لاشك ان القضية الكورديةهي من اهم القضايا واكثرها تعقيدا في الشأن العراقي وتعتبر اساس او جوهر القضية العراقية , ويمكن القول انها من المشكلات المزمنة التي عانى منها العراق منذ تأسيسه واستمرت في مختلف مراحله وادت الى الدخول في دوامة القتال المؤسف بين الاخوة العرب والكورد طيلة عقود طويلة وذلك لاسباب تاريخية وسياسية متعددة منها الظروف والملابسات التي ادت الى ضم هذا الجزء من كوردستان الى المنطقة الشمالية من العراق بعد نهاية الحرب الاولى من قبل بريطانيا التي لعبت دورا كبيرا في هذا الموضوع بموجب المعاهدات السرية والعلنية الي عقدتها مع دول الحلفاء ومع تركيا لرسم خريطة المنطقة حسب المصالح الاستراتيجية للدول الاستعمارية ومنها معاهدة سايكس بيكو سنة 1916 بين بريطانيا وفرنسا والتي قسمت بموجبها كوردستان بينهما ومن بعدها كانت معاهدة سيفر عام 1920 التي اقرت صراحة بحق الكورد في تاسيس دولتهم التي تشمل كوردستان الشمالية على ان تلحق بها فيما بعد كوردستان الجنوبية اي كوردستان العراق ولكن بعد بضعة سنين قامت بريطانيا وبتاثير من تركيا الاتاتوركية وتنفيذا لاطماع الدول الاستعمارية بنفط ولاية الموصل بالغاء ما اقر في معاهدة سيفر من حقوق للكورد وذلك في المعاهدة الجديدة التي ابرمت عام 1923 وهي معاهدة لوزان , حيث تم تثبيت الحدود الجغرافية المعروفة حاليا للمنطقة وجرى بعد ذلك البت النهائي في مشكلة الحدود بين الدولة العراقية وتركيا بموجب اللجنة التي ارسلتها بريطانيا الى العراق والتي اصدرت قرارها بضم المنطقة التي تقع جنوب خط بروكسل الى العراق عام 1925.
ومما زاد من تعقيد هذه القضية عدم تفهم الحكومات العراقية المتعاقبة لحقوق الشعب الكوردي وتطلعاته المشروعة التي عبر عنها دائما وبمختلف السبل المتاحة . فمنذ بداية العشرينات من القرن المنصرم والكورد يقاومون كل المحاولات التي جرت من قبل تلك الانظمة لصهرهم والغاء هويتهم سواء بالقمع او تغييب الحقوق او النص صراحة في الدساتير العراقية بان العراق وبضمنه منطقة كوردستان جزء من الامة العربية بينما هي في الحقيقة جزء من الامة الكوردية الكبيرة والمجزأة , هذه العوامل ادت مع الاسف الى نشوء حالة من الحروب المتواصلة وعدم الاستقرار في العراق وولدت حالات من العداء وسوء الفهم والنية من الكورد تجاه اخوتهم العرب وبالعكس , وهذه الظروف الماساوية استمرت الى نهاية حرب تحرير الكويت مكبدة العراقيين جميعا بعربه وكورده وباقي القوميات خسائر جسيمة في الارواح والممتلكات التي راحت ضحية لدوران طاحونة الحروب هذه .
والظروف الحالية تختلف كليا عن سابقاتها بعد ان استقل الكورد بالجزء الاكبر من كوردستان العراق ونجحوا بادارة شؤونهم بانفسهم وتأسيس مؤسسات المجتمع المدني والتي تتضمن حكومة وبرلمان منتخب وادارات حكومية متعددة . واليوم يتمسك الكورد بما حققوه من مكاسب حقيقية بعيدا عن ماسي الماضي وذكرياته المؤلمة .
ان الوضع الذي فيه الكورد الان ليس بكثير عليهم بل هو حق مشروع يستند الى مبدا حق تقرير المصير الذي يعتبر جزءا من قواعد القانون الدولي الملزمة والواجبة التنفيذ . والكورد بعد اكثر من عشرة سنوات من استقلالهم عن حكومة بغداد لا يمكن ان يقبلوا باقل من هذا الوضع الذي هم فيه بل انهم يطمحون الى ضم بقية مناطق كوردستان التي ما زالت تحت سلطة الحكومة العراقية الى اقليمهم مثل محافظة كركوك والاجزاء الكوردية من المحافظات الاخرى كمدن خانقين ومندلي وبدرة وسنجار وشيخان وغيرها وذلك حسبما جاء بالدستور الذي وضع مسودته الحزب الديمقراطي الكوردستاني والذي عرض للمناقشة العلنية على جميع الاحزاب الكوردستانية .
