ... ثلاثة جراء لن أنساها ما حييت واقفة بانكسار وهي تتأمل موكبنا يمرّ .... من أين جاءت ؟ وأين ستذهب ؟ وماذا سيحل بها أو بنا؟ أما الشاهد الذي يسخر من كلّ ما اعتدناه من كتبٍ وأفلامٍ وخطبٍ فهو ذلك البدويّ الذي أقبل نحونا قادماً من الخلاء ليذهب إلى الخلاء وكأنه سهمٌ يخترق الأبدية .
جاءنا يعلو فرساً ليهبط منها وهو يحدّق مذهولاً في الخبز الذي أولمناه إياه ، والذي لا نملك سواه ، بعد هذه الرحلة الطويلة ، آتياً على الفتات . لم أعرف من قبل طرب الجمال إلاّ في الشعر ، أمّا سرعتها فلم أصدّق بها حتّى كادت تطير بي في الليل وهي تستروح الماء على بعد أميالٍ وأميال. يا إلهي أية غرائب في الطبيعة ! وأية مخلوقات تألفنا ونألفها ! في اليوم الثالث اجتزنا أرضاً بوراً بيضاء من الملح فكادت تنزلق بنا الجمال ... أرض اشدّ وحشة من رمل الصحراء. ولكن فجأة يمرق أرنب بريّ ذو أذنين حمراوين كأنه يحمل ناراً في هذه الصحراء . في مسائها الموحش. ويختفي فجأةً وإذ نجتاز صحراء الملح هذه ، تنفتح سماء أخرى أرض أخرى بركة ماء ونخلةٌ وحيدةٌ مكتظةٌ بالفسائل. ذهب مهديّ إلى البركة فجاء بماء في إناء تملأه الديدان ، وحين أراها لأحدنا تناول هذا الإناء وشربه دفعةً واحدةً وسط ذهول مهدي الحائر.
في اليوم الرابع لاحت لنا خيمتان فاشترينا شاةً فكانت الوليمة التي لا تعدلها وليمة من قبل ، وربّما من بعد . في تلك الليلة سمرنا ودارت بنا القصص في تلك الصحراء ولعلها ما زالت تدور بي كلّما تذكّرت أولئك الناس وأقاصيصهم عن مغامراتهم العجيبة ، وبراعتهم في القص ، وتكرار جملٍ وعبارات تتخلّلها ألفاظ عاشت قبل أكثر من ألف سنةٍ واندثرت ولكنّها لم تندثر في الصحراء . لم أصدّق أن مفردات أمرئ القيس وعنترة ولبيد وطرفة ما زالت تسري في أفواه هؤلاء المهربين الشعراء العشّاق الذين لم يشعروني أبداً بمعرفتهم بهويتي ، وكلّ ما قالوه " إذا ما داهمتنا دوريّات الصحراء فاختفيا أنتما حتّى نلحق بكما في اليوم التالي بعد أن نكون قد سوّينا أمرنا مع شرطة الصحراء " . ولم يكن توقّعهم تطيّراً فقد صادفتنا أكثر من مرّةٍ هذه الدوريات ، ولكن أخطرها كان ذلك الضوء الذي أخذ يقترب منّا شيئا فشيئا. كنّا في أرضٍ منخفضةٍ وكان الضوء يبدو وكأنّه قادمٌ من علٍ فارتعبت الجمال ، واستطعنا الهبوط منها إلاّ جملاً كان يركبه واحدٌ من المهربين فقد فرّ مذعوراً.
لحقتُ به وأوقفته , فدهشوا وظنّوا ذلك شجاعةً منّي ولم يدركوا أن جهلي بعواقب الأمور هو الذي ساقني إلى هذه المبادرة التي كادت تودي بحياتي ، فقد يقتلني الجمل في موقف كهذا . حبسنا أنفاسنا ، وصمتت الجمال بعد ذعرٍ ، وعادت رجرجةُ الماء في الرحال ، فحسبتُ الجمال وكأنها تخوض في مياه على الأرض ، وبدأ الحصى يتطاير تحت أخفاف الجمال ويرمي شجيرات الغضا التي تصادفنا في الطريق ، فيقلق نوم القطا الذي يفرّ مذعوراً في الليل .
في اليوم الخامس وصلنا غابةً من أشجار الغضا ، والتقينا هناك بقافلةٍ تضمّ مهربين وهاربين أيضاً ، بينهم عرب فلسطينيون وسوريون ، ينتظرون ما يقلّهم إلى الأرض الموعودة . كنّا نسمر في المساء ، ونشعل نيراننا التي تكاد تلامس سقف السماء .. وحين أبدينا خشيتنا من هذه النار الهائلة قيل لنا إننا في منخفض وإنّ الدوريّات لا يمكنها رؤية هذه النار.
وفي اليوم السابع تركنا وراءنا الجمال يحرسها بعض المهربين من القافلتين . سينتظر هؤلاء عودة زملائهم محمّلين بالبضائع من الكويت . تركنا وراءنا الغابة وانتشرنا خلف شجيرات منثورة هنا وهناك لئلاّ تلمحنا الدوريّات إذا باغتتنا وحين قدم ( خزّان الماء ) الذي سيحملنا جميعاً تقدّمنا منه كما تتقدّم الضحايا في الطقوس إلى الموت . تكدّسنا عشرين شخصاً ، بعضنا فوق بعض ، في رحلةٍ رهيبةٍ استغرقت خمس ساعات . توقّفنا خلالها مرّةً واحدةً حين أوشك اثنان منّا على الاختناق فاضطررنا إلى سحبهما إلى سقف الخزّان وتمديدهما فوقه ليستنشقا الهواء. كان هذا المشهد ، لسوء الحظ ، يجري على مقربةٍ من مخفر من مخافر الحدود ولكنّنا نجونا .
قذفنا خزّان الماء كما يقذف حوت ضحاياه ، في أرضٍ قصيّةٍ ليس فيها غير بيوت لم يكتمل بناؤها بعد . قفزنا كالخراف في اتجاهات شتّى مبقّعين بالرمل والماء ، نقف على الطريق الإسفلتيّ العام بانتظار الباصات العابرة لتوصلنا ...أين ؟
ترى هل تشكل سلطة النقد سلطة قاهرة تى أن تلوي سلفاً عنق النص لتدخله في متاهات يختارها الناقد سلفاً أم إنه خطاب إبداعي يضاف إلى النص ليجعله أكثر بهاءاً ويضئ مداخل النص للمتلقي أم إنه يقوده عبر مستويات وآلية القراءات المتعددة إلى تأويل قد يلغي النص ؟ ماذا أنت المتابع الجاد منذ السبعينات لمدارس النقد الأدبي الغربي الجديدة ومن خلال معايشتك الطويلة له؟
لا يمكن لأي نقد أو سلطة مهما كانت منزلتهما أن يلويا عنق النص الإبداعي، لأنّ للنص حياته وحركته التي لا تتوقف أبداً ، رغم ارتباطه اللصيق بمكانه وزمنه المحددين . ثمة علاقات تتجدّد فتضئ النص مثلما يضيئها النص ... علاقات هي أعقد وأوسع من أيّ نقدٍ أو سلطةٍ محددتين . أما النقد الذي يتعامل مع النص باعتباره بنية أو نظاماً مغلقاً فهو بنفيه للذات والموضوع معاً ينفي النص ذاته ... أي يفرغه من محتواه بتعليقه الذات والواقع خارج النص . وعندما يصبح الانشغال باللغة بديلاً للاثنين تكشف الحداثة عن لعبتها ووجهها التقليديّ الآخر الذي لم يكن شاغله سوى اللغة ... أليست اللغة وحدها هي شاغل التقليديين من الأدباء والنقاد في تراثنا على الأقل ؟ أليس نفي الذات نفي لجوهر الحداثة المتمثل بالفرد ... وتجريده أليس نفياً لانسانيته أيضاً ؟ وأين المعرفة إذن من بنية النص ؟ وبعد هذا وذاك أين هم نقاد الحداثة وما بعد الحداثة في نقدنا العربي لنتحدث عن هن هذا النقد بملموسية لا بتجريد لن يقودنا إلى حقيقة ما ؟ أين هي نصوصهم البنيوية لنتحدث عنها ؟ ثمة دراسات تستعير بعض المقولات لدراسة نص ما ولكنها تساوي بين النص الإبداعي وغير الإبداعيّ لذلك ترى نصاً ميتا ومقولات مرتبكة ليس فيها وهج إبداعٍ أبداً ، وبدلاً أن يكتفي الناقد العربي بتحليل بنية هذا النص نراه سرعان ما يسقط في التقييم وبذلك يفارق منهجه نفسه الذي ينبغي أن يكتفي بتحليل البنية وحدودها. وبعد هذا وذاك ما فائدة نص نقديّ يخلو، رغم ادعائه بالعلمية ، من (لذة النص ) التي يتحدث عنها ( رولان بارت ) ؟
الفلسفة الماركسية إلى أي حد قرأتها ؟ هل قرأت رأس المال والأيديولوجيا الألمانية أم كيف قرأتها ؟ سعدي يوسف قرأها في الفانوس يهتز ضئيلا وفي قصيدته ( الأول من أيار ) وفي نجمة سبارتكوس ونحن لم نحتكم وقصائد إلى لينين ترى هل أن الشاعر عبدالكريم كاصد له رؤية خاصة في قراءته المتعددة للخطاب الماركسي وماهو رأيك بإعادة قراءة الماركسية وفق متغيرات عصر العولمة ؟
قرأت المجلد الأول من رأس المال قبل أكثر من ثلاثين سنة في طبعة دار اليقظة وما أدهشني فيه هو قدرة ماركس على تجريد الوقائع الملموسة، دون أن يغادر هذه الوقائع إلى بناء نظام فلسفيّ مفارق بمقولاته وتجريداته. وهو في هذا الجانب شبيه ربّما بأفلاطون الذي جاء نظامه الفلسفيّ عبر الحوارات والتمثيل ، والقديس أوغسطين الذي لم يترك نظاما فلسفيا مجرداً بل اعترافات ونصوصاً احتوت على نظامه الفلسفيّ . وأعتقد أن أن من يريد أن يكتشف ماركس وديالكتيكه لن يجدهما من خلال المقولات المجردة التي خلّفها وراءه بل عبر المادة الهائلة التي تركها والتي احتوت خلف ملموسيتها وصلابتها فكره المرن ذا القدرة التجريدية الهائلة ، دون أن يكون مجرّداً أبداً . لقد اشترع ماركس طرقاً للتفكير لا مقولاتٍ مجردة ميتة سرعان ما ابتذلتها الأدبيات الماركسية المبسطة لبعض الأحزاب والفكر الشيوعي الرسميّ . وأعتقد أنه من الصعب فهم ماركس ومنطقه دون فهم فلسفة هيجل ومنطقه بالذات ... مثلما يصعب فهم دفاتر فلسفية لـ ( لنين) لأنه يحيل دوماً إلى منطق هيجل ، ومن حسن الحظ أنه أتيح لي الاطلاع على منطق هيجل ملخصاً ومشروحاً في آن واحد، من قبل بعض الكتاب الفرنسيين مترجما إلى العربية ، في ملازم دراسية ، من قبل الدكتور بديع الكسم في جامعة دمشق عندما كنت طالباً فيها ... وقد ساعدني ذلك في فهم المجلد الأول من رأس المال ودفاتر فلسفية أيضاً . أما كتاب ( الأيديولوجيا الألمانية ) فهو أيضا من الكتب الأساسية لماركس حول مراحل التطور التاريخي وتقسيم العمل الاجتماعي المتطابقة مع أشكال الملكية المختلفة . لكن من الصعب أن نقول بإعادة قراءة الماركسية لأن قراءة الماركسية لم تتوقف يوماً . لقد أشار مفكرون ماركسيون كثيرون إلى فقر معلومات ماركس حول المراحل التاريخية الأولى ولاسيما المشاعية البدائية كما تمت مناقشة المراحل التاريخية وتعاقبها باستفاضة في الفكر الماركسي ، كذلك تمت الإشارة إلى إنّ التطور عند ماركس لم يكن خطاً صاعداً باتجاه يوتوبيا متخيلة بل تطوراً معقّداً شائكاً منذ كتاباته الأولى ومنها ( الأيديولوجيا الألمانية) . أما فكر ماركس الإنساني لا التخطيطي التي ادعته الأحزاب فقد تم التأكيد عليه في كتابات العديد من المفكرين الماركسيين الذي رفضوا أن يكون الفكر الماركسي تخطيطات مبسطة أو نزعة إنسانية تجسدت في كتاباته الأولى واختفت في كتبه الأخيرة، وهم بذلك وقفوا في وجه الأحزاب التخطيطية والمدارس التحديثية المفارقة لفكر ماركس في آن واحد ، وليست كتابات التوسر إلاً محاولة مبدعة لوضع ماركس في تطوره التاريخي الطبيعي كوريث للفكر الإنساني ، وإنني لأتذكرإشارته في كتابه (قراءة رأس المال) إلى إن ماركس لم يفعل سوى ملْ الفراغات التي وجدها في الفكر الاقتصادي الرأسمالي الذي قرأه واستوعبه جيداً ، ومن خلال فعله هذا استطاع أن يمد هذا الفكر بمحتوىً جديد. غير أنّ الفكر التبسيطيّ ينظر إلى قوانين الماركسية باعتبارها قوانين عامة ثابتة لا تتغير وكأنها قوانين للطبيعة لا للمجتمع الانساني المتحرك والذي قد يرتد في تطوره إلى الوراء في ظروفٍ تاريخية معينة باعتباره فعلاً إنسانياً لا قانوناً طبيعياً مجرداً وحتى قوانين الطبيعة هل تمّ اكتشافها جميعاً ؟ وتعقيباً على سؤالك، فأن الفكر الماركسي بصفته فكرا معنياً بالأساس بتحليل المجتمع الرأسمالي في مراحله العديدة ، يفترض به أن يكون أقدرمن غيره على رصد متغيرات العولمة، وتسليط الضوء على فكرة الديمقراطية التي حلت في الصدارة ، بديلا لفكرة الثورة في الفكر السياسيّ . وفي هذا الصدد ليس لي سوى تعليق بسيط على ما يمكن أن يجرنا إليه هذا السؤال الذي قد تخرج إجابته عن إطار حوارنا هذا هو أن التقدم لا يعني دائما احتواءه على قيم إنسانية وهذا ما يمكن قوله حتى في الفن أو نظريات الحداثة النقدية أو ما بعد الحداثة.