ويمكن القول ان حل المشكلة العراقية لا يمكن ان يتم بعيدا عن حل القضية الكوردية , والكورد الذين هم اصحاب الشأن بالدرجة الاولى يرون ان الفيدرالية هي التي تناسب طموحاتهم وتطلعاتهم المستقبلية وهذا مما يستوجب من الحكومة القادمة ان تتفادى الاخطاء القاتلة التي وقعت فيها سابقاتها وان لا تحاول ان تلغي ارادة الشعب الكوردي الذي يشكل قوة كبيرة لايجوز تغافلها , فباحترام خيار الكورد في تبني نظام الاتحاد الفيدرالي داخل اطار الدولة العراقية الواحدة حل للمشكلة الكوردية بخاصة وبالتالي حل للمشكلة العراقية بصورة عامة وتأمين للاستقرار والامن والسلام .
تعزيزا لكل ذلك بادر الحزب الديمقراطي الكوردستاني في مسودة ¨الدستور الى بيان رأيه صراحة بشكل نظام الحكم الذي يرغب فيه الكورد في العراق الجديد فاختار شكل الاتحاد الفيدرالي واقترح تسمية العراق بالجمهورية الفيدرالية العراقية وان يتكون من اقليمين عربي وكوردي اي انه اخذ بالمعيار الجغرافي - القومي وعين الحدود التي تشكل الاقليم الكوردي وتشمل المناطق التي تقع ضمن حكومة الاقليم الفعلية وهي محافظات السليمانية واربيل ودهوك اضافة الى المناطق الكوردية التي تقع تحت سيطرة النظام الحاكم وهي محافظة كركوك واجزاء من محافظات نينوى وديالى وواسط وهي المدن التي تعرضت خلال ازمنة طويلة الى عمليات تهجير وتخريب وتوطين مبرمجة من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة واشتدت وطأتها ابان الحقبة البعثية , فلا غرابة ان يتمسك الكورد بارضهم بكل قوة ويطالبون بها في مسودة الدستور . وهذه المسودة نالت موافقة وتأييد الاتحاد الوطني الكوردستاني ايضا من خلال اجتماع اللجان المشكلة من الحزبين الكورديين الرئيسيين بعد اتفاق 8 سبتمبر من هذا العام المعقود في صلاح الدين ومن خلال الاجتماع الذي عقده البرلمان الكوردستاني في اربيل في 4 اكتوبر الحالي .
و الفيدرالية التي يطالب بها الكورد هي فيدرالية ادارية - سياسية يكون للكورد فيها حق ادارة شؤون اقليمهم وممارسة كافة الصلاحيات والمسؤوليات وفق الدستور المحلي للاقليم ووفقا للدستور المركزي للدولة وهذا مما يتيح لهم المشاركة الفعلية في التخطيط وفي صنع القرار السياسي ليس فقط في اقليمهم وانما في الدولة الفيدرالية العراقية ككل . فالفيدرالية هي من افضل صيغ الحكم التي تناسب الدول التي تعاني من مشكلة تعدد القوميات الكبيرة , ففي تبنيها تفتيت للسلطة الشمولية المركزية وتوزيع للسلطات على الاقاليم المحلية . والكورد لا يطالبون بالانفصال عن العراق بل اختاروا العيش بتاخي مع اخوتهم العرب وبقية القوميات الاخرى في ظل عراق ديمقراطي فيدرالي موحد . وفي هذا الاطار نشير الى ما قاله الرئيس مسعود البارزاني ردا على سؤال وجه اليه في مقابلة نشرت على صحيفة الحياة يوم 8 اكتوبر –2002 : (( سؤال: تقصدون ان فكرة التقسيم واقامة دولة كردية في شمال العراق لم تعد مطروحة ؟
الجواب: بالتأكيد. ليست في مصلحة الشعب الكردي ولا في مصلحة الشعب العراق )).