بمن تأثرت من الشعراء : امرئ القيس أم طرفة بن العبد . المتنبي أم أبو تمام ، الرصافي أم الزهاوي ، الجواهري أم السياب ؟ وما هو رأيك ببلند الحيدري والبياتي والبريكان وسعدي يوسف ؟
سؤال محتشد . أستطيع أن أقول إنني تأثرت بهؤلاء جمبعاً فأنا مازلت أقرأ أمرأ القيس وأخاطبه وأستعيد قوله ثانيةً وأردد مسحوراً كلامه بلغتي : كان من بين محاولاتي الأخيرة كتابة معلقة أمرئ القيس بلغة معاصرة وكنت في ذلك أقتفي آثار خطى الشعراء الإنجليز الذين أعادو كتابة قصائد شعراء الإغريق والرومان سأورد بعض أبياتها وهي من ديوان ( قفا نبك ):
قفا نبك من منزلٍ لحبيبٍ عفته الرياح وطافت بأرجائه الموحشات الظباء كأنيَ يومَ الرحيل لدى شجرِ الحيّ ناقفُ حنظلْ يقول صحابي: " تجملْ " وأنىّ ودمعي شفائي وهذي الديار أنيسي ** .... إن قلتُ هاتي امنحيني تمايلتِ بيضاء .. ضامرة الخصر هفهافةً ( يصمت الحجل حين تميلين ) مصقولة أنتِ عند الترائب كالدرّ أبيض أصفر غذّاك ماءٌ نميرٌ بلا كدرٍ وتصدّين عن عارضْ واضحٍ وتردّين عن ناظرٍ من نواظر وحشٍ بوجرةَ جيدك ، جيد المهاة ، هو الحَلْي دون حُلِيٍّ إذا ما برزتِ وشعرك عذقٌ تدلّى أثيث غدائره السود تتلعُ مثنىَ ومرسلْ وخصرك يا للطيف الجديل وساقك يا للنخيل المذلّل
أما المتنبي وأبو تمام فمن من الشعراء من تخلص من سحرهما ؟ وإذا استثنيت السياب والجواهري اللذين قرأتهما بإمعان وكتبتُ عنهما فإنّ ثمة محبة خاصة أحملها للرصافي زادتها قراءتي لكتابه ( السيرة المحمدية ) عمقاً واتساعاً . وأرى أنه من الشعراء الكبار الذين لم يدرسوا بعد وبقي النقد السائد عند حدود شعره المعروف بأغراضه المألوفة يجهل التماعاته النادرة :
فأنا اليوم كالسفينة تجري لا شراع لها ولا ملاّحُ
رجل قد تنكّب الحقّ قوساً ومن البطل ظلّ يرمي السهاما
ندموا فسمّيت الندامة عندهم عفوا وذلك منهم استكبار
لا يخدعنك هتاف القوم بالوطنِ فالقوم في السرّ غير القوم في العلن
وهذا البيت العميق في رثاء الزهاوي :
سوف أبكي عليك شجواً وإني كنت أبكيك في الحياة شجيّا
وغيرها من الأبيات والمقطوعات النادرة التي يحتويها ديوانه. أما رأيي بالشعراء الذين ذكرتهم فإنني كتبت عن البياتي دراسة لم تنشر بعد، كما كتبت عن البريكان إثر وفاته ولعلني سأكتب يوماً عن بلند الذي أحب من شعره مجموعتين هما ( أغاني المدينة الميتة ) و( خطوات في الغربة ) ، أما سعدي فهو الصوت العذب في شعرنا العراقيّ .
ما هو رأيك بالمعركة الدائرة الآن على إثر تصريح سعدي يوسف وأدعائه بأنه الشيوعي الأخير وهل إن سعدي يبدو هنا وقد دخل مرحلة خريف العمر وهل إنّ الردود التي انتقدته وخصوصاً إبراهيم أحمد تبدو قريبة من الواقع فالشيوعييون لا يحتاجون إلى نصائح سعدي التي حتما ستقودهم إلى المهالك ؟ ليس ثمة شيوعي أول ليكون ثمة شيوعي أخير وماهذا إلاّ سجال صحافيّ لا يعنيني كثيراً ، وما يعنيني هو الشعر والموقف الإنساني في هذه القضية أو تلك لا التجريد ولا المقولات الشائعة... كلنا ضد الاحتلال ولكننا نختلف في أساليب رفضنا لهذا الاحتلال . كلنا نتفق على ما يسمية أبو العلاء المعري ( المحال ) ونسميه نحن ( المجرد) أما ( التعيين ) أو ما يسميه أبو العلاء ( اليقين ) فهو الموقف الملموس مما يجري من جرائم باسم مقاومة المحتل : قطع رؤوس ، قتل أطفال ، خطف رهائن وتخريب متعمد لبنية البلد التحتية حيث تقدر الخسائر بالمليارات ... لمصلحة من يجري ذلك ولا سيما أن هناك مواثيق دولية تلزم المحتل بمغادرة العراق في نهاية 2005 بعد إقامة السلطة الشرعية والدستورالدائم ... إن عدم التنديد بهذا الجرائم لا يعني سوى الوقوف إلى جانب القاتل أي إلى جانب بعثيي النظام السابق والقوى الظلامية، وإمداد المحتل بالذرائع لتمديد فترة احتلاله وتثبيت وجوده العسكريّ بالاستزادة من قواته لاستتباب الأمن . ثمة أحزاب قاطعت الانتخابات وأعلنت رفضها لأي دستور دائم دون مغادرة المحتل ولكنها من جهة أخرى لاتزال مشاركة في السلطة .. لم يعد الأمر بهذه البساطة: أبيض أو أسود . لقد غدا الواقع معقدا شائكا ولا يكفي للشاعر اقناع الآخرين بشعره بل بحقيقته ... في إدراكه اللحظة التاريخية ليكون ضميراً لنفسه والناس إذا كان شيوعياً حقاً ، أما أن يكون متفرجاً ومباركا لقتلة رفاقه فهذا ما لا أتمناه لأحد ولاسيما لمبدع مثل سعدي يوسف . اليوم وأنا أجيبك عن أسئلتك تناهى إليّ خبر قتل صديقي عامل المطبعة الشيوعي هادي صالح الذي كان جاري في عدن . لم يكتف القتلة مقاومو الاحتلال ، كما يدعي شعراء الحداثة بنيس وأمثاله من الشعراء الرديئين شعراً ومواقف ، بقتله بل مثلوا بجثته وأحرقوها ، .فإذا كان الشيوعي الأخير يرى قتل رفاقه بعينيه ولا يدين القاتل فإنني لن أقول له سوى أنك الشيوعي الأخير حقا إذا كان الشيوعيّ يعني الصمت عن جرائم القتلة في ( زمن القتلة ) .
الشاعر عبدالكريم كاصد هل ظلمك النقد كما ظلم الكثيرين من الشعراء أم أنت راضٍ بما كتبه النقد عنك ؟
لم أكن في يوم من الأيام مرهوناً بنقد أو اتجاه شعريّ أو أدبيّ ولا بمؤسسة ما وما أكتبه لا ينتظر مكافأة .. ولاسيما أنني لست في سرب ولا في جوقةٍ . إنني قادم من الطرف الآخر للثقافة العربية السائدة منقباً لا ممجداً ... محتفيا بالهامش والمنتبذ والعابر لأنه الأبقى ، وما يراه غيرى راسخاً لا أراه إلا في موته كمن يرى موت الشجرة في البذرة ... شعراء كثيرون يُحتفى بهم كلّ يوم لا أراهم كذلك ليس لأنني على صواب ولا غيرى على خطأ بل لأنني أرى الأمور هكذا بمنظاري الخاص الذي تشكل عبر تجاربي وقراءاتي لكنني لا أعمم موقفي هذا ولن أقول رأيي على الورق إلا بعد تدقيق وتمحيص نائيا بنفسي عن التقييم المباشر ، تاركاً للقارئ استنتاجه الخاص وهذا ما فعلته في كتاباتي عن الشعراء : الجواهري ، السياب ، البياتي ، صلاح عبدالصبور ، أدونيس ، وغيرهم . ولا أعتقد أن مجتمات مضطربة تعمها الفوضى كمجتمعاتنا قادرة على إنصاف شعرائها وكتابها وعلمائها بعد أن أذلت إنسانها البسيط وأجاعته وجعلته يقيم في أدنى السلم الحضاريّ مسكوناً بالهواجس . لقد أصبح النقد في معظمه كالإعلام مشغولا بترتيب نفسه ... بالظاهر لا بالجوهر ... بالأسماء لا بالنتاج الثقافي ، وإلاّ فكيف تفسر كثرة الشعراء والكتاب ( الكبار ) في أدبنا . إنها ظاهرة كالظواهر الأخرى في مجتمعنا لا تعني شيئا ... إنها مجرد ألفاظ ... ألفاظ
لماذا أشهر المغنين أسوأهم جميعاً
***
الشعراء الكبار يأكلون الصغار ويتضورون جوعاً
هل يفكر الشاعر عبدالكريم كاصد بالعودة الآن إلى العراق ومن ثمّ إلى البصرة أم إنه اتخذ قراره النهائي بالاستقرار في لندن ؟
* كاصد : ليس ثمة قرار نهائي ولكن ذلك مرهون بظروف العراق المتغيرة ، وبظرفي الخاص الذي أصبح أكثر تعقيداً بعد رحيل زوجتي ، ومسؤوليتي عن طفلين لا أعتقد أن ظروف العراق الحالية تسمح لهما بالتنشئة الصحيحة وتوفر لهما ما يطمحان إليه .
ماذا تعني لك أيها الشاعر هذه العواصم : لندن ، باريس ، موسكو ، وهل زرتها زيارات طويلة ؟ إنني أعيش في لندن منذ أكثر من عشر سنوات وهي مدينة يمكن أن تسميها كوسموبوليتية بحق تحتوي أجناساً شتى وتتجاور فيها ثقافات مختلفة وتسمع فيها لغات غريبة . إنها بابل الحديثة بلا برج . إنها المكان الذي يبتعد بك عن وطنك ويقرّبه منك في وجه عابر أوحديث في مقهى أو شارع ... هنا الغرابة تمسي ألفة ، والأديان أرضية ، والمفاهيم ضوءاً ، ومنْ يريد أن يكون ظلاماً لا موقع له في أضواء حضارتها ... كلّ شئ تجده في مكانه وخارج مكانه أيضاً ، في طبيعته وشذوذه ، في غرابته وألفته ... أقوام تتقارب وتتباعد إلا إنها لا تتقابل أبداً وكأنها في نزاع أو هدنة . يمكنك أن تقترب من جارك حدّ الجسد ولكن يمكنك ألا تحيية دون أن يربكك هذا أو يربكه ... هنا القوانين لا تقال ولا تكتب . إنها تعاش كأنها طبع . في لندن يمكن للوقت أن يكون ساحة عريضة أو رأس دبوس : متاحف ومكتبات ومعاهد وسينمات ومسرح من كلّ لون .... وأشياء لا تخطر في بال أحدٍ . من أين لك العمر لتعيش كلّ ذلك . وحده الشعر له مكتباته الخاصة به المتوفرة للجميع مجانا والتي تحتوي على آلاف المجموعات الشعرية والدراسات عن الشعر هنا أقل الشعراء منزلة يحظى بعشرات الدراسات على نقيض ما يشاع عندنا عن موت الشعر في الغرب . مجلات لا عد لها مخصصة للشعر، دور نشر . وشعراء يجوبون المدارس الابتدائية لقراءة أشعارهم والحديث مع طلابها الصغار . وفي الوقت الذي تمتلئ مكتباتهم بكتب الشعر المخصصة للأطفال يفتقر أدبنا ، نحن أمة الشعر ، وأمة الشعراء الكبار الذين أصبحوا بعدد الحصى ، إلى ديوان شعر حقيقي مكتوب للأطفال ...( دلني على شعراء يكتبون للأطفال غير سليمان العيسى بأدواته الشعرية البسيطة وتفكيره القومي القاصر) ولكن هناك من جهة أخرى إعلام لا يستوقفه جوهر أو روح وحياة أخرى ومهرجون فالحياة هنا تتسع لكل شئ وتضيق بكل شئ . أما باريس فإنني لم أعد لها منذ ثلاثين عاماً ولا أدري لم لم أزرها كل هذه السنين رغم قربها ؟ هل لأنّ الحياة تستغرقني في لندن ؟ هل لأنني لم أعد ذلك الفتى المولع بالأسفار ؟ هل لأنني لا أريد أن أوقظ ما غفا سنينا مني في شوارعها ومقاهيها وحاناتها ... لا أدري حقا ... أما موسكو فقد ارتبطت بذاكرتي بالمرض والعزلة التي عشتهما أثناء مرضي ، حيث كدتُ أفقد بصري، قبل أن تلتحق بي زوجتي وطفلتي أيام كنت مقيماً في دمشق ولكن موسكو التي عانيت فيها العزلة والمرض هي موسكو الحبيبة ، موسكو الناس البسطاء الطيبين رغم مافياتها المخيفة ، وشرطتها الفظين ... كتبت عنها أجمل قصائدي التي سأورد منها هذه القصيدة (الصلب) وهي من مجموعة (نزهة الآلام) استوحيتُ فيها رواية (المعلم ومرغريتا) لبولغاكوف التي اتخذت من شارع أربات في موسكو مسرحاً لها، وشغلت قصة صلب المسيح جزءاً كبيراً منها، ولم يكن هذا الاستيحاء وليد رغبة معرفية، بل كان وليد ظرف خاص وجدتني فيه، مرة، سائراً في شارع (أربات)، أثناء استشفائي، وقد استحضرت عالم الرواية وكأنني أشهد صلب المسيح ثانيةً في عالم تتداعى أشياؤه حوالي وفي داخلي، فلم أعد أرى في حاضر أربات إلا طريق الجلجلة وهو يوصلني إلى هذا المشهد: عند اربات رأيت الله يدعوني فأقبلتُ عليه ثم لم أبصرهُ كان الورق اليابس يسّاقط والريح تمرّ وعلى الشارع بحرٌ هائجٌ من سَقَطِ الناس ومحكومون يمضون الى الصلب وجندٌ خائفون قلتُ لو كلمني الله لو انّ الشجر الصامت لم ينعق وهذي الشمس لم تدنُ من الارض وأربات بأحجاره لم يهرع إلى الصلب لو انّ الربّ أطرقت قليلا ثم ناديتُ على السائر خلف الموكب اللاهث في القيظ على السفح: “يهوذا أيها الخائن” فأرتجّ الصدى الغابر في الافق: “يهوذا..ا..ا..ا..ا..” كان رأسي حاسراً والناس يمضون بـ”أربات” وكان الشجر اليابس يسّاقط والريح تمرّ
الشعر / الفلسفة / السياسة / الغربة / صبخة العرب / السياب /البصرة ماذا تعني كلّ هذه الكلمات للشاعر كريم كاصد؟ كتبت مرة في ديوان لم ينشر بعد بعنوان ( هجاء الحجر ومديح الطريق ) :
شيئان كدّرا حياتي أصدقائي والشعر
ولكنّ الشعر بقدر ما كدّر حياتي منحها بهجةً واتساعاً في كشفه الدائم عما هو مجهول لا بالمعنى الفلسفيّ لهذه الكلمة وأنما أعني حضور ما كان غائبا في ما يحيط بي من أشياء وأفكار وأحاسيس لا أدري هل بأمكاني إدراكها أو تحسسها من غير الشعر . ثمة أدغال كثيفة في دواخلنا وعلاقتنا بالعالم أنّى لنا أن نكتشفها من دون ضوء الشعر؟ غير أنّ مباهج الشعر لا تقتصر على الأعماق وحدها ، وإنما لها امتداداتها على السطح أيضاً في تعاملها مع ماهو مألوف وعاديّ لم يُلتفت إليه، بسبب ألفته التي قد تحتوي غرابة وفتنة لا تقلان عن تلك الغرابة وتلك الفتنة التي نحصل عليهما في الكشف عن أعماق النفس . لقد كان الشعر بالنسبة إلي عزاء في المأساة وبهجة أمام أعراس الحياة وملهاتها . إنّه اختراق الزمن العاديّ والعودة إلى طفولة الإنسان ... وفي محنتي في المنفى كان مصباحاً سحريّاً يستحضر الوطن والناس ، والكهف الذي أرسم فوق جدرانه وجوه أعداء الحياة لأسرهم لا في الوهم وحده وإنما في الواقع حين يكون التصور حقيقة قادمة لابدّ من تحققها . هذه القوة السحرية التي أدركها الإنسان منذ بداياته لا تزال حاضرة في الشعر. ومن يحاول أن يتجاهل ذلك فما عليه إلاّ أن يحصي الكتب التي تصدر بالآلاف في أوربا عن شعرائها، وانشغال المئات من الجامعات بدراسة الشعر وتحليله ونشره واستخدام أحدث المذاهب النقدية وأقدمها في فهمه وتذوقه . أما الرأي القائل إنّ الرواية ستحل محل الشعر فما هو إلاّ وهم وجهل بما يجري في ثقافة الأمم المتحضرة ، كأن أصحاب هذا الزعم يريدون أن يقولوا أن الشعر وسيلة بدائية تليق بالأمم المتخلفة .. ماذا سيكون تطور شعرنا العربيّ من دون اطلاعنا على شعر الأمم الأخرى ؟ ألم يكتب بدر شاكر السياب أجمل نصوصه وقصائده المشبعة بالروح المحلية بتأثير من شعر أديث ستويل وعزرا باوند وإليوت ... رغم ما يقال عن محدودية معرفة بدر باللغة الإنجليزية ولكن هؤلاء ينسون أيضاً أن حساسية بدر شاكر السياب الهائلة كان لها القدرة على تجاوز هذه المحدودية إلى استيعاب ما لم يستطع استيعابه الكثير من النقاد والشعراء العارفين باللغة الإنجليزية ممن تنقصهم هذه الحساسية التي تكاد أن تكون لعمقها فكراً. أمّا بالنسبة للسياسة فثمة هوّة بين الممارسة والفكر غير أن هذه الهوة تضيق كلما تطور المجتمع لتصبح السياسة اختيارا وتحديا وصراع أفكار وخطاباً لا كلاماً رفيعاً عن واقعٍ منحط ، وشعارات فارغة مجردة لا تحمل معنىً . في الأمم المتحضرة السياسة مسؤولية ، لا مغامرة أبطال، ومعرفة لا هتافات شوارع ، ورقابة محكومين لا حاكمين .. رقابة تمتد من الشارع إلى البرلمان إلى الصحافة حيث المناورة لا فسحة لها والبلاغة لا موضع لها إلاّ بما تحتويه من حقائق ملموسة ولكن ثمة هوامش واستثناءات وصراعات كما في الحياة غير أن الصراع لا يصل إلى قطع رؤوسٍ وتشبثٍ بكراسٍ وتوريثها . وتوظيفٍ للماضي لتمرير حاضر . في عالمنا الثالث أو العاشر ليس لدينا خطاب سياسي .. لدينا كلام هو ألفاظ ألفاظ وصراعات دينية وعشائرية انتهت منها اوربا منذ زمنٍ . l ولعلّ الغائب الوحيد هم الناس الذي لا يحضرون إلا في الإعلان غير أنّ التغيير، تغيير مجتمعاتنا لا بد أن يحصل إن لم يكن بعامل داخلي فبالعامل الخارجي وهذه مصيبة ستكلف مجتمعاتنا كثيراً. أما الفلسفة فقد قرأت مرة أن من يدرس الفلسفة على كبر لن يقدر على استيعابها مهما بذل من جهد. قد يكون هذا القول صحيحاً أو خاطئاً لكنه لا يخلو من حقيقة إذا ما عكسنا هذا القول وقلنا برسوخ الفلسفة في ذهن من يدرسها مبكراً، وأنا ، حمداً للحظ ، درستها وأنا صغير وهذا ساعدني ليس على اتخاذ المواقف والقناعات الخاصة بي ، فحسب ، وإنما ساعدني على الفهم ورغبتي في الفهم .لقد حصنتني الفلسفة من الانجرار وراء الأفكار المبتذلة والمشوشة والجدية التي تخفي وراءها عبثا وجعلتني حذراً في تقبل أفكار الآخرين من الكتاب والنقاد ولاسيما الشعراء ذوي الدعاوى العريضة ، والتهويمات الميتافيزقية الكاذبة ، لذلك نادراً ما أجد نفسي مأخوذاً بهذا الكاتب أو ذاك من يجيدون قراءة اتجاهات الواقع الآنية لأداء دورهم التهريجيّ . مرةً قرأت في كتاب لبرغسون قبل أكثر من ثلاثين سنة أن في كلّ فلسفةعظيمة تصوراً شعرياً انطولوجيا كذلك أعتقد أن ثمة موقفاً فلسفياً يختفي غائراً في أبسط مشاهد الشعر ، والتقاطاته . أما ما تعنيه الكلمات الأخرى بالنسبة إلى فـ ( بدر) هو أبي الذي يصغرني سناً ، والبصرة بيتي وإن غبت عنه سنينا ولم أعد إليه، والصبخة هي ( النقر على أبواب الطفولة ) وما الغربة إلا غياب هذه الأشياء مجتمعةً .