ان البعض يتخوف من الفيدرالية باعتبارها وضعا جديدا على المنطقة فنراه يرفض الفكرة من اساسها ويعتبرها تقسيما للعراق والبعض الاخر لا يؤيد هذا الشكل من الفيدرالية المطروحة من الكورد بل ينادي بالفيدرالية الجغرافية فقط بينما يطالب القسم الاخر بالفيدرالية الادارية اي الحكم الذاتي , غير ان الذي يناسب اوضاع الكورد حاليا هي الفيدرالية الادارية - السياسية وبالصورة التي ورد ذكرها في مسودة الدستور , وهي قائمة فعلا وعلى ارض الواقع منذ اكثر من عشرة اعوام ولها شرعية مستمدة من قوة القاعدة القانونية الملزمة والمعروفة في القانون الدولي بمبدأ حق تقرير المصير ولكنها تفتقر للصيغة الدستورية التي تنظم العلاقة ما بين المركز والاقليم الكوردي .
والشيء الذي يدعو الى التفاؤل هو ما لمسناه من تفهم واضح من قبل غالبية القوى والاطراف السياسية المدنية والعسكرية والاسلامية العراقية واقرارها صراحة للفيدرالية في مواثيقها واعلاناتها التي اصدرتها مؤخرا فمثلا نرى المؤتمر العسكري الذي عقد في منتصف تموز من عام 2002 في لندن والذي يمثل النخبة الخيرة من ابناء الجيش العراقي المخلصين والذين ساهم بعضهم في قيادة الانتفاضة ضد الحكم الدكتاتوري ومن الذين لم تتلوث اياديهم بدم الشعب العراقي من الكورد والعرب و القوميات الاخرى قد اقر صراحة وفي ميثاق الشرف الذي اصدره بنظام الحكم الفيدرالي لعراق المستقبل . كما وان اعلان شيعة العراق الذي يمثل خيرة الشيعة العراقيين من ابناء العشائر وعلماء الدين الافاضل واساتذة الجامعات والكتاب والمثقفين بكافة اطيافهم قد تبنى صراحة شكل الحكم الفيدرالي للعراق الجديد وهذا هو ايضا موقف كل من المؤتمر الوطني العراقي INC ومجلس العراق الحر والمجلس الاسلامي الاعلى اضافة الى عدد كبير من الشخصيات المثقفة والمتنورة من العراقيين المستقلين , وكل هذا يدل على رغبة العراقيين الصادقة في حل المشكلة الكوردية حلا عادلا في المستقبل .
وحين نتكلم عن القضية الكوردية والفيدرالية لا يمكن باي حال من الاحوال ان نغفل قضية كركوك اذ ان هذه المدينة كانت – وما تزال – تشكل الهم الكوردي الرئيسي وأحد العقد الاساسية في هذه القضية , ومطالبة الكورد بها ليس لانها مدينة نفطية كما يزعم البعض وانما بسبب كونها مدينة كوردستانية اصيلة وجزء هام من التاريخ الكوردي وقد تعرضت الى ابشع صنوف الابادة والتطهير العرقي من قبل الحكومات المتعاقبة وبخاصة بعد اتفاقية اذار للحكم الذاتي المعقودة بين الحكومة العراقية والحركة التحررية الكوردية برئاسة الزعيم الكوردي الخالد الملا مصطفى البارزاني عام 1970 وكانت هذه السياسة العدوانية من قبل الحكومة العراقية من احد الاسباب الرئيسية التي ادت الى انهيار الاتفاقية عام 1974 . ونشير هنا الى ان مسودة الدستور المقترح من الحزب الديمقراطي الكوردستاني قد ذكرت صراحة ان هذه المدينة وغيرها من المدن التي تعاني من نفس المشكلة هي جزء من الحدود الادارية لاقليم كوردستان كما وتضمنت على حق العودة للمهجرين الى مدنهم وقراهم الاصلية . ان مسألة اعادة المهجرين من الكورد والكورد الفيلية والتركمان والاشوريين الى مواطنهم الاصلية وتعويضهم عما اصابهم من اضرار مادية ومعنوية يجب ان تحظى بالعناية اللازمة وايجاد الحلول العادلة لها وفقا للقانون حيث ان ما تعرض له هؤلاء من سياسات التهجير والتعريب تدخل ضمن نطاق جرائم الابادة والتطهير العرقي المحرمة دوليا . كما ويجب ارجاع جميع المستوطنين العرب الذين جلبهم نظام الطاغية واسكنهم في بيوت المالكين الاصليين من الكورد والتركمان بعد طردهم منها ونهب ممتلكاتهم ومزارعمهم باساليب بشعة لا تقل عن اساليب المحتلين الاسرائيليين ضد العرب بل واكثر وحشية منها . ولا يمكن تبرير هذه الجريمة تحت اي تسمية كانت كما يحاول ان يبررها البعض من مزيفي التاريخ ومن المتسترين على جرائم النظام او المتصيدين في المياه العكرة والذين يستبيحون انتهاك حرمة ممتلكات الغير واراضيهم بحجة ان العراقيين احرار في التنقل والسكن في اي بقعة من العراق !