بماذا تنصح الشعراء الجدد وخصوصاً منهم الذين يعشقون الغموض من أجل الغموض فقط؟
هل أنا مهيأ حقّاً لإسداء النصائح ؟ وأية نصيحة أقدّم أنا الذي أجد نفسي دوماً وكأني أخطو خطوتي الأولى في الشعر متوجساً في كلّ قصيدة أكتبها . أما بالنسبة إلى الغموض فإنني أعتقد أنّ الوضوح قد يكون بذاته غامضاً عند من لم يألفه .. أتذكر قولاً لأراغون أن القصيدة الواضحة أحياناً تعمي العينين بوهجها ... وهنا تحضرني صورة السجناء وهم يخرجون من ظلمة الكهف إلى الشمس ، في مثال الكهف الشهير لأفلاطون، فيتحسسون طريقهم في الضوء كالعميان . ثمة قصائد غامضة تدّعي العمق يتسابق النقاد على تبيان مستوياتها وعوالمها الغامضة لا تبدو لي غير لعب أطفال ، وسطح لا تستشف وراءه جوهراً ولا عمقاً. ولكن يمكن القول إن القصيدة وضوح والشعر العظيم واضح في أغلبه ولا أعني بالوضوح سهولة فهمه وأنهما سطوع عالمه ومستوياته التي تضئ خالقةً البهجة حتى وهي في أشدّ عتمتها عاطفةً أو تفكيراً. لا أرى في شعر المتنبي غموضا ولافي شعر ريتسوس أو إليوت ، ولا سيما في قصائده الشهيرة، وإنما أرى عمقاً يحفر في الجوهر الإنساني وظلمة الواقع ، ومايبدو غامضاً ما هو إلاّ جدة الدلالات التي تشير إلى ما لم يألفه القارئ في واقع لم يكتشف بعد . لم يضرّ شعرنا العربيّ القصائد البسيطة الموحية بل أضرته القصائد المركبة المنتصبة كالجدار في وجه القارئ ... أغنية الصفصافة لشكسبير في عطيل ، رباعيات صلاح جاهين، شعر الخيام قصائد أيوب لبدر شاكر السياب ، قصائد المتنبي ( يقول بشعب بوان حصاني ) ، قصائد لوركا وبليك الساذجة كما تبدو ، قصائد طاغور في جنتجالي ، وغيرها هي من الشعر الخالد أبداً .
الشـــاعر العـراقي عبد الكريم كاصـد
محتفياً بالهامش والمنتبذ والعابر لأنه الأبقى
حاوره الكاتب والناقد العراقي كريم عـبـاس زامــل ............................................................................................................
(يزيّن البعضُ رأسَهُ بالتيجان والبعضُ بالعمائم أمّا أنا فما يعوزني فضلةٌ من قماش لأعصّب بها رأسي رأسي المكشوف أبداً للآلام) منذ "النقر على أبواب الطفولة" 1978 الذي سبقته "الحقائب" 1975 والطبعة الثانية 1976 الحقائب التي ستأخذ عبد الكريم كاصد من البصرة ثانية ولكنها هذه المرّة صرّة ثياب وزاد طريق موحشة سيسلكها الشاعر على جمل لينأى برأسه بعيداً عن حراب القتلة سنة 1978، تلتها "الشاهدة" 1981 ثم "وردة البيكاجي" 1983 ذلك النزل الذي سكنه عراقيون، منفيون في جنوب اليمن. من البصرة إذاً عبر الكويت الى اليمن ثم دمشق!، يالها من نزهة "نزهة الألام" 1990 الى "سراباد" 1997 عبر "دقات لا يبلغها الضوء" 1998 فـ "قفا نبك"ِ 2003 و"زهيريات" 2005 للشاعر أيضاً: مجموعة قصصية 2005 ، وتحت الطبع "من حديث الحيوان" قصص للأطفال، "هجاء الحجر ومديح الطريق"، مجموعة شــعرية، "أحوال ومقامات" (كتاب نثري)، "نكهة الجبل" مجموعة شعرية مترجمة. من أهم ترجماته عن الفرنسية : كلمات لجاك بريفير 1981 أناباز لسان جون بيرس 1987 قصاصات ليانيس ريتسوس 1987
في البداية لابدّ من وضع أسس لحوارنا الذي لا نريده تقليدياً فمن أين إذن سنبدأ ؟ لتكن بدايات الشاعر الأولى وبإيجاز أهم المحطات وأهم ما تأثر به الشاعر عبدالكريم كاصد.
حين تحضرني البدايات الآن تبدو وكأنها عالم سحري غائم بعيد ... عالم من الصعب الإمساك به تتداخل فيه الوجوه والأسماء ورائحة الكتب القديمة والأسواق وزحمة البشر والمكتبات والأغلفة الملونة الساحرة. أسماء تظهر وأخرى تختفي .. أحياء وموتى وعالم يأتلف فيه كل شئ : حكايات ألف ليلة وليلة التي كان يرويها خالي موزان وهو مسنلقٍ على سرير مرضه الذي نتحلق حوله مبهورين ... عبدالرزاق الديوان الذي كان يروي أحداث الحرب العالمية الثانية بتفصيل دقيق يقطع الأنفاس ... مطبوعات كتابي وسلسلة كتابي والكتاب الفضي والمجلات العربية ولبنان وشعراؤه: إلياس أبو شبكة ، سعيد عقل ، بشارة الخوري ... مجلة الآداب ، الثقافة ... إلخ . كلّ هذه المصادر كنا نلتهمها إضافة إلى كتب المغامرات والجريمة التي كان يعيرها لنا صديق يهوديّ ما زلت أذكر اسمه هو ( فيكتور منشي ) لنقرأها ولاسيما تلك الكتب التي كان أبطالها ( ملتون توب ) و ( جونسون ) ... ثم تشعبت طرق المعرفة كما تتشعب الدروب في غابة لتلتقي وتفترق هنا أو هناك ومعها تشعبت طرق الحياة . وفي الوقت الذي كانت فيه طرق المعرفة تتسع كانت طرق الحياة تضيق ... لقد أصبحت طرق الغابة نزهة ومسالك واضحة ، بينما أضحت طرق الحياة مسالك وعرة وغابة كثيفة... اختفاء بعد انقلاب 1963 ورحيل ثم عودة إلى العراق ثم رحيل وفي 1978 اختفاء جديد عبر الصحراء على جمل لمدة سبعة أيام في الصحراء ثم هروب بصحبة عشرين هارباً محشورين في تنكر ماء وتوقيف في الكويت ورحيل إلى عدن:
أكان الرحيل إلى عدنٍ دورةَ البحر؟(كالأشنات تقاذفنا الموج ...) نهبط في غرفٍ ونغادر، توقفنا زرقةٌ في الشبابيك، أغربةٌ تتنزّه وسط المدينة، رائحةٌ في زقاقٍ قديم، حوانيتُ تقطر بالزيت، شمسٌ تدحرج أحجارها وهي تنزفُ حمراءَ، لمعةُ ثوبٍ، ونافذةٌ تتوهّج في الليل يحجبها جبلٌ مظلمُ الشرفات ... ورامبو يدور ببركانه العدنيّ.. وقد ينطوي بين أشيائه دائراً في المساء.. وقد لا يرى بحرَهُ مثل ساريةٍ مائلاً للرحيل ورامبو النهارات ممزوجةٌ بالظلام، دمٌ فاترٌ، مطرٌ يتساقط أسودَ فوق المراكب.. رامبو ارتحالٌ وحيدٌ على جملٍ، خفقُ أشرعةٍ تتفتّح في زهرةٍ.. من رأى الأبديّة في الماء.. في حبّة الرمل...؟ رامبو النهايات برقٌ توهّج عبر الفصول...
( من قصيدة البركان العدنيّ المهداة إلى رامبو)
ثمّ رحيل آخر إلى دمشق وبيروت وموسكو ومرض أوشكت أن أفقد فيه بصري ، ثمّ رحيل ثالث وعاشر إلى لندن وكأنها نهاية الرحلات التي أودعتها أعزّ ما عندي لأدخل طرقاً لا عهد لي بها من قبل ... طرق الأبدية حيث الرحيل لا عودة منه ولا رحيل إليه ... فجأة أجدني مأسوراً للمكان مقيما فيه أنا العابر دوماً ... لقد صار لي في هذه الأرض بيت لا يستبدل أبداً : قبر زوجتي ؟ فهل هناك من يفارق قبره ؟
في داخل صهريجٍ تحت الأرض سأجلسُ علّكِ تأتين فيجرفنا الماء إلى البحر خفيفَيْن تقولين: "ألا تأتي!" وأقول:"ألا تأتين!" ويجرفنا الماء سعيدَيْن في الظُلمةِ حيث الضوءُ بعيدٌ والناس بعيدون - ألا تسمعُ صوتَ الرعد؟ - متى تتوقّفُ هذي الأمطار؟ البحرُ قريبٌ - هل تأتين؟ - ألا تأتي؟ وننام هنالك في الظلمة ملتصقَيْن
( مياه في أعماق المدينة )
ديوانك الأول الحقائب بطبعته الصغيرة والأخرى التي أصدرتها مطبعة الأديب ما يشكل هذا العمل بالنسبة لعبدالكريم كاصد؟ أرجو أن تعطينا انطباعاتك على هذا الديوان .
لم يستقبل ديوان لي مثلما استقبل ( الحقائب ) لقد طبع أول مرة في دار العودة في لبنان عام 1977 وبذلك تهيأت له فرصة توزيع نادرة لم تتوفر لدواويني الأخرى باستثناء ديوان ( الشاهدة ) . كنت في العراق آنذاك وكنت أفاجأ بين حين وآخر بكتابات عن الديوان بالغة الحماس وأتذكر من بين عناوينها الكثيرة هذا العنوان ( صوت غريب يطلع من الحقائب ) . لقد احتوي قصائد من أفضل ما كتبت ( الحقائب ) ( الغرف ) ( ثلاثية السفر ) ولاسيما ( الغرف ) التي أثارت اهتمام نقاد وشعراء عديدين . وحين نشرت هذه القصيدة أول مرة في جريدة ( طريق الشعب ) العراقية سنة 1973 فاجأني أحد الجالسين في المقهى أنه بكى عند قراءتها ... قد يقول قارئ عن هذه القصيدة جيدة أو غير جيدة ، وقد يخطئ أو يصيب ، ولكنه لن يخطئ أبداً حين يقول إنه (بكى ) . وأقول لك الحقيقة أنه فاجأني لأنني لم أتوقع أن يبكي أحد لقصيدة كقصيدة الغرف المتميزة بتركيبها وتردد قافيتها الواحدة ( الغرف ) طوال القصيدة دون أن ترد فيها لفظة أخرى وانتقالها، في هامش القصيدة ، إلى أول السطر، وهذا ما يمكن أن يقال عن ( الحقائب ) :
غرفٌ للمياهْ غرفٌ للمنازل تهبط عاريةً غرفٌ للأسرّة تصهلُ مربوطةً في الغرف غرفٌ ترتجفْ غرفٌ للمجاذيب يبكون فوق القوارب مرسومةً في الجدار غرفٌ للصغار غرفٌ للجنود المصابين واليطقات غرفٌ للمساجين والأمهات غرفٌ للمواخير مفتوحةً للدخول غرفٌ للعصافير تسكن أعشاشها في السقوفْ غرفٌ للوقوفْ غرفٌ للهياكل مشدودةً للمراوحْ غرفٌ للمذابحْ غرفٌ للعويل غرفٌ للمهاجر يُسندُ أحزانَهُ لرصيف
مائلٌ ظهرُك المستقيم..
أما القصيدة الرئيسية ( الحقائب ) فإنها وليدة حدث هو على شئ من الغرابة : حين قدمت من الجزائر إلى باريس للمرة الثانية أو الثالثة، سنة 1972 أودعت حقيبتي في مخزن المحفوظات في محطة ولم أحمل إلا ما خفّ إلى الفندق : لا أدري لم ؟ مجرد غفلة أو نسيان أو لا مبالاة وأهملتها هناك إذ لم أرجع إليها إلا بعد فترة طويلة وقد غمرتني مباهج باريس اليومية ، فلم أعد أفكر بحقيبة ولا بما سأدفعه من مبلغ كبير لقاء إيداعها إذ جرت العادة في المحطات أن يودع المسافر حقيبته ليوم أو يومين، أما أن يودعها لفترة تقرب من الشهر فهذا ما لا يطرأ لذهن إنسان إلا عند الضرورة القصوى ، وقد فوجئت حين عدت لاستردادها إنها تكاد تختفي تحت طبقة كثيفة من الغبار ولم يخف الناس نظراتهم المتسائلة إليّ وهم يرون إلى حقيبتي وهي مغطاة بالغبار ، وإلى يدي وهي تسلم المبلغ الذي لا مبرر لدفعه في الأحوال الاعتيادية . ثمّ صحبتني هذه الحقيبة والحقائب الأخرى في عودتي إلى العراق وكنت أتطلع إليها وهي تتنقل معي من محطة إلى أخري ، مثلما أتطلع إلى إنسان عزيز يرافقني. هذا الديوان من أحب الدواوين إلى نفسي . إنه ديواني الأول وخلاصة عمر كامل ... انتقيته من بين عشرات القصائد التي كتبتها و أهملتها في ما بعد. وإذا أردت انطباعي في ماعدا هاتين القصيدتين فإن ذلك قد يستغرق صفحات عديدة ولكن أود أن أشير إلى قصيدة صغيرة لكي أدلل على الصنعة الخفية في هذا الديوان . هذه القصيدة هي ( آلام ) :
كوني عاقلة يا آلامي الليلة أوجس ريحْ وأحس نمالاً فوق عظامي اصغي ... أسمع وقع خطىً في الرمل تسير وئيدا
أبوابي مغلقةٌ والخيلُ تمرّ ظماء وشتاءُ العام تقضّى ثم تلاه شتاء لا لفمٍ جمّعت ولا لعيال لكن .. من أودعك الليلة هذي الأسمال ؟ من أشعل هذي النار ...؟ وكسّر في كفيك الخبز لا تقسي يا آلامي رأسي يهتزّ رأسي فوق النار صفيح من منكم ينقر يا أحبابي؟
في هذه القصيدة ثمة استعارة من بودلير ( كوني عاقلة يا آلامي ) ومن القرآن ( أوجس ريح ) و ( شتاء العام تقضّى ثم تلاه شتاء ) وأسلوب مستعار من مهيار الديلمى ( لا لفمٍ جمّعتُ ولا ولعيال ) في قصيدته التي يرثي فيها الشريف الرضيّ ( أقريش لا لفمٍ بقيت ولا يدِ فتواكلي غاض الندى وخلا الندي ) وهذا من أجمل المطالع التي قرأتها في الشعر العربي ، و قل مثل ذلك في أبياتها الأخرى من دلالات وإشارات إلى قصائد ( ما للجمال مشيها وئيدا ) وتراث وحكايات فولكلورية وضربة أخيرة تختلط فيها الأحاسيس فلا تدري أهو النقر فوق الباب أم هو النقر فوق الصفيح ؟ ولعل في اختفاء القافية في (ريح) ثم ظهورها فجاةً في البيت ماقبل الأخير وتكرار الحروف المهموسة ذاتها في البيتين ما يستحق الوقوف ربما. حين أعطيت هذي القصيدة إلى البريكان لينشرها في مجلة الفكر الحي مع قصيدة أخرى لينشر إحداهما كان رأسه يهتز مع نهاية القصيدة مهمهما كعادته التي أعرف طربه من خلالها .
النقر على أبواب الطفولة وقصائد الرثاء التي نشرتها في جريدة الفكر الجديد ترى ماذا قدم الشاعر في الثمانينات والسبعينات وبداية القرن الجديد ؟ أرجو أن تعطينا شهادتك الشعرية ولو بإيجاز .
النقر على أبواب الطفولة هو ديوان الطفل الذي ما زال مقيماً في داخلي ولا يغادرني ... الطفل الذي ما زال يقودني إلى مسالك أجهلها ولا أدري ماذا سيحل به حين أتوقف فلا أقوى على السير ثانيةً؟ في هذه المجموعة حاولت أن أمنح الكلمات ثقل الواقع والواقع خفة الكلمات فلا ماضٍ هناك ولا آتٍ بل حضور دائم ومرآة لا تعكس صورة، بل تنفتح على عالمٍ سحريّ يدخله الطفل ولايخرج منه أبداً منخطفا بتفصيلاته كما في ( انخطفات ألف ليلة وليلة) :
أنين المراكب في البحر تغريدة السندباد الشجية في قفص الطير قرعُ الطبول الخفيّة تهويمةُ الطير والخاتم الذهبيّ عصا الطفل ملتحياً يلبس الطيلسان قميصُ الصبية يرفعه النوم ارخاءة الستر محتشداً بالطواويس رقص القرود الخفيفة خضراء تحمرّ عند انطفاء القناديل وجه الصبية تبكي على شرفةٍ من ضياء
وهو حتى في تفاصيله الواقعية لا يخلو من حدثٍ سحريّ :
يغيب الأهل فيرقص في الظلال الصمت وتخرج من ظلام الحائط المشقوق .. أفعى البيت تهزّ الطفل
فإن، لم يكن هذا الحدث فثمة ما يعادله : سؤال يجعل المألوف غريباً :
أركض حين يجئ الناس محتشدين أمام الواجهة المفروشة بالقنفات أهرع مسحوراً بين السيارات أحمل كرسيّا ومصابيح ملونة للزينة ... لكني أخشى لمس مخدّات الأعراس وأخاف النسوة .. أسأل أحيانا : هل يتزوج هذي الأيام الناس
وقد تكون مفاصل الواقع ذاتها سحرية وأن بدت في مظهرها أشد واقعية ً :
من بين كلّ العباءات المنحنية على الصناديق تنهض عباءة في الليل بعيداً عن النيران الموشكة على النباح والقناطر المهتزة تحت الأقدام يتبعها جسد تنطبق عليه في الظلمة .. ويغوصان معاً في قاع النهر اليابس بين الحلفاء
وحين يلتبس الواقع بالوهم يتقدم الوهم في هيئة الواقع حتى يصبح التمييز بينهما محالاً :
عند الظهر حملوه بلا كفنٍ أو تابوت صوب التلّ تركوه وحيداً تحت تراب القبر يبكي ... يبكي ... حتى يدركه الليل فتضئ الشامة في خدّه ثمّ يموت
ومثلما للوهم انخطافاته للواقع انخطافاته أيضاً:
ضجيج الزنابير صفراء نار الكلاب المغيرة في الليل خفق العباءات بين الطوابير دقّ المسامير بكماء مدّ القناطر بين القوارب والجرف عوم الفوانيس في الماء ضوضاء نوح الجراديغ وسط الضجيج
وهكذا مجموعة لكلماتها ثقل الواقع ولواقعها خفة الكلمات فهل هي ماضٍ حقّاً ؟ أما قصائد الرثاء التي نشرتها مجلة ( الفكر الجديد) العراقية الصادرة في السبعينات وضمها ديوان الشاهدة فهي قصائد الواقع الذي يتقدم بغرائبيته دوماً دون أن يتخلى - إذا شئت – عن واقعيته أبداً :
كالخضر انطلق منتعلاً خفين مثيراً سحابات غبارٍ صغيرة وانكفأ عائداً بجنازة صديق حتّى إذا بلغ نخلةً ونساءً يبكين في الطريق حمل الجنازتين وأقبل .. ففزع الناس من السرادق ، وظنّوه ميّتاً ولم يصدّقوا
إنها قصائد النثر التي كتبتها في السبعينا ت بالضد مما ساد ويسود الآن في كتابة قصائد النثر من تداعيات، وفوضى ، وغياب للموضوع والذات معاً. هذه القصائد والقصائد الأخرى المنشورة في ( النقر على أبواب الطفولة ) تحت عنوان ( قوارب ) هي من تجاربي التي ترسخت في هذا النمط من الكتابة الذي بدأته منذ أواخر الستينات ونشرت جزءا منه في الحقائب وهذا نموذج منه :
سآتيك لا لكي أراك ، بل لكي تريني صامتاً مطرقاً تملؤني عيناك .. كما لو أنني فراغ
***
أنا الشجره تهزُّ ريحك
***
يعكس الصمت وجهك مثل الزجاج
***
أنت تجعلين أشيائي الصامتة تتحرك ولكن لماذا .. لماذا حين تنطقين أبصر الصمت بين كلماتك ؟
***
نحن لا نتلاقى بل نتقاطع مخترقين بعضنا بعضا
أما تجاربي في الثمانينات والتسعينات وبداية القرن الجديد فمن الصعب الحديث عنها ، في هذه العجالة ، لأنها تمتد ربع قرن تقريبا بعد تجاربي الأولى التي استغرقت ما يقرب من عشرين سنة.
في رحيل 78 عبر بادية السماوة هل فعلاً شعرت بالندم وهل فعلاً وقتها تذكرت رواية ( رجال تحت الشمس ) فندمت ؟ ترى ما هي ذكرياتك عن تلك المرحلة المريرة مع الشاعر مهدي محمد علي وماهو رأيك بما كتبت وكتب مهدي عن هذه الرحلة ؟
نعم ندمت حين أمرنا أن ندخل تنكر الماء لنتكدس أكثر من عشرين هارباً ، بعضنا فوق بعض ، مبقعين بالماء والرمل ، بعد رحلة دامت سبعة أيام في الصحراء ، في قافلةٍ صغيرة من ثمانية أشخاص ( سياسيان واثنان هاربان من العسكرية وأربعة مهربين ) ، وستة جمال . هربا من الهجمة البربرية التي شنها النظام السابق على من يخالفه من الناس سنة 1978. اختنق اثنان منا وكادا أن يفارقا الحياة لولا أن نسحبهما إلى السقف ليستنشقا الهواء . كنا على مقربة من أحد المخافر ، معرضين للرصد. لقد نجونا بإعجوبةٍ . أترك ما كتبته عن الرحلة وما كتبه أخي الشاعر مهدي محمد علي لتقييم القارئ ولكني أود هنا أن أورد نصاً عن الرحلة في كتاب سيصدر لي هذه السنة عنوانه ( أحوال ومقامات ) استجابة لطلبك أن أسرد شيئاً من ذكرياتي عن هذه الرحلة التي لخصت عذابي فيها بهذين البيتين :
رحل الأعراب وبقيت وحيداً في القفر أدقّ بلا أبواب
النص :
مارواه فردان عن هربه عام 1978 عبر الصحراء
قبل أن يرتدي الليل شملته سبقتنا الجمال وعبرنا القرى كان نجم القرى نائياً فعزمنا الرحيل وانحدرنا مع النجم قلتُ: إذن هكذا صرةٌ ومتاع قليل (من قصيدة الرحيل عبر بادية السماوة )
كنا ثمانية ... تقدّمتنا الجمال في ليلة لن أنسى صحوها الذي كاد يمطر – كما يقول الطائيّ أبو تمّام – ولمعان نجومها ، وظلالنا الهائلة التي امتدّت حتّى السماء، كأنّنا جزء من كونٍ ليليّ أبيض اشتدّ لمعانه مع اشتداد أملنا بالخلاص . وبعد مسيرة مرهقة على الأقدام اعتلينا جمالنا ثمّ نزلنا وأشعلنا ناراً من الغضا لم تنطفئ ، ولكنها لم تحمنا تماماً من البرد . كان البرد يهجم علينا كالذئاب ويرتدّ ، إلى أن أطلقت الشمس سهامها النارية الحادّة فأيقظتنا . كلما سألنا عن الوصول قالوا لنا " شمرة عصا " ، غير أن شمرة العصا استغرقت أياماً وليالي سبعاً في أرض خلاء لا أثر فيها لإنسان وليس فيها من الشواهد غير آثار حيوانات مرّت : خيول ، ذئاب ، أغنام ، وهذا أثر لصبيّ ... أين ترى غادر ؟ آثار تحيط بنا .. آثار فوقنا بيضاء يطبعها الليل نجوماً في سماء الصحراء. ولكن أغرب الشواهد هي الجراء التي صادفتنا في الطريق ... ثلاثة جراء لن أنساها ما حييت واقفة بانكسار وهي تتأمل موكبنا يمرّ .... من أين جاءت ؟ وأين ستذهب ؟ وماذا سيحل بها أو بنا؟ أما الشاهد الذي يسخر من كلّ ما اعتدناه من كتبٍ وأفلامٍ وخطبٍ فهو ذلك البدويّ الذي أقبل نحونا قادماً من الخلاء ليذهب إلى الخلاء وكأنه سهمٌ يخترق الأبدية .
جاءنا يعلو فرساً ليهبط منها وهو يحدّق مذهولاً في الخبز الذي أولمناه إياه ، والذي لا نملك سواه ، بعد هذه الرحلة الطويلة ، آتياً على الفتات . لم أعرف من قبل طرب الجمال إلاّ في الشعر ، أمّا سرعتها فلم أصدّق بها حتّى كادت تطير بي في الليل وهي تستروح الماء على بعد أميالٍ وأميال. يا إلهي أية غرائب في الطبيعة ! وأية مخلوقات تألفنا ونألفها ! في اليوم الثالث اجتزنا أرضاً بوراً بيضاء من الملح فكادت تنزلق بنا الجمال ... أرض اشدّ وحشة من رمل الصحراء. ولكن فجأة يمرق أرنب بريّ ذو أذنين حمراوين كأنه يحمل ناراً في هذه الصحراء . في مسائها الموحش. ويختفي فجأةً وإذ نجتاز صحراء الملح هذه ، تنفتح سماء أخرى أرض أخرى بركة ماء ونخلةٌ وحيدةٌ مكتظةٌ بالفسائل. ذهب مهديّ إلى البركة فجاء بماء في إناء تملأه الديدان ، وحين أراها لأحدنا تناول هذا الإناء وشربه دفعةً واحدةً وسط ذهول مهدي الحائر.