ومن اغرب التبريرات التي قرأتها بهذا الخصوص ما نشر على بعض مواقع الانترنت من قبل احد الاشخاص الذي يدعي بأنه من حملة الشهادات العالية ويسمي نفسه (بالدكتور) فهو يبيح طرد الكورد من ديارهم واغتصاب ممتلكاتهم مستندا الى حجة تاريخية مزورة بل هي مدعاة للسخرية وهي ان الكورد جاؤا كغزاة ومهاجرين الى هذه المنطقة (كوردستان) من ايران وتركيا , فلهذا يحلل هو للنظام الحاكم ارتكاب مثل هذه الجرائم ! فتصوروا مثل هكذا عقليات متحجرة تعيش بيننا على الارض ونحن في القرن الحادي والعشرين !
وطالما نحن بصدد الحديث عن القضية الكوردية وتداعياتها يجب ان نتطرق الى مسألة هامة اخذت تشكل مشكلة حقيقة مقلقة ومهددة للامن والاستقرار في منطقة كوردستان وربما سيكون لها انعكاسات خطيرة على العراق باجمعه اذا لم تعالج بصورة جذرية واقصد بها ظاهرة الاسلام السياسي وما يلازمها من عنف بمختلف اشكاله من قبل بعض الجماعات المتطرفة والتي تسمي نفسها بانصار الاسلام التي تتبنى الفكر الوهابي وترتبط بتنظيم القاعدة . وهذه الظاهرة لم تكن معروفة في كوردستان من قبل بل هي واحدة من الجرائم التي ساهم فيها النظام الدكتاتوري الصدامي , فقد قام بتمويل هذه الجماعات وتقديم الدعم اللازم لها لغرض زرع الفتن في المنطقة وزعزعة الامن والاستقرار فيها واجهاض التجربة الديمقراطية في كوردستان , فأخذت هذه الجماعات تعيث فسادا في الارض وتمعن قتلا في المدنيين الابرياء وتسبب الهلع والترويع للسكان في بعض المناطق . وقد طالت اعمالها الاجرامية حتى رموز وقادة الحركة الكوردية ومنها جريمة اغتيال المناضل الكبير فرانسوا حريري ومحاولة اغتيال رئيس حكومة اقليم كوردستان في السليمانية الدكتور برهم صالح . وفي المدة الاخيرة شكلت قيادة الحزبين الرئيسيين في الاقليم غرفة عمليات مشتركة لغرض توحيد الجهود لمحاربة بؤر الفساد والظلام هذه والقضاء عليها . ففي عراق المستقبل يجب ان لا يبقى اي موطئ قدم لامثال هؤلاء الارهابيين ويجب التعاون وحشد الهمم من الجميع لتطهير المنطقة منهم حتى ينعم الوطن بالسلام . وتجدر الاشارة هنا الى ان زعيم هذه الجماعة والمدعو ملا كريكار تم القبض عليه مؤخرا في مطار امستردام في هولندا وتطالب العديد من الدول بتسليمه لها لغرض محاكمته عن الجرائم الدولية المتهم بارتكابها وهذا مما سيعزز الادلة التي تدين تورط نظام صدام ودعمه للارهاب في العالم .
اذن فان القضية الكوردية وحلها يجب ان تكون لها الاولوية في عراق المستقبل وعلى الحكومة القادمة ان لاتقع في اخطاء الحكومات السابقة بل يجب عليها ايجاد الحل العادل لها على ان لا يكون ذلك بعيدا عن خيار الشعب الكوردي ذاته لانه هو اولا واخيرا صاحب الشأن الرئيسي في المعادلة , فباحترام خيار الكورد في الفيدرالية تأمين للاستقرار ودعم للسلام وبناء لعراق ديمقراطي تعددي جديد بعيد عن ويلات الحروب .