في اليوم الرابع لاحت لنا خيمتان فاشترينا شاةً فكانت الوليمة التي لا تعدلها وليمة من قبل ، وربّما من بعد . في تلك الليلة سمرنا ودارت بنا القصص في تلك الصحراء ولعلها ما زالت تدور بي كلّما تذكّرت أولئك الناس وأقاصيصهم عن مغامراتهم العجيبة ، وبراعتهم في القص ، وتكرار جملٍ وعبارات تتخلّلها ألفاظ عاشت قبل أكثر من ألف سنةٍ واندثرت ولكنّها لم تندثر في الصحراء . لم أصدّق أن مفردات أمرئ القيس وعنترة ولبيد وطرفة ما زالت تسري في أفواه هؤلاء المهربين الشعراء العشّاق الذين لم يشعروني أبداً بمعرفتهم بهويتي ، وكلّ ما قالوه " إذا ما داهمتنا دوريّات الصحراء فاختفيا أنتما حتّى نلحق بكما في اليوم التالي بعد أن نكون قد سوّينا أمرنا مع شرطة الصحراء " . ولم يكن توقّعهم تطيّراً فقد صادفتنا أكثر من مرّةٍ هذه الدوريات ، ولكن أخطرها كان ذلك الضوء الذي أخذ يقترب منّا شيئا فشيئا. كنّا في أرضٍ منخفضةٍ وكان الضوء يبدو وكأنّه قادمٌ من علٍ فارتعبت الجمال ، واستطعنا الهبوط منها إلاّ جملاً كان يركبه واحدٌ من المهربين فقد فرّ مذعوراً.
لحقتُ به وأوقفته , فدهشوا وظنّوا ذلك شجاعةً منّي ولم يدركوا أن جهلي بعواقب الأمور هو الذي ساقني إلى هذه المبادرة التي كادت تودي بحياتي ، فقد يقتلني الجمل في موقف كهذا . حبسنا أنفاسنا ، وصمتت الجمال بعد ذعرٍ ، وعادت رجرجةُ الماء في الرحال ، فحسبتُ الجمال وكأنها تخوض في مياه على الأرض ، وبدأ الحصى يتطاير تحت أخفاف الجمال ويرمي شجيرات الغضا التي تصادفنا في الطريق ، فيقلق نوم القطا الذي يفرّ مذعوراً في الليل .
في اليوم الخامس وصلنا غابةً من أشجار الغضا ، والتقينا هناك بقافلةٍ تضمّ مهربين وهاربين أيضاً ، بينهم عرب فلسطينيون وسوريون ، ينتظرون ما يقلّهم إلى الأرض الموعودة . كنّا نسمر في المساء ، ونشعل نيراننا التي تكاد تلامس سقف السماء .. وحين أبدينا خشيتنا من هذه النار الهائلة قيل لنا إننا في منخفض وإنّ الدوريّات لا يمكنها رؤية هذه النار.
وفي اليوم السابع تركنا وراءنا الجمال يحرسها بعض المهربين من القافلتين . سينتظر هؤلاء عودة زملائهم محمّلين بالبضائع من الكويت . تركنا وراءنا الغابة وانتشرنا خلف شجيرات منثورة هنا وهناك لئلاّ تلمحنا الدوريّات إذا باغتتنا وحين قدم ( خزّان الماء ) الذي سيحملنا جميعاً تقدّمنا منه كما تتقدّم الضحايا في الطقوس إلى الموت . تكدّسنا عشرين شخصاً ، بعضنا فوق بعض ، في رحلةٍ رهيبةٍ استغرقت خمس ساعات . توقّفنا خلالها مرّةً واحدةً حين أوشك اثنان منّا على الاختناق فاضطررنا إلى سحبهما إلى سقف الخزّان وتمديدهما فوقه ليستنشقا الهواء. كان هذا المشهد ، لسوء الحظ ، يجري على مقربةٍ من مخفر من مخافر الحدود ولكنّنا نجونا .
قذفنا خزّان الماء كما يقذف حوت ضحاياه ، في أرضٍ قصيّةٍ ليس فيها غير بيوت لم يكتمل بناؤها بعد . قفزنا كالخراف في اتجاهات شتّى مبقّعين بالرمل والماء ، نقف على الطريق الإسفلتيّ العام بانتظار الباصات العابرة لتوصلنا ...أين ؟
ترى هل تشكل سلطة النقد سلطة قاهرة تى أن تلوي سلفاً عنق النص لتدخله في متاهات يختارها الناقد سلفاً أم إنه خطاب إبداعي يضاف إلى النص ليجعله أكثر بهاءاً ويضئ مداخل النص للمتلقي أم إنه يقوده عبر مستويات وآلية القراءات المتعددة إلى تأويل قد يلغي النص ؟ ماذا أنت المتابع الجاد منذ السبعينات لمدارس النقد الأدبي الغربي الجديدة ومن خلال معايشتك الطويلة له؟
لا يمكن لأي نقد أو سلطة مهما كانت منزلتهما أن يلويا عنق النص الإبداعي، لأنّ للنص حياته وحركته التي لا تتوقف أبداً ، رغم ارتباطه اللصيق بمكانه وزمنه المحددين . ثمة علاقات تتجدّد فتضئ النص مثلما يضيئها النص ... علاقات هي أعقد وأوسع من أيّ نقدٍ أو سلطةٍ محددتين . أما النقد الذي يتعامل مع النص باعتباره بنية أو نظاماً مغلقاً فهو بنفيه للذات والموضوع معاً ينفي النص ذاته ... أي يفرغه من محتواه بتعليقه الذات والواقع خارج النص . وعندما يصبح الانشغال باللغة بديلاً للاثنين تكشف الحداثة عن لعبتها ووجهها التقليديّ الآخر الذي لم يكن شاغله سوى اللغة ... أليست اللغة وحدها هي شاغل التقليديين من الأدباء والنقاد في تراثنا على الأقل ؟ أليس نفي الذات نفي لجوهر الحداثة المتمثل بالفرد ... وتجريده أليس نفياً لانسانيته أيضاً ؟ وأين المعرفة إذن من بنية النص ؟ وبعد هذا وذاك أين هم نقاد الحداثة وما بعد الحداثة في نقدنا العربي لنتحدث عن هن هذا النقد بملموسية لا بتجريد لن يقودنا إلى حقيقة ما ؟ أين هي نصوصهم البنيوية لنتحدث عنها ؟ ثمة دراسات تستعير بعض المقولات لدراسة نص ما ولكنها تساوي بين النص الإبداعي وغير الإبداعيّ لذلك ترى نصاً ميتا ومقولات مرتبكة ليس فيها وهج إبداعٍ أبداً ، وبدلاً أن يكتفي الناقد العربي بتحليل بنية هذا النص نراه سرعان ما يسقط في التقييم وبذلك يفارق منهجه نفسه الذي ينبغي أن يكتفي بتحليل البنية وحدودها. وبعد هذا وذاك ما فائدة نص نقديّ يخلو، رغم ادعائه بالعلمية ، من (لذة النص ) التي يتحدث عنها ( رولان بارت ) ؟
الفلسفة الماركسية إلى أي حد قرأتها ؟ هل قرأت رأس المال والأيديولوجيا الألمانية أم كيف قرأتها ؟ سعدي يوسف قرأها في الفانوس يهتز ضئيلا وفي قصيدته ( الأول من أيار ) وفي نجمة سبارتكوس ونحن لم نحتكم وقصائد إلى لينين ترى هل أن الشاعر عبدالكريم كاصد له رؤية خاصة في قراءته المتعددة للخطاب الماركسي وماهو رأيك بإعادة قراءة الماركسية وفق متغيرات عصر العولمة ؟
قرأت المجلد الأول من رأس المال قبل أكثر من ثلاثين سنة في طبعة دار اليقظة وما أدهشني فيه هو قدرة ماركس على تجريد الوقائع الملموسة، دون أن يغادر هذه الوقائع إلى بناء نظام فلسفيّ مفارق بمقولاته وتجريداته. وهو في هذا الجانب شبيه ربّما بأفلاطون الذي جاء نظامه الفلسفيّ عبر الحوارات والتمثيل ، والقديس أوغسطين الذي لم يترك نظاما فلسفيا مجرداً بل اعترافات ونصوصاً احتوت على نظامه الفلسفيّ . وأعتقد أن أن من يريد أن يكتشف ماركس وديالكتيكه لن يجدهما من خلال المقولات المجردة التي خلّفها وراءه بل عبر المادة الهائلة التي تركها والتي احتوت خلف ملموسيتها وصلابتها فكره المرن ذا القدرة التجريدية الهائلة ، دون أن يكون مجرّداً أبداً . لقد اشترع ماركس طرقاً للتفكير لا مقولاتٍ مجردة ميتة سرعان ما ابتذلتها الأدبيات الماركسية المبسطة لبعض الأحزاب والفكر الشيوعي الرسميّ . وأعتقد أنه من الصعب فهم ماركس ومنطقه دون فهم فلسفة هيجل ومنطقه بالذات ... مثلما يصعب فهم دفاتر فلسفية لـ ( لنين) لأنه يحيل دوماً إلى منطق هيجل ، ومن حسن الحظ أنه أتيح لي الاطلاع على منطق هيجل ملخصاً ومشروحاً في آن واحد، من قبل بعض الكتاب الفرنسيين مترجما إلى العربية ، في ملازم دراسية ، من قبل الدكتور بديع الكسم في جامعة دمشق عندما كنت طالباً فيها ... وقد ساعدني ذلك في فهم المجلد الأول من رأس المال ودفاتر فلسفية أيضاً . أما كتاب ( الأيديولوجيا الألمانية ) فهو أيضا من الكتب الأساسية لماركس حول مراحل التطور التاريخي وتقسيم العمل الاجتماعي المتطابقة مع أشكال الملكية المختلفة . لكن من الصعب أن نقول بإعادة قراءة الماركسية لأن قراءة الماركسية لم تتوقف يوماً . لقد أشار مفكرون ماركسيون كثيرون إلى فقر معلومات ماركس حول المراحل التاريخية الأولى ولاسيما المشاعية البدائية كما تمت مناقشة المراحل التاريخية وتعاقبها باستفاضة في الفكر الماركسي ، كذلك تمت الإشارة إلى إنّ التطور عند ماركس لم يكن خطاً صاعداً باتجاه يوتوبيا متخيلة بل تطوراً معقّداً شائكاً منذ كتاباته الأولى ومنها ( الأيديولوجيا الألمانية) . أما فكر ماركس الإنساني لا التخطيطي التي ادعته الأحزاب فقد تم التأكيد عليه في كتابات العديد من المفكرين الماركسيين الذي رفضوا أن يكون الفكر الماركسي تخطيطات مبسطة أو نزعة إنسانية تجسدت في كتاباته الأولى واختفت في كتبه الأخيرة، وهم بذلك وقفوا في وجه الأحزاب التخطيطية والمدارس التحديثية المفارقة لفكر ماركس في آن واحد ، وليست كتابات التوسر إلاً محاولة مبدعة لوضع ماركس في تطوره التاريخي الطبيعي كوريث للفكر الإنساني ، وإنني لأتذكرإشارته في كتابه (قراءة رأس المال) إلى إن ماركس لم يفعل سوى ملْ الفراغات التي وجدها في الفكر الاقتصادي الرأسمالي الذي قرأه واستوعبه جيداً ، ومن خلال فعله هذا استطاع أن يمد هذا الفكر بمحتوىً جديد. غير أنّ الفكر التبسيطيّ ينظر إلى قوانين الماركسية باعتبارها قوانين عامة ثابتة لا تتغير وكأنها قوانين للطبيعة لا للمجتمع الانساني المتحرك والذي قد يرتد في تطوره إلى الوراء في ظروفٍ تاريخية معينة باعتباره فعلاً إنسانياً لا قانوناً طبيعياً مجرداً وحتى قوانين الطبيعة هل تمّ اكتشافها جميعاً ؟ وتعقيباً على سؤالك، فأن الفكر الماركسي بصفته فكرا معنياً بالأساس بتحليل المجتمع الرأسمالي في مراحله العديدة ، يفترض به أن يكون أقدرمن غيره على رصد متغيرات العولمة، وتسليط الضوء على فكرة الديمقراطية التي حلت في الصدارة ، بديلا لفكرة الثورة في الفكر السياسيّ . وفي هذا الصدد ليس لي سوى تعليق بسيط على ما يمكن أن يجرنا إليه هذا السؤال الذي قد تخرج إجابته عن إطار حوارنا هذا هو أن التقدم لا يعني دائما احتواءه على قيم إنسانية وهذا ما يمكن قوله حتى في الفن أو نظريات الحداثة النقدية أو ما بعد الحداثة.
بمن تأثرت من الشعراء : امرئ القيس أم طرفة بن العبد . المتنبي أم أبو تمام ، الرصافي أم الزهاوي ، الجواهري أم السياب ؟ وما هو رأيك ببلند الحيدري والبياتي والبريكان وسعدي يوسف ؟
سؤال محتشد . أستطيع أن أقول إنني تأثرت بهؤلاء جمبعاً فأنا مازلت أقرأ أمرأ القيس وأخاطبه وأستعيد قوله ثانيةً وأردد مسحوراً كلامه بلغتي : كان من بين محاولاتي الأخيرة كتابة معلقة أمرئ القيس بلغة معاصرة وكنت في ذلك أقتفي آثار خطى الشعراء الإنجليز الذين أعادو كتابة قصائد شعراء الإغريق والرومان سأورد بعض أبياتها وهي من ديوان ( قفا نبك ):
قفا نبك من منزلٍ لحبيبٍ عفته الرياح وطافت بأرجائه الموحشات الظباء كأنيَ يومَ الرحيل لدى شجرِ الحيّ ناقفُ حنظلْ يقول صحابي: " تجملْ " وأنىّ ودمعي شفائي وهذي الديار أنيسي ** .... إن قلتُ هاتي امنحيني تمايلتِ بيضاء .. ضامرة الخصر هفهافةً ( يصمت الحجل حين تميلين ) مصقولة أنتِ عند الترائب كالدرّ أبيض أصفر غذّاك ماءٌ نميرٌ بلا كدرٍ وتصدّين عن عارضْ واضحٍ وتردّين عن ناظرٍ من نواظر وحشٍ بوجرةَ جيدك ، جيد المهاة ، هو الحَلْي دون حُلِيٍّ إذا ما برزتِ وشعرك عذقٌ تدلّى أثيث غدائره السود تتلعُ مثنىَ ومرسلْ وخصرك يا للطيف الجديل وساقك يا للنخيل المذلّل
أما المتنبي وأبو تمام فمن من الشعراء من تخلص من سحرهما ؟ وإذا استثنيت السياب والجواهري اللذين قرأتهما بإمعان وكتبتُ عنهما فإنّ ثمة محبة خاصة أحملها للرصافي زادتها قراءتي لكتابه ( السيرة المحمدية ) عمقاً واتساعاً . وأرى أنه من الشعراء الكبار الذين لم يدرسوا بعد وبقي النقد السائد عند حدود شعره المعروف بأغراضه المألوفة يجهل التماعاته النادرة :
فأنا اليوم كالسفينة تجري لا شراع لها ولا ملاّحُ
رجل قد تنكّب الحقّ قوساً ومن البطل ظلّ يرمي السهاما
ندموا فسمّيت الندامة عندهم عفوا وذلك منهم استكبار
لا يخدعنك هتاف القوم بالوطنِ فالقوم في السرّ غير القوم في العلن
وهذا البيت العميق في رثاء الزهاوي :
سوف أبكي عليك شجواً وإني كنت أبكيك في الحياة شجيّا
وغيرها من الأبيات والمقطوعات النادرة التي يحتويها ديوانه. أما رأيي بالشعراء الذين ذكرتهم فإنني كتبت عن البياتي دراسة لم تنشر بعد، كما كتبت عن البريكان إثر وفاته ولعلني سأكتب يوماً عن بلند الذي أحب من شعره مجموعتين هما ( أغاني المدينة الميتة ) و( خطوات في الغربة ) ، أما سعدي فهو الصوت العذب في شعرنا العراقيّ .
ما هو رأيك بالمعركة الدائرة الآن على إثر تصريح سعدي يوسف وأدعائه بأنه الشيوعي الأخير وهل إن سعدي يبدو هنا وقد دخل مرحلة خريف العمر وهل إنّ الردود التي انتقدته وخصوصاً إبراهيم أحمد تبدو قريبة من الواقع فالشيوعييون لا يحتاجون إلى نصائح سعدي التي حتما ستقودهم إلى المهالك ؟ ليس ثمة شيوعي أول ليكون ثمة شيوعي أخير وماهذا إلاّ سجال صحافيّ لا يعنيني كثيراً ، وما يعنيني هو الشعر والموقف الإنساني في هذه القضية أو تلك لا التجريد ولا المقولات الشائعة... كلنا ضد الاحتلال ولكننا نختلف في أساليب رفضنا لهذا الاحتلال . كلنا نتفق على ما يسمية أبو العلاء المعري ( المحال ) ونسميه نحن ( المجرد) أما ( التعيين ) أو ما يسميه أبو العلاء ( اليقين ) فهو الموقف الملموس مما يجري من جرائم باسم مقاومة المحتل : قطع رؤوس ، قتل أطفال ، خطف رهائن وتخريب متعمد لبنية البلد التحتية حيث تقدر الخسائر بالمليارات ... لمصلحة من يجري ذلك ولا سيما أن هناك مواثيق دولية تلزم المحتل بمغادرة العراق في نهاية 2005 بعد إقامة السلطة الشرعية والدستورالدائم ... إن عدم التنديد بهذا الجرائم لا يعني سوى الوقوف إلى جانب القاتل أي إلى جانب بعثيي النظام السابق والقوى الظلامية، وإمداد المحتل بالذرائع لتمديد فترة احتلاله وتثبيت وجوده العسكريّ بالاستزادة من قواته لاستتباب الأمن . ثمة أحزاب قاطعت الانتخابات وأعلنت رفضها لأي دستور دائم دون مغادرة المحتل ولكنها من جهة أخرى لاتزال مشاركة في السلطة .. لم يعد الأمر بهذه البساطة: أبيض أو أسود . لقد غدا الواقع معقدا شائكا ولا يكفي للشاعر اقناع الآخرين بشعره بل بحقيقته ... في إدراكه اللحظة التاريخية ليكون ضميراً لنفسه والناس إذا كان شيوعياً حقاً ، أما أن يكون متفرجاً ومباركا لقتلة رفاقه فهذا ما لا أتمناه لأحد ولاسيما لمبدع مثل سعدي يوسف . اليوم وأنا أجيبك عن أسئلتك تناهى إليّ خبر قتل صديقي عامل المطبعة الشيوعي هادي صالح الذي كان جاري في عدن . لم يكتف القتلة مقاومو الاحتلال ، كما يدعي شعراء الحداثة بنيس وأمثاله من الشعراء الرديئين شعراً ومواقف ، بقتله بل مثلوا بجثته وأحرقوها ، .فإذا كان الشيوعي الأخير يرى قتل رفاقه بعينيه ولا يدين القاتل فإنني لن أقول له سوى أنك الشيوعي الأخير حقا إذا كان الشيوعيّ يعني الصمت عن جرائم القتلة في ( زمن القتلة ) .
الشاعر عبدالكريم كاصد هل ظلمك النقد كما ظلم الكثيرين من الشعراء أم أنت راضٍ بما كتبه النقد عنك ؟
لم أكن في يوم من الأيام مرهوناً بنقد أو اتجاه شعريّ أو أدبيّ ولا بمؤسسة ما وما أكتبه لا ينتظر مكافأة .. ولاسيما أنني لست في سرب ولا في جوقةٍ . إنني قادم من الطرف الآخر للثقافة العربية السائدة منقباً لا ممجداً ... محتفيا بالهامش والمنتبذ والعابر لأنه الأبقى ، وما يراه غيرى راسخاً لا أراه إلا في موته كمن يرى موت الشجرة في البذرة ... شعراء كثيرون يُحتفى بهم كلّ يوم لا أراهم كذلك ليس لأنني على صواب ولا غيرى على خطأ بل لأنني أرى الأمور هكذا بمنظاري الخاص الذي تشكل عبر تجاربي وقراءاتي لكنني لا أعمم موقفي هذا ولن أقول رأيي على الورق إلا بعد تدقيق وتمحيص نائيا بنفسي عن التقييم المباشر ، تاركاً للقارئ استنتاجه الخاص وهذا ما فعلته في كتاباتي عن الشعراء : الجواهري ، السياب ، البياتي ، صلاح عبدالصبور ، أدونيس ، وغيرهم . ولا أعتقد أن مجتمات مضطربة تعمها الفوضى كمجتمعاتنا قادرة على إنصاف شعرائها وكتابها وعلمائها بعد أن أذلت إنسانها البسيط وأجاعته وجعلته يقيم في أدنى السلم الحضاريّ مسكوناً بالهواجس . لقد أصبح النقد في معظمه كالإعلام مشغولا بترتيب نفسه ... بالظاهر لا بالجوهر ... بالأسماء لا بالنتاج الثقافي ، وإلاّ فكيف تفسر كثرة الشعراء والكتاب ( الكبار ) في أدبنا . إنها ظاهرة كالظواهر الأخرى في مجتمعنا لا تعني شيئا ... إنها مجرد ألفاظ ... ألفاظ
لماذا أشهر المغنين أسوأهم جميعاً
***
الشعراء الكبار يأكلون الصغار ويتضورون جوعاً
هل يفكر الشاعر عبدالكريم كاصد بالعودة الآن إلى العراق ومن ثمّ إلى البصرة أم إنه اتخذ قراره النهائي بالاستقرار في لندن ؟
* كاصد : ليس ثمة قرار نهائي ولكن ذلك مرهون بظروف العراق المتغيرة ، وبظرفي الخاص الذي أصبح أكثر تعقيداً بعد رحيل زوجتي ، ومسؤوليتي عن طفلين لا أعتقد أن ظروف العراق الحالية تسمح لهما بالتنشئة الصحيحة وتوفر لهما ما يطمحان إليه .
ماذا تعني لك أيها الشاعر هذه العواصم : لندن ، باريس ، موسكو ، وهل زرتها زيارات طويلة ؟ إنني أعيش في لندن منذ أكثر من عشر سنوات وهي مدينة يمكن أن تسميها كوسموبوليتية بحق تحتوي أجناساً شتى وتتجاور فيها ثقافات مختلفة وتسمع فيها لغات غريبة . إنها بابل الحديثة بلا برج . إنها المكان الذي يبتعد بك عن وطنك ويقرّبه منك في وجه عابر أوحديث في مقهى أو شارع ... هنا الغرابة تمسي ألفة ، والأديان أرضية ، والمفاهيم ضوءاً ، ومنْ يريد أن يكون ظلاماً لا موقع له في أضواء حضارتها ... كلّ شئ تجده في مكانه وخارج مكانه أيضاً ، في طبيعته وشذوذه ، في غرابته وألفته ... أقوام تتقارب وتتباعد إلا إنها لا تتقابل أبداً وكأنها في نزاع أو هدنة . يمكنك أن تقترب من جارك حدّ الجسد ولكن يمكنك ألا تحيية دون أن يربكك هذا أو يربكه ... هنا القوانين لا تقال ولا تكتب . إنها تعاش كأنها طبع . في لندن يمكن للوقت أن يكون ساحة عريضة أو رأس دبوس : متاحف ومكتبات ومعاهد وسينمات ومسرح من كلّ لون .... وأشياء لا تخطر في بال أحدٍ . من أين لك العمر لتعيش كلّ ذلك . وحده الشعر له مكتباته الخاصة به المتوفرة للجميع مجانا والتي تحتوي على آلاف المجموعات الشعرية والدراسات عن الشعر هنا أقل الشعراء منزلة يحظى بعشرات الدراسات على نقيض ما يشاع عندنا عن موت الشعر في الغرب . مجلات لا عد لها مخصصة للشعر، دور نشر . وشعراء يجوبون المدارس الابتدائية لقراءة أشعارهم والحديث مع طلابها الصغار . وفي الوقت الذي تمتلئ مكتباتهم بكتب الشعر المخصصة للأطفال يفتقر أدبنا ، نحن أمة الشعر ، وأمة الشعراء الكبار الذين أصبحوا بعدد الحصى ، إلى ديوان شعر حقيقي مكتوب للأطفال ...( دلني على شعراء يكتبون للأطفال غير سليمان العيسى بأدواته الشعرية البسيطة وتفكيره القومي القاصر) ولكن هناك من جهة أخرى إعلام لا يستوقفه جوهر أو روح وحياة أخرى ومهرجون فالحياة هنا تتسع لكل شئ وتضيق بكل شئ . أما باريس فإنني لم أعد لها منذ ثلاثين عاماً ولا أدري لم لم أزرها كل هذه السنين رغم قربها ؟ هل لأنّ الحياة تستغرقني في لندن ؟ هل لأنني لم أعد ذلك الفتى المولع بالأسفار ؟ هل لأنني لا أريد أن أوقظ ما غفا سنينا مني في شوارعها ومقاهيها وحاناتها ... لا أدري حقا ... أما موسكو فقد ارتبطت بذاكرتي بالمرض والعزلة التي عشتهما أثناء مرضي ، حيث كدتُ أفقد بصري، قبل أن تلتحق بي زوجتي وطفلتي أيام كنت مقيماً في دمشق ولكن موسكو التي عانيت فيها العزلة والمرض هي موسكو الحبيبة ، موسكو الناس البسطاء الطيبين رغم مافياتها المخيفة ، وشرطتها الفظين ... كتبت عنها أجمل قصائدي التي سأورد منها هذه القصيدة (الصلب) وهي من مجموعة (نزهة الآلام) استوحيتُ فيها رواية (المعلم ومرغريتا) لبولغاكوف التي اتخذت من شارع أربات في موسكو مسرحاً لها، وشغلت قصة صلب المسيح جزءاً كبيراً منها، ولم يكن هذا الاستيحاء وليد رغبة معرفية، بل كان وليد ظرف خاص وجدتني فيه، مرة، سائراً في شارع (أربات)، أثناء استشفائي، وقد استحضرت عالم الرواية وكأنني أشهد صلب المسيح ثانيةً في عالم تتداعى أشياؤه حوالي وفي داخلي، فلم أعد أرى في حاضر أربات إلا طريق الجلجلة وهو يوصلني إلى هذا المشهد: عند اربات رأيت الله يدعوني فأقبلتُ عليه ثم لم أبصرهُ كان الورق اليابس يسّاقط والريح تمرّ وعلى الشارع بحرٌ هائجٌ من سَقَطِ الناس ومحكومون يمضون الى الصلب وجندٌ خائفون قلتُ لو كلمني الله لو انّ الشجر الصامت لم ينعق وهذي الشمس لم تدنُ من الارض وأربات بأحجاره لم يهرع إلى الصلب لو انّ الربّ أطرقت قليلا ثم ناديتُ على السائر خلف الموكب اللاهث في القيظ على السفح: “يهوذا أيها الخائن” فأرتجّ الصدى الغابر في الافق: “يهوذا..ا..ا..ا..ا..” كان رأسي حاسراً والناس يمضون بـ”أربات” وكان الشجر اليابس يسّاقط والريح تمرّ
الشعر / الفلسفة / السياسة / الغربة / صبخة العرب / السياب /البصرة ماذا تعني كلّ هذه الكلمات للشاعر كريم كاصد؟ كتبت مرة في ديوان لم ينشر بعد بعنوان ( هجاء الحجر ومديح الطريق ) :
شيئان كدّرا حياتي أصدقائي والشعر
ولكنّ الشعر بقدر ما كدّر حياتي منحها بهجةً واتساعاً في كشفه الدائم عما هو مجهول لا بالمعنى الفلسفيّ لهذه الكلمة وأنما أعني حضور ما كان غائبا في ما يحيط بي من أشياء وأفكار وأحاسيس لا أدري هل بأمكاني إدراكها أو تحسسها من غير الشعر . ثمة أدغال كثيفة في دواخلنا وعلاقتنا بالعالم أنّى لنا أن نكتشفها من دون ضوء الشعر؟ غير أنّ مباهج الشعر لا تقتصر على الأعماق وحدها ، وإنما لها امتداداتها على السطح أيضاً في تعاملها مع ماهو مألوف وعاديّ لم يُلتفت إليه، بسبب ألفته التي قد تحتوي غرابة وفتنة لا تقلان عن تلك الغرابة وتلك الفتنة التي نحصل عليهما في الكشف عن أعماق النفس . لقد كان الشعر بالنسبة إلي عزاء في المأساة وبهجة أمام أعراس الحياة وملهاتها . إنّه اختراق الزمن العاديّ والعودة إلى طفولة الإنسان ... وفي محنتي في المنفى كان مصباحاً سحريّاً يستحضر الوطن والناس ، والكهف الذي أرسم فوق جدرانه وجوه أعداء الحياة لأسرهم لا في الوهم وحده وإنما في الواقع حين يكون التصور حقيقة قادمة لابدّ من تحققها . هذه القوة السحرية التي أدركها الإنسان منذ بداياته لا تزال حاضرة في الشعر. ومن يحاول أن يتجاهل ذلك فما عليه إلاّ أن يحصي الكتب التي تصدر بالآلاف في أوربا عن شعرائها، وانشغال المئات من الجامعات بدراسة الشعر وتحليله ونشره واستخدام أحدث المذاهب النقدية وأقدمها في فهمه وتذوقه . أما الرأي القائل إنّ الرواية ستحل محل الشعر فما هو إلاّ وهم وجهل بما يجري في ثقافة الأمم المتحضرة ، كأن أصحاب هذا الزعم يريدون أن يقولوا أن الشعر وسيلة بدائية تليق بالأمم المتخلفة .. ماذا سيكون تطور شعرنا العربيّ من دون اطلاعنا على شعر الأمم الأخرى ؟ ألم يكتب بدر شاكر السياب أجمل نصوصه وقصائده المشبعة بالروح المحلية بتأثير من شعر أديث ستويل وعزرا باوند وإليوت ... رغم ما يقال عن محدودية معرفة بدر باللغة الإنجليزية ولكن هؤلاء ينسون أيضاً أن حساسية بدر شاكر السياب الهائلة كان لها القدرة على تجاوز هذه المحدودية إلى استيعاب ما لم يستطع استيعابه الكثير من النقاد والشعراء العارفين باللغة الإنجليزية ممن تنقصهم هذه الحساسية التي تكاد أن تكون لعمقها فكراً. أمّا بالنسبة للسياسة فثمة هوّة بين الممارسة والفكر غير أن هذه الهوة تضيق كلما تطور المجتمع لتصبح السياسة اختيارا وتحديا وصراع أفكار وخطاباً لا كلاماً رفيعاً عن واقعٍ منحط ، وشعارات فارغة مجردة لا تحمل معنىً . في الأمم المتحضرة السياسة مسؤولية ، لا مغامرة أبطال، ومعرفة لا هتافات شوارع ، ورقابة محكومين لا حاكمين .. رقابة تمتد من الشارع إلى البرلمان إلى الصحافة حيث المناورة لا فسحة لها والبلاغة لا موضع لها إلاّ بما تحتويه من حقائق ملموسة ولكن ثمة هوامش واستثناءات وصراعات كما في الحياة غير أن الصراع لا يصل إلى قطع رؤوسٍ وتشبثٍ بكراسٍ وتوريثها . وتوظيفٍ للماضي لتمرير حاضر . في عالمنا الثالث أو العاشر ليس لدينا خطاب سياسي .. لدينا كلام هو ألفاظ ألفاظ وصراعات دينية وعشائرية انتهت منها اوربا منذ زمنٍ . l ولعلّ الغائب الوحيد هم الناس الذي لا يحضرون إلا في الإعلان غير أنّ التغيير، تغيير مجتمعاتنا لا بد أن يحصل إن لم يكن بعامل داخلي فبالعامل الخارجي وهذه مصيبة ستكلف مجتمعاتنا كثيراً. أما الفلسفة فقد قرأت مرة أن من يدرس الفلسفة على كبر لن يقدر على استيعابها مهما بذل من جهد. قد يكون هذا القول صحيحاً أو خاطئاً لكنه لا يخلو من حقيقة إذا ما عكسنا هذا القول وقلنا برسوخ الفلسفة في ذهن من يدرسها مبكراً، وأنا ، حمداً للحظ ، درستها وأنا صغير وهذا ساعدني ليس على اتخاذ المواقف والقناعات الخاصة بي ، فحسب ، وإنما ساعدني على الفهم ورغبتي في الفهم .لقد حصنتني الفلسفة من الانجرار وراء الأفكار المبتذلة والمشوشة والجدية التي تخفي وراءها عبثا وجعلتني حذراً في تقبل أفكار الآخرين من الكتاب والنقاد ولاسيما الشعراء ذوي الدعاوى العريضة ، والتهويمات الميتافيزقية الكاذبة ، لذلك نادراً ما أجد نفسي مأخوذاً بهذا الكاتب أو ذاك من يجيدون قراءة اتجاهات الواقع الآنية لأداء دورهم التهريجيّ . مرةً قرأت في كتاب لبرغسون قبل أكثر من ثلاثين سنة أن في كلّ فلسفةعظيمة تصوراً شعرياً انطولوجيا كذلك أعتقد أن ثمة موقفاً فلسفياً يختفي غائراً في أبسط مشاهد الشعر ، والتقاطاته . أما ما تعنيه الكلمات الأخرى بالنسبة إلى فـ ( بدر) هو أبي الذي يصغرني سناً ، والبصرة بيتي وإن غبت عنه سنينا ولم أعد إليه، والصبخة هي ( النقر على أبواب الطفولة ) وما الغربة إلا غياب هذه الأشياء مجتمعةً .
بماذا تنصح الشعراء الجدد وخصوصاً منهم الذين يعشقون الغموض من أجل الغموض فقط؟
هل أنا مهيأ حقّاً لإسداء النصائح ؟ وأية نصيحة أقدّم أنا الذي أجد نفسي دوماً وكأني أخطو خطوتي الأولى في الشعر متوجساً في كلّ قصيدة أكتبها . أما بالنسبة إلى الغموض فإنني أعتقد أنّ الوضوح قد يكون بذاته غامضاً عند من لم يألفه .. أتذكر قولاً لأراغون أن القصيدة الواضحة أحياناً تعمي العينين بوهجها ... وهنا تحضرني صورة السجناء وهم يخرجون من ظلمة الكهف إلى الشمس ، في مثال الكهف الشهير لأفلاطون، فيتحسسون طريقهم في الضوء كالعميان . ثمة قصائد غامضة تدّعي العمق يتسابق النقاد على تبيان مستوياتها وعوالمها الغامضة لا تبدو لي غير لعب أطفال ، وسطح لا تستشف وراءه جوهراً ولا عمقاً. ولكن يمكن القول إن القصيدة وضوح والشعر العظيم واضح في أغلبه ولا أعني بالوضوح سهولة فهمه وأنهما سطوع عالمه ومستوياته التي تضئ خالقةً البهجة حتى وهي في أشدّ عتمتها عاطفةً أو تفكيراً. لا أرى في شعر المتنبي غموضا ولافي شعر ريتسوس أو إليوت ، ولا سيما في قصائده الشهيرة، وإنما أرى عمقاً يحفر في الجوهر الإنساني وظلمة الواقع ، ومايبدو غامضاً ما هو إلاّ جدة الدلالات التي تشير إلى ما لم يألفه القارئ في واقع لم يكتشف بعد . لم يضرّ شعرنا العربيّ القصائد البسيطة الموحية بل أضرته القصائد المركبة المنتصبة كالجدار في وجه القارئ ... أغنية الصفصافة لشكسبير في عطيل ، رباعيات صلاح جاهين، شعر الخيام قصائد أيوب لبدر شاكر السياب ، قصائد المتنبي ( يقول بشعب بوان حصاني ) ، قصائد لوركا وبليك الساذجة كما تبدو ، قصائد طاغور في جنتجالي ، وغيرها هي من الشعر الخالد أبداً .
#كريم_عباس_زامل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